قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا (26)}
قَالَ أبو بكر محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بشَّار ابن الأَنباريِّ (ت:328هـ): ((وكنتم أزواجا ثلاثة) [7] حسن ثم تبتديى: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) [8] «فالأصحاب» الأولون مرفوعون بما عاد من «الأصحاب» الآخرين، و(ما) تعجب كأنه قال: فأصحاب الميمنة ما هم وقال السجستاني يجوز أن تجعل (ما) صلة، كأنك قلت: فأصحاب الميمنة أصحاب الميمنة، وهذا خطأ لأنه قد علم أن (أصحاب الميمنة) ضد (أصحاب المشأمة) فليس في هذا فائدة، وكل كلام لا فائدة فيه فهو محال. فإن قال قائل: كيف جاز (والسابقون السابقون) [10] ولم يجز «فأصحاب الميمنة أصحاب الميمنة»؟ قيل له معنى قوله: (السابقون السابقون) (السابقون) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هم السابقون إلى الجنة. ولو قلنا: أصحاب اليمين أصحاب اليمين، لم يكن في هذا فائدة. وقال الفراء: «إن شئت رفعت «السابقين» الأولين بالآخرين والآخرين بالأولين. وإن شئت جعلت «السابقين» الآخرين نعتًا للأولين، ورفعت الأولين بما عاد من (أولئك المقربون) [11]. فمن الوجه الأول يحسن الوقف على السابقين الآخرين. ومن المذهب الثاني لا يحسن الوقف عليهم. قال أبو بكر: ومن حمل الآية الأولى على معنى «فأصحاب الميمنة الذين يعطون كتبهم بأيمانهم هم أصحاب الميمنة»، أي: هم أصحاب التقدم والثرة وعلو المنزلة، جاز له أن يرفع «الأصحاب» الأولين بالأصحاب الآخرين، والآخرين بالأولين. وتكون (ما) توكيدًا لا موضع لها من الإعراب، يقول الرجل من العرب لمخاطبة: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي. أجعلني من أهل التقدم عندك ولا تلحقني تقصيرًا وتأخيرًا؛ فاليمين كناية عن التقدم، والشمال كناية عن التأخر، أنشدنا أبو العباس لابن الدمينة:
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني = فأفرح أم صيرتني في شمالك
أراد التقدم والتأخر.
(ولحم طير مما يشتهون) [21] وقف حسن ثم تبتدئ: (وحور عين) [22] على معنى «وعندهم حور عين». وبهذه القراءة قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو. وكان أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي يقرؤون: (وحور عين) بالخفض، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على (يشتهون) لأن «الحور» منسوقات على «الأكواب». وإن شئت جعلتهن نسقًا على قوله: (في جنات النعيم) [12] وفي (حور عين). وقال السجستاني: لا يجوز أن تكون «الحور» منسوقات على «الأكواب» لأنه لا يجوز أن يطوف الولدان بـ«الحور العين». وهذا خطأ منه لأن العرب تتبع اللفظة وإن كانت غير موافقة لها في المعنى. من ذلك قراءة أكثر الأئمة في سورة المائدة (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [6] فخفضوا «الأرجل» على النسق على «الرؤوس»، وهي تخالفها في المعنى لأن «الرؤوس» تمسح و«الأرجل» تغسل، قال الخطيئة:
إذا ما الغانيات برزن يوما = وزججن الحواجب والعيونا
فنسق «العيون» على «الحواجب»، و«العيون» لا تزجج إنما تكحل، وهذا كثير في كلام العرب. وقال الفراء: يلزم من رفع «الحور العين» لأنهن لا يطاف بهن أن يرفع «الفاكهة واللحم» لأنهما لا يطاف بهما إنما يطاف بـ«الخمر» وحدها. وقال الفراء: الخفض وجه القراءة، وبه يقرأ أصحاب عبد الله. وفي قراءة أبي بن كعب: (وحورًا عينا) بالنصب، على معنى «ويزوجون حورا عينا، ويعطون حورا عينا» فمن هذه القراءة أيضًا يحسن الوقف على (يشتهون).
(إلا قيلا سلاما سلاما) [26] وقف حسن.) [إيضاح الوقف والابتداء:2/919- 923]
قال أبو عمرو عثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّانِيُّ (ت:444هـ): ({أزواجًا ثلاثة} كاف. ومثله {في جنات النعيم}.
ومن قرأ (وحورٌ عين) بالرفع على الابتداء، والتقدير: ولهم حور عين، أو عندهم، وقف على {مما يشتهون} ومن قرأ ذلك بالخفض لم يقف على (مما يشتهون) لأن قوله: (وحور عين) معطوف عند البصريين والكسائي على قوله: {في جنات النعيم} بتقدير: في جنات النعيم وفي حور عين، أو في معاشرة حور عين، فحذف المضاف كما يقال: نحن في الخير الكثير وفي الطعام والشراب، وفي النساء الحسان.
وعند الكوفيين وقطرب على قوله: (بأكواب) كما قرأت القراء {برؤوسكم وأرجلكم} بالخفض عطفًا على الرؤوس. وإن اختلف حكماهما، فكذلك عطف (الحور) على (الأكواب) وإن كان لا يطاف بهن، إذ المعنى مفهوم، ومثله قول الشاعر:
علفتها تبنًا وماءً باردًا = حتى شتت همالةً عيناها
فعطف الماء على التبن وهو لا يعلف. ومثله قول الآخر:
فعطف التمر والأقط على الألبان، وهما لا يشربان. وكذلك نظائره. {سلامًا سلامًا} كاف.)[المكتفى: 551- 552]
قال أبو عبدِ الله محمدُ بنُ طَيْفُورَ الغزنويُّ السَّجَاوَنْدِيُّ (ت:560هـ): ({ثلاثة- 7- ط} {أصحاب الميمنة- 8- ط} لتناهي [استفهام التعجب]، والوصل بين الجملتين قد يجوز، والوقف أليق للفصل بين حال الفئتين.
{ما أصحاب المشأمة- 9- ط} [{السابقون- 10- لا}] {المقربون- 11- ج} لأن الظرف بعده قد يتعلق به، وقد ينقطع، لأن قرب الحضرة لا يتوقف على الجنة، فالظرف يكون خبر محذوف، أي: هم في جنات... {النعيم- 12- ط}.
[{الأولين- 13- لا} {من الآخرين- 14- ط}] أي: هم على سرر...
{موضونة- 15- لا}].
{مخلدون- 17- لا} لتعلق الباء.
{من معين- 18- لا} لأن ما بعده صفة له.
{ولا ينزفون- 19- لا} للعطف على: {بأكواب}.
{يتخيرون- 20- لا} كذلك.
{يشتهون- 21- ط} وقف لمن قرأ: {وحور عين}
بالرفع، أي: ولهم حور عين، ومن خفض للجوار، كقولهم: جحر ضب خرب لم يقف.
[{عين- 22- لا}] {المكنون- 23- ج} لأن {جزاء} يصلح [مفعولاً له، أي: للجزاء، ويصلح] مصدر محذوف، أي: جوزوا جزاء.
[{تأثيماً- 25- لا}].)[علل الوقوف: 3/990-993]
قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت:ق11هـ): (ثلاثة (حسن) وقيل كاف ثم فسَّر الثلاثة فقال فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة كأنَّه يعظم أمرهم في الخير وأجاز أبو حاتم تبعًا لأهل الكوفة أن تكون ما صلة فكأنَّه قال فأصحاب الميمنة أصحاب الميمنة كما قال والسابقون السابقون وذلك غلط بيِّن لأنَّه كلام لا فائدة فيه لأنَّه قد علم أنَّ أصحاب الميمنة هم أصحاب الميمنة وهم ضدَّ أصحاب المشأمة كذا قاله بعض أهل الكوفة وهو في العربية جائز صحيح إذ التقدير فأصحاب الميمنة في دار الدنيا بالأعمال الصالحة هم أصحاب اليمين في القيامة أو المراد بأصحاب الميمنة من يعطون كتبهم بأيمانهم أصحاب الميمنة أي هم المقدّمون المقرّبون وكذلك وأصحاب المشأمة الذين يعطون كتبهم بشمائلهم هم المؤخرون المبعدون هذا هو الصحيح عند أهل البصرة فأصحاب مبتدأ وما مبتدأ وما مبتدأ ثان وأصحاب الميمنة خبر عن ما وما ومَا بعدها خبر عن أصحاب والرابط إعادة المبتدأ بلفظه وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم.
ما أصحاب الميمنة (كاف) ومثله ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون الثاني منهما خبر عن الأوّل وهو جواب عن سؤال مقدَّر وهو كيف أجزتم السابقون السَّابقون ولم تجيزوا فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة فالجواب أنَّ الفرق بينهما بمعنى أنَّه لو قيل أصحاب اليمين أصحاب اليمين لم تكن فيه فائدة فالحسن أن يجعل الثاني منهما خبرًا عن الأوَّل وليس بوقف إن جعل الثاني منهما نعتًا للأوَّل وأولئك المقربون خبرًا وكان الوقف عند جنَّات النَّعيم هو الكافي وقليل من الآخرين ليس بوقف لأنَّ قوله على سررٍ موضونة ظرف لما قبله وإن جعل على سرر متصلاً بمتكئين ونصب متكئين بفعل مضمر حسن الوقف على من الآخرين والأوَّل هو المختار.
متقابلين (حسن) على استئناف ما بعده وليس بوقف إن جعل حالاً ولا وقف من قوله يطوف إلى يشتهون فلا يوقف على مخلدون لتعلق الباء ولا على أباريق ولا على من معين لأنَّ ما بعده صفة له ولا على ينزفون ولا على يتخيرون لعطف ما بعده على ما قبله.
مما يشتهون (حسن) لمن قرأ وحور عين بالرفع أي وعندهم حور أو ولهم حور عين وهي قراءة ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر لأنَّ الحور العين لا يطاف بهنَّ ومثله في الحسن الوقف على يشتهون على قراءة أبيّ بن كعب وحورًا عينًا بالنصب بمعنى ويزوّجون حورًا عينًا وليس يشتهون وقفًا لمن قرأ وحور بالجرّ عطفًا على بأكواب وأباريق وقد أنكر بعض أهل النحو هذا وقال كيف يطاف بالحور العين قلنا ذلك جائز عربية لأنَّ العرب تتبع اللفظ في الإعراب وإن كان الثاني مخالفًا للأول معنى كقوله تعالى وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم عند من قرأ بالجرّ لأنَّ الأرجل غير داخلة في المسح وهو مع ذلك معطوف على برؤوسكم في اللفظ كقول الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يومًا = وزججن الحواجب والعيونا
فأتبع العيون للحواجب وهو في التقدير وكحَّلن العيون وكذلك لا يقال يطاف بالحور غير أنَّه حسن عطفه على ما عمل فيه يطاف وإن كان مخالفًا في المعنى ولا يوقف على عين لأنَّ قوله كأمثال من نعت عين والكاف زائدة كأنَّه قال وحور عين أمثال اللؤلؤ المكنون
المكنون (جائز) لأنَّ جزاء يصلح مفعولاً له أي للجزاء ويصلح مصدرًا أي جوزوا جزاء أو جزيناهم جزاء وليس بوقف إن نصب بما قبله
يعملون (كاف) في الوجوه كلها ولا يوقف على تأثيمًا لحرف الاستثناء.
سلامًا سلاما (كاف))[منار الهدى:381 - 382]
- أقوال المفسرين