تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون (111) إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدةً من السّماء قال اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشّاهدين (113)
قوله تعالى: وإذ أوحيت هو من جملة تعديد النعمة على عيسى وأوحيت في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر كما قال الشاعر:
.... .... .... ..... = أوحى لها القرار فاستقرت
وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء والرسول في هذه الآية عيسى عليه السلام وقول الحواريين واشهد يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى ويحتمل أن يكون لعيسى عليه السلام، وقد تقدم تفسير لفظة الحواريين في آل عمران). [المحرر الوجيز: 3/298]
تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إذ قال الحواريّون.. الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة. إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عما ينقد منه من طلب الآيات ونحوه، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربّك» بالياء ورفع الباء من ربك. وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر كامنة بمعنى هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله؟
أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربّك» بالتاء ونصب الباء من ربك. المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت عائشة رضي الله عنها: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفا. وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء. قال أبو علي: وذلك حسن، وأن في قوله أن ينزّل على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال. وأن مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفا منه إذ لا يتم المعنى إلا به.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ، و «المائدة» فاعلة من ماد إذا تحرك، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة:
تهدى رؤوس المترفين الأنداد = إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي الذي يستطعم ويمتاد منه، وقول عيسى عليه السلام اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلا، ولا خلاف احفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين، وهذا هو ظاهر الآية، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام اتّقوا اللّه إنكار لقولهم ذلك، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع» بالياء من أسفل متوجه على أمرين: أحدهما: بشاعة اللفظ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته). [المحرر الوجيز: 3/298-300]
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (فلما خاطبهم عليه السلام بهذه المقالة صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا: نريد أن نأكل منها فنشرف في العالم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لأن هذا الأكل ليس الغرض منه شبع البطن. وتطمئنّ قلوبنا معناه يسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا ونعلم علم الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا فلا تعترضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبهذا يترجح قول من قال كان هذا قبل علمهم بآياته. ويدل أيضا على ذلك أن وحي الله إليهم أن آمنوا إنما كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا. وهلك من كفر وقرأ سعيد بن جبير و «يعلم» بالياء مضمومة على ما لم يسم فاعله، وقولهم ونكون عليها من الشّاهدين معناه من الشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع بسببها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى عليه السلام قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله، ثم إن سألتموه حاجة قضاها؟ فلما صاموها قالوا: يا معلم الخير إن حق من عمل عملا أن يطعم، فهل يستطيع ربك؟ فأرادوا أن تكون المائدة عند ذلك الصوم). [المحرر الوجيز: 3/300-301]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: قال عيسى ابن مريم اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السّماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرّازقين (114) قال اللّه إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين (115)
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة. فروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. واللّهمّ عند سيبويه أصلها يا الله فجعلت الميمان بدلا من ياء وربّنا منادى آخر، ولا يكون صفة لأن اللّهمّ يجري مجرى الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير، وقرأ الجمهور «تكون لنا» على الصفة للمائدة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «تكن لنا» على جواب أنزل والعيد:
المجتمع واليوم المشهود، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود.
فأصله الواو ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين، وقرأ جمهور الناس «لأولنا وآخرنا» وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري: «لأولنا وأخرنا». واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال السدي وقتادة وابن جريج وسفيان: لأولنا معناه لأول الأمة ثم لمن بعدهم حتى لآخرها يتخذون ذلك اليوم عيدا. وروي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا، قال: وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالعيد على هذا لا يراد به المستدير، وقوله وآيةً منك أي علامة على صدقي وتشريفي. فأجاب الله دعوة عيسى). [المحرر الوجيز: 3/301-302]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقال إنّي منزّلها عليكم ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «إني منزّلها» بفتح النون وشد الزاي، وقرأ الباقون «منزلها» بسكون النون، والقراءتان متجهتان نزل وأنزل بمعنى واحد، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف، «قال الله إني سأنزلها عليكم»، واختلف الناس في نزول المائدة، فقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد: إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات، وقال جمهور المفسرين: نزلت المائدة، ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك، فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا، وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام، قال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أين ما نزلوا إذا شاؤوا، وقاله وهب بن منبه، قال إسحاق بن عبد الله: نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، قال: فسرق منها بعضهم فرفعت، وقال عمار بن ياسر: سألوا عيسى عليه السلام مائدة يكون عليها طعام لا ينفد، فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم وما لم تخبئوا أو تخونوا، فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبؤوا وخانوا فمسخوا قردة وخنازير، وقال ابن عباس في المائدة أيضا، كان طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا، وقال عمار بن ياسر: نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة، وقال ميسرة: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده وقال قوم:
لا يصح أن لا تنزل المائدة لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذ غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله فمن يكفر بعد منكم، وسائغ ما قال الحسن، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حين رأى طعام المائدة، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى عليه السلام: ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة. بل هو بالقدرة الغالبة، قال الله له كن فكان، وروي أنه كان على المائدة بقول سوى الثوم والكراث والبصل، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان). [المحرر الوجيز: 3/302-303]