تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنّبيّين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيّوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً (163) ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلّم اللّه موسى تكليماً (164)
روي عن عبد الله بن عباس: أن سبب هذه الآية أن سكينا الحبر وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى، ولا أوحى إليه، فنزلت هذه الآية تكذيبا لقولهما. وقال محمد بن كعب القرظي: لما أنزل الله يسئلك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السّماء [النساء: 153] إلى آخر الآيات، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله وما قدروا اللّه حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ [الأنعام: 91] والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام، وذلك هو المراد بقوله كما أوحينا أي بملك ينزل من عند الله، ونوحٍ أول الرسل في الأرض إلى أمة كافرة، وصرف نوح مع العجمة والتعريف لخفته، وإبراهيم عليه السلام هو الخليل، وإسماعيل
ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين، وهو أبو العرب، وإسحاق ابنه الأصغر ويعقوب هو ولد إسحاق وهو إسرائيل، والأسباط: بنو يعقوب، يوسف وإخوته، وعيسى هو المسيح، وأيّوب هو المبتلى الصابر، ويونس هو ابن متى، وروى ابن جماز عن نافع: يونس بكسر النون، وقرأ ابن وثاب والنخعي- بفتحها، وهي كلها لغات، وهارون هو ابن عمران، وسليمان هو النبي الملك، وداود: أبوه، وقرأ جمهور الناس «زبورا» بفتح الزاي، وهو اسم كتاب داود تخصيصا، وكل كتاب في اللغة فهو زبور من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته، وقرأ حمزة وحده «زبورا» بضم الزاي، قال أبو علي: يحتمل أن يكون جمع زبر، أوقع على المزبور اسم الزبر، كما قالوا ضرب الأمير. ونسج اليمن. وكأن سمي المكتوب كتابا، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة، كما قالوا: ظريف وظروف وكروان وكروان وورشان وورشان، ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل التصغير. وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، وحارث وحريث، وثابت وثبيت، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في الاستعمال). [المحرر الوجيز: 3/67-68]
تفسير قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ورسلًا قد قصصناهم عليك الآية، نصب رسلًا على المعنى، لأن المعنى إنا أرسلناك كما أرسلنا نوحا، ويحتمل أن ينصب رسلًا بفعل مضمر تقديره أرسلنا رسلا، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي، وفي حرف أبي بن كعب «ورسل» في الموضعين بالرفع على تقديرهم رسل، وقصصناهم معناه ذكرنا أسماءهم وأخبارهم، وقوله تعالى: ورسلًا لم نقصصهم عليك يقتضي كثرة الأنبياء دون تحديد بعدد، وقد قال تعالى وإن من أمّةٍ إلّا خلا فيها نذيرٌ [فاطر: 24] وقال تعالى: وقروناً بين ذلك كثيراً [الفرقان: 38] وما يذكر من عدد الأنبياء فغير صحيح، الله أعلم بعدتهم، صلى الله عليهم، وقوله تعالى: وكلّم اللّه موسى تكليماً إخبار بخاصة موسى، وأن الله تعالى شرفه بكلامه ثم أكد تعالى الفعل بالمصدر، وذلك منبئ في الأغلب عن تحقيق الفعل ووقوعه، وأنه خارج عن وجوه المجاز والاستعارة، لا يجوز أن تقول العرب: امتلأ الحوض وقال: قطني قولا، فإنما تؤكد بالمصادر الحقائق. ومما شذ قول هند بنت النعمان بن بشير:
... ... ... ... = وعجت عجيجا من جذام المطارف.
وكلام الله للنبي موسى عليه السلام دون تكييف ولا تحديد ولا تجويز حدوث ولا حروف ولا أصوات، والذي عليه الراسخون في العلم: أن الكلام هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى أو جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات فكذلك كلامه لا كالكلام، وما روي عن كعب الأحبار وعن محمد بن كعب القرظي ونحوهما:
من أن الذي سمع موسى كان كأشد ما يسمع من الصواعق، وفي رواية أخرى كالرعد الساكن فذلك كله غير مرضي عند الأصوليين، وقرأ جمهور الأمة «وكلم الله موسى» بالرفع في اسم الله، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وكلم الله» بالنصب على أن موسى هو المكلم، وهي قراءة ضعيفة من جهة الاشتهار، لكنها مخرجة من عدة تأويلات). [المحرر الوجيز: 3/68-70]
تفسير قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّةٌ بعد الرّسل وكان اللّه عزيزاً حكيماً (165) لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى باللّه شهيداً (166) إنّ الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه قد ضلّوا ضلالاً بعيداً (167) إنّ الّذين كفروا وظلموا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً (168) إلاّ طريق جهنّم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على اللّه يسيراً (169)
رسلًا بدل من الأول قبل. ومبشّرين ومنذرين حالان أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع، وينذرون بالنار من كفر وعصى، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إليّ الرسول لآمنت، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى). [المحرر الوجيز: 3/71]
تفسير قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: لكن اللّه يشهد الآية، سببها قول اليهود ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ [الأنعام: 91] وقال بعضهم لمحمد عليه السلام: ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والجراح الحكمي «لكنّ الله يشهد» بشد النون ونصب المكتوبة على اسم «لكن» وقوله تعالى: أنزله بعلمه هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم، والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله، ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن، كما هو في قول الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، معناه: من علم الله الذي بث في عباده، وقرأ الجمهور «أنزل» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الحسن «أنزل» بضم الهمزة على بنائه للمفعول، وقوله تعالى: والملائكة يشهدون تقوية لأمر محمد عليه السلام ورد على اليهود، قال قتادة: شهود والله غير متهمة، وقوله تعالى: وكفى باللّه شهيداً تقديره: وكفى الله شهيدا، لكن دخلت الباء لتدل على أن المراد بالله.