العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الفاتحة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 8 ربيع الثاني 1434هـ/18-02-2013م, 06:42 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي تفسير قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}

تفسير قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 9 جمادى الآخرة 1434هـ/19-04-2013م, 06:36 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : ({الحمد للّه ربّ العالمين}
قال أبو جعفرٍ: معنى {الحمد للّه} الشّكر خالصًا للّه جلّ ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كلّ ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النّعم الّتي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرّزق وغذّاهم به من نعيم العيش من غير استحقاقٍ منهم ذلك عليه، ومع ما نبّههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدّية إلى دوام الخلود في دار المقام في النّعيم المقيم. فلربّنا الحمد على ذلك كلّه أوّلاً وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربّنا جلّ ذكره وتقدّست أسماؤه: {الحمد للّه} جاء الخبر عن ابن عبّاسٍ وغيره.
- حدّثنا محمّد بن العلاء، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«قال جبريل لمحمّدٍ: قل يا محمّد: الحمد للّه» قال ابن عبّاسٍ: «الحمد للّه: هو الشّكر للّه، والاستخذاء للّه، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه»، وغير ذلك.
- وحدّثني سعيد بن عمرٍو السّكونيّ، قال: حدّثنا بقيّة بن الوليد، قال: حدّثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيبٍ، عن الحكم بن عميرٍ، وكانت له صحبةٌ قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «
إذا قلت الحمد للّه ربّ العالمين، فقد شكرت اللّه فزادك».
قال وقد قيل إنّ قول القائل: {الحمد للّه} ثناءٌ على اللّه بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: الشّكر للّه ثناءٌ عليه بنعمه وأياديه.
وقد روي عن كعب الأحبار أنّه قال: «الحمد للّه ثناءٌ اللّه ولم يبيّن في الرّواية عنه من أيّ معنيي الثّناء اللّذين ذكرنا ذلك».
- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى الصّدفيّ، قال: أنبأنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عمر بن محمّدٍ، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، قال: أخبرني السّلوليّ، عن كعبٍ قال: «من قال: الحمد للّه فذلك ثناءٌ على اللّه».
- وحدّثني عليّ بن الحسن الخرّاز، قال: حدّثنا مسلم بن عبد الرّحمن الجرميّ، قال: حدّثنا محمّد بن مصعبٍ القرقسانيّ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريعٍ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ليس شيءٌ أحبّ إليه الحمد من اللّه تعالى»، ولذلك أثنى على نفسه فقال: الحمد للّه.
قال أبو جعفرٍ: ولا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل: الحمد للّه شكرًا بالصّحّة. فقد تبيّن إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا، أنّ الحمد للّه قد ينطق به في موضع الشّكر، وأنّ الشّكر قد يوضع موضع الحمد، لأنّ ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد للّه شكرًا، فيخرج من قول القائل: الحمد للّه مصدر أشكر، لأنّ الشّكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأً أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجه إدخال الألف واللاّم في الحمد؟ وهلاّ قيل: حمدًا للّه ربّ العالمين.
قيل: إنّ لدخول الألف واللاّم في الحمد معنًى لا يؤدّيه قول القائل حمدًا لله، بإسقاط الألف واللاّم؛ وذلك أنّ دخولهما في الحمد منبئٌّ عن أنّ معناه: جميع المحامد والشّكر الكامل للّه. ولو أسقطتا منه لما دلّ إلاّ على أن حمد قائل ذلك للّه، دون المحامد كلّها. إذ كان معنى قول القائل: حمدًا للّه أو حمدٌ للّه: أحمد اللّه حمدًا، وليس التّأويل في قول القائل: {الحمد للّه ربّ العالمين} تاليًا سورةً أم القرآن أحمد اللّه، بل التّأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أنّ جميع المحامد للّه بألوهيّته وإنعامه على خلقه، بما أنعم به عليهم من النّعم الّتي لا كفاء لها في الدّين والدّنيا والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى، تتابعت قراءة القرّاء وعلماء الأمّة على رفع الحمد من: {الحمد للّه ربّ العالمين} دون نصبها، الّذي يؤدّي إلى الدّلالة على أنّ معنى تاليه كذلك: أحمد اللّه حمدًا. ولو قرأ قارئٌ ذلك بالنّصب، لكان عندي محيلاً معناه ومستحقًّا العقوبة على قراءته إيّاه كذلك إذا تعمّد قراءته كذلك وهو عالمٌ بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائلٌ: وما معنى قوله: الحمد للّه؟ أحمد اللّه نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها، ثمّ علّمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} وهو عزّ ذكره معبودٌ لا عابدٌ؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقد بطل أن يكون ذلك للّه كلامًا.
قيل: بل ذلك كلّه كلام اللّه جلّ ثناؤه؛ ولكنّه جلّ ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ، ثمّ علّم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته، اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم: قولوا: الحمد للّه ربّ العالمين وقولوا: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين؛ فقوله: {إيّاك نعبد} ممّا علّمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه. وذلك موصولٌ بقوله {الحمد للّه ربّ العالمين} وكأنّه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: قولوا فيكون تأويل ذلك ما ادّعيت؟
قيل: قد دللنا فيما مضى على أنّ العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشكّ أنّ سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت حذف ما كفى منه الظّاهر من منطقها، ولا سيّما إن كانت تلك الكلمة الّتي حذفت قولاً أو بتأويل قولٍ، كما قال الشّاعر:

وأعلم أنّني سأكون رمسًا.......إذا سار النّواعج لا يسير.
فقال السّائلون لمن حفرتم
.......فقال المخبرون لهم وزير
قال أبو جعفرٍ: يريد بذلك: فقال المخبرون لهم: الميّت وزيرٌ، فأسقط الميّت، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر:

ورأيت زوجك في الوغى.......متقلّدًا سيفًا ورمحا
وقد علم أنّ الرّمح لا يتقلّد، وأنه إنّما أراد: وحاملاً رمحًا. ولكن لمّا كان معلومًا معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودّعوه: مصاحبًا معافًى، يعنى بذالك: سر مصاحبًا معافًى. يحذفون سر واخرج؛ إذ كان معلومًا معناه وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حذف من قول اللّه تعالى ذكره: {الحمد للّه ربّ العالمين} لمّا علم بقوله جلّ وعزّ: {إيّاك نعبد} ما أراد بقوله: {الحمد للّه ربّ العالمين} من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف.
وقد روّينا الخبر الّذي قدّمنا ذكره مبتدأً في تأويل قول اللّه: {الحمد للّه ربّ العالمين} عن ابن عبّاسٍ، وأنّه كان يقول: إنّ جبريل قال لمحمّدٍ: قل يا محمّد: {الحمد للّه ربّ العالمين} وبيّنا أنّ جبريل إنّما علّم محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم ما أمر بتعليمه إيّاه. وهذا الخبر ينبئ عن صحّة ما قلنا في تأويل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {ربّ}
قال أبو جعفرٍ: قد مضى البيان عن تأويل اسم اللّه الّذي هو اللّه في {بسم اللّه}، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأمّا تأويل قوله {ربّ}، فإنّ الرّبّ في كلام العرب منصرّفٌ على معانٍ: فالسّيّد المطاع فيهم يدعى ربًّا، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة:

وأهلكن يومًا ربّ كندة وابنه.......وربّ معدٍّ بين خبتٍ وعرعر
يعني بربّ كندة: سيّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذبيان:

تخبّ إلى النّعمان حتّى تناله.......فدًى لك من ربٍّ طريفي وتالدي
والرّجل المصلح للشّيء يدعى ربًّا. ومنه قول الفرزدق بن غالبٍ:
كانوا كسالئةٍ حمقاء إذ حقنت.......سلاءها في أديمٍ غير مربوب
يعني بذلك: في أديمٍ غير مصلحٍ. ومن ذلك قيل: إنّ فلانًا يربّ صنيعته عند فلانٍ، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها. ومن ذلك قول علقمة بن عبدة:
فكنت امرأً أفضت إليك ربابتي.......وقبلك ربّتني فضعت ربوب
يعني بقوله: (أفضت إليك) أي: وصلت إليك ربابتي، فصرت أنت الّذي تربّ أمري فتصلحه لمّا خرجت من ربابة غيرك من الملوك الّذين كانوا قبلك عليّ، فضيّعوا أمري وتركوا تفقّده. وهم الرّبوب واحدهم ربٌّ؛ والمالك للشّيء يدعى ربّه.
وقد يتصرّف أيضًا معنى الرّبّ في وجوه غير ذلك، غير أنّها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثّلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه السّيّد الّذي لا شبه له، ولا مثل في مثل سؤدّده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الّذي له الخلق والأمر.
وبنحو الّذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه {ربّ العالمين} جاءت الرّواية عن ابن عبّاسٍ.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «قال جبريل لمحمّدٍ: يا محمّد، قل {الحمد للّه ربّ العالمين}» قال ابن عبّاسٍ: «يقول: قل: الحمد للّه الّذي له الخلق كلّه، السّموات كلّهنّ ومن فيهنّ، والأرضون كلّهنّ ومن فيهنّ وما بينهنّ، ممّا يعلم وممّا لا يعلم. يقول: اعلم يا محمّد أنّ ربّك هذا لا يشبهه شيءٌ».
القول في تأويل قوله تعالى: {العالمين}.
قال أبو جعفرٍ: والعالمون جمع عالمٍ، والعالم جمعٌ لا واحد له من لفظه، كالأنام والرّهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء الّتي هي موضوعاتٌ على جماعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسمٌ لأصناف الأمم، وكلّ صنفٍ منها عالمٌ، وأهل كلّ قرنٍ من كلّ صنفٍ منها عالم ذلك القرن وذلك الزّمان، فالإنس عالمٌ وكلّ أهل زمانٍ منهم عالم ذلك الزّمان. والجنّ عالمٌ، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنسٍ منها عالم زمانه. ولذلك جمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ لكون عالم كلّ زمانٍ من ذلك عالم ذلك الزّمان. ومن ذلك قول العجّاج:

فخندفٌ هامة هذا العالم
فجعلهم عالم زمانه.
وهذا القول الّذي قلناه قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ، وهو معنى قول عامّة المفسّرين.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{الحمد للّه ربّ العالمين} الحمد للّه الّذي له الخلق كلّه، السّموات والأرضون ومن فيهنّ وما بينهنّ، ممّا يعلم ومثل لا يعلم».
- وحدّثني محمّد بن سنانٍ القزّاز، قال حدّثنا أبو عاصمٍ، عن شبيبٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{ربّ العالمين}: الجنّ والإنس».
- وحدّثني عليّ بن الحسن، قال: حدّثنا مسلم بن عبد الرّحمن، قال: حدّثنا محمد بن مصعبٌ، عن قيس بن الرّبيع، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه جلّ وعزّ: {ربّ العالمين} قال: «ربّ الجنّ والإنس».
- وحدّثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا قيسٌ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، قوله: {ربّ العالمين} قال:
«الجنّ والإنس».
- وحدّثني أحمد بن عبد الرّحيم البرقيّ، قال: حدّثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قوله: {ربّ العالمين} قال:
«ابن آدم، والجنّ والإنس كلّ أمّةٍ منهم عالمٌ على حدته».
- وحدّثني محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهدٍ: {الحمد للّه ربّ العالمين} قال:
«الإنس والجنّ».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ: بمثله.
- وحدّثنا بشر بن معاذٍ العقديّ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: {ربّ العالمين} قال:
«كلّ صنفٍ: عالمٌ».
- وحدّثني أحمد بن حازمٍ الغفاريّ، قال: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن أبي جعفرٍ، عن ربيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {ربّ العالمين} قال:
«الإنس عالمٌ، والجنّ عالمٌ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالمٍ، أو أربعة عشر ألف عالمٍ -وهو يشكّ- من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كلّ زاويةٍ ثلاثة آلاف عالمٍ وخمسمائة عالمٍ، خلقهم لعبادته» .
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، في قوله: {ربّ العالمين} قال:
«الجنّ والإنس»). [جامع البيان: 1/ 135-147]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله عزّ وجلّ: {الحمد لله}
الوجه الأول:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو معمرٍ المنقريّ ثنا عبد الوارث، ثنا عليّ بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران قال: قال ابن عبّاسٍ:
«الحمد للّه كلمة الشّكر، وإذا قال العبد: الحمد للّه، قال: [شكرني عبدي]».
- حدّثنا عليّ بن طاهرٍ، ثنا محمّد بن العلاء -يعني أبا كريبٍ- ثنا عثمان بن سعيدٍ -يعني الزّيّات- ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «الحمد للّه هو الشّكر للّه، الاستجداء للّه، والإقرار له بنعمه وابتدائه وغير ذلك».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهبٌ ثنا سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه عن السّلوليّ عن كعبٍ قال: «الحمد للّه ثناءٌ على اللّه»
.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن عبد الرّحيم الفارسيّ، ثنا بزيعٌ أبو حازمٍ، عن يحيى بن عبد الرّحمن- يعني أبا بسطامٍ- عن الضّحّاك قال: «الحمد رداء الرّحمن».
الوجه الرّابع:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو معمرٍ القطيعيّ ثنا حفصٌ عن حجّاجٍ، عن ابن أبي مليكة عن ابن عبّاسٍ، قال: قال عمر: «قد علمنا سبحان اللّه، ولا إله إلا اللّه، فما الحمد للّه؟» فقال عليٌّ: «كلمةٌ رضيها اللّه لنفسه». قال أبو محمّدٍ: كذا رواه أبو معمرٍ القطيعيّ، عن حفصٍ.
- وحدّثنا به الأشجّ فقال: ثنا حفصٌ. وخالفه فيه، فقال فيه:
قال عمر لعليٍّ رضي اللّه عنهما وأصحابه عنده: «لا إله إلا اللّه، والحمد للّه، واللّه أكبر، قد عرفناها، فما سبحان اللّه؟» فقال عليٌّ: «كلمةٌ أحبّها لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحبّ أن تقال».
قوله تعالى: {ربّ العالمين}
الوجه الأول:
- حدّثنا عليّ بن طاهرٍ، ثنا محمّد بن العلا -يعني- أبا كريب- ثنا عثمان ابن سعيدٍ -يعني الزّيّات- ثنا بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ قال:
«ثمّ قال جبريل عليه السّلام: قال: {الحمد للّه ربّ العالمين}، قال: يا محمّد، له الخلق كلّه، السّماوات كلّهنّ ومن فيهنّ، والأرضون كلّهنّ ومن فيهنّ، وما بينهنّ ممّا يعلم وممّا لا يعلم».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا عبيد اللّه بن موسى، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: ربّ العالمين. قال: «الإنس عالمٌ، والجنّ عالمٌ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالمٍ، أو أربعة عشر ألف عالمٍ، من الملائكة على الأرض. والأرض أربع زوايا، ففي كلّ زاويةٍ ثلاثة آلاف عالمٍ، وخمسمائة عالمٍ خلقهم لعبادته»
.
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن خالدٍ، ثنا الوليد بن مسلمٍ، ثنا الفرات بن الوليد، عن معتب بن سميٍّ، عن تبيعٍ، في قوله: {ربّ العالمين}، قال: «العالمين ألف أمّةٍ، فستّمائةٍ في البحر، وأربعمائةٍ في البرّ».
- حدّثنا عليّ بن حربٍ الموصليّ، ثنا زيد بن الحباب عن حسين بن واقدٍ عن مطرٍ الورّاق، عن قتادة في قول اللّه: {ربّ العالمين} قال: «ما وصف من خلقه».
الوجه الثّالث:
أن العالمين: الجنّ والإنس. فقط.
- حدّثنا، أبي، ثنا أبو غسّان مالك بن إسماعيل، ثنا قيسٌ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ربّ العالمين} قال: «الجنّ والإنس» -وروي عن عليّ بن أبي طالبٍ بإسنادٍ لا يعتمد عليه مثله- وروي عن مجاهدٍ مثله).
[تفسير القرآن العظيم: 1 /26-28]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، في قوله عزّ وجلّ: {الحمد للّه ربّ العالمين} قال: «الجنّ والإنس» قال الحاكم: «ليعلم طالب هذا العلم أنّ تفسير الصّحابيّ الّذي شهد الوحي والتّنزيل عند الشّيخين حديثٌ مسندٌ»). [المستدرك: 2/ 283]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}.
-أخرج عبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس والثعلبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {الحمد} رأس الشكر فما شكر الله عبد لا يحمده.
-وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لئن ردها الله لأشكرن ربي» فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة فوقع في خلدها أن تهرب عليها، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة، فلما رآها المسلمون فرحوا بها ومشوا بمجئها حتى أتوا رسول الله فلما رآها قال: «{الحمد لله}» فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي، فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت: «لئن ردها الله لأشكرن ربي»، قال: «ألم أقل {الحمد لله}».
-وأخرج ابن جرير والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي بسند ضعيف عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت {الحمد لله رب العالمين} فقد شكرت الله فزادك».
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: «{الحمد لله} كلمة الشكر إذا قال العبد: {الحمد لله} قال الله: [شكرني عبدي]»
.
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «{الحمد} هو الشكر والاستحذاء لله والإقرار بنعمه وهدايته وابتدائه، وغير ذلك».

-وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: «قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله فما الحمد؟» قال علي: «كلمة رضيها الله لنفسه وأحب أن تقال».
-وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن كعب قال: «{الحمد لله} ثناء على الله».
-وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الضحاك
قال: «{الحمد} رداء الرحمن».
-وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الجبائي قال: «الصلاة شكر والصيام شكر وكل خير تفعله لله شكر وأفضل الشكر {الحمد}».
-وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء {الحمد لله}».
-وأخرج ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
ما أنعم الله على عبده نعمة فقال: {الحمد لله} إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذه».
-وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان {الحمد} أفضل منها».
-وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
ما أنعم الله على عبد نعمة يحمد الله عليها إلا كان حمد الله أعظم منها كائنة ما كانت».
-وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال {الحمد لله} لكان الحمد أفضل من ذلك».
-وأخرج أحمد ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
الطهور شطر الإيمان و{الحمد لله} تملأ الميزان وسبحان الله تملآن -أو تملأ- مابين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها».
-وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسنه، وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«سبحان الله نصف الميزان والحمد لله تملأ الميزان والله أكبر يملأ مابين السماء والأرض والطهور نصف الميزان والصوم نصف الصبر».
-وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه».
-وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن الأسود بن سريع التميمي قال قلت: يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ قال: «
أما أن ربك يحب الحمد».
-وأخرج ابن جرير عن الأسود بن سريع أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «
ليس شيء أحب إليه الحمد من الله ولذلك أثنى على نفسه فقال {الحمد لله}».
-وأخرج البيهقي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
التأني من الله والعجلة من الشيطان وما شيء أكثر معاذير من الله وما شيء أحب إلى الله من الحمد».
-وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي من طريق أبان عن أنس قال: قال رسول الله: «
التوحيد ثمن الجنة و{الحمد لله} ثمن كل قطعة ويتقاسمون الجنة بأعمالهم».
-وأخرج الخطيب في تالي التلخيص من طريق ثابت عن أنس مرفوعا: «التوحيد ثمن الجنة والحمد وفاء شكر كل نعمة
».
-وأخرج أبو داود والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع».
-وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: «
إذا عطس أحدكم فقال {الحمد لله} قال الملك: رب العالمين، فإذا قال: رب العالمين، قال الملك: يرحمك الله».
-وأخرج البخاري في الأدب، وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن علي ابن أبي طالب قال: «
من قال عند كل عطسة سمعها {الحمد لله رب العالمين} على كل حال ما كان، لم يجد وجع الضرس والأذن أبدا».
-وأخرج الحكيم الترمذي عن واثله بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من بادر العاطس بالحمد لم يضره شيء من داء البطن».
-وأخرج الحكيم الترمذي عن موسى بن طلحة قال: «أوحى الله إلى سليمان: إن عطس عاطس من وراء سبعة أبحر فاذكرني».
-وأخرج البيهقي، عن علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أهله فقال: «اللهم لك علي إن رددتهم سالمين أن أشكرك حق شكرك»، فما لبثوا أن جاؤا سالمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{الحمد لله} على سابغ نعم الله»، فقلت: يا رسول الله ألم تقل: «إن ردهم الله أن أشكره حق شكره؟» فقال: «أو لم أفعل».
-وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، وابن مردويه والبيهقي من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا من الأنصار وقال: «إن سلمهم الله وأغنهم فإن لله علي في ذلك شكرا»، فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه: سمعناك تقول: «إن سلمهم الله وأغنهم فإن لله علي في ذلك شكرا» قال: «
قد فعلت، قلت: اللهم شكرا ولك الفضل المن فضلا».
-وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جعفر بن محمد قال:
فقد أبي بغلته فقال: «لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضاها» فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها فركبها فلما استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال: {الحمد لله} لم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: «وهل تركت شيئا أو أبقيت شيئا؟ جعلت الحمد كله لله عز وجل».
-وأخرج البيهقي من طريق منصور بن إبراهيم قال: «يقال: إن {الحمد لله} أكثر الكلام تضعيفا».
-وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن محمد بن حرب قال: قال سفيان الثوري: «
{الحمد لله} ذكر وشكر وليس شيء يكون ذكرا وشكرا غيره».
-وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «
إن العبد إذا قال: سبحان الله فهي صلاة الخلائق وإذا قال {الحمد لله} فهي كلمة الشكر التي لم يشكر عبد قط حتى يقولها وإذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص التي لم يقبل الله من عبد قط عملا حتى يقولها وإذا قال: الله أكبر ملأ مابين السماء والأرض وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قال الله: أسلم واستسلم».
قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}.
-أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله {رب العالمين} قال: «الجن والإنس».
-وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله {رب العالمين} قال: «
الجن والإنس».
-وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير مثله.
-وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {رب العالمين} قال: «
إله الخلق كله، السموات كلهن ومن فيهن والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم».
-وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى في مسنده، وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب في التاريخ بسند ضعيف، عن جابر بن عبد الله قال: قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا يضرب إلى كداء وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا أهلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه».
-وأخرج ابن جريج عن قتادة في قوله {رب العالمين} قال:
«كل صنف عالم».
-وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن تتبع الجهري قال: «العالمون ألف أمة، فستمائة في البحر وأربعمائة في البر».
-وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله {رب العالمين} قال: «
الإنس عالم والجن عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم من الملائكة وللأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته».
-وأخرج الثعلبي من طريق شهر بن حوشب عن أبي كعب قال: «
العالمون الملائكة وهم ثمانون ثمانية عشر ألف ملك منهم أربعمائة أو خمسمائة ملك بالمشرق ومثلها بالمغرب ومثلها بالكتف الثالث من الدنيا ومثلها بالكتف الرابع من الدنيا مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله».
-وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية عن وهب قال:
«إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد»). [الدر المنثور: 1 /54-66]

تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الرّحمن الرّحيم}
قال أبو جعفرٍ: قد مضى البيان عن تأويل قوله {الرّحمن الرّحيم}، في تأويل {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
ولم يحتجّ إلى الإبانة عن وجه تكرير اللّه ذلك في هذا الموضع، إذ كنّا لا نرى أنّ {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم} من فاتحة الكتاب آيةٌ، فيكون علينا لسائل مسألةٍ بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، وقد مضى وصف اللّه عزّ وجلّ به نفسه في قوله {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، مع قرب مكان إحدى الآيتين من الأخرى ومجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجّةٌ على خطأ دعوى من ادّعى أنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من فاتحة الكتاب آيةٌ، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آيةٍ بمعنًى واحدٍ ولفظٍ واحدٍ مرّتين من غير فصلٍ يفصل بينهما. وغير موجودٌ في شيءٍ من كتاب اللّه آيتان متجاورتان مكرّرتان بلفظٍ واحدٍ ومعنًى واحدٍ، لا فصل بينهما من كلامٍ يخالف معناه معناهما، وإنّما يأتي بتكرير آيةٍ بكمالها في السّورة الواحدة، مع فصولٍ تفصل بين ذلك، وكلامٍ يعترض به بغير معنى الآيات المكرّرات أو غير ألفاظها، ولا فاصل بين قول اللّه تبارك وتعالى اسمه {الرّحمن الرّحيم} من {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، وقول اللّه: {الرّحمن الرّحيم}، من {الحمد للّه ربّ العالمين}.
فإن قال: فإنّ {الحمد للّه ربّ العالمين} فاصلٌ بين ذلك.
قيل: قد أنكر ذلك جماعةٌ من أهل التّأويل، وقالوا: إنّ ذلك من المؤخّر الّذي معناه التّقديم، وإنّما هو: الحمد للّه الرّحمن الرّحيم ربّ العالمين ملك يوم الدّين. واستشهدوا على صحّة ما ادّعوا من ذلك بقوله: (ملك يوم الدّين) فقالوا: إنّ قوله: (ملك يوم الدّين) تعليمٌ من اللّه عبده أن يصفه بالملك في قراءة من قرأ (ملك)، وبالملك في قراءة من قرأ {مالك}. قالوا: فالّذي هو أولى أن يكون مجاور وصفه بالملك أو الملك ما كان نظير ذلك من الوصف، وذلك هو قوله {ربّ العالمين}، الّذي هو خبرٌ عن ملكه جميع أجناس الخلق، وأن يكون مجاور وصفه بالعظمة والألوهة ما كان له نظيرًا في المعنيّ من الثّناء عليه، وذلك قوله: {الرّحمن الرّحيم} فزعموا أنّ ذلك لهم دليلٌ على أنّ قوله {الرّحمن الرّحيم} بمعنى التّقديم قبل {ربّ العالمين} ، وإن كان في الظّاهر مؤخّرًا. وقالوا: نظائر ذلك من التّقديم الّذي هو بمعنى التّأخير والمؤخّر الّذي هو بمعنى التّقديم في كلام العرب أفشى وفي منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطيّة:

طاف الخيال وأين منك لماما.......فارجع لزورك بالسّلام سلاما
بمعنى طاف الخيال لمامًا وأين هو منك. وكما قال جلّ ثناؤه في كتابه: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيّمًا} المعنى: الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب قيّمًا ولم يجعل له عوجًا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليلٌ شاهدٌ على صحّة قول من أنكر أن تكون {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم} من فاتحة الكتاب آيةً). [جامع البيان: 1 /147-149]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله {الرحمن}:
الوجه الأول:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا زيد بن الحباب، عن عنبسة قاضي الرّيّ، عن مطرّفٍ، عن سعد بن إسحاق، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «يقول اللّه: [قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال: {الحمد للّه ربّ العالمين}، قال: [مدحني عبدي]، وإذا قال: {الرّحمن الرّحيم} قال: [أثنى عليّ عبدي]».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن عبد الرّحمن العرزميّ، ثنا أبي، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك في قوله: {الرّحمن الرّحيم} قال: «
الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصّةً».
الوجه الثّالث:
- حدّثت عن كثير بن شهابٍ، عن الحكم بن هشامٍ، حدّثني خالد بن صفوان التّميميّ في قوله: {الرّحمن الرّحيم} قال: «هما رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر»
.
الوجه الرّابع:
- أخبرنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا زيد بن الحباب، حدّثني أبو الأشهب، عن الحسن قال:
«الرّحمن اسمٌ لا يستطيع النّاس أن ينتحلوه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 28]

تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {مالك يوم الدين} قال: «يوم يدين الله العباد بأعمالهم»). [تفسير عبد الرزاق: 1 /37]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): (نا هشيمٌ، قال: نا مخبر، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، عن أبيه : أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكرٍ، وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يقرأون: {مالك يوم الدين}.
-نا هشيمٌ، عن الحجّاج، عن عبد الرّحمن بن الأسود، عن أبيه : أنّه سمع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقرأ كذلك). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 515-521]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): (نا هشيمٌ، قال: نا خالدٌ، عن أبي قلابة : أنّ أبيّ بن كعبٍ كان يقرأ: {مالك يوم الدّين}).
[سنن سعيد بن منصور: 2/ 523]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): (نا مروان بن معاوية، قال: نا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يقرأ: {مالك يوم الدّين}، وكان علقمة والأسود يقرآن: {مالك يوم الدّين}).
[سنن سعيد بن منصور: 2/ 523]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): (نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يحيى بن وثّاب أنّه كان يقرأ: {مالك يوم الدّين}). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 524]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (والدّين: الجزاء في الخير والشّرّ، "كما تدين تدان"، وقال مجاهدٌ: {بالدّين} [الانفطار: 9] : «بالحساب»، {مدينين} [الواقعة: 86] : «محاسبين»).
[صحيح البخاري: 6/ 17]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله: (الدّين: الجزاء في الخير والشّرّ " كما تدين تدان")،
هو كلام أبي عبيدة ، أيضًا قال: «الدّين : الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان». انتهى ،
وقد ورد هذا في حديثٍ مرفوعٍ أخرجه عبد الرّزّاق عن معمرٍ، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا وهو مرسلٌ رجاله ثقاتٌ ورواه عبد الرّزّاق بهذا الإسناد أيضًا، عن أبي قلابة، عن أبي الدّرداء موقوفًا وأبو قلابة لم يدرك أبا الدّرداء وله شاهدٌ موصولٌ من حديث ابن عمر أخرجه بن عديّ وضعّفه.
قوله: (وقال مجاهدٌ: «{بالدّين} بالحساب، {مدينين} محاسبين») وصله عبد بن حميدٍ في التّفسير من طريق منصورٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى : {كلا بل تكذبون بالدّين} قال: «بالحساب» . ومن طريق ورقاء بن عمر عن بن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {فلولا أن كنتم غير مدينين}: «غير محاسبين».
والأثر الأوّل جاء موقوفًا عن ناسٍ من الصّحابة أخرجه الحاكم من طريق السّديّ، عن مرّة الهمداني، عن ابن مسعودٍ وناسٍ من الصّحابة في قوله تعالى: {مالك يوم الدّين} قال: «هو يوم الحساب ويوم الجزاء».
وللدّين معان أخرى منها: العادة والعمل والحكم والحال والخلق والطّاعة والقهر والملّة والشّريعة والورع والسّياسة وشواهد ذلك يطول ذكرها). [فتح الباري: 8/ 156]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله: (وقال مجاهد: «{بالدّين}: بالحساب {مدينين}: محاسبين»).
قال عبد بن حميد: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، ثنا منصور، عن مجاهد في قوله تعالى:
{بالدّين} قال: «بالحساب»،
وقال أيضا أخبرني شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {فلولا إن كنتم غير مدينين} [الواقعة: 86] قال: «غير محاسبين» .
وقال إبراهيم الحربيّ في غريب الحديث: ثنا أبو بكر، ثنا ابن نمير، عن حميد ابن سليمان، عن مجاهد: «{لمدينون} [الصافات: 53] : لمحاسبون»).
[تغليق التعليق: 4 /171]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (والدّين: الجزاء في الخير والشّرّ،"كما تدين تدان" ، وقال مجاهدٌ: «{بالدّين}: بالحساب {مدينين}: محاسبين»).

أشار به إلى تفسير الدّين في قوله: {مالك يوم الدّين} وهو كلام أبي عبيدة حيث قال: «الدّين: الجزاء والحساب، يقال في المثل: كما تدين تجازي، أي: كما تفعل تجازى به»، وروي هذا حديثا مرسلا، رواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن النّبي صلى الله عليه وسلم، وروي أيضا بهذا الإسناد عن أبي، قلابة عن أبي الدّرداء، موقوفا، وأبو قلابة: عبد الله بن زيد لم يدرك أبا الدّرداء.
قوله: (وقال مجاهد: «{بالدّين}: بالحساب»). هو تفسير قوله تعالى: {أرأيت الّذي يكذب بالدّين} [الماعون: 1] ، ووصله عبد بن حميد في التّفسير من طريق منصور، عن مجاهد في قوله: {كلا بل تكذبون بالدّين} [الانفطار: 9] ، قال: «الحساب» ،
والدّين يأتي لمعان كثيرة: العادة، والعمل، الحكم، والحال، والحق والطّاعة، والقهر، والملّة، والشريعة، والورع، والسياسة،
قوله: «{مدينين}: محاسبين»، أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فلولا أن كنتم غير مدينين} [الواقعة: 86] ، وفسّر {مدينين} بقوله: «محاسبين» ، بفتح السّين). [عمدة القاري: 18 /80]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (والدين: الجزاء في الخير والشر) وسقطت الواو لأبي ذر، وهذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- وهو مرسل رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق بهذا الإسناد أيضًا عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء موقوفًا، وأبو قلابة لم يدرك أبا الدرداء، لكن له شاهد موصول من حديث ابن عمر أخرجه ابن عدي وضعفه.
وفي المثل: كما تدين تدان، الكاف في موضع نصب نعتًا لمصدر محذوف أي: تدين دينًا مثل دينك. وهذا من كلام أبي عبيدة أيضًا كسابقه وهو حديث مرفوع أخرجه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعًا، وله شاهد من مرسل أبي قلابة قال: قال رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-: «البر لا يبلى والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت كما تدين تدان». رواه عبد الرزاق في مصنفه. وأخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات من طريقه، ومعناه: كما تعمل تجازى، وفي الزهد للإمام أحمد، عن مالك بن دينار موقوفًا مكتوب في التوراة: «
كما تدين تدان وكما تزرع تحصد».
(وقال مجاهد): فيما وصله عبد بن حميد من طريق منصور عنه في قوله: {كلا بل تكذبون بالدين} أي: «بالحساب». ومن طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أيضًا في قوله تعالى: {فلولا إن كنتم غير مدينين} [الواقعة: 86] بفتح الميم أي: «محاسبين»). [إرشاد الساري: 7/4]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ملك يوم الدّين}.
قال أبو جعفرٍ: القرّاء مختلفون في تلاوة (ملك يوم الدّين)، فبعضهم يتلوه: (ملك يوم الدّين) وبعضهم يتلوه: {مالك يوم الدّين} وبعضهم يتلوه: (مالك يوم الدّين) بنصب الكاف.
وقد استقصينا حكاية الرّواية عمّن روي عنه في ذلك قراءةً في كتاب القراءات، وأخبرنا بالّذي نختار من القراءة فيه، والعلّة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الّذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها.
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ الملك من الملك مشتقٌّ، وأنّ المالك من الملك مأخوذٌ. فتأويل قراءة من قرأ ذلك: (ملك يوم الدّين) أنّ للّه الملك يوم الدّين خالصًا دون جميع خلقه الّذين كانوا قبل ذلك في الدّنيا ملوكًا جبابرةً ينازعونه الملك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسّلطان والجبريّة. فأيقنوا بلقاء اللّه يوم الدّين أنّهم الصّغرة الأذلّة، وأنّ له من دونهم ودون غيرهم الملك والكبرياء والعزّة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدّست أسماؤه في تنزيله: {يوم هم بارزون لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار} فأخبر تعالى، أنّه المنفرد يومئذٍ بالملك دون ملوك الدّنيا الّذين صاروا يوم الدّين من ملكهم إلى ذلّةٍ وصغارٍ، ومن دنياهم في المعاد إلى خسارٍ.
وأمّا تأويل قراءة من قرأ: {مالك يوم الدّين} فما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ:
«{مالك يوم الدّين} يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معه حكمًا كملكهم في الدّنيا». ثمّ قال: «{لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرّحمن وقال صوابًا}» وقال: «{وخشعت الأصوات للرّحمن}»، وقال: «{ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى}».
قال أبو جعفرٍ: وأولى التّأويلين بالآية وأصحّ القراءتين في التّلاوة عندي التّأويل الأوّل وقراءة من قرأ ملك بمعنى الملك؛ لأنّ في الإقرار له بالانفراد بالملك إيجابًا لانفراده بالملك وفضيلة زيادة الملك على المالك، إذ كان معلومًا أنّ لا ملك إلاّ وهو مالكٌ، وقد يكون المالك لا ملكًا.
وبعد: فإنّ اللّه جلّ ذكره قد أخبر عباده في الآية الّتي قبل قوله: {مالك يوم الدّين} أنّه مالك جميع العالمين وسيّدهم، ومصلحهم والنّاظر لهم، والرّحيم بهم في الدّنيا والآخرة؛ بقوله: {الحمد للّه ربّ العالمين}، {الرّحمن الرّحيم}. فإذ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن ملكه إيّاهم كذلك بقوله: {ربّ العالمين} فأولى الصّفات من صفاته جلّ ذكره، أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله: {ربّ العالمين * الرّحمن الرّحيم} مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة والمجاورة، إذ كانت حكمته الحكمة الّتي لا تشبهها حكمةٌ. وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنّه مالك يوم الدّين إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله: {ربّ العالمين} مع تقارب الآيتين وتجاور الصّفتين. وكان في إعادة ذلك تكرار ألفاظٍ مختلفةٍ بمعانٍ متّفقةٍ، لا تفيد سامع ما كرّر منه فائدةً به إليها حاجةٌ. والّذي لم يحوه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: {مالك يوم الدّين} المعنى الّذي في قوله: ملك يوم الدّين، وهو وصفه بأنّه الملك.
فبيّن إذًا أنّ أولى القراءتين بالصّواب وأحقّ التّأويلين بالكتاب: قراءة من قرأه: (ملك يوم الدّين)، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدّين، دون قراءة من قرأ: {مالك يوم الدّين} بمعنى: أنّه يملك الحكم بينهم وفصل القضاء متفرّدًا به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانٍ أنّ قوله: {ربّ العالمين} نبأٌ عن ملكه إيّاهم في الدّنيا دون الآخرة فوجب وصل ذلك بالنّبأ عن نفسه أنّه من قد ملكهم في الآخرة على نحو ملكه إيّاهم في الدّنيا بقوله: {مالك يوم الدّين} فقد أغفل وظنّ خطأً؛ وذلك أنّه لو جاز لظانٍ أن يظنّ أنّ قوله: {ربّ العالمين} محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبيّتة عالم الدّنيا دون عالم الآخرة مع عدم الدّلالة على أنّ معنى ذلك كذلك في ظاهر التّنزيل، أو في خبرٍ عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم به منقولٌ، أو بحجّةٍ موجودةٍ في المعقول، جاز لآخر أن يظنّ أنّ ذلك محصورٌ على عالم الزّمان الّذي فيه نزل قوله: {ربّ العالمين} دون سائر ما يحدث بعده في الأزمنة الحادثة من العالمين، إذ كان صحيحًا بما قدّمنا من البيان أنّ عالم كلّ زمانٍ غير عالم الزّمان الّذي بعده.
فإن غبي عن علم صحّة ذلك بما قد قدّمنا ذو غباءٍ، فإنّ في قول اللّه جلّ ثناؤه: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنّبوّة ورزقناهم من الطّيّبات وفضّلناهم على العالمين} دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمانٍ غير عالم الزّمان الّذي كان قبله وعالم الزّمان الّذي بعده. إذ كان اللّه جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على سائر الأمم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} الآية. فمعلومٌ بذلك أنّ بني إسرائيل في عصر نبيّنا، لم يكونوا مع تكذيبهم به صلّى اللّه عليه وسلّم أفضل العالمين، بل كان أفضل العالمين في ذلك العصر وبعده إلى قيام السّاعة المؤمنون به المتّبعون منهاجه، دون من سواهم من الأمم المكذّبة الضّالّة عن منهاجه.
وإذ كان بيّنًا فساد تأويل متأوّلٍ لو تأوّل قوله: {ربّ العالمين} أنّه معنيٌّ به: أنّ اللّه ربّ عالمي زمن نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم دون عالمي سائر الأزمنة غيره، كان واضحًا فساد قول من زعم أن تأويله: ربّ عالم الدّنيا دون عالم الآخرة، وأنّ {مالك يوم الدّين} استحقّ الوصل به ليعلم أنّه في الآخرة من ملكهم وربوبيّتهم بمثل الّذي كان عليه في الدّنيا.
ويسأل زاعم ذلك الفرق بينه وبين متحكّمٍ مثله في تأويل قوله: {ربّ العالمين} تحكّم، فقال: أنّه إنّما عني بذلك أنّه ربّ عالمي زمان محمّدٍ دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله والحادثة بعده، كالّذي زعم قائل هذا القول أنّه عنى به عالمى الدّنيا دون عالمى الآخرة من أصلٍ أو دلالةٍ. فلن يقول في أحدهما شيئًا إلاّ ألزم في الآخر مثله.
وأمّا الزّاعم أن تأويل قوله: {مالك يوم الدّين} أنّه الّذي يملك إقامة يوم الدّين، فإنّ الّذي ألزمنا قائل هذا القول الّذي قبله له لازمٌ، إذ كانت إقامة القيامة إنّما هي إعادة الخلق الّذين قد بادوا لهيئاتهم الّتي كانوا عليها قبل الهلاك في الدّار الّتي أعدّ اللّه لهم فيها ما أعدّ، وهم العالمون الّذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنّه ربّهم في قوله: {ربّ العالمين} .
وأمّا تأويل ذلك في قراءة من قرأ: (مالك يوم الدّين) فإنّه أراد: يا مالك يوم الدّين، فنصبه بنيّة النّداء والدّعاء، كما قال جلّ ثناؤه: {يوسف أعرض عن هذا} بتأويل: يا يوسف أعرض عن هذا، وكما قال الشّاعر من بني أسدٍ، وهو شعرٌ فيما يقال جاهليٌّ:

إن كنت أزننتني بها كذبًا.......جزء، فلاقيت مثلها عجلا
يريد: يا جزء. وكما قال الآخر:

كذبتم وبيت اللّه لا تنكحونها.......بني شاب قرناها تصرّ وتحلب
ويريد: يا بني شاب قرناها.
وإنّما أورطه في قراءة ذلك بنصب الكاف من (مالك) على المعنى الّذي وصفت حيرته في توجيه قوله: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} وجهته مع جرّه: {مالك يوم الدّين} وخفضه، فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرّه: {مالك يوم الدّين} فنصب: {مالك يوم الدّين} ليكون {إيّاك نعبد} له خطابًا، كأنّه أراد: يا مالك يوم الدّين، إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين. ولو كان علم تأويل أوّل السّورة وأنّ {الحمد للّه ربّ العالمين}، أمرٌ من اللّه عبده بقيل ذلك كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عبّاسٍ: أنّ جبريل قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، عن اللّه: قل يا محمّد: {الحمد للّه ربّ العالمين}، {الرّحمن الرّحيم}، {مالك يوم الدّين}، وقل أيضًا يا محمّد: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}، وكان عقل عن العرب أنّ من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القول، أن تخاطب ثمّ تخبر عن غائبٍ، وتخبر عن الغائب ثمّ تعود إلى الخطّاب؛ لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرّجل: قد قلت لأخيك: لو قمت لقمت، وقد قلت لأخيك: لو قام لقمت؛ لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جرّ: {مالك يوم الدّين}.
ومن نظير {مالك يوم الدّين} مجرورًا، ثمّ عوده إلى الخطّاب بـ{إيّاك نعبد} كما ذكرنا قبل، البيت السّائر من شعر أبي كبيرٍ الهذليّ:

يا لهف نفسي كان جدّة خالدٍ.......وبياض وجهك للتّراب الأعفر
فرجع إلى الخطّاب بقوله: وبياض وجهك، بعد ما قد قضى الخبر عن خالدٍ على معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة:


باتت تشكّى إليّ النّفس مجهشةً.......وقد حملتك سبعًا بعد سبعينا
فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدّم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول اللّه وهو أصدق قيلٍ وأثبت حجّةٍ: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ} فخاطب ثمّ رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وجرين بكم. والشّواهد من الشّعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا كفايةٌ لمن وفّق لفهمه.
فقراءة: {مالك يوم الدّين} محظورةٌ غير جائزةٍ، لإجماع جميع الحجّة من القرّاء وعلماء الأمّة على رفض القراءة بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {يوم الدّين}
قال أبو جعفرٍ: والدّين في هذا الموضع بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جعيلٍ:


إذا ما رمونا رميناهم.......ودنّاهم مثل ما يقرضونا
وكما قال الآخر:

واعلم وأيقن أنّ ملكك زائلٌ.......واعلم بأنّك ما تدين تدان
يعني ما تجزي تجازى.
ومن ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: {كلاّ بل تكذّبون بالدّين} يعني: بالجزاء، {وإنّ عليكم لحافظين} يحصون ما تعملون من الأعمال. وقوله تعالى: {فلولا إن كنتم غير مدينين} يعني: غير مجزيّين بأعمالكم ولا محاسبين.
وللدّين معانٍ في كلام العرب غير معنى الحساب والجزاء سنذكرها في أماكنها إن شاء اللّه.
وبما قلنا في تأويل قوله: {يوم الدّين} جاءت الآثار عن السّلف من المفسّرين، مع تصحيح الشّواهد لتأويلهم الّذي تأوّلوه في ذلك.
- حدّثنا أبو كريبٍ محمّد بن العلاء، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ: {يوم الدّين} قال: «يوم حساب الخلائق هو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ وإنّ شرًّا فشرٌّ، إلاّ من عفا عنه، فالأمر أمره». ثمّ قال: «{ألا له الخلق والأمر}».
- وحدّثني موسى بن هارون الهمدانيّ، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ القنّاد، قال: حدّثنا أسباط بن نصرٍ الهمدانيّ، عن إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «{مالك يوم الدّين}: هو يوم الحساب».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {مالك يوم الدّين} قال: «يوم يدين اللّه العباد بأعمالهم»
.
- وحدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {مالك يوم الدّين} قال: «يوم يدان النّاس بالحساب»).
[جامع البيان: 1/ 149-159]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (
{مالك يوم الدّين (4) إيّاك نعبد وإيّاك نستعين (5)}
قوله: {مالك يوم الدّين}
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد المقري، ثنا سفيان عن العلاء، عن أبيه أو غيره، عن أبي هريرة، عن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: «قال اللّه تعالى: [كتبت الصّلاة بيني وبين عبدي]، فإذا قال العبد: {مالك يوم الدّين} قال: [فوّض عبدي وأثنى عليّ]».
- حدّثنا عليّ بن طاهرٍ، ثنا محمّد بن العلاء -يعني أبا كريبٍ-، ثنا عثمان بن سعيدٍ الزّيّات، ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{مالك يوم الدّين} يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معه حكمًا كملكهم في الدّنيا».
قوله:
{يوم الدّين}
- حدّثنا عليّ بن طاهرٍ به، عن ابن عبّاسٍ في قوله: { يوم الدّين} قال:
«الدّين يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ، وإن شر شرا إلا من عفا عنه».
- حدّثنا أبي، ثنا محمود بن غيلان، ثنا سفيان بن عيينة، عن حميدٍ الأعرج في قول اللّه {مالك يوم الدّين} قال: «يوم الجزاء»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /29]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني أبو أحمد محمّد بن إسحاق الصّفّار العدل، ثنا أحمد بن نصرٍ، ثنا عمرو بن طلحة القنّاد، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ، عن مرّة الهمدانيّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي اللّه عنه، وعن أناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: {مالك يوم الدّين} قال: «هو يوم الحساب» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2 /284]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (وعن عبد اللّه -يعني ابن مسعودٍ- أنّه قرأ على رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: {مالك يوم الدّين} -بالألف-، {غير المغضوب عليهم} خفضٍ، رواه الطّبرانيّ، وفيه الفيّاض بن غزوان وهو ضعيفٌ، وجماعةٌ لم أعرفهم). [مجمع الزوائد: 6 /311]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ملك يوم الدين} وفي قراءة: {مالك يوم الدين}
-أخرج الترمذي، وابن أبي الدنيا، وابن الأنباري كلاهما في كتاب المصاحف عن أم سلمة أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {مالك يوم الدين} بغير ألف.
-وأخرج ابن الأنباري عن أنس قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل {مالك يوم الدين} بغير ألف».
-وأخرج أحمد في الزهد والترمذي، وابن أبي داود، وابن الأنباري عن أنس: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرؤون {مالك يوم الدين}
بالألف .
-وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي داود في المصاحف من طريق سالم عن أبيه: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرؤون {مالك يوم الدين}
.
-وأخرج وكيع في تفسيره، وعبد بن حميد وأبو داود وابنه "في المصاحف" عن الزهري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقرؤونها {مالك يوم الدين}
وأول من قرأها (ملك يوم الدين) بغير ألف مروان.
-وأخرج ابن أبي داود والخطيب من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب والبراء بن عازب قالا: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر
{مالك يوم الدين}».
-وأخرج ابن أبي داود عن ابن شهاب، أنه بلغه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد كانوا يقرؤون {مالك يوم الدين}، قال ابن شهاب: وأول من أحدث (ملك) مروان.
-وأخرج ابن أبي داود، وابن الأنباري عن الزهري، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {مالك يوم الدين} وأبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، وابن مسعود ومعاذ بن جبل.
-وأخرج ابن أبي داود، وابن الأنباري عن أنس قال:
«صليت خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كلهم كان يقرأ (ملك يوم الدين)».
-وأخرج ابن أبي داود، وابن أبي مليكة عن بعص أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ
{مالك يوم الدين}.
-وأخرج ابن أبي داود، وابن الأنباري والدارقطني في الأفراد، وابن جميع في معجمه عن أبي هريرة أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ (ملك يوم الدين).
-وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {مالك يوم الدين}.
-وأخرج الطبراني في معجمه الكبير عن ابن مسعود، أنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {مالك يوم الدين} بالألف {غير المغضوب عليهم} خفض.
-وأخرج وكيع والفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر من طرق عن عمر بن الخطاب، أنه كان يقرأ {مالك يوم الدين} بالألف.
-وأخرج وكيع وسعيد بن منصور عن أبي قلابة أن أبي بن كعب كان يقرأ {مالك يوم الدين}.
-وأخرج وكيع والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي داود عن أبي هريرة أنه كان يقرؤها {مالك يوم الدين} بالألف.
-وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبيدة أن عبد الله قرأها {مالك يوم الدين}.
-وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود وأناس من الصحابة في قوله {مالك يوم الدين} قال: «هو يوم الحساب».
-وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مالك يوم الدين}:
«يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا»، وفي قوله {يوم الدين} قال: «يوم حساب الخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلا من عفا عنه».
-وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله {مالك يوم الدين} قال:
«يوم يدين اله العباد بأعمالهم».
-وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضعه في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن أبان زمنه عنكم وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزل قوة وبلاغا إلى حين»، قال أبو داود: «حديث غريب إسناده جيد»، أهل المدينة يقرؤون (ملك يوم الدين) وهذا الحديث حجة لهم). [الدر المنثور: 1 /67-73]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 جمادى الآخرة 1434هـ/19-04-2013م, 06:39 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {الحمد للّه...}
اجتمع القرّاء على رفع الحمد، وأمّا أهل البدو فمنهم من يقول: "الحمدَ لِلّه"، ومنهم من يقول: "الحمدِ لِلّه "، ومنهم من يقول: "الحمدُ للّه" فيرفع الدال واللام.
فأما من نصب فإنه يقول: "الحمد" ليس باسم إنما هو مصدر؛ يجوز لقائله أن يقول: أحمد اللّه، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يفعل) جاز فيه النصب؛ من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب} يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب، ومن ذلك قوله: {معاذ اللّه أن نّأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده}؛ يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ بالله، ومنه قول العرب: سقينًا لك، ورعيًا لك؛ يجوز مكانه: سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من "الحمد"؛ فإنه قال: هذه كلمة كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد؛ فثقل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضمّةٌ بعدها كسرة، أو كسرةٌ بعدها ضمّة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل "إبل" فكسروا الدال؛ ليكون على المثال من أسمائهم.
وأمّا الذين رفعوا الّلام؛ فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان؛ مثل: الحلم والعقب.
ولا تنكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب: "بأبا"، إنما هو "بأبي" الياء من المتكلم ليست من الأب؛ فلما كثر بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفاً، ليكون على مثال: حبلى وسكرى؛ وما أشبهه من كلام العرب، أنشدني أبو ثروان:

قال الجواري ما ذهـبتَ مذهــــــبا ....... وعِبْـــــــنــــــني ولـــم أكن مـــــعـــــيّــــبــــــا
هـــــــــل أنت إلا ذاهــــــــبٌ لتلـــعــــبا .......
أريت إن أعطـــــــيت نهداً كــــعـــثبا
أذاك أم نعـــــــطيك هــــيدًا هيــــــدبا .......
أبرد في الظّلماء من مسّ الصّبا
فقــــــلت: لا، بل ذا كمـــا يا بـــيَّبا
.......
أجـــــــدر ألاّ تفضـــــــــــحا وتـــحـــــــربا
"هل أنت إلاّ ذاهبٌ لتلعبا" ذهب بـ"هل" إلى معنى "ما"). [معاني القرآن: 1 /3-4]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ربّ العالمين}: أي: المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة:
ما إن رأيت ولا سمعـ....... ـت بمثلهم في العالمينا
وواحدهم عالم، وقال العجّاج:
فخندفٌ هامة هذا العالم
). [مجاز القرآن: 1/ 22]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): (وأما قوله: {الحمد للّه} فرفعه على الابتداء؛ وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلاً من بعده فهو مرفوع، وخبره إن كان هو هو فهو أيضاً مرفوع، نحو قوله: {مّحمّدٌ رّسول اللّه} وما أشبه ذلك، وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها؛ فإنما رفع المبتدأ ابتداؤك إياه، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم، وكما كانت "أن" تنصب الاسم وترفع الخبر، فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر، وقال بعضهم: رفع المبتدأ خبره، وكل حسن، والأول أقيس.
وبعض العرب يقول: {الحمد للّه} فينصب على المصدر، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله "حمداً لله" يجعله بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه جعله مكان "أحمد"، ونصبه على "أحمد" حتى كأنه قال: "أحمد حمداً"، ثم أدخل الألف واللام على هذه.
وقد قال بعض العرب: {الحمد للّه} فكسره، وذلك أنه جعله بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكنة تحرّك أواخرها حركة واحدة لا تزول علتها نحو "حيث" جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال، وبعضهم يقول: "حَوْثُ" و"حَيْثَ" ضم وفتح ونحو "قبل" و"بعد" جعلتا مضمومتين على كل حال، وقال الله تبارك وتعالى: {للّه الأمر من قبل ومن بعد}، فهما مضموتان إلا أن تضيفهما، فإذا أضفتهما صرفتهما، قال: {لا يستوي منكم مّن أنفق من قبل الفتح وقاتل} و{كالّذين من قبلكم} و{والّذين جاءوا من بعدهم} وقال: {مّن قبل أن نّبرأها}، وذلك أن قوله: {أن نّبرأها} اسم أضاف إليه {قبل}، وقال: {من بعد أن نّزغ الشّيطان}، وذلك أن قوله: {أن نّزغ} اسم هو بمنزلة "النزغ"، لأن "أن" الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم، فأضاف إليها" بعد"، وهذا في القرآن كثير.
ومن الأسماء التي ليست بمتمكنة قال الله عز وجل: {إن هؤلاء ضيفي} و{ها أنتم أولاء تحبّونهم} مكسورة على كل حال، فشبهوا "الحمد"- وهو اسم متمكن- في هذه اللغة، بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة، كما قالوا "يا زيد"، وفي كتاب الله: {يا هامان ابن لي صرحاً} هو في موضع النصب، لأن الدعاء كلّه في موضع نصب، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكنة، فترك على لفظ واحد، يقولون: "ذهب أمس بما فيه" و"لقيته أمس يا فتى"، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات، وقد قال بعضهم: "لقيته الأمسّ الأحدث" فجرّ أيضاً، وفيه ألف ولام، وذلك لا يكاد يعرف.
وسمعنا من العرب من يقول: {أفرأيتم اللاّت والعزّى}، ويقول: "هي اللات قالت ذاك"، فجعلها تاء في السكوت، و"هي اللات فاعلم" جرّ في موضع الرفع والنصب، وقال بعضهم "من الآنَ إلى غد" فنصب لأنه اسم غير متمكن، وأما قوله: "اللات فاعلم" فهذه مثل "أمس"، وأجود، لأن الألف واللام التي في "اللات" لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا في "اللات والعزى" في السكت عليها فـ"اللاه"؛ لأنها هاء فصارت تاءً في الوصل، هي في تلك اللغة مثل "كان من الأمر كيت وكيت"، وكذلك "ههيات" في لغة من كسر إلا أنه يجوز في "هيهات" أن تكون جماعة، فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث، ولا يجوز ذلك في "اللات"، لأن "اللات" و"كيت" لا يكون مثلهما جماعة، لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، فإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد، وزعموا أن من العرب من يقطع ألف الوصل، أخبرني من أثق به أنه سمع من يقول: "يا إبني" فقطع، وقال قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الاثنين سرٌّ فإنه.......بنشرٍ وتكثير الوشاة قمين
وقال جميل:
ألا لا أرى اثنين أكرم شيمةً.......على حدثان الدهر مني ومن جمل
وقال الراجز:
يا نفس صبراً كلّ حي لاق.......وكلّ اثنين إلى افتراق
وهذا لا يكاد يعرف.
وقوله: {للّه} جر باللام، كما انجر قوله:{ربّ العالمين * الرحمن الرّحيم}؛ لأنه من صفة قوله: {للّه}، فإن قيل: "وكيف يكون جرّا وقد قال: {إيّاك نعبد}؟"
[فلأنه إذا قال "الحمد لمالك يوم الدين" فإنه ينبغي أن يقول "إيّاه نعبد" فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا محمد: "الحمد لله" وقل: "الحمد لمالك يوم الدين" وقل يا محمد: "إيّاك نعبد وإيّاك نستعين" ] (1).
وأما فتح نون {العالمين}؛ فإنها نون جماعة، وكذلك كل نون جماعة زائدة على حدّ التثنية فهي مفتوحة، وهي النون الزائدة التي لا تغيّر الاسم عما كان عليه: نحو نون "مسلمين" و"صالحين" و"مؤمنين"، فهذه النون زائدة؛ لأنك تقول: "مسلم" و"صالح" فتذهب النون، وكذلك "مؤمن" قد ذهبت النون الآخرة، وهي المفتوحة، وكذلك "بنون"؛ ألا ترى أنك إنما زدت على "مؤمن" واوًا ونونًا، وياء ونونًا، وهو على حاله لم يتغير لفظه، كما لم يتغير في التثنية حين قلت "مؤمنان" و"مؤمنَيْن"، إلا أنك زدت ألفاً ونوناً، أو ياء ونونًا للتثنية، وإنما صارت هذه مفتوحة ليفرق بينهما وبين نون الاثنين، وذلك أن نون الاثنين مكسورة أبداً، قال: {قال رجلان من الّذين يخافون أنعم اللّه}، وقال: {أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما}، والنون مكسورة.
وجعلت الياء للنصب والجرّ نحو "العالمين" و"المتقين"، فنصبهما وجرهما سواء، كما جعلت نصب "الاثنين" وجرهما سواء، ولكن كسر ما قبل ياء الجميع، وفتح ما قبل ياء الاثنين؛ ليفرق ما بين الاثنين والجميع، وجعل الرفع بالواو ليكون علامة للرفع، وجعل رفع الاثنين بالألف. وهذه النون تسقط في الإضافة كما تسقط نون الاثنين، نحو قولك: "بنوك" و"رأيت مسلميك" فليست هذه النون كنون "الشياطين" و"الدهاقين" و"المساكين"؛ لأن "الشياطين" و"الدهاقين" و"المساكين" نونها من الأصل ألا ترى أنك تقول: "شيطان" و"شييطين"، و"دهقان" و"دهيقين"، و"مسكين" و"مسيكين" فلا تسقط النون.
فأما "الذين" : فنونها مفتوحة، لأنك تقول: "الذي" فتسقط النون لأنها زائدة، ولأنك تقول في رفعها: "اللذون" لأن هذا اسم ليس بمتمكن مثل "الذي"، ألا ترى أن "الذي" على حال واحدة.
إلا أن ناساً من العرب يقولون: "هم اللذون يقولون كذا وكذا"، جعلوا له في الجمع علامة للرفع، لأن الجمع لا بد له من علامة، واو في الرفع، وياء في النصب والجرّ وهي ساكنة، فأذهبت الياء الساكنة التي كانت في "الذي"؛ لأنه لا يجتمع ساكنان، كذهاب ياء "الذي" إذا أدخلت الياء التي للنصب، ولأنهما علامتان للإعراب، والياء في قول من قال : "هم الذين" مثل: حرف مفتوح، أو مكسور بني عليه الاسم، وليس فيه إعراب، ولكن يدلك على إنه المفتوح أو المكسور في الرفع، والنصب والجر الياء التي للنصب والجرّ؛ لأنها علامة للإعراب.
وقد قال ناس من العرب "الشياطون"؛ لأنهم شبّهوا هذه الياء التي كانت في "شياطين" إذا كانت بعدها نون، وكانت في "جميعٍ"، وقبلها كسرة، بياء الإعراب التي في الجمع، فلما صاروا إلى الرفع: أدخلوا الواو، وهذا يشبه "هذا جحر ضبٍّ خربٍ" فافهم). [معاني القرآن: 1/ 7-10]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({العالمين}: الخلق، واحدهم عالم). [غرائب القرآن وتفسيره: 61]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( و(العالمون): أصناف الخلق الرّوحانيّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلّ صنف منهم عالم). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {الحمد للّه ربّ العالمين (2)}: معنى الحمد : الشّكر والثناء على الله تعالى، الحمد رفع بالابتداء، وقوله: {للّه}: إخبار عن الحمد، والاختيار في الكلام: الرفع، فأمّا القرآن فلا يقرأ فيه :{الحمد} إلا بالرفع، لأن السّنة تتبع في القرآن، ولا يلتفت فيه إلى غير الرّواية الصحيحة التي قد قرأ بها القراء المشهورون بالضبط والثّقة، والرفع القراءة، ويجوز في الكلام أن تقول " الحمد " تريد: أحمد الله الحمد، فاستغنيت عن ذكر " أحمد "؛ لأن حال الحمد يجب أن يكون عليها الخلق، إلا أنّ الرفع أحسن وأبلغ في الثناء على الله عزّ وجلّ، وقد روي عن قوم من العرب: " الحمدَ للّه "و" الحمدِ للّه "، وهذه لغة من لا يلتفت إليه، ولا يتشاغل بالرواية عنه. وإنما تشاغلنا نحن برواية هذا الحرف لنحذّر الناس من أن يستعملوه، أو يظن جاهل أنه يجوز في كتاب الله عزّ وجلّ، أو في كلام، ولم يأت لهذا نظير في كلام العرب، ولا وجه له.
وقوله عزّ وجلّ: {ربّ العالمين}: قد فسرنا أنه لا يجوز في القرآن إلا {ربّ العالمين * الرحمن الرحيم} وإن كان الرفع والنصب جائزين في الكلام، ولا يتخير لكتاب الله عزّ وجلّ إلا اللفظ الأفضل الأجزل.
وقوله عزّ وجلّ: {العالمين}: معناه كل ما خلق اللّه، كما قال: {وهو ربّ كل شيء}، وهو جمع عالم، تقول: هؤلاء عالمون، ورأيت عالمين، ولا واحد لعالم من لفظه لأن عالماً جمع لأشياء مختلفة، وأن جعل " عالم "، لواحد منها صار جمعاً لأشياء متفقة.
والنون فتحت في العالمين؛ لأنّها نون الجماعة، وزعم سيبويه أنّها فتحت ليفرق بينها وبين نون الاثنين، تقول: "هذان عالمان يا هذا"، فتكسر نون الاثنين لالتقاء السّاكنين، وهذا يشرح في موضعه إن شاء اللّه، وكذلك نون الجماعة فتحت لالتقاء السّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء؛ ألا ترى أنك تقول " سوف أفعل" فتفتح الفاء من " سوف " لالتقاء السّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو، وكذلك تقول: "أين زيد ؟" فتفتح النون لالتقاء السّاكنين بعد الياء). [معاني القرآن: 1 /45-46]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله تعالى: {الحمد لله} الفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد أعم؛ لأنه يقع على الثناء، وعلى التحميد، وعلى الشكر، والجزاء .
والشكر مخصوص بما يكون مكافأة لمن أولاك معروفاً، فصار الحمد أثبت في الآية؛ لأنه يزيد على الشكر.
ويقال: الحمد خبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في هذا ؟
والجواب عن هذا: أن سيبويه قال: إذا قال الرجل "الحمد لله" بالرفع؛ ففيه من المعنى مثل ما في قوله: "حمدت الله حمداً" إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله تعالى، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
قال ابن كيسان: وهذا كلام حسن جدا ً، لأن قولك "الحمد لله" مخرجة في الإعراب مخرج قولك: "المال لزيد"، ومعناه أنك أخبرت به، وأنت تعتمد أن تكون حامدا ً، لا مخبرا ًبشيء، ففي إخبار المخبر بهذا: إقراراً منه بأن الله تعالى مستوجبه على خلقه، فهو أحمد من يحمده إذا أقر بأن الحمد له، فقد آل المعنى المرفوع إلى مثل المعنى المنصوب وزاد عليها بأن جعل الحمد الذي يكون عن فعله وفعل غيره لله تعالى .
وقال غير سيبويه: إنما يتكلم بهذا تعرضاً لعفو الله تعالى، ومغفرته، وتعظيماً له، وتمجيدا ً، فهو خلاف معنى الخبر، وفيه معنى السؤال.
وفي الحديث: «من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
وقيل: إن مدحه نفسه جل وعز وثناءه عليه؛ ليعلم ذلك عباده، فالمعنى على هذا: "قولوا: الحمد لله".
وإنما عيب مدح الآدمي نفسه؛ لأنه ناقص، وإن قال: "أنا جواد" فثم بخل، وإن قال "أنا شجاع" فثم جبن، والله تعالى منزه من ذلك، فإن الآدمي إنما يمدح نفسه: ليجتلب منفعة ويدفع مضرة، والله تعالى غني عن هذا .
وقوله جل وعز: {رب العالمين}، قال أهل اللغة: الرب: المالك، وأنشدوا:
وهو الرب والشهيد على يو.......م الحيارين والبلاء بلاء
وأصل هذا: أنه يقال: ربه يربه ربا، وهو راب ورب إذا قام بصلاحه، ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته.
وروى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {رب العالمين} قال: «الجن والإنس» .
وروى الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: الجن عالم، والإنسان عالم، وسوى ذلك للأرض أربع زوايا، في كل زاوية ألف وخمس مائة عالم، خلقهم الله لعبادته .
وقال أبو عبيدة : {رب العالمين}أي: المخلوقين.
وأنشد العجاج:
فخندف هامة هذا العالم
والقول الأول: أجل هذه الأقوال، وأعرفها في اللغة؛ لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل خاصة، و(عالم) مشتق من العلامة .
وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على شيء، فالعالم دال على أن له خالقاً مدبراً). [معاني القرآن: 1/ 57-62]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْحَمْدُ}: الشكر. {الْعَالَمِينَ}: الخلق). [العمدة في غريب القرآن: 67]

تفسير قوله تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}

تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({مالك يوم الدّين} نصب على النّداء، وقد تحذف ياء النداء، مجازه: يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهداً، ألا تراه يقول:{إيّاك نعبد}، فهذه حجة لمن نصب، ومن جره قال: هما كلامان.
{الدّين}: الحساب والجزاء، يقال في المثل: (كما تدين تدان)، وقال ابن نفيل:

واعلم وأيقن أنّ ملكك زائل.......واعلم بأنّ كما تدين تدان
ومجاز من جرّ {مالك يوم الدّين}؛ أنه حدّث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهداً فقال: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين * اهدنا}، قال عنترة بن شدّاد العبسيّ:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت......عسراً علىّ طلابك ابنة مخرم
وقال أبو كبير الهذليّ:
يا لهف نفسي كان جدّة خالد.......وبياض وجهك للتّراب الأعفر
). [مجاز القرآن: 1/ 22-24]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مالك يوم الدّين}
وأما قوله: {مالك يوم الدّين}، فإنه يجرّ لأنه من صفة "اللّه" عز وجل.
وقد قرأها قوم: {مالك} نصب على الدعاء، وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجرّ، وقرأها قوم: {ملك}، إلا أن "الملك" اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك: "ملك وملوك"، وأما "المالك" فهو الفاعل كما تقول: "ملك فهو مالكٌ" مثل "قهر فهو قاهر"). [معاني القرآن: 1 /10]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يوم الدين}: يوم الجزاء من ذلك قولهم: (كما تدين تدان) ).
[غريب القرآن وتفسيره: 61]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{يوم الدّين}: يوم القيامة، سمّى بذلك؛ لأنه يوم الجزاء والحساب، ومنه يقال: "دنته بما صنع" أي : جازيته، ويقال في مثل: «كما تدين تدان» يراد : كما تصنع يصنع بك، وكما تجازي تجازى). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الدّين}
الدّين: الجزاء. ومنه قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} أي: يوم الجزاء والقصاص. ومنه يقال: "دنته بما صنع" أي: جزيته بما صنع. و(كما تدين تدان).
والدّين: الملك والسّلطان. ومنه قول الشاعر:
لئن حللت بجوٍّ في بني أسد.......في دين عمرو وحالت دوننا فدك
أي: في سلطانه. ويقال من هذا: "دنت القوم أدينهم" أي: قهرتهم وأذللتهم، "فدانوا" أي: ذلّوا وخضعوا. و"الدّين لله" إنما هو من هذا. ومنه قول القطاميّ:
كانت نوار تدينك الأديانا
أي: تذلّك. ومنه قول الله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29]، أي: لا يطيعونه.
والدّين: الحساب، من قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]. ومنه قوله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25]، أي: حسابهم). [تأويل مشكل القرآن: 453-454]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ)
: (وقوله عزّ وجلّ: {مالك يوم الدّين (4)}
القراءة: الخفض على مجرى: الحمد للّه مالك يوم الدّين.
وإن نصب – في الكلام - على ما نصب عليه: رب العالمين والرحمن الرحيم، جاز في الكلام.
فأما في القراءة: فلا أستحسنه فيها، وقد يجوز أن تنصب {رب العالمين} و{مالك يوم الدّين} على النداء في الكلام كما تقول: الحمد للّه يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدّين، كأنك بعد أن قلت: " الحمد لله "، قلت: لك الحمد يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدين.
وقرئ: {ملك يوم الدّين}، {ومالك يوم الدّين}.
وإنما خصّ يوم الدّين، واللّه عزّ وجلّ يملك كل شيء؛ لأنه اليوم الذي يضطر فيه المخلوقون إلى أن يعرفوا أن الأمر كلّه للّه، ألا تراه يقول: {لمن الملك اليوم} وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً}، فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه لا لغيره نفعاً ولا ضراً.
ومن قرأ: { مالك يوم الدّين}، فعلى قوله :{لمن الملك اليوم} وهو بمنزلة من المالك اليوم.
ومن قرأ: {ملك يوم الدّين}، فعلى معنى " ذو المملكة " في يوم الدين، وقيل : إنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله عزّ وجلّ: {يوم الدّين}: الدين في اللغة: الجزاء، يقال: "كما تدين تدان"، المعنى : كما تعمل تعطى وتجازى، قال الشاعر:
واعلم وأيقن أن ملكك زائل.......واعلم بأن كما تدين تدان
أي : تجازى بما تعمل، والدّين أيضاً في اللغة: العادة، تقول العرب: "ما زال ذلك ديني"، أي: عادتي.
قال الشاعر:
تقول إذا درأت لها وضيني.......أهذا دينه أبدا وديني
). [معاني القرآن: 1/ 46-48]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله تعالى: {ملك يوم الدين}، ويقرأ: {مالك يوم الدين}.
واختار أبو حاتم: مالك، قال: وهو أجمع من ملك؛ لأنك تقول: أن الله مالك الناس، ومالك الطير، ومالك الريح، ومالك كل شيء من الأشياء، ونوع من الأنواع، ولا يقال: الله ملك الطير، ولا ملك الريح، ونحو ذلك، وإنما يحسن ملك الناس وحدهم.
وخالفه في ذلك جلة أهل اللغة، منهم: أبو عبيد، وأبو العباس محمد بن يزيد، واحتجوا بقوله تعالى: {لمن الملك اليوم}، والمُلْكُ: مصدر المَلِكِ، ومصدر المَالِكِ: مِلْكٌ بالكسر، وهذا احتجاج حسن.
وأيضاً، فإن حجة أبي حاتم لا تلزم؛ لأنه إنما لم يستعمل ملك الطير والرياح؛ لأنه ليس فيه معنى مدح .
-وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد، عن أبي داود بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن أسباط عند السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي مالك، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن أبي مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مالك يوم الدين}: «يوم الدين: هو يوم الحساب».
وقال مجاهد: "الدين: الجزاء" والمعنيان واحد؛ لأن يوم القيامة: يوم الحساب، ويوم الجزاء.
والدين في غير هذه: الطاعة، والدين أيضاً: العادة، كما قال:
أهذا دينه أبداً وديني
والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا أطاع: فقد دان. والعادة تجري مجرى الدين، و"فلان في دين فلان" أي: في سلطانه وطاعته.
فإن قيل: لم خصت القيامة بهذا؟ فالجواب: أن يوم القيامة: يوم يضطر فيه الخلائق إلى أن يعرفوا أن الأمر كله لله تعالى،
قيل: خصه؛ لأن في الدنيا ملوكاً وجبارين، ويوم القيامة يرجع الأمر كله إلى الله تعالى). [معاني القرآن: 1/ 61-63]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يوم الدين}: يوم الجزاء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 21]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَلِك}: معناه : السلطان الباقي في ملكه، {مَالِكِ}: القادر الحاكم بما يرى، {يَوْمِ الدِّينِ}: يوم الجزاء). [العمدة في غريب القرآن: 67-68]



(1) استدراك من نسخة أخرى.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 9 جمادى الآخرة 1434هـ/19-04-2013م, 06:59 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (فإن كانت هذه المصادر معارف فالوجه الرفع، ومعناه كمعنى المنصوب، ولكن يختار الرفع؛ لأنه كالمعرفة، وحق المعرفة الابتداء. وذلك قولك: الحمد لله رب العالمين ولعنة الله على الظالمين. والنصب يجوز. وإنما تنظر في هذه المصادر إلى معانيها؛ فإن كان الموضع بعدها أمراً أو دعاءً لم يكن إلا نصباً). [المقتضب: 3/ 221]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وسئل أبو العباس عن {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ما معناه؛ وقد يقال للرجل الحمد؟ فقال: «كل الحمد لله، وكل حمد ذكر للأدميين فهو جزء منه، أي كل ذلك لله»). [مجالس ثعلب: 86]

تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}

تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (يقال: يوم وأيام؛ والأصل: أيوام؛ ولكن العرب إذا جمعت بين الياء والواو في كلمة واحدة، وسبق أحدهما بالسكون، قلبوا الواو ياء وأدغموا وشددوا؛ من ذلك قولهم: كويته كيا، ولويته ليَّا. قال الله عز وجل: {وراعنا ليًّا بألسنتهم}. ولكن العرب أدغمت الواو في الياء لأن أحدهما سبق بالسكون). [الأيام والليالي: 31] (م)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (الدين: الحساب، ومنه: {مالك يوم الدين}). [الغريب المصنف: 3/ 1008]
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (

فمر على نحره والذراع.......ولم يك ذاك له الفعل دِينَا
والدين: العادة، والدين: الطاعة، والدين: الجزاء، والدين: الحساب، والدين: الملة، والدين: الخلق). [شرح ديوان كعب بن زهير: 110]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
ودناهم مثل ما يقرضونا
يقول: جزيناهم. وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. قالوا: يوم الجزاء والحساب، ومن أمثال العرب: "كما تدين تدان"، وأنشد أبو عبيدة:

واعلم وأيقن أن ملكك زائلٌ.......واعلم بأن كما تدين تدان
وللدين مواضع منها ما ذكرنا، ومنها: الطاعة، ودين الإسلام من ذلك يقال: فلان في دين فلانٍ، أي: لم يكونوا في دين ملك، وقال زهيرٌ:

لئن حللت بجو في بني أسدٍ.......في دين عمرو وحالت بيننا فدك
فهذا يريد: في طاعة عمرو بن هند، والدين: العادة، يقال: ما زال هذا ديني ودأبي وعادتي وديدني وإجرياي، قال المثقب العبدي:

تقول إذا درأت لها وضيني.......أهذا دينه أبدًا وديني
أكل الدهر حل وارتحالٌ.......أما تبقي علي وما تقيني
وقال المكيت بن زيدٍ:

على ذاك إجرياي وهي ضريبتي.......وإن أجلبوا طرًا علي وأحلبوا
).[الكامل: 1/ 425-427]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (قال: و{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء). [مجالس ثعلب: 276]
قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (تفسير قوله تعالى: {غير مدينين} [الواقعة: 86] ومعنى الدين.
وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري، رحمه الله، في قوله تعالى: {فلولا إن كنتم غير مدينين} [الواقعة: 86] معناه غير مجزّيين، قال: وأنشدنا:

ولم يبق سوى العدوا.......ن دناهم كما دانوا
أي: جازيناهم كما جازوا، ومن ذلك قوله جل وعز: {مالك يوم الدّين}، قال قتادة: «معناه: مالك يومٍ يدان فيه العباد أي: يجازون بأعمالهم»،
ويكون الدين أيضًا الحساب قال ابن عباس: «معنى قوله {مالك يوم الدّين} أي: يوم الحساب»،
ويكون الدّين أيضًا السّلطان، قال زهير:

لئن حللت بجوٍّ في بني أسدٍ.......في دين عمروٍ وحالت بيننا فدك
معناه في سلطان،
ويكون الدّين أيضًا الطاعة، من ذلك قوله جل وعز: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76] معناه في طاعة الملك.
ويكون الدّين أيضًا العبودية والذّل، وجاء في الحديث: «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» فمعناه: استعبد نفسه وأذلّها لله عز وجل، قال الأعشى:

هو دان الرّباب إذ كرهوا.......الدين دراكًا بغزوةٍ وصيال
ثم دانت بعد الرّباب وكانت
.......كعذابٍ عقوبة الأقوال
يعني أنه أذلهمّ فذلّوا، وقال القطامي:

رمت المقاتل من فؤادك بعدما.......كانت نوار تدينك الأديانا
معناه تستعبدك بحبها،
ويكون الدين أيضًا الملة، كقولك: نحن على دين إبراهيم، ويكون العادة، قال المثقب العبدي:

تقول إذا درأت لها وضينا.......أهذا دينه أبدًا وديني
أكلّ الدهر حلٌّ وارتحالٌ
.......أما يبقى على وما يقيني
ويكون الدين أيضًا الحال، قال النضر بن شميل: سألت أعرابيًا عن شيء، فقال: لو لقيتني دينٍ غير هذه لأخبرتك، وروى أبو عبيدة قول امرئ القيس:

كدينك من أم الحويرث قبلها.......وجارتها أمّ الرباب بمأسل
أي: كعادتك.
والعرب تقول: ما زال هذا دينه ودأبه وديدنه وديدانه وديدبونه أي: عادته). [الأمالي: 2/ 295] (م)


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن الثالث

تفاسير القرن الثالث


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن الرابع

تفاسير القرن الرابع


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن الخامس

تفاسير القرن الخامس


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن السادس

تفاسير القرن السادس

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ): (الحمد معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، وشكره حمد ما، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا، فالحامد من الناس قسمان: الشاكر والمثني بالصفات.
وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد، وذلك غير مرضي.
وحكي عن بعض الناس أنه قال: «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه، والحمد ثناء بأوصافه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك الحمد لله شكرا. وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه. لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم. وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمد لله».
وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمد لله» بفتح الدال وهذا على إضمار فعل.
وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: «الحمد لله»، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني.
وروي عن ابن أبي عبلة: «الحمد لله»، بضم الدال واللام، على اتباع الثاني والأول.
قال الطبري: الحمد للّه ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه، فكأنه قال: «قولوا الحمد لله» وعلى هذا يجيء «قولوا إياك» قال: وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:

وأعلم أنني سأكون رمسا ....... إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم
....... فقال القائلون لهم وزير
المعنى المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير.
وقرأت طائفة «ربّ» بالنصب.
فقال بعضهم: «هو نصب على المدح».
وقال بعضهم: «هو على النداء، وعليه يجيء إيّاك
».
والرب في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، والملك، - تأتي اللفظة لهذه المعاني-.
فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [غاوي بن عبد العزى]:


أربّ يبول الثعلبان برأسه ....... لقد هان من بالت عليه الثّعالب
ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم: رب العبيد والمماليك.
ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد:


وأهلكن يوما ربّ كندة وابنه ....... وربّ معدّ بين خبت وعرعر
ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة:

تخبّ إلى النعمان حتّى تناله ....... فدى لك من ربّ طريفي وتالدي
ومن معنى الإصلاح قولهم: أديم مربوب، أي مصلح، قال الشاعر الفرزدق:

كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت ....... سلاءها في أديم غير مربوب
ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين: «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن».
ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان: «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم». ذكره البخاري في تفسير سورة براءة. ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة:


وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي ....... ومن قبل ربتني فضعت ربوب
وهذه الاستعمالات قد تتداخل، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى.
والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج). [المحرر الوجيز: 1 /71-74]

تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (
وقد تقدم القول في {الرحمن الرحيم}). [المحرر الوجيز: 1/ 74]

تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف القراء في قوله تعالى: {ملك يوم الدين}.
فقرأ عاصم والكسائي «مالك يوم الدين».
قال الفارسي: «وكذلك قرأها قتادة والأعمش».
قال مكي: «وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك بالألف، وكذلك قرأها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم».
وقرأ بقية السبعة «ملك يوم الدين»، وأبو عمرو منهم يسكن اللام فيقرأ «ملك يوم الدين». هذه رواية عبد الوارث عنه.
وروي عن نافع إشباع الكسرة من الكاف في ملك فيقرأ «ملكي» وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي.
وقرأ أبو حيوة «ملك» بفتح الكاف وكسر اللام.
وقرأ ابن السميفع، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وأبو صالح السمان، وأبو عبد الملك الشامي «مالك» بفتح الكاف. وهذان على النداء ليكون ذلك توطئة لقوله إيّاك.
ورد الطبري على هذا وقال: «إن معنى السورة: قولوا الحمد لله، وعلى ذلك يجيء إيّاك واهدنا».
وذكر أيضا أن من فصيح كلام العرب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، وبالعكس، كقول أبي كبير الهذلي:
يا ويح نفسي كان جلدة خالد ....... وبياض وجهك للتراب الأعفر
وكما قال لبيد:
قامت تشكّى إليّ النفس مجهشة ....... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وكقول الله تعالى: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22].
وقرأ يحيى بن يعمر والحسن بن أبي الحسن، وعلي بن أبي طالب «ملك يوم الدين» على أنه فعل ماض.
وقرأ أبو هريرة «مليك» بالياء وكسر الكاف.
قال أبو علي: ولم يمل أحد من القراء ألف «مالك»، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز، إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض، و«الملك» و«الملك» بضم الميم وكسرها وما تصرف منهما راجع كله إلى ملك بمعنى شد وضبط، ثم يختص كل تصريف من اللفظة بنوع من المعنى، يدلك على الأصل في ملك قول الشاعر قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها
وهذا يصف طعنة فأراد شددت، ومن ذلك قول أوس بن حجر:
فملّك بالليط تحت قشرها ....... كغرقئ بيض كنّه القيض من عل
أراد: شدد، وهذا يصف صانع قوس ترك من قشرها ما يحفظ قلب القوس، والذي مفعول وليس بصفة لليط، ومن ذلك قولهم: إملاك المرأة وإملاك فلان إنما هو ربط النكاح، كما قالوا: عقدة النكاح، إذ النكاح موضع شد وربط، فالمالك للشيء شادّ عليه ضابط له، وكذلك الملك، واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك»، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا. والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك. وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك. فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والاحكام، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها، كما لكل أحد في ملكه، ثم عنده زيادة التملك، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد، فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان.
وحكى أبو علي في حجة من قرأ «مالك يوم الدين» أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم وأنه قد يدخل في المالك ما لا يدخل في الملك فيقال مالك الدنانير، والدراهم، والطير، والبهائم، ولا يقال ملكها، ومالك في صفة الله تعالى يعم ملك أعيان الأشياء وملك الحكم فيها، وقد قال الله تعالى: {قل اللّهمّ مالك الملك} [آل عمران: 26].
قال أبو بكر: «الأخبار الواردة تبطل أن أول من قرأ «ملك يوم الدين» مروان بن الحكم بل القراءة بذلك أوسع ولعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ في ذلك العصر أو البلد ونحوه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضا أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.
قال أبو بكر: والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «الملك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط، كما قالوا: ملكت العجين، أي: شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره.
قال: والوجه لمن قرأ «مالك» أن يقول: إن المعنى أن الله تعالى يملك ذلك اليوم أن يأتي به كما يملك سائر الأيام لكن خصّصه بالذكر لعظمه في جمعه وحوادثه.
قال أبو الحسن الأخفش: «يقال «ملك» بين الملك، بضم الميم، ومالك بين «الملك» و «الملك» بفتح الميم وكسرها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى، وروى بعض البغداديين لي في هذا الوادي «ملك» و «ملك» و «ملك» بمعنى واحد».
قال أبو علي: «حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب «ملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله {رب العالمين} فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير».
قال أبو علي ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص، كقوله تعالى: {هو اللّه الخالق البارئ المصوّر} [الحشر: 24] فـ{الخالق} يعم وذكر {المصوّر} لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجوه الحكمة، وكما قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4] بعد قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال تعالى: {الرحمن الرحيم} فذكر الرحمن الذي هو عام، وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 43].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وأيضا: فإن الرب يتصرف في كلام العرب بمعنى الملك كقوله: (ومن قبل ربتني فضعت ربوب) وغير ذلك من الشواهد، فتنعكس الحجة على من قرأ «مالك يوم الدين» والجر في «ملك» أو «مالك» على كلتا القراءتين هو على الصفة للاسم المجرور قبله، والصفات تجري على موصوفيها إذا لم تقطع عنهم لذم أو مدح، والإضافة إلى {يوم الدّين} في كلتا القراءتين من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحد، وليس هذا كإضافة قوله تعالى: {وعنده علم السّاعة} [الزخرف: 85]، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، أي إنه يعلم الساعة وحقيقتها، فليس أمرها على ما الكفار عليه من إنكارها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأما على المعنى الذي قاله ابن السراج من أن معنى «مالك يوم الدين» أنه يملك مجيئه ووقوعه، فإن الإضافة إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة، لأن اليوم على قوله مفعول به على الحقيقة، وليس ظرفا اتسع فيه.
قال أبو علي: ومن قرأ «مالك يوم الدين» فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف المتسع فيه فإنه حذف المفعول من الكلام للدلالة عليه تقديره مالك يوم الدين الاحكام، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} [البقرة: 185] فنصب الشّهر على أنه ظرف والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولو كان الشهر مفعولا للزم الصوم للمسافر، لأن شهادته للشهر كشهادة المقيم، وشهد يتعدى إلى مفعول يدل على ذلك قول الشاعر:
ويوما شهدناه سليما وعامرا ....... ... ... ... ...
والدين لفظ يجيء في كلام العرب على أنحاء، منها الملة. قال الله تعالى: {إنّ الدّين عند اللّه الإسلام} [آل عمران: 19] إلى كثير من الشواهد في هذا المعنى، وسمي حظ الرجل منها في أقواله وأعماله واعتقاداته دينا، فيقال فلان حسن الدين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه في قميص عمر الذي رآه يجره: قيل: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين» وقال علي بن أبي طالب: «محبة العلماء دين يدان به». ومن أنحاء اللفظة الدين بمعنى العادة. فمنه قول العرب في الريح: «عادت هيف لأديانها».
ومنه قول امرئ القيس:
كدينك من أمّ الحويرث قبلها ....... ... ... ... ...
ومنه قول الشاعر: [المثقب العبدي]:
... ... ... .... ....... أهذا دينه أبدا وديني
إلى غير ذلك من الشواهد، يقال دين ودينة أي عادة، ومن أنحاء اللفظة: الدين سيرة الملك وملكته، ومنه قول زهير:
لئن حللت بجوّ في بني أسد ....... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أراد في موضع طاعة عمرو وسيرته، وهذه الأنحاء الثلاثة لا يفسر بها قوله ملك يوم الدين. ومن أنحاء اللفظة الدين الجزاء، فمن ذلك قول الفند الزماني: [شهل بن شيبان]
ولم يبق سوى العدوا ....... ن دنّاهم كما دانوا
أي جازيناهم. ومنه قول كعب بن جعيل:
إذا ما رمونا رميناهم ....... ودناهم مثل ما يقرضونا
ومنه قول الآخر:
واعلم يقينا أنّ ملكك زائل ....... واعلم بأنّ كما تدين تدان
وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: {ملك يوم الدين} أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وقتادة وغيرهم.
قال أبو علي: يدل على ذلك قوله تعالى: {اليوم تجزى كلّ نفسٍ بما كسبت} [غافر: 17]، و{اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية: 28]. وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا بفتح الدال ودينا بكسرها جزيته، وقيل الدين المصدر والدين بكسر الاسم.
وقال مجاهد: «ملك يوم الدين أي: يوم الحساب، مدينين: محاسبين» وهذا عندي يرجع إلى معنى الجزاء. ومن أنحاء اللفظة الدين الذل، والمدين العبد، والمدينة الأمة، ومنه قول الأخطل:
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ....... تراه على مسحاته يتركّل
أي ابن أمة، وقيل بل أراد ابن مدينة من المدن، الميم أصيلة، ونسبه إليها كما يقال ابن ماء وغيره.
وهذا البيت في صفة كرمة فأراد أن أهل المدن أعلم بفلاحة الكرم من أهل بادية العرب. ومن أنحاء اللفظة الدين السياسة، والديان السائس، ومنه قول ذي الأصبع الحدثان بن الحارث:
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ....... يوما ولا أنت دياني فتخزوني
ومن أنحاء اللفظة الدين الحال.
قال النضر بن شميل: «سألت أعرابيا عن شيء فقال لي لو لقيتني على دين غير هذه لأخبرتك».
ومن أنحاء اللفظة الدين الداء، عن اللحياني وأنشد:
ما دين قلبك من سلمى وقد دينا
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أما هذا الشاهد فقد يتأول على غير هذا النحو، فلم يبق إلا قول اللحياني). [المحرر الوجيز: 1/ 74-82]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:13 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن السابع

تفاسير القرن السابع


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21 جمادى الأولى 1435هـ/22-03-2014م, 11:13 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن الثامن

تفاسير القرن الثامن

تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ({الحمد للّه ربّ العالمين}.
القرّاء السّبعة على ضمّ الدّال من قوله: {الحمد لله} وهو مبتدأٌ وخبرٌ. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج أنّهما قالا "الحمد لله" بالنّصب وهو على إضمار فعلٍ، وقرأ ابن أبي عبلة: "الحمد لله" بضمّ الدّال واللّام إتباعًا للثّاني الأوّل وله شواهد لكنّه شاذٌّ، وعن الحسن وزيد بن عليٍّ: "الحمد لله" بكسر الدّالّ إتباعًا للأوّل الثّاني.
قال أبو جعفر بن جريرٍ: معنى {الحمد للّه} الشّكر للّه خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كلّ ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النّعم الّتي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرّزق، وغذّاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاقٍ منهم ذلك عليه، ومع ما نبّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدّية إلى دوام الخلود في دار المقام في النّعيم المقيم، فلربّنا الحمد على ذلك كلّه أوّلًا وآخرًا.
[وقال ابن جريرٍ: {الحمد للّه} ثناءٌ أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنّه قال: قولوا: {الحمد للّه}].
قال: وقد قيل: إنّ قول القائل: الحمد للّه، "ثناءٌ عليه بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: الشّكر للّه ثناءٌ عليه بنعمه وأياديه، ثمّ شرع في ردّ ذلك بما حاصله أنّ جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلًّا من الحمد والشّكر مكان الآخر.
[وقد نقل السّلميّ هذا المذهب أنّهما سواءٌ عن جعفرٍ الصّادق وابن عطاءٍ من الصّوفيّة. وقال ابن عبّاسٍ: {الحمد للّه} كلمة كلّ شاكرٍ، وقد استدلّ القرطبيّ لابن جريرٍ بصحّة قول القائل: {الحمد للّه} شكرًا].
وهذا الّذي ادّعاه ابن جريرٍ فيه نظرٌ؛ لأنّه اشتهر عند كثيرٍ من العلماء من المتأخّرين أنّ الحمد هو الثّناء بالقول على المحمود بصفاته اللّازمة والمتعدّية، والشّكر لا يكون إلّا على المتعدّية، ويكون بالجنان واللّسان والأركان، كما قال الشّاعر:

أفادتكم النّعماء منّي ثلاثةً ....... يدي ولساني والضّمير المحجّبا
ولكنّهم اختلفوا: أيّهما أعمّ، الحمد أو الشّكر؟ على قولين، والتّحقيق أنّ بينهما عمومًا وخصوصًا، فالحمد أعمّ من الشّكر من حيث ما يقعان عليه؛ لأنّه يكون على الصّفات اللّازمة والمتعدّية، تقول: حمدته لفروسيّته وحمدته لكرمه. وهو أخصّ لأنّه لا يكون إلّا بالقول، والشّكر أعمّ من حيث ما يقعان عليه، لأنّه يكون بالقول والعمل والنّيّة، كما تقدّم، وهو أخصّ لأنّه لا يكون إلّا على الصّفات المتعدّية، لا يقال: شكرته لفروسيّته، وتقول: شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرّره بعض المتأخّرين، واللّه أعلم.
وقال أبو نصرٍ إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ: الحمد نقيض الذّمّ، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدةً، فهو حميدٌ ومحمودٌ، والتّحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعمّ من الشّكر. وقال في الشّكر: هو الثّناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له. وباللّام أفصح.
[وأمّا المدح فهو أعمّ من الحمد؛ لأنّه يكون للحيّ وللميّت وللجماد -أيضًا-كما يمدح الطّعام والمال ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصّفات المتعدّية واللّازمة أيضًا فهو أعمّ].

ذكر أقوال السّلف في الحمد
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو معمرٍ القطيعيّ، حدّثنا حفصٌ، عن حجّاجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: قال عمر: «قد علمنا سبحان اللّه، ولا إله إلّا اللّه، فما الحمد للّه؟» فقال عليٌّ:«كلمةٌ رضيها اللّه لنفسه».
ورواه غير أبي معمر، عن حفصٍ، فقال: قال عمر لعلي، وأصحابه عنده:
«لا إله إلّا اللّه، وسبحان اللّه، واللّه أكبر، قد عرفناها، فما الحمد للّه؟» قال عليٌّ: «كلمةٌ أحبّها [اللّه] لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحبّ أن تقال».
وقال عليّ بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، قال: قال ابن عبّاسٍ:
«الحمد للّه كلمة الشّكر، وإذا قال العبد: الحمد للّه، قال: شكرني عبدي». رواه ابن أبي حاتمٍ.
وروى -أيضًا-هو وابن جريرٍ، من حديث بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: أنّه قال:
«الحمد للّه هو الشّكر للّه والاستخذاء له، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك».
وقال كعب الأحبار:
«الحمد للّه ثناء اللّه». وقال الضّحّاك: «الحمد للّه رداء الرّحمن». وقد ورد الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جريرٍ: حدّثني سعيد بن عمرٍو السّكوني، حدّثنا بقيّة بن الوليد، حدّثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيبٍ، عن الحكم بن عميرٍ، وكانت له صحبةٌ قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إذا قلت: الحمد للّه ربّ العالمين، فقد شكرت اللّه، فزادك».
وقد روى الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا روحٌ، حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، عن الأسود بن سريعٍ، قال: قلت: يا رسول اللّه، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربّي، تبارك وتعالى؟ فقال:
«أما إنّ ربّك يحبّ الحمد».
ورواه النّسائيّ، عن عليّ بن حجرٍ، عن ابن عليّة، عن يونس بن عبيدٍ، عن الحسن، عن الأسود بن سريعٍ، به.
وروى التّرمذيّ، والنّسائيّ وابن ماجه، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثيرٍ، عن طلحة بن خراشٍ، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«أفضل الذّكر لا إله إلّا اللّه، وأفضل الدّعاء الحمد للّه». وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ.
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«ما أنعم اللّه على عبدٍ نعمةً فقال: الحمد للّه إلّا كان الّذي أعطى أفضل ممّا أخذ».
وقال القرطبيّ في تفسيره، وفي نوادر الأصول عن أنسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: «لو أنّ الدّنيا بحذافيرها في يد رجلٍ من أمّتي ثمّ قال: الحمد للّه، لكان الحمد للّه أفضل من ذلك». قال القرطبيّ وغيره: أي لكان إلهامه الحمد للّه أكبر نعمةً عليه من نعم الدّنيا؛ لأنّ ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدّنيا لا يبقى، قال اللّه تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدّنيا والباقيات الصّالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا وخيرٌ أملا} [الكهف: 46]. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حدّثهم: «أنّ عبدًا من عباد اللّه قال: يا ربّ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السّماء فقالا: يا ربّ، إنّ عبدًا قد قال مقالةً لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه -وهو أعلم بما قال عبده-: [ماذا قال عبدي؟] قالا: يا ربّ إنّه قد قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال اللّه لهما: [اكتباها كما قال عبدي حتّى يلقاني فأجزيه بها]».
وحكى القرطبيّ عن طائفةٍ أنّهم قالوا: قول العبد: الحمد للّه ربّ العالمين، أفضل من قول: لا إله إلّا اللّه؛ لاشتمال الحمد للّه ربّ العالمين على التّوحيد مع الحمد، وقال آخرون: لا إله إلّا اللّه أفضل لأنّها الفصل بين الإيمان والكفر، وعليها يقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه كما ثبت في الحديث المتّفق عليه وفي الحديث الآخر في السّنن: «أفضل ما قلت أنا والنّبيّون من قبلي: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له». وقد تقدّم عن جابرٍ مرفوعًا: «أفضل الذّكر لا إله إلّا اللّه، وأفضل الدّعاء الحمد للّه». وحسّنه التّرمذيّ.
والألف واللّام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد، وصنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث:
«اللّهمّ لك الحمد كلّه، ولك الملك كلّه، وبيدك الخير كلّه، وإليك يرجع الأمر كلّه» الحديث.
{ربّ العالمين} والرّبّ هو: المالك المتصرّف، ويطلق في اللّغة على السّيّد، وعلى المتصرّف للإصلاح، وكلّ ذلك صحيحٌ في حقّ اللّه تعالى.
[ولا يستعمل الرّبّ لغير اللّه، بل بالإضافة تقول: ربّ الدّار ربّ كذا، وأمّا الرّبّ فلا يقال إلّا للّه عزّ وجلّ، وقد قيل: إنّه الاسم الأعظم]. والعالمين: جمع عالمٍ، [وهو كلّ موجودٍ سوى اللّه عزّ وجلّ]، والعالم جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات [في السّماوات والأرض] في البرّ والبحر، وكلّ قرنٍ منها وجيلٍ يسمّى عالمًا أيضًا.
قال بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضحاك، عن ابن عبّاسٍ: {الحمد للّه ربّ العالمين} الحمد للّه الّذي له الخلق كلّه، السّماوات والأرضون، ومن فيهنّ وما بينهنّ، ممّا نعلم، وما لا نعلم.
وفي رواية سعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، عن ابن عبّاسٍ:
«ربّ الجنّ والإنس». وكذلك قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ وابن جريجٍ، وروي عن عليٍّ [نحوه]. وقال ابن أبي حاتمٍ: بإسنادٍ لا يعتمد عليه.
واستدلّ القرطبيّ لهذا القول بقوله: {ليكون للعالمين نذيرًا} [الفرقان: 1] وهم الجنّ والإنس. وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالم عبارةٌ عمّا يعقل وهم الإنس والجنّ والملائكة والشّياطين ولا يقال للبهائم: عالمٌ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء كلّ ما له روحٌ يرتزق. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم -وهو آخر خلفاء بني أميّة ويعرف بالجعد ويلقّب بالحمار- أنّه قال: خلق اللّه سبعة عشر ألف عالمٍ أهل السّماوات وأهل الأرض عالمٌ واحدٌ وسائر ذلك لا يعلمه إلّا اللّه، عزّ وجلّ.
وقال قتادة: ربّ العالمين، كلّ صنفٍ عالمٌ. وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله تعالى {ربّ العالمين} قال:
«الإنس عالمٌ، والجنّ عالمٌ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالمٍ، أو أربعة عشر ألف عالمٍ، هو يشكّ، من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كلّ زاويةٍ ثلاثة آلاف عالمٍ، وخمسمائة عالمٍ، خلقهم [اللّه] لعبادته». رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ.
[وهذا كلامٌ غريبٌ يحتاج مثله إلى دليلٍ صحيحٍ].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن خالدٍ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتّب بن سميٍّ، عن تبيع، يعني الحميريّ، في قوله: {ربّ العالمين} قال:
«العالمين ألف أمّةٍ فستّمائةٍ في البحر، وأربعمائةٍ في البرّ».
[وحكي مثله عن سعيد بن المسيّب].
وقد روي نحو هذا مرفوعًا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى في مسنده: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا عبيد بن واقدٍ القيسيّ، أبو عبّادٍ، حدّثني محمّد بن عيسى بن كيسان، حدّثنا محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قلّ الجراد في سنةٍ من سني عمر الّتي ولي فيها فسأل عنه، فلم يخبر بشيءٍ، فاغتمّ لذلك، فأرسل راكبًا يضرب إلى اليمن، وآخر إلى الشّام، وآخر إلى العراق، يسأل: هل رئي من الجراد شيءٌ أم لا؟ قال: فأتاه الرّاكب الّذي من قبل اليمن بقبضةٍ من جرادٍ، فألقاها بين يديه، فلمّا رآها كبّر، ثمّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول:
«خلق اللّه ألف أمّةٍ، ستّمائةٍ في البحر وأربعمائةٍ في البرّ، فأوّل شيءٍ يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلك تتابعت مثل النّظام إذا قطع سلكه». محمّد بن عيسى هذا -وهو الهلاليّ-ضعيفٌ.
وحكى البغويّ عن سعيد بن المسيّب أنّه قال:
«للّه ألف عالم؛ ستّمائةٍ في البحر وأربعمائةٍ في البرّ»،
وقال وهب بن منبّهٍ: «للّه ثمانية عشر ألف عالم؛ الدّنيا عالمٌ منها».
وقال مقاتلٌ: «العوالم ثمانون ألفًا».
وقال كعب الأحبار: «لا يعلم عدد العوالم إلّا اللّه عزّ وجلّ». نقله كلّه البغويّ،
وحكى القرطبيّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّه قال: «إنّ للّه أربعين ألف عالمٍ؛ الدّنيا من شرقها إلى مغربها عالمٌ واحدٌ منها»، وقال الزّجّاج: العالم كلّ ما خلق اللّه في الدّنيا والآخرة. قال القرطبيّ: وهذا هو الصّحيح أنّه شاملٌ لكلّ العالمين؛ كقوله: {قال فرعون وما ربّ العالمين * قال ربّ السّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتقٌّ من العلامة (قلت): لأنّه علمٌ دالٌّ على وجود خالقه وصانعه ووحدانيّته كما قال ابن المعتزّ:

فيا عجبًا كيف يعصى الإله ...... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كلّ شيءٍ له آيةً ...... تدلّ على أنّه واحد
). [تفسير ابن كثير: 1 /127-133]

تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ({الرّحمن الرّحيم}.
وقوله: {الرّحمن الرّحيم} تقدّم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن إعادته).
[تفسير ابن كثير: 1/ 133]

تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ({مالك يوم الدّين}
قرأ بعض القرّاء: (ملك يوم الدّين) وقرأ آخرون: (مالك). وكلاهما صحيحٌ متواترٌ في السّبع.
[ويقال: مليكٌ أيضًا، وأشبع نافعٌ كسرة الكاف فقرأ: "ملكي يوم الدّين" وقد رجّح كلًّا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى، وكلاهما صحيحةٌ حسنةٌ، ورجّح الزّمخشريّ ملك؛ لأنّها قراءة أهل الحرمين ولقوله: {لمن الملك اليوم} وقوله: {قوله الحقّ وله الملك} وحكي عن أبي حنيفة أنّه قرأ "ملك يوم الدّين" على أنّه فعلٌ وفاعلٌ ومفعولٌ، وهذا شاذٌّ غريبٌ جدًّا]. وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال: حدّثنا أبو عبد الرّحمن الأذرميّ، حدّثنا عبد الوهّاب عن عديّ بن الفضل، عن أبي المطرّف، عن ابن شهابٍ: أنّه بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبا بكرٍ وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون: {مالك يوم الدّين} وأوّل من أحدث "ملك" مروان. قلت: مروان عنده علمٌ بصحّة ما قرأه، لم يطّلع عليه ابن شهابٍ، واللّه أعلم.
وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ أوردها ابن مردويه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرؤها: {مالك يوم الدّين} ومالك مأخوذٌ من الملك، كما قال: {إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} [مريم: 40] وقال: {قل أعوذ بربّ النّاس * ملك النّاس} [النّاس: 1، 2] وملكٌ: مأخوذٌ من الملك كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار} [غافر: 16] وقال: {قوله الحقّ وله الملك} [الأنعام: 73] وقال: {الملك يومئذٍ الحقّ للرّحمن وكان يومًا على الكافرين عسيرًا} [الفرقان: 26].
وتخصيص الملك بيوم الدّين لا ينفيه عمّا عداه، لأنّه قد تقدّم الإخبار بأنّه ربّ العالمين، وذلك عامٌّ في الدّنيا والآخرة، وإنّما أضيف إلى يوم الدّين لأنّه لا يدّعي أحدٌ هنالك شيئًا، ولا يتكلّم أحدٌ إلّا بإذنه، كما قال: {يوم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا لا يتكلّمون إلا من أذن له الرّحمن وقال صوابًا} [النّبأ: 38] وقال تعالى: {وخشعت الأصوات للرّحمن فلا تسمع إلا همسًا} [طه: 108]، وقال: {يوم يأت لا تكلّم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ} [هودٍ: 105].
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ:
«{مالك يوم الدّين} يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معه حكمًا، كملكهم في الدّنيا». قال: «ويوم الدّين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ وإنّ شرًّا فشرٌّ، إلّا من عفا عنه». وكذلك قال غيره من الصّحابة والتّابعين والسّلف، وهو ظاهرٌ.
وحكى ابن جريرٍ عن بعضهم أنّه ذهب إلى تفسير {مالك يوم الدّين} أنّه القادر على إقامته، ثمّ شرع يضعفه.
والظّاهر أنّه لا منافاة بين هذا القول وما تقدّم، وأنّ كلًّا من القائلين بهذا وبما قبله يعترف بصحّة القول الآخر، ولا ينكره، ولكنّ السّياق أدلّ على المعنى الأوّل من هذا، كما قال: {الملك يومئذٍ الحقّ للرّحمن} [الفرقان: 26] والقول الثّاني يشبه قوله: {ويوم يقول كن فيكون}، [الأنعام: 73] واللّه أعلم.
والملك في الحقيقة هو اللّه عزّ وجلّ؛ قال اللّه تعالى: {هو اللّه الّذي لا إله إلا هو الملك القدّوس السّلام}، وفي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مرفوعًا أخنع اسمٍ عند اللّه رجلٌ تسمّى بملك الأملاك ولا مالك إلّا اللّه، وفيهما عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«يقبض اللّه الأرض ويطوي السّماء بيمينه ثمّ يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟»، وفي القرآن العظيم: {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار} فأمّا تسمية غيره في الدّنيا بملكٍ فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: {إنّ اللّه قد بعث لكم طالوت ملكًا}، {وكان وراءهم ملكٌ}، {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا} وفي الصّحيحين: «مثل الملوك على الأسرّة».
والدّين الجزاء والحساب؛ كما قال تعالى: {يومئذٍ يوفّيهم اللّه دينهم الحقّ}، وقال: {أئنّا لمدينون} أي: مجزيّون محاسبون، وفي الحديث:
«الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» أي: حاسب نفسه لنفسه؛ كما قال عمر رضي اللّه عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهّبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم: {يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافيةٌ}»). [تفسير ابن كثير: 1/ 133-134]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:40 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة