بيانِ معنَى الإلحادِ في أسماءِ اللهِ الحُسْنَى.
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الخامسُ والعشرونَ: في بيانِ معنَى الإلحادِ في أسماءِ اللهِ الحُسْنَى.
(قالَ تعالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].
والإلحادُ في أسمائِهِ: هوَ العدولُ بها وبحقائقِها ومعانيها عن الحقِّ الثابتِ لها. وهوَ مأخوذٌ مِن الْمَيْلِ كما يَدُلُّ عليهِ مَادَّتُهُ (ل ح د). فمنهُ اللَّحْدُ وهوَ الشَّقُّ في جانبِ القَبْرِ الذي قدْ مالَ عن الوَسَطِ. ومنهُ المُلْحِدُ في الدِّينِ المائلُ عن الحقِّ إلَى الباطلِ. قالَ ابنُ السِّكِّيتِ: الملحِدُ: المائلُ عن الحقِّ المُدْخِلُ فيهِ ما ليسَ منهُ. ومنهُ الملتَحَدُ وهوَ مُفْتَعَلٌ مِنْ ذلكَ. وقولُهُ تعالَى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)} [الكهف: 27]؛ أيْ: مَنْ تَعْدِلُ إليهِ وتَهْرُبُ إليهِ وتَلتجئُ إليهِ وتَبتهِلُ إليهِ، فتَميلُ إليهِ عنْ غيرِهِ. تقولُ العربُ: الْتَحَدَ فُلانٌ إلَى فُلانٍ إذا عَدَلَ إليهِ.
إذا عُرِفَ هذا فالإلحادُ في أسمائِهِ تعالَى أنواعٌ:
- أحدُها: أن يُسَمَّى الأصنامُ بها، كتَسميتِهم اللاتَ مِن الإلهيَّةِ، والعُزَّى مِن العزيزِ، وتَسميتِهم الصَّنَمَ إِلَهاً، وهذا إلحادٌ حقيقةً، فإنَّهُم عَدَلُوا بأسمائِهِ إلَى أَوثانِهم وآلهتِهم الباطلةِ.
- الثاني: تَسميتُهُ بما لا يَليقُ بجلالِهِ كتَسميَةِ النَّصَارَى لهُ أباً، وتَسميَةِ الفلاسِفَةِ لهُ مُوجِباً بذاتِهِ أوْ عِلَّةً فاعلةً بالطبْعِ، ونحوِ ذلكَ.
- وثالثُها: وَصْفُهُ بما يَتَعَالَى عنهُ ويَتَقَدَّسُ مِن النقائصِ، كقولِ أَخْبَثِ اليهودِ: إنَّهُ فقيرٌ، وقولِهم: إنَّهُ استراحَ بعدَ أنْ خَلَقَ خَلْقَهُ، وقولِهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وأمثالِ ذلكَ مِمَّا هوَ إلحادٌ في أسمائِهِ وصِفاتِهِ.
- ورابعُها: تعطيلُ الأسماءِ عنْ معانيها، وجَحْدُ حقائقِها، كقولِ مَنْ يقولُ مِن الجهميَّةِ وأَتباعِهم: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدَةٌ لا تَتَضَمَّنُ صفاتٍ ولا معانيَ، فيُطلقونَ عليهِ اسمَ السميعِ والبصيرِ والحيِّ والرحيمِ والمتكلِّمِ والمريدِ، ويقولونَ: لا حياةَ لهُ ولا سَمْعَ ولا بَصَرَ ولا كلامَ ولا إرادةَ تقومُ بهِ؛ وهذا مِنْ أَعظمِ الإلحادِ فيها عَقْلاً وشَرْعاً ولُغةً وفِطْرَةً، وهوَ يُقابِلُ إلحادَ المشركينَ؛ فإنَّ أولئكَ أَعْطَوْا أسماءَهُ وصِفاتِهِ لآلهتِهم، وهؤلاءِ سَلَبُوهُ صفاتِ كمالِهِ وجَحَدُوها وعَطَّلُوها. فكلاهما مُلْحِدٌ في أسمائِهِ، ثُمَّ الجهميَّةُ وفُروخُهم مُتفاوتونَ في هذا الإلحادِ، فمنهم الغالي والمتوسِّطُ والمنكوبُ. وكلُّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما وَصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ أوْ وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ فقدْ أَلْحَدَ في ذلكَ، فلْيَسْتَقِلَّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ([1]).
- وخامسُها: تشبيهُ صفاتِهِ بصفاتِ خَلْقِهِ، تعالَى اللهُ عَمَّا يقولُ المشبِّهونَ عُلُوًّا كبيراً. فهذا الإلحادُ في مقابلةِ إلحادِ المُعَطِّلَةِ؛ فإنَّ أولئكَ نَفَوْا صِفةَ كمالِهِ وجَحَدُوهَا، وهؤلاءِ شَبَّهُوهَا بصفاتِ خَلْقِهِ، فجَمَعَهم الإلحادُ وتَفَرَّقَتْ بهم طُرُقُهُ.
وَبَرَّأَ اللَّهُ أَتباعَ رَسولِهِ ووَرَثَتَهُ القائمينَ بسُنَّتِهِ عنْ ذلكَ كلِّهِ، فلم يَصِفُوهُ إلاَّ بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، ولم يَجْحَدُوا صِفاتِهِ، ولم يُشَبِّهُوهَا بصفاتِ خَلْقِهِ، ولم يَعْدِلُوا بها عما أُنْزِلَتْ عليهِ لَفْظاً ولا مَعْنًى، بلْ أَثْبَتُوا لهُ الأسماءَ والصفاتِ، ونَفَوْا عنهُ مُشابَهَةَ المخلوقاتِ. فكان إثباتُهم بَرِيًّا مِن التشبيهِ، وتَنـزيهُهم خَلِيًّا مِن التعطيلِ، لا كَمَنْ شَبَّهَ حتَّى كأنَّهُ يَعْبُدُ صَنَماً، أوْ عَطَّلَ حتَّى كأنَّهُ لا يَعْبُدُ إلاَّ عَدَماً.
وأهلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ أهلَ الإسلامِ وَسَطٌ في الْمِلَلِ، تُوقَدُ مَصابيحُ مَعارِفِهم مِنْ شَجرةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونةٍ لا شَرقيَّةٍ ولا غَربيَّةٍ , يَكادُ زَيتُها يُضيءُ , وَلَوْ لم تَمْسَسْهُ نارٌ، نورٌ علَى نورٍ يَهْدِي اللهُ لنورِهِ مَنْ يَشاءُ.
فنَسألُ اللهَ تعالَى أن يَهدِيَنَا لنُورِهِ، ويُسَهِّلَ لنا السبيلَ إلَى الوصولِ إلَى مَرضاتِهِ ومُتابعةِ رسولِهِ، إنَّهُ قَريبٌ مُجيبٌ). ([2]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]
(1) قالَ -رَحِمَهُ اللهُ- كما في مُخْتَصَرِ الصواعقِ المُرْسَلَةِ (2/297 - 298): (ومِن أَعظمِ الإلحادِ في أسمائِه إنكارُ حَقائِقِهَا ومعانيها والتصريحُ بأنها مَجازاتٌ، وهو أنواعٌ هذا (أَحَدُها).
(الثاني) جَحْدُها وإنكارُها بالكُلِّيَّةِ.
(2) بَدَائِعُ الفوائدِ (1/ 69).