ذِكْرِ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الفَاتِحَةِ مِن المَعَارِفِ الجَلِيلَةِ فِي بَابِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الرابعُ: فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الفَاتِحَةِ مِن المَعَارِفِ الجَلِيلَةِ فِي بَابِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ
(اعلَمْ أنَّ هذهِ السورةَ اشتملتْ على أمَّهاتِ المطالبِ العاليَةِ أتمَّ اشتمالٍ، وتضمَّنَتْها أكملَ تضمُّنٍ:
فاشتمَلَتْ على التعريفِ بالمعبودِ ـ تباركَ وتعالى ـ بثلاثةِ أسماءٍ، مرجعُ الأسماءِ الحسنى والصِّفَاتِ العليا إليها، ومدارُها عليها، وهيَ: ((اللهُ، والربُّ، والرحمنُ))، وبُنِيَت السورةُ على الإلهيَّةِ والربوبيَّةِ والرحمةِ، فَـ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) مبنيٌّ على الإلهيَّةِ، وَ ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) على الربوبيَّةِ، وطلبُ الهدايَةِ إلى الصراطِ المستقيمِ بصفةِ الرحمةِ، والحمدُ يتضمَّنُ الأمورَ الثلاثةَ، فهوَ المحمودُ في إلهيَّتِهِ وربوبيَّتِهِ ورحمتِهِ، والثناءُ والمجدُ كمالانِ لجَدِّهِ.
وتضمَّنَتْ إثباتَ المعادِ، وجزاءَ العبادِ بأعمالِهم ؛ حَسَنِها وسَيِّئِها، وتفرُّدَ الربِّ تعالى بالحُكْمِ إذْ ذاكَ بينَ الخلائقِ، وكونَ حُكْمِهِ بالعَدْلِ، وكلُّ هذا تحتَ قولِهِ: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)).
وتضمَّنَتْ إثباتَ النبُوَّاتِ منْ جهاتٍ عديدةٍ:
- أحدُها: كونُهُ ربَّ العالمينَ؛ فلا يَلِيقُ بهِ أنْ يتركَ عبادَهُ سُدًى هَمَلاً لا يُعَرِّفُهم ما ينفَعُهم في معاشِهِم ومعادِهِم وما يضرُّهم فيهما، فهذا هضْمٌ للربوبيَّةِ، ونسبةُ الربِّ تعالى إلى ما لا يليقُ بهِ، وما قَدَرَهُ حقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَسَبَهُ إليهِ.
- الثاني: أخْذُها من اسمِ ((اللهِ)) وهوَ المألوهُ المعبودُ، ولا سبيلَ للعبادِ إلى معرفةِ عبادتِهِ إلاَّ منْ طريقِ رُسُلِهِ.
- الموضعُ الثالثُ: مِن اسمِهِ ((الرحمنِ))؛ فإنَّ رحمتَهُ تمنعُ إهمالَ عبادِهِ، وعدمَ تعريفِهم ما ينالونَ بهِ غايَةَ كمالِهم؛ فمَنْ أعطى اسمَ ((الرحمنِ))؛ حقَّهُ عرفَ أنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لإرسالِ الرُّسلِ وإنـزالِ الكُتبِ أعظمَ مِنْ تضمُّنِهِ إنـزالَ الغيثِ وإنباتَ الكَلأِ وإخراجَ الحبِّ، فاقتضاءُ الرحمةِ لما تحصلُ بهِ حياةُ القلوبِ والأرواحِ أعظمُ من اقتضائِها لما تحصلُ بهِ حياةُ الأبدانِ والأشباحِ، لكن المحجوبونَ إنَّما أدْرَكُوا منْ هذا الاسمِ حظَّ البهائمِ والدوابِّ، وأدركَ منهُ أُولُو الألبابِ أمراً وراءَ ذلكَ.
- الموضعُ الرابعُ: منْ ذكرِ ((يَوْمِ الدِّينِ))؛ فإنَّهُ اليومُ الذي يَدِينُ اللهُ العبادَ فيهِ بأعمالِهم، فيُثيبُهم على الخيراتِ، ويُعاقبُهم على المعاصي والسيِّئَاتِ، وما كانَ اللهُ ليُعَذِّبَ أحداً قبلَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهِ، والحُجَّةُ إنَّما قامَتْ برُسُلِهِ وكُتُبِهِ، وبهم استُحِقَّ الثوابُ والعقابُ، وبهم قامَ سُوقُ يومِ الدينِ، وسِيقَ الأبرارُ إلى النعيمِ، والفُجَّارُ إلى الجحيمِ.
- الموضعُ الخامسُ: منْ قولِهِ: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))؛ فإنَّ ما يُعْبَدُ بهِ الربُّ تعالى لا يكونُ إلاَّ على ما يُحِبُّهُ ويرضاهُ، وعبادتُهُ ـ وهيَ شكرُهُ وحبُّهُ وخشيتُهُ ـ فطريٌّ ومعقولٌ للعقولِ السليمةِ، لكنَّ طريقَ التعبُّدِ وما يُعبدُ بهِ لا سبيلَ إلى معرفتِهِ إلاَّ برُسُلِهِ وبيانِهم، وفي هذا بيانٌ أنَّ إرسالَ الرسلِ أمرٌ مستقرٌّ في العقولِ، يستحيلُ تعطيلُ العالَمِ عنهُ، كما يستحيلُ تعطيلُهُ عن الصانعِ، فمَنْ أنكرَ الرسولَ فقدْ أنكرَ المُرْسِلَ ولمْ يُؤْمِنْ بهِ؛ ولهذا جعلَ اللهُ سُبحانَهُ الكفرَ برُسُلِهِ كفراً بهِ.
- الموضعُ السادسُ: منْ قولِهِ: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))، فالهدايَةُ: هيَ البيانُ والدلالةُ، ثُمَّ التوفيقُ والإلهامُ، وهوَ بعدَ البيانِ والدلالةِ، ولا سبيلَ إلى البيانِ والدلالةِ إلاَّ منْ جهةِ الرسلِ، فإذا حصلَ البيانُ والدلالةُ والتعريفُ ترتَّبَ عليهِ هدايَةُ التوفيقِ، وجعلُ الإيمانِ في القلبِ، وتحبِيبُهُ إليهِ، وَتَزْيِينُهُ في القلبِ، وجعْلُهُ مُؤْثِراً [لهُ] راضياً بهِ راغباً فيهِ.
وهُمَا هدايتانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، لا يحصلُ الفلاحُ إلاَّ بهما، وهما مُتَضَمِّنَتانِ تعريفَ ما لمْ نعْلَمْهُ من الحقِّ تفصيلاً وإجمالاً، وإلهامَنا لهُ، وجَعْلَنا مُرِيدِينَ لاتِّبَاعِهِ ظاهراً وباطناً، ثُمَّ خَلْقَ القدرةِ لنا على القيامِ بموجَبِ الهُدَى بالقولِ والعملِ والعزمِ، ثُمَّ إدامةَ ذلكَ لنا وتثبيتَنا عليهِ إلى الوفاةِ.
ومنْ هنا يُعْلَمُ اضطرارُ العبدِ إلى سؤالِ هذهِ الدعوةِ فوقَ كلِّ ضرورةٍ، وبُطْلانُ قولِ مَنْ يقولُ: إذا كُنَّا مُهْتَدِينَ، فكيفَ نسألُ الهدايَةَ؟!
فإنَّ المجهولَ لنا من الحقِّ أضعافُ المعلومِ، وما لا نريدُ فعلَهُ تهاوناً وكسلاً مثلَ ما نُريدُهُ، أوْ أكثرَ منهُ أوْ دُونَهُ، وما لا نقدرُ عليهِ – ممَّا نريدُهُ – كذلكَ، وما نعرفُ جُملتَهُ ولا نهتدي لتفاصيلِهِ، فأمرٌ يفوتُ الحصْرَ، ونحنُ محتاجونَ إلى الهدايَةِ التامَّةِ، فمَنْ كَمُلَتْ لهُ هذهِ الأمورُ كانَ سؤالُ الهدايَةِ لهُ سؤالَ التثبيتِ والدوامِ) ([1]).
(فصلٌ: في اشتمالِ هذهِ السورةِ على أنواعِ التوحيدِ الثلاثةِ التي اتَّفَقَتْ علَيْها الرُّسلُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ علَيْهِم.
التوحيدُ نوعانِ: نوعٌ في العلمِ والاعتقادِ، ونوعٌ في الإرادةِ والقصدِ، ويُسَمَّى الأوَّلُ: التوحيدَ العلميَّ، والثاني: التوحيدَ القَصْدِيَّ الإراديَّ؛ لتَعَلُّقِ الأوَّلِ بالأخبارِ والمعرفةِ، والثاني بالقصدِ والإرادةِ. وهذا الثاني أيضاً نوعانِ: توحيدٌ في الربوبيَّةِ، وتوحيدٌ في الإلهيَّةِ، فهذهِ ثلاثةُ أنواعٍ.
فأمَّا التوحيدُ العلميُّ: فمَدَارُهُ على إثباتِ صفاتِ الكمالِ، وعلى نفيِ التشبيهِ والمثالِ، والتنـزيهِ عن العيوبِ والنقائصِ، وقدْ دلَّ على هذا شيئانِ: مُجْمَلٌ، ومُفَصَّلٌ:
- أمَّا المجملُ: فإثباتُ الحمدِ لهُ سُبحانَهُ.
- وأمَّا المُفَصَّلُ: فذِكْرُ صفةِ الإلهيَّةِ والربوبيَّةِ والرحمةِ والملكِ، وعلى هذهِ الأربعِ مَدَارُ الأسماءِ والصِّفَاتِ.
فأمَّا تضمُّنُ الحمدِ لذلكَ: فإنَّ الحمدَ يتضَمَّنُ مدحَ المحمودِ بصفاتِ كمالِهِ، ونعوتِ جلالِهِ، معَ محبَّتِهِ والرضا عنهُ، والخضوعِ لهُ، فلا يكونُ حامداً مَنْ جحَدَ صفاتِ المحمودِ، ولا مَنْ أعرضَ عنْ محبَّتِهِ والخضوعِ لهُ، وكُلَّما كانتْ صفاتُ كمالِ المحمودِ أكثرَ كانَ حمدُهُ أكملَ، وكُلَّما نَقَصَ منْ صفاتِ كمالِهِ نَقَصَ منْ حمْدِهِ بحَسَبِها، ولهذا كانَ الحمدُ كُلُّهُ للهِ حمداً لا يُحْصِيهُ سواهُ، لكمالِ صفاتِهِ وكثرَتِها، ولأجلِ هذا لا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ، لما لهُ منْ صفاتِ الكمالِ، ونعوتِ الجلالِ التي لا يُحْصِيها سواهُ، ولهذا ذمَّ اللهُ تعالى آلهةَ الكُفَّارِ، وعابَها بسَلْبِ أوصافِ الكمالِ عنها؛ فعابَها بأنَّها لا تَسمعُ ولا تُبْصِرُ، ولا تتكَلَّمُ ولا تَهْدِي، ولا تنفعُ ولا تضرُّ، وهذهِ صفةُ إلهِ الجهمِيَّةِ، التي عابَ بها الأصنامَ، نسَبُوهَا إليهِ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمونَ والجاحدونَ عُلُوًّا كبيراً.
فقالَ تعالى حكايَةً عنْ خليلِهِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ في مُحَاجَّتِهِ لأبيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] فلوْ كانَ إلهُ إبراهيمَ بهذهِ الصفةِ والمثابةِ لقالَ لهُ آزرُ: وأنتَ إلهُكَ بهذهِ المثابةِ، فكيفَ تُنْكِرُ عَلَيَّ؟! لكنْ كانَ – معَ شركِهِ – أعرفَ باللهِ من الجهمِيَّةِ، وكذلكَ كُفَّارُ قريشٍ كانوا – معَ شِرْكِهِم– مُقِرِّينَ بصفاتِ الصانعِ سُبحانَهُ وعلوِّهِ على خلْقِهِ، وقالَ تعالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} [الأعراف: 148]. فلوْ كانَ إلهُ الخلقِ سُبحانَهُ كذلكَ لمْ يكُنْ في هذا إنكارٌ عليهم، واستدلالٌ على بُطْلانِ الإلهيَّةِ بذلكَ.
فإنْ قيلَ: فاللهُ تعالى لا يُكَلِّمُ عبادَهُ.
قيلَ: بلى، قدْ كلَّمَهُم؛ فمنهم مَنْ كلَّمَهُ اللهُ منْ وراءِ حجابٍ منهُ إليهِ بلا واسطةٍ كموسى، ومنهم مَنْ كلَّمَهُ اللهُ على لسانِ رسُولِهِ الملَكيِّ وهم الأنبياءُ، وكلَّمَ اللهُ سائرَ الناسِ على ألسنةِ رسُلِهِ؛ فأنزلَ عليهم كلامَهُ الذي بلَّغَتْهُ رسلُهُ عنهُ. وقالُوا لهم: هذا كلامُ اللهِ الذي تكلَّمَ بهِ، وأُمِرْنَا بتبليغِهِ إليكُمْ.
ومنْ ها هنا قالَ السلفُ: مَنْ أنكرَ كونَ اللهِ مُتَكَلِّماً فقدْ أنكرَ رسالةَ الرسُلِ كلِّهم؛ لأنَّ حقيقتَها تبليغُ كلامِهِ الذي تتكلَّمُ بهِ إلى عبادِهِ، فإذا انتفى كلامُهُ انتفت الرسالةُ، وقالَ تعالى في سورةِ طه عن السَّامِرِيِّ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) [طه: 88-89]. ورَجْعُ القولِ: هوَ التكَلُّمُ والتكليمُ. وقالَ تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 76]، فجعلَ نفيَ صفةِ الكلامِ مُوجِباً لبُطْلانِ الإلهيَّةِ.
وهذا أمرٌ معلومٌ بالفِطَرِ والعقولِ السليمةِ والكتبِ السماويَّةِ: أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمالِ لا يكونُ إلهاً، ولا مُدَبِّراً، ولا ربًّا، بلْ هوَ مذمومٌ مَعِيبٌ ناقصٌ، ليسَ لهُ الحمدُ لا في الأُولَى ولا في الآخرةِ، وإنَّما الحمدُ في الأولى والآخرةِ لمَنْ لهُ صفاتُ الكمالِ، ونعوتُ الجلالِ، التي لأجلِها استَحقَّ الحمدَ، ولهذا سَمَّى السلفُ كُتُبَهم التي صنَّفُوها في السُّنَّةِ وإثباتِ صفاتِ الربِّ وعُلُوِّهِ على خلْقِهِ وكلامِهِ وتكليمِهِ: تَوْحِيداً؛ لأنَّ نفيَ ذلكَ وإنكارَهُ والكفرَ بهِ إنكارٌ للصانعِ، وجحدٌ لهُ، وإنَّما توحيدُهُ: إثباتُ صفاتِ كمالِهِ، وتنـزيهُهُ عن التشبيهِ والنقائصِ، فجعلَ المُعَطِّلَةُ جحدَ الصِّفَاتِ وتعطيلَ الصانعِ عنها توحيداً، وجعَلُوا إثباتَها للهِ تشبيهاً وتجسيماً وتركيباً، فسَمَّوا الباطلَ باسمِ الحقِّ ترغيباً فيهِ، وزُخْرُفاً يُنْفِقُونَهُ بهِ، وسمَّوا الحقَّ باسمِ الباطلِ تنفيراً عنهُ، والناسُ أكثرُهم معَ ظاهرِ السِّكَّةِ، ليسَ لهم نَقْدُ النُّقَّادِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} [الكهف: 17]. والمحمودُ لا يُحمدُ على العدمِ والسكوتِ البَتَّةَ إلاَّ إذا كانتْ سَلْبَ عيوبٍ ونقائصَ تتضمَّنُ إثباتَ أضدادِها من الكمالاتِ الثبوتِيَّةِ، وإلاَّ فالسلبُ المحضُ لا حمدَ فيهِ ولا مدحَ ولا كمالَ.
وكذلكَ حمدُهُ لنفْسِهِ على عدمِ اتِّخاذِ الولدِ المتضمِّنِ لكمالِ صَمَدِيَّتِهِ وغِناهُ وملكِهِ، وتعبيدِ كلِّ شيءٍ لهُ؛ فاتِّخَاذُ الولدِ يُنَافِي ذلكَ، كما قالَ تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68].
وحمدُ نفسِهِ على عدمِ الشريكِ، المتضمِّنِ تفرُّدَهُ بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ، وتوحُّدَهُ بصفاتِ الكمالِ التي لا يُوصَفُ بها غيرُهُ فيكونَ شريكاً لهُ، فلوْ عَدِمَها لكانَ كلُّ موجودٍ أكملَ منهُ؛ لأنَّ الموجودَ أكملُ من المعدومِ، ولهذا لا يَحمدُ نفسَهُ سُبحانَهُ بعدمٍ إلاَّ إذا كانَ متضمِّناً لثبوتِ كمالٍ، كما حَمِدَ نفسَهُ بكوْنِهِ لا يموتُ؛ لتضمُّنِهِ كمالَ حياتِهِ، وحمِدَ نفْسَهُ بكوْنِهِ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ؛ لتضَمُّنِ ذلكَ كمالَ قيُّومِيَّتِهِ، وحمِدَ نفسَهُ بأنَّهُ لا يعزُبُ عنْ علْمِهِ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرُ منْ ذلكَ ولا أكبرُ؛ لكمالِ علمِهِ وإحاطَتِهِ، وحمِدَ نفْسَهُ بأنَّهُ لا يَظْلِمُ أحداً؛ لكمالِ عَدْلِهِ وإحسانِهِ، وحَمِدَ نفْسَهُ بأنَّهُ لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ؛ لكمالِ عظمتِهِ، يُرى ولا يُدْرَكُ، كما أنَّهُ يُعلمُ ولا يُحاطُ بهِ علماً، فمُجَرَّدُ نفيِ الرؤيَةِ ليسَ لكمالٍ؛ لأنَّ العدمَ لا يُرى، فليسَ في كونِ الشيءِ لا يُرى كمالٌ البتَّةَ، وإنَّما الكمالُ في كوْنِهِ لا يُحَاطُ بهِ رؤيَةً ولا إدراكاً لعظمَتِهِ في نفسِهِ، وتعلِّيهِ عنْ إدراكِ المخلوقِ لهُ، وكذلكَ حَمِدَ نفسَهُ بعدمِ الغفلةِ والنسيانِ؛ لكمالِ عِلْمِهِ.
فكلُّ سلْبٍ في القرآنِ حَمِدَ اللهُ بهِ نفسَهُ فلمُضَادَّتِهِ لثبوتِ ضِدِّهِ، ولتضَمُّنِهِ كمالَ ثبوتِ ضدِّهِ؛ فعَلِمْتَ أنَّ حقيقةَ الحمدِ تابعةٌ لثبوتِ أوصافِ الكمالِ، وأنَّ نفيَها نفيٌ لحمْدِهِ، ونفيُ الحمدِ مستلزِمٌ لثبوتِ ضدِّهِ.
[فصلٌ]:
فهذهِ دلالةٌ على توحيدِ الأسماءِ والصِّفَاتِ، وأمَّا دلالةُ الأسماءِ الخمسةِ عليها، وهيَ: ((اللهُ، والرَّبُّ، والرحمنُ، والرحيمُ، والملكُ))، فمبنيٌّ على أصلَيْنِ:
- أحدُهما: أنَّ أسماءَ الرَّبِّ تباركَ وتعالى دالَّةٌ على صفاتِ كمالِهِ، فهيَ مُشتقَّةٌ من الصِّفَاتِ، فهيَ أسماءٌ، وهيَ أوصافٌ، وبذلكَ كانتْ حُسنى؛ إذْ لوْ كانتْ ألفاظاً لا معانيَ فيها لمْ تكُنْ حُسنى، ولا كانتْ دالَّةً على مدحٍ ولا كمالٍ، ولَساغَ وُقُوعُ أسماءِ الانتقامِ والغضبِ في مقامِ الرحمةِ والإحسانِ، وبالعكسِ، فيُقَالُ: اللَّهمَّ إنِّي ظلَمْتُ نفسي فاغْفِرْ لي؛ إنَّكَ أنتَ المنتقِمُ، واللَّهمَّ أعْطِني؛ فإنَّكَ أنتَ الضارُّ المانعُ، ونحوُ ذلكَ.
ونفيُ معاني أسمائِهِ الحسنى منْ أعظمِ الإلحادِ فيها، قالَ تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180]، ولأنَّها لوْ لمْ تدُلَّ على معانٍ وأوصافٍ لمْ يجُزْ أنْ يُخبَرَ عنها بمصادِرِها ويوصفَ بها، لكنَّ اللهَ أَخبرَ عنْ نفسِهِ بمصادرِها، وأثبتَها لنفسِهِ، وأثبتَها لهُ رسولُهُ، كقولِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58]، فعُلِمَ أنَّ "القويَّ " منْ أسمائِهِ، ومعناهُ الموصوفُ بالقُوَّةِ، وكذلكَ قولُهُ: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. فالعزيزُ: مَنْ لهُ العزَّةُ، فلولا ثبوتُ القوَّةِ والعزَّةِ لمْ يُسَمَّ قَوِيًّا ولا عزيزاً، وكذلكَ قولُهُ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255].
وفي الصحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([2])، فأثبتَ المصدرَ الذي اشْتُقَّ منهُ اسمُهُ ((البصيرُ)).
وفي صحيحِ البخاريِّ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها: (الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سمعُهُ الأصواتَ) ([3])، وفي الصحيحِ حديثُ الاستخارةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ)) ([4]) فهوَ قادرٌ بقُدْرَةٍ، وقالَ تعالى لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، فهوَ مُتكلِّمٌ بكلامٍ.
وهوَ العظيمُ الذي لهُ العظَمَةُ، كما في الصحيحِ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي)) ([5])، وهوَ الحكيمُ الذي لهُ الحُكمُ: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: 12]. وأجمعَ المسلمونَ أنَّهُ لوْ حُلِفَ بحياةِ اللهِ، أوْ سمعِهِ، أوْ بصرِهِ، أوْ قُوَّتِهِ، أوْ عِزَّتِهِ، أوْ عظَمَتِهِ: انعقدَتْ يمينُهُ، وكانتْ مُكَفَّرةً؛ لأنَّ هذهِ صفاتُ كمالِهِ التي اشتُقَّت منها أسماؤُهُ.
وأيضاً: لوْ لمْ تكُنْ أسماؤُهُ على معانٍ وصفاتٍ لمْ يَسُغْ أنْ يُخبَرَ عنهُ بأفعالِها؛ فلا يُقَالُ: يسمعُ، ويرى، ويعلمُ، ويُقَدِّرُ، ويريدُ، فإنَّ ثبوتَ أحكامِ الصِّفَاتِ فرعُ ثُبوتِها، فإذا انتفى أصلُ الصفةِ استحالَ ثبوتُ حُكْمِها.
وأيضاً فلوْ لمْ تكُنْ أسماؤُهُ ذواتِ معانٍ وأوصافٍ لكانَتْ جامدةً كالأعلامِ المحضةِ، التي لمْ تُوضَعْ لمُسَمَّاها باعتبارِ معنًى قامَ بهِ، فكانتْ كُلُّها سواءً، ولمْ يكُنْ فَرْقٌ بينَ مدْلُولاتِها، وهذا مكابرةٌ صريحةٌ، وبُهْتٌ بيِّنٌ، فإنَّ مَنْ جعلَ معنى اسمِ ((القديرِ)) هوَ معنى اسمِ ((السميعِ، البصيرِ))، ومعنى اسمِ ((التوَّابِ)) هوَ معنى اسمِ ((المنتقمِ))، ومعنى اسمِ ((المُعْطِي)) هوَ معنى اسمِ ((المانعِ))، فقدْ كابرَ العقلَ واللغةَ والفطرةَ.
فنفيُ معاني أسمائِهِ منْ أعظمِ الإلحادِ فيها, والإلحادُ فيها أنواعٌ، هذا أحدُها.
الثاني: تسميَةُ الأوثانِ بها، كما يُسمُّونها آلهةً، وقالَ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ: "عَدَلُوا بأسماءِ اللهِ تعالى عمَّا هيَ عليهِ، فسَمَّوْا بها أوثانَهم، فزادُوا ونقصُوا، فاشتقُّوا اللاَّتَ من اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ، ومَنَاةَ من المنَّانِ". ورُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] (يَكْذِبُونَ عليهِ)؛ وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
وحقيقةُ الإلحادِ فيها: العدولُ بها عن الصوابِ فيها، وإدخالُ ما ليسَ منْ معانيها فيها، وإخراجُ حقائقِ معانيها عنها. هذا حقيقةُ الإلحادِ، ومَنْ فعلَ ذلكَ فقدْ كذبَ على اللهِ، ففسَّرَ ابنُ عبَّاسٍ الإلحادَ بالكذبِ، أوْ هوَ غايَةُ الملحِدِ في أسمائِهِ تعالى، فإنَّهُ إذا أدخلَ في معانيها ما ليسَ منها، وخرج بها عنْ حقائقِها، أوْ بعْضِها، فقدْ عدَلَ بها عن الصوابِ والحقِّ، وهوَ حقيقةُ الإلحادِ.
فالإلحادُ: إمَّا بجحدِها وإنكارِها، وإمَّا بجحدِ معانيها وتعطيلِها، وإمَّا بتحريفِها عن الصوابِ وإخراجِها عن الحقِّ بالتأويلاتِ الباطلةِ، وإمَّا بجعلِها أسماءً لهذهِ المخلوقاتِ المصنوعاتِ، كإلحادِ أهلِ الاتِّحادِ؛ فإنَّهم جعلُوها أسماءَ هذا الكونِ، محمُودَها ومذمُومَها، حتَّى قالَ زعيمُهم: (وهوَ المُسَمَّى بكلِّ اسمٍ ممدوحٍ عقلاً وشرعاً وعُرْفاً، وبكلِّ اسمٍ مذمومٍ عقلاً وشرعاً وعرفاً)، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الملحدونَ عُلُوًّا كبيراً.
[فصلٌ]:
- الأصلُ الثاني: أنَّ الاسمَ منْ أسمائِهِ تباركَ وتعالى كما يدُلُّ على الذاتِ والصفةِ التي اشْتُقَّ منها بالمطابقةِ، فإنَّهُ يدلُّ عليهِ دلالتيْنِ أُخرييْنِ بالتضمُّنِ واللزومِ، فيدلُّ على الصفةِ بمفردِها بالتضمُّنِ، وكذلكَ على الذاتِ المجرَّدةِ عن الصفةِ، ويدلُّ على الصفةِ الأخرى باللزومِ، فإنَّ اسمَ ((السميعِ)) يدلُّ على ذاتِ الرَّبِّ وسمعِهِ بالمطابقةِ، وعلى الذاتِ وحدَها، وعلى السمعِ وحدَهُ بالتضمُّنِ، ويدلُّ على اسمِ ((الحيِّ)) وصفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلكَ سائرُ أسمائِهِ وصفاتِهِ، ولكنْ يتفاوتُ الناسُ في معرفةِ اللزومِ وعدَمِهِ، ومنْ هاهنا يقعُ اختلافُهم في كثيرٍ من الأسماءِ والصِّفَاتِ والأحكامِ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الفعلَ الاختياريَّ لازمٌ للحياةِ، وأنَّ السمعَ والبصرَ لازمٌ للحياةِ الكاملةِ، وأنَّ سائرَ الكمالِ مِنْ لوازمِ الحياةِ الكاملةِ أثبتَ منْ أسماءِ الربِّ وصفاتِهِ وأفعالِهِ ما يُنْكِرُهُ مَنْ لمْ يعرفْ لزومَ ذلكَ، ولا عَرَفَ حقيقةَ الحياةِ ولوازِمَها، وكذلكَ سائرُ صفاتِهِ...
[فصلٌ]:
إذا تقرَّرَ هذانِ الأصلانِ، فاسمُ ((اللهِ)) دالٌّ على جميعِ الأسماءِ الحسنى والصِّفَاتِ العليا بالدلالاتِ الثلاثِ، فإنَّهُ دالٌّ على إلهيَّتِهِ المتضمِّنَةِ لثبوتِ صفاتِ الإلهيَّةِ لهُ، معَ نفيِ أضدادِها عنهُ.
وصفاتُ الإلهيَّةِ: هيَ صفاتُ الكمالِ المنـزَّهةُ عن التشبيهِ والمثالِ، وعن العيوبِ والنقائصِ، ولهذا يُضيفُ اللهُ تعالى سائرَ الأسماءِ الحسنى إلى هذا الاسمِ العظيمِ، كقولِهِ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الأعراف: 180]. ويُقالُ: ((الرحمنُ، والرحيمُ، والقدُّوسُ، والسلامُ، والعزيزُ، والحكيمُ)) منْ أسماءِ اللهِ، ولا يُقالُ: ((اللهُ)) منْ أسماءِ ((الرحمنِ))، ولا منْ أسماءِ ((العزيزِ))، ونحوَ ذلكَ.
فعُلِمَ أنَّ اسمَهُ ((اللهَ)) مستلزمٌ لجميعِ معاني الأسماءِ الحسنى، دالٌّ عليها بالإجمالِ، والأسماءُ الحسنى تفصيلٌ وتَبْيِينٌ لصفاتِ الإلهيَّةِ، التي اشْتُقَّ منها اسمُ “ اللهِ “، واسمُ “ اللهِ “ دالٌّ على كونِهِ مَأْلُوهاً معبوداً، تُؤَلِّهُهُ الخلائقُ محبَّةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليهِ في الحوائجِ والنوائبِ، وذلكَ مستلزمٌ لكمالِ رُبوبيَّتِهِ ورحمَتِهِ، المتضمِّنَيْنِ لكمالِ الملكِ والحمدِ، وإلهيَّتُهُ وربوبيَّتُهُ ورحمانيَّتُهُ وملكُهُ مستلزمٌ لجميعِ صفاتِ كمالِهِ؛ إذْ يستحيلُ ثبوتُ ذلكَ لمَنْ ليسَ بحيٍّ، ولا سميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا قادرٍ، ولا متكلِّمٍ، ولا فعَّالٍ لما يريدُ، ولا حكيمٍ في أفعالِهِ.
وصفاتُ الجلالِ والجمالِ: أخصُّ باسمِ ((اللهِ)).
وصفاتُ الفعلِ والقدرةِ، والتفرُّدِ بالضرِّ والنفعِ، والعطاءِ والمنعِ، ونفوذِ المشيئةِ وكمالِ القوَّةِ، وتدبيرِ أمرِ الخليقةِ: أخصُّ باسمِ ((الربِّ)).
وصفاتُ الإحسانِ، والجودِ والبِرِّ، والحنَانِ والمنَّةِ والرأفةِ واللطفِ أخصُّ باسمِ ((الرحمنِ))، وكرَّرَ إيذاناً بثبوتِ الوصفِ وحصولِ أثرِهِ وتَعَلُّقِهِ بمتعلِّقاتِهِ.
فالرحمنُ: الذي الرحمةُ وصْفُهُ، والرحيمُ: الراحمُ لعبادِهِ، ولهذا يقولُ تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)}[الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. ولمْ يجئْ رحمانُ بعبادِهِ، ولا رحمانُ بالمؤمنينَ، معَ ما في اسمِ ((الرحمنِ)) الذي هوَ على وزنِ “ فَعْلانَ “ منْ سَعَةِ هذا الوصفِ، وثبوتِ جميعِ معناهُ الموصوفِ بهِ.
ألا ترى أنَّهُم يقولونَ: غضبانُ، للممتلئِ غضباً، وندمانُ وحيرانُ وسكرانُ ولهفانُ لمَنْ مُلِئَ بذلكَ، فبناءُ (فَعْلانَ) للسَّعَةِ والشمولِ، ولهذا يَقْرِنُ استواءَهُ على العرشِ بهذا الاسمِ كثيراً، كقولِهِ تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، فاستوى على عرشِهِ باسمِ الرحمنِ؛ لأنَّ العرشَ محيطٌ بالمخلوقاتِ قدْ وَسِعَها، والرحمةُ محيطةٌ بالخلقِ واسعةٌ لهم، كما قالَ تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فاستوى على أوسعِ المخلوقاتِ بأوسعِ الصِّفَاتِ؛ فلذلكَ وَسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ.
وفي الصحيحِ منْ حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))، وفي لفظٍ: ((فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ)).
فتأمَّل اختصاصَ هذا الكتابِ بذكرِ الرحمةِ، ووضْعَهُ عندَهُ على العرشِ، وطَابِقْ بينَ ذلكَ وبينَ قولِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وقولِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان: 59]، ينفتحْ لكَ بابٌ عظيمٌ منْ معرفةِ الربِّ تباركَ وتعالى، إنْ لمْ يُغْلِقْهُ عنكَ التعطيلُ والتجَهُّمُ.
وصفاتُ العَدْلِ، والقبضِ والبسطِ، والخفضِ والرفعِ، والعطاءِ والمنعِ، والإعزازِ والإذلالِ، والقهرِ والحُكْمِ، ونحوِها: أخصُّ باسمِ ((الملكِ))، وخصَّهُ بيومِ الدينِ- وهوَ الجزاءُ بالعَدْلِ- لتفرُّدِهِ بالحكمِ فيهِ وحدَهُ، ولأنَّهُ اليومُ الحقُّ، وما قبْلَهُ كساعةٍ، ولأنَّهُ الغايَةُ، وأيَّامُ الدُّنيا مراحلُ إليهِ.
[فصلٌ]:
وتأمَّل ارتباطَ الخلقِ والأمرِ بهذهِ الأسماءِ الثلاثةِ، وهيَ: ((اللهُ، والربُّ، والرحمنُ))، كيفَ نشأَ عنها الخلقُ، والأمرُ، والثوابُ، والعقابُ؟!! وكيفَ جمَعَت الخلقَ وفرَّقَتْهم؟!! فلها الجمعُ، ولها الفرقُ.
فاسمُ ((الربِّ)) لهُ الجمعُ الجامعُ لجميعِ المخلوقاتِ، فهوَ ربُّ كلِّ شيءٍ وخالقُهُ، والقادرُ عليهِ، لا يخرجُ شيءٌ عنْ ربوبيَّتِهِ، وكلُّ مَنْ في السَّماوَاتِ والأرضِ عبدٌ لهُ في قبضَتِهِ، وتحتَ قهرِهِ، فاجتمَعُوا بصفةِ الربوبيَّةِ، وافترَقُوا بصفةِ الإلهيَّةِ، فأَلَّهَهُ وحدَهُ السعداءُ، وأقَرُّوا لهُ طَوْعاً بأنَّهُ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ، الذي لا تنبغي العبادةُ والتوكُّلُ والرجاءُ والخوفُ والحبُّ والإنابةُ والإخباتُ والخشيَةُ والتذلُّلُ والخضوعُ إلاَّ لهُ.
وهنا افترقَ الناسُ، وصاروا فريقيْنِ: فريقاً مشركينَ في السَّعيرِ، وفريقاً مُوحِّدينَ في الجنَّةِ.
فالإلهيَّةُ هيَ التي فرَّقتهم، كما أنَّ الربوبيَّةَ هيَ التي جمَعَتْهُم.
فالدينُ والشرعُ، والأمرُ والنهيُ - مظهرُهُ وقيامُهُ - منْ صفةِ الإلهيَّةِ، والخلقُ والإيجادُ والتدبيرُ والفعلُ منْ صفةِ الربوبيَّةِ، والجزاءُ بالثوابِ والعقابِ والجنَّةِ والنارِ: صفةُ الملكِ، وهوَ مَلِكُ يومِ الدينِ، فأمَرَهُم بإلهيَّتِهِ وأعانَهُم ووفَّقَهُم وهدَاهُم، وأضَلَّهُم بربوبيَّتِهِ، وأثابَهُم وعاقَبَهُم بمُلْكِهِ وعَدْلِهِ. وكلُّ واحدةٍ منْ هذهِ الأمورِ لا تنفكُّ عن الأخرى.
وأمَّا الرحمةُ: فهيَ التَّعَلُّقُ، والسببُ الذي بينَ اللهِ وبينَ عبادِهِ، فالتأْلِيهُ منهم لهُ، والربوبيَّةُ منهُ لهم، والرحمةُ سببٌ واصلٌ بينَهُ وبينَ عبادِهِ، بها أَرسلَ إليهم رُسُلَهُ، وأَنزلَ عليهم كُتبَهُ، وبها هدَاهُم، وبها أسكَنَهُم دارَ ثوابِهِ، وبها رَزقَهُم وعافَاهُم وأنعمَ عليهم. فبيْنَهُم وبينَهُ سببُ العبوديَّةِ، وبينَهُ وبينَهم سببُ الرحمةِ.
واقترانُ ربوبيَّتِهِ برحمتِهِ كاقترانِ استوائِهِ على عرشِهِ برحمتِهِ. فـَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] مطابقٌ لقولِـهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 2-3]؛ فإنَّ شمولَ الربوبيَّةِ وسَعَتَها بحيثُ لا يخرجُ شيءٌ عنها أقصى شمولِ الرحمةِ وسَعَتِها. فَوَسِعَ كلَّ شيءٍ برحمتِهِ وربوبيَّتِهِ، معَ أنَّ في كونِهِ ربًّا للعالمينَ ما يدلُّ على علوِّهِ على خلقِهِ وكونِهِ فوقَ كلِّ شيءٍ، كما يأتي بيانُهُ إنْ شاءَ اللهُ.
[فصلٌ]:
في ذكرِ هذهِ الأسماءِ بعدَ الحمدِ، وإيقاعِ الحمدِ على مضمُونِها ومُقْتَضَاهَا: ما يدُلُّ على أنَّهُ محمودٌ في إلهيَّتِهِ، محمودٌ في رُبُوبيَّتِهِ، محمودٌ في رحمانيَّتِهِ، محمودٌ في مُلْكِهِ، وأنَّهُ إلهٌ محمودٌ، وربٌّ محمودٌ، ورحمانُ محمودٌ، ومَلكٌ محمودٌ، فلهُ بذلكَ جميعُ أقسامِ الكمالِ: كمالٌ منْ هذا الاسمِ بمفردِهِ، وكمالٌ من الآخرِ بمفردِهِ، وكمالٌ من اقترانِ أحدِهما بالآخرِ.
مثالُ ذلكَ: قولُهُ تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)} [التغابن: 6]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)} [التوبة: 110]، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} [الممتحنة: 7]، فالغِنَى صفةُ كمالٍ، والحمدُ صفةُ كمالٍ، واقترانُ غِناهُ بحمدِهِ كمالٌ أيضاً. وعِلْمُهُ كمالٌ، وحكمتُهُ كمالٌ، واقترانُ العلمِ بالحكمةِ كمالٌ أيضاً. وقُدرتُهُ كمالٌ، ومغفرتُهُ كمالٌ، واقترانُ القدرةِ بالمغفرةِ كمالٌ، وكذلكَ العفوُ بعدَ القدرةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء: 43] واقترانُ العلمِ بالحِلْمِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 12].
وحَمَلَةُ العرشِ أربعةٌ: اثنانِ يقولانِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ)، واثنانِ يقولانِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ)، فما كلُّ مَنْ قَدَرَ عَفَا، ولا كلُّ مَنْ عفا يعْفُو عنْ قُدْرَةٍ، ولا كلُّ مَنْ علِمَ يكونُ حَلِيماً، ولا كلُّ حليمٍ عالمٌ. فما قُرِنَ شيءٌ إلى شيءٍ أَزْيَنُ منْ حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، ومِنْ عفوٍ إلى قدرةٍ، ومِنْ مُلكٍ إلى حَمْدٍ، ومنْ عِزَّةٍ إلى رحمةٍ {إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 9].
وفي هذا أظهرُ الدلالةِ على أنَّ أسماءَ الربِّ تعالى مُشْتَقَّةٌ منْ أوصافٍ ومعانٍ قامَتْ بهِ، وأنَّ كلَّ اسمٍ يناسبُ ما ذُكِرَ معهُ، واقتَرنَ بهِ منْ فعلِهِ وأمْرِهِ. واللهُ الْمُوَفِّقُ للصوابِ) ([6]).
[فصْلٌ]:
([و] اعلمْ أنَّ كلَّ حيٍّ سوى اللهِ فهوَ فقيرٌ إلى جَلْبِ ما ينفعُهُ ودفعِ ما يضُرُّهُ، والمنفعةُ للحيِّ منْ جنسِ النعيمِ واللذَّةِ، والمضَرَّةُ منْ جنسِ الألمِ والعذابِ، فلا بدَّ لهُ منْ أمرَيْنِ: أحدُهما هوَ المطلوبُ المقصودُ المحبوبُ الذي ينتفعُ بهِ ويتلذَّذُ بهِ، والثاني هوَ المعينُ المُوَصِّلُ المُحَصِّلُ لذلكَ المقصودِ، والمانعُ لحصولِ المكروهِ، والدافعُ لهُ بعدَ وقوعِهِ.
فها هنا أربعةُ أشياءَ:
- أَمْرٌ محبوبٌ مطلوبُ الوجودِ.
- والثاني: أمرٌ مكروهٌ مطلوبُ العدمِ.
- والثالثُ: الوسيلةُ إلى حصولِ المحبوبِ.
- والرابعُ: الوسيلةُ إلى دفعِ المكروهِ.
فهذهِ الأمورُ الأربعةُ ضروريَّةٌ للعبدِ، بلْ ولكلِّ حيٍّ سوى اللهِ، لا يقومُ صلاحُهُ إلاَّ بها.
إذا عُرِفَ هذا فاللهُ سُبحانَهُ وتعالى هوَ المطلوبُ المعبودُ المحبوبُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وهوَ وحدَهُ المعينُ للعبدِ على حصولِ مطلوبِهِ، فلا معبودَ سواهُ ولا مُعِينَ على المطلوبِ غيرُهُ، وما سِوَاهُ هوَ المكروهُ المطلوبُ بُعْدُهُ، وهوَ المعينُ على دفْعِهِ، فهوَ سُبحانَهُ الجامعُ للأمورِ الأربعةِ دونَ ما سواهُ، وهذا معنى قولِ العبدِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]؛ فإنَّ العبادةَ تتضمَّنُ المقصودَ المطلوبَ على أكملِ الوجوهِ، والمستعانُ هوَ الذي يُسْتَعَانُ بهِ على حصولِ المطلوبِ ودفعِ المكروهِ. فالأوَّلُ: مِنْ مُقْتَضَى ألوهيَّتِهِ، والثاني: منْ مُقْتَضَى ربوبيَّتِهِ؛ لأنَّ الإلهَ هوَ الذي يُؤَلَّهُ فيُعبدُ محبَّةً وإنابةً وإجلالاً وإكراماً، والربُّ هوَ الذي يَرُبُّ عبدَهُ فَيُعْطِيهِ خلْقَهُ ثُمَّ يهديهِ إلى جميعِ أحوالِهِ ومصالحِهِ التي بها كمالُهُ، ويهديهِ إلى اجتنابِ المفاسدِ التي بها فسادُهُ وهلاكُهُ.
وفي القرآنِ سبعةُ مواضعَ تنتظمُ هذَيْنِ الأصلَيْنِ:
- أحدُها: قولُهُ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
- الثاني: قولُهُ تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88].
- الثالثُ: قولُهُ تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
- الرابعُ: قولُهُ تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4].
- الخامسُ: قولُهُ تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58].
- السادس: قولُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد: 30].
- السابع: قولُهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمِّل: 8-9]. ) ([7]).
(فصلٌ: في تضمُّنِها الردَّ على الجهمِيَّةِ مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ) ([8])
وذلكَ منْ وجوهٍ:
- أحدُها: منْ قولِهِ: (الْحَمْدُ للهِ)؛ فإنَّ إثباتَ الحمدِ الكاملِ لهُ يقتضي ثبوتَ كلِّ ما يُحمدُ عليهِ منْ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جلالِهِ؛ إذْ مَنْ عُدِمَ صفاتِ الكمالِ فليسَ بمحمودٍ على الإطلاقِ، وغايَتُهُ: أنَّهُ محمودٌ منْ وَجْهٍ دونَ وجهٍ. ولا يكونُ محموداً بكلِّ وجهٍ، وبكلِّ اعتبارٍ، بجميعِ أنواعِ الحمدِ: إلاَّ مَن استوْلَى على صفاتِ الكمالِ جميعِها. فلوْ عَدِمَ منها صفةً واحدةً لنقصَ منْ حمْدِهِ بحسَبِها.
- وكذلكَ في إثباتِ صفةِ الرحمةِ لهُ: ما يتضمَّنُ إثباتَ الصِّفَاتِ التي تستلزمُها: من الحياةِ والإرادةِ والقدرةِ والسمعِ والبصرِ وغيرِها.
- وكذلكَ صفةُ الربوبيَّةِ: تستلزمُ جميعَ صفاتِ الفعلِ، وصفةُ الإلهيَّةِ تستلزمُ جميعَ أوصافِ الكمالِ: ذاتاً وأفعالاً، كما تقدَّمَ بيانُهُ.
فكوْنُهُ محموداً، إلهاً، رَبًّا، رحمانَ، رحيماً، ملكاً، معبوداً، مُسْتَعاناً، هادياً، مُنْعِماً، يَرْضَى ويغضبُ - معَ نفيِ قيامِ الصِّفَاتِ بهِ - جمعٌ بينَ النقيضَيْنِ، وهوَ منْ أمحلِ المحالِ.
وهذهِ الطريقُ تتضمَّنُ إثباتَ الصِّفَاتِ الخبرِيَّةِ منْ وجهيْنِ:
- أحدُهما: أنَّها منْ لوازمِ كمالِهِ المطلقِ؛ فإنَّ استواءَهُ على عرشِهِ منْ لوازمِ علوِّهِ، ونـزولَهُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا في نصفِ الليلِ الثاني: منْ لوازمِ رحمَتِهِ وربوبيَّتِهِ. وهكذا سائرُ الصِّفَاتِ الخبريَّةِ.
- الوجهُ الثاني: أنَّ السمعَ وَرَدَ بها، ثناءً على اللهِ ومدحاً لهُ، وتعرُّفاً منهُ إلى عبادِهِ بها. فجحْدُها وتحريفُها عمَّا دلَّتْ عليهِ، وعمَّا أُريدَ بها: مُنَاقِضٌ لما جاءَتْ بهِ. فلكَ أنْ تستدِلَّ بطريقِ السمعِ على أنَّها كمالٌ، وأنْ تستدلَّ بالعقلِ كما تقَدَّمَ)([9]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) مدارجُ السَّالِكينَ (1/31-32).
([2]) رواهُ مُسلِمٌ فِي كِتابِ الإيمانِ/ بابٌ فِي قولِهِ علَيهِ السلامُ: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنَامُ" (444، 445)، وابنُ ماجَهْ في المُقدمَةِ / بابٌ فِيمَا أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ (195،196) والإمامُ أَحْمَدُ ( 19036، 9090، 19135) من طُرُقٍ عن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
([3]) رواهُ البُخارِيُّ فِي كِتابِ التَّوْحِيدِ / بابُ قولِ اللَّهِ تَعالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزْمِ، عنِ الأعمَشِ، عن تَمِيمٍ، عن عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها.
ووَصَلَهُ الإمامُ أَحْمَدُ (23675)، والنَّسَائِيُّ فِي كِتابِ الطَّلاقِ / بابُ الظِّهَارِ (3460)، وابنُ مَاجَهْ فِي المُقَدِّمَةِ/ بابٌ فِيمَا أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ (188) وفي كتابِ الطَّلاقِ / بابُ الظِّهارِ (2063). كُلُّهُمْ مِن طُرُقٍ عَنِ الأَعْمَشِ بِهِ.
([4]) رواهُ البُخارِيُّ فِي كِتابِ الجُمُعَةِ (1162)، وكِتابِ الدَّعَوَاتِ/ بابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الاستِخَارَةِ (6382)، وكتابِ التوحيدِ/ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {هُوَ الْقَادِرُ} (7390)، وأبو دَاوُدَ في كتابِ الصلاةِ/ بابٌ في الاستخارةِ (1538)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الصلاةِ/ بابُ ما جاءَ في صلاةِ الاستخارةِ (480)، والنَّسائِيُّ في كتابِ النكاحِ/ بابُ كيفَ الاستخارةُ (3253)، وابنُ مَاجَهْ فِي كتابِ إقامةِ الصلاةِ / بابُ ما جاءَ في صلاةِ الاستخارةِ (1383)، والإمامُ أحمدُ (14297) من طُرُقٍ عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي المَوالِي، عن مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما مَرْفُوعًا.
([5]) رواهُ الإمامُ أَحْمَدُ (8677،9095،9224،9410)، وأبو داودَ في كتابِ اللباسِ/ بابُ مَا جاءَ في الكِبْرِ (4084)، وابنُ مَاجَهْ فِي كِِتابِ الزُّهْدِ/ بابُ البراءةِ مِنَ الكِبْرِ، والتواضُعِ (4173)، من طُرُقٍ، عن عَطاءِ بْنِ السائبِ، عنِ الأَغَرِّ أبِي مُسْلِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
ورواهُ ابنُ مَاجَهْ أيضًا بَعْدَ الحديثِ السابقِ مباشرةً من طريقِ عبدِ الرحمنِ المُحارِبِيِّ، عن عَطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِهِ.
قال البُوصِيرِيُّ: هذا إسنادٌ رِجَالُهُ ثِقاتٌ، إلا أنَّ عطاءَ بنَ السائِبِ اخْتَلَطَ بأَخَرَةٍ، ولم يُعْرَفْ حَالُ عَبْدِ الرحمنِ بنِ مُحَمَّدٍ المُحارِبِيِّ: هَلْ رَوَى عنه قَبْلَ الاختلاطِ أو بَعْدَهُ.
وَرَوَى الإمامُ مُسلمٌ في صَحِيحِهِ في كتابِ البِرِّ والصلةِ والآدابِ/ بابُ تحريمِ الكِبْرِ، مِن طَريقِ الأعمشِ: حدثنا أبو إِسحاقَ، عن أَبِي مُسْلِمٍ الأَغَرِّ، أنه حدَّثَهُ عَن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُما، قالاَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((العِزُّ إِزَارِي، والكِبْرِياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازِعْنِي عَذَّبْتُهُ)).
([6]) مدارِجُ السَّالِكِينَ ( 1 / 48-60).
([7]) طريقُ الهِجْرتَيْنِ (56)
([8]) لابنِ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- مَبْحَثٌ نَفيسٌ جِدًّا فِي مَدَارِجِ السَّالِكِينَ (1/81- 95) بَيَّنَ فِيهِ اشْتِمَالَ الفَاتِحَةِ عَلَى الرَّدِّ علَى جَمِيعِ المُبْطِلِينَ مِن أَهْلِ المِلَلِ والنِّحَلِ والرَّدِ علَى أَهْلِ البِدَعِ والضَّلالِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ.
([9]) مَدارِجُ السَّالِكينَ (1/86-87).