سورة آل عمران
[من الآية (1) إلى الآية (4) ]
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
قوله تعالى: {الم (1)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قال أبو بكر: قراءة الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: (الم (1) اللّه... (2)
الميم ساكنة ومن اسم الله مقطوعة.
وقرأ الباقون: (الم (1) اللّه) ألقوا فتحة الألف على الميم وحذفوها في الوصل.
وقال أبو إسحاق النحوي روي عن الرؤاسي: (الم الله) بتسكين الميم.
قال: وقد رويت هذه القراء عن عاصم.
قال: والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عياش وابن عمر بفتح الميم. قال: ففتح الميم إجماع من النحويين.
قال: واختلف النحويون في علة فتح الميم.
فقال بعضهم: فتحت لالتقاء الساكنين،
[معاني القراءات وعللها: 1/241]
وقال بعضهم: طرحت عليها فتحة الهمزة؛ لأن نية حروف
الهجاء الوقف، وهذا قول الكوفيين.
وقال الأخفش: إن الميم لو كسرت لالتقاء الساكنين فقيل (الم الله) لجاز.
قال أبو إسحاق: وهذا غلط من الأخفش؛ لأن قبل الميم ياء مكسور ما قبلها، فحقها الفتح لالتقاء الساكنين؛ ولثقل الكسر مع الياء.
وقال مجاهد: إنما قرأ القراء (الم الله) لأنهم ألقوا فتحة الألف على الميم وحذفوها في الوصل). [معاني القراءات وعللها: 1/242]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرءوا كلّهم: الم الله [آل عمران/ 1] مفتوحة الميم والألف ساقطة إلّا ما حدثني به القاضي موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا
[الحجة للقراء السبعة: 3/5]
يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ (الم) ثم قطع وابتدأ (الله) ثم سكّن فيها. قال يحيى بن آدم وآخر ما حفظت عنه (الم الله) مثل حمزة.
[حدثنا ابن مجاهد قال]: حدثنا موسى بن إسحاق قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: سمعت أبا يوسف الأعشى قرأها على أبي بكر (الم) ثم قطع فقال: (الله) بالهمز.
[الحجة للقراء السبعة: 3/6]
حدثنا ابن مجاهد قال: حدثني محمد بن الجهم عن ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم الم جزم، ثم ابتدأ ألله.
[حدثنا ابن مجاهد قال]: حدثني أحمد بن محمد ابن صدقة قال: حدثنا أبو الأسباط عن عبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ: (الم الله) بتسكين
[الحجة للقراء السبعة: 3/7]
الميم وقطع الألف. [حدثنا ابن مجاهد قال]: حدثني محمد بن الجهم عن الفرّاء قال: قرأ عاصم: الم جزم [و] الله مقطوع. والمعروف عن عاصم الم الله موصولة. و حفص عن عاصم الم (صل) الله مفتوحة الميم غير مهموزة الألف.
قال أبو علي: اتفاق الجميع على إسقاط الألف الموصولة في اسم الله وذاك أن الميم ساكنة كما أن سائر حروف التهجي مبنية على الوقف فلمّا التقت الميم الساكنة، ولام التعريف حرّكت الميم بالفتح للساكن الثالث الذي هو لام المعرفة. والدّليل على أنّ التحريك للساكن الثالث- وهو مذهب سيبويه- أن حروف التهجي يجتمع فيها الساكنان نحو كهيعص [مريم/ 1] وحم عسق وذلك أنّها مبنيّة على الوقف، كما أنّ أسماء العدد كذلك فحرّكت الميم للساكن
[الحجة للقراء السبعة: 3/8]
الثالث بالفتح كما حرّكت النون في قوله: من الله [آل عمران/ 15] ومن المسلمين [يونس/ 72] ومن البقر اثنين [الأنعام/ 144] بالفتح لالتقاء الساكنين.
فأمّا ما روي عن عاصم من قطعه الألف، فكأنّه قدّر الوقوف على الميم، واستأنف (الله)، فقطع الهمزة للابتداء بها. والوجه ما عليه الجماعة، وما وافقهم هو أيضا عليه، من أنّ الهمزة تسقط في الوصل، فإذا سقطت لم يجز أن تلقى لها حركة على ما قبلها.
والّذي حكاه سيبويه من قولهم: ثلاثة اربعة، لم تحمل عليه هذه الآية، ألا ترى أنّه ذهب إلى أنّ الحركة فيها لالتقاء الساكنين، وأنّه في الفتح لالتقاء الساكنين بمنزلة قوله:
من الله.
وأمّا ما حكاه بعض البغداديين من قوله: مريب الذي جعل [ق/ 25/ 26]. فإنّه حرّك النّون بالفتح كما حرّك في قولهم: من الله به.
ولا يجوز أن تكون الفتحة لهمزة الوصل ألقيت على النون، لأنّ الهمزة إذا أوجب الإدراج إسقاطها لم تبق لها حركة تلقى على شيء، ولم يأت في نحو هذا عنهم شيء فيما علمناه، كما جاء (ثلاثة اربعة) ). [الحجة للقراء السبعة: 3/9]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قال أبو محمد: قد ذكرنا، في سورة البقرة، من وجدنا ممن قرأ في كل حرف من الصدر الأول، ولست آخذ ذلك في كل القرآن ولا في كل حرف، إلا عن تطويل كثير، فيطول الكتاب لذلك، وأنا أقتصر على ذكر القراء المشهورين فقط في باقي القرآن، إلا أن نجد نصا على قراءة النبي عليه السلام، أو قراءة أصحابه رضي الله عنه، فنذكر ذلك لا غير، وما لم نجد فيه شيئًا اكتفيت فيه بذكر القراء المشهورين، فاعلم ذلك وكل ما تقدم الكلام فيه، والعلل في قراءته من الأصول، وغير ذلك من الحروف، نستغني بذكره متقدمًا عن إعادته، فذلك أخصر، فتكرر الشيء صعب سماعه، كتكرير الحديث، فاعلم ذلك كله من شرط هذا الكتاب، قد ذكرنا إمالة {التوراة} وعلتها وأصلها في أبواب الإمالة، وذكرنا فتح الميم من {المر لله} وعلة ذلك في أبواب المد، فأما ما قرأت به للأعشى، عن أبي بكر، من قطع الألف من اسم «الله» جل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/334]
ذكره فعلته في ذلك على وجهين: أحدهما أن يكون ينوي الوقف على {الم}، ثم يبتدئ باسم الله، فيقطع الألف، وهذه الحروف أصلها السكون، والوقف عليها، لأنها حروف مقطعة، لا أصل لها في الإعراب، إلا أن يخبر عنها، أو يُعطف بعضها على بعض، فيدخلها الإعراب، لأنها تصير كسائر الأسماء، فلما كان أصلها الوقف عليها، وقف على الميم، ثم ابتدأ ما بعدها فهمز.
2- والوجه الثاني أن تكون الألف من اسم الله جل ذكره عنده ألف قطع، كما ذهب إليه ابن كيسان، فردّها إلى أصلها فهمز، وإنما وصلت لكثرة الاستعمال). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/335]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- قوله {الم، الله} آية/ 1 و2]:-
اتفق القراء على وصل الألف من اسم الله وفتح الميم من {ألم}، وروى –ياش- عن عاصم فقطع الألف من اسم الله، (وأسكن) الميم من {الم}.
ووجه قراءة الجماعة أن هذه الألف أعني ألف {الله} ألف وصل، يسقط إذا اتصل بشيء قبله، فالواجب أن يسقط ههنا لاتصاله بـ {الم}، والميم من {الم} كانت ساكنة كما أن سائر حروف التهجي مبنية على السكون، فالتقت مع لام التعريف من اسم الله، فحركت الميم بالفتح لالتقاء الساكنين هي ولام المعرفة، ولم تحرك هذه الميم للساكن الذي قبلها؛ لأن حروف التهجي قد يجتمع فيها ساكنان نحو: {كهيعص} ونحوها لبنائها على الوقف، ولا يجوز أن تكون حركة الميم منقولةً إليها عن ألف {الله}؛ لأن هذه الألف لا توجد في حال الوصل، فكيف يكون لها حركة تنقل؟
[الموضح: 360]
وأما ما روى –ياش- عن عاصم من قطع الألف فيمكن أن يكون قدر الوقوف على الميم، ثم استأنف {الله}، فقطع الهمزة على نية الابتداء بها. والوجه ما عليه الجمهور). [الموضح: 361]
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (من ذلك قراءة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء بخلاف ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: [الحيُّ القيَّام]، وقرأ علقمة: [الحيُّ القَيِّم].
قال أبو الفتح: أما [القيَّام] ففيعال من قام يقوم؛ لأن الله تعالى هو القيم على كل نفس، ومثله من الصفة على فيعال الغيْداق والبَيْطار، وأصله: القيْوَام، فلما التقت الواو والياء وسبقت الأولى بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصارت القيام، ومثله قولهم: "ما بالدار ديَّار"، وهو فيعال من دار يدور وأصلها دَيْوار، وأهل الحجاز يقولون للصَّوَّاغ: الصَّيَّاغ، فعلى هذا ينبغي أن يحمل لا على فَعَّال؛ لأنه كان يجب أن يكون صوَّاغًا، هذا هو الباب.
وأما الفيَّاد لِذَكر البوم فحمله أبو علي على أنه فَعَّال من الأسماء؛ وذلك أنه من فاد يفيد إذا تبختر. وأما الجيَّار للسُّعال فكذا يجب أن يكون أيضًا، وهو فَعَّال من لفظ "جَيْر" بمعنى نعم ومعناها؛ وذلك أن السَّعلة تجيب أختها كما أن جير جواب.
قال العجاج:
تجاوب الرَّعْدِ إذا تبوَّجا
وأنشدنا أبو علي:
إذا حنَّت الأولى سَجَعْنَ لها معا
[المحتسب: 1/151]
والحديث طويل لكن هذا طريقه.
وأما القَيِّم من قام يقوم بأمره، وهو من لفظ قيَّام ومعناه قال:
الله بيني وبين قيِّمها ... يفر مني بها وأَتَّبع
لما قال الشاعر هذا قيل له: لا، بل الله بين قيمها وبينك.
و{القيوم} قراءة الجماعة، فيعول من هذا أيضًا، ومثله الدَّيُّور في معنى الدَّيَّار). [المحتسب: 1/152]
قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (1- قوله تعالى: {وأنزل التوراة والإنجيل} [3]
قرأ نافع وحمزة {التوراة} بين الإمالة والتفخيم، غير أن حمزة يقف بالتاء.
وقرأ أبو عمرو والكسائي وورش، عن نافع {التورية} بالكسر لاجتماع الراء مع الياء.
وقرأ الباقون بالتفخيم على لفظ الكلمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/108]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إمالة الرّاء وفتحها من التوراة [آل عمران/ 3].
فقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر: (التوراة) مفخّما.
وكان نافع وحمزة يلفظان: بالراء بين الفتح والكسر، وكذلك كانا يفعلان بقوله تعالى: مع الأبرار [آل عمران/ 193] ومن الأشرار [ص/ 62] ومن قرار [إبراهيم/ 26] وذات قرار [المؤمنون/ 50] إذا كان الحرف مخفوضا.
وقال ابن سعدان عن المسيّبي عن نافع: الراء مفتوحة، وكذلك قال ابن المسيبي عن نافع. وقال ورش عن نافع:
(التّورية)، بكسر الراء وكان أبو عمرو والكسائي يقرءان:
(التورية) مكسورة الراء ويميلان هذه الحروف أشد من إمالة حمزة ونافع أعني: (الأبرار) و (من قرار) وما أشبه ذلك. ابن عامر يشم الراء الأولى من (الأبرار) الكسر.
قال أبو علي: قالوا ورى الزند، يري، إذا قدح ولم يكب، وقالوا ورى وأوريته، وفي التنزيل: فالموريات قدحا [العاديات/ 2] وفيه: أفرأيتم النار التي تورون [الواقعة/ 71]. فأمّا قولهم: وريت بك زنادي على مثال شريت، فزعم
[الحجة للقراء السبعة: 3/10]
أبو عثمان: أنّه استعمل في هذا الكلام فقط لم يجاوز به غيره. وقال أبو زيد: ورى النّقي، يري، وريا: إذا كثر ودكه، قال: والواري: الكثير الودك. والوراء في اسم الجهة التي هي خلاف الأمام ليس من هذا، لأنّ تحقيره: وريئة، مثل وريعة.
وألحقت الهاء في تحقيرها، وإن كانت على أربعة أحرف كما ألحقت في قديديمة.
فأمّا الوراء: لولد الولد فيمكن أن يكون من هذا وقيل له:
وراء، كما قيل له: نجل.
وأنشد أبو زيد:
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم * أمّ الهنيبر من زند لها واري
[الحجة للقراء السبعة: 3/11]
قال السكري: ضرب الزّند مثلا للرحم، والزّند: تستخرج به النار، وقال أمية:
الحامل النار في الرّطبين يحملها... حتّى تجيء من اليبسين تضطرم
يأتي بها حيّة تهديك رؤيتها... من صلب أعمى أصمّ الصلب منقصم
روى محمد بن السري أن الرّطبين: هما العودان الرطبان، يعني: الشجر الذي فيه النار، واليبسين: هما العودان اليابسان، يعني: الزندين، يقول: تكون النار في عودين رطبين، فإذا جفا قدحا، فجاءت النار منهما، والأعمى الأصمّ: يعني الزّند، والزّند: الأعلى، والزندة: السفلى، وأصمّ الصّلب يعني:
العود، وأعمى: لا جوف له، يريد: يأتي بها حية للناس أي:
حياة لهم. فأمّا قولهم: التّريّة: لما تراه المرأة من الطهر [بعد الحيض] فيجوز أن تكون فعيلة من الوراء، لأنّها ترى بعد الصفرة والكدرة اللتين تريان في الحيض، وتكون فعيلة من: ورى الزند، يري، كأنّها من خروجها من الطهر بعد الحيض، فكأنّ الطهر أخرجه، والتاء في الوجهين بدل من الواو التي هي فاء، كما أنّها في «تيقور»، و «تولج» كذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 3/12]
فأمّا القول في التوراة، فلا تخلو من أن تكون فوعلة، على قول الخليل: في تولج، أو تفعلة مثل تتفلة، أو تفعلة بالكسر وفتح العين كما فتح في: ناصاة، فممّا يدلّ على أنّها فوعلة، ليست تفعلة، مثل تتفلة، وتألب، أنّ هذا البناء يقلّ، وأنّ فوعلة في الكثرة بحيث لا يتناسبان، ولا إشكال في أن الحمل على الأكثر الأشيع أولى من الحمل على خلافه.
ويدلّك على ذلك أن التاء لم تكثر زائدة أوّلا كما لم تكثر النون أوّلا، فكما أنّ النون إذا جاءت أولا في نحو نهشل ونعثل، لا يحكم بزيادتها، لقلتها زائدة. أوّلا، كذلك لا يحكم بزيادة التاء.
فإن قلت: إنك إذا جعلته فوعلة، حكمت بإبدال الفاء التي هي واو: تاء، وإذا حكمت بزيادة التاء لم تجعلها بدلا، ولكنك جعلتها التاء التي زيدت في الكلمة، قيل:
ليس هذا باعتراض لأنّ الواو إذا كانت أوّلا فقد استمرّ البدل
[الحجة للقراء السبعة: 3/13]
فيها نحو وجوه، وأجوه، ووقّتت، وأقّتت، ووشاح، وإشاح ووفادة، وإفادة، ووجم، وأجم، ووناة وأناة، فإذا اجتمعا لزم الأول منهما البدل إمّا همزة وإمّا تاء، فالهمزة نحو الأولى في فعلى من الأول، وأواق في جمع واقية. وقد أبدلت التاء من الواو إذا كانت مفردة أوّلا نحو تيقور من الوقار، فهذا فيعول، وليس بتفعول كتعضوض، ألا ترى كثرة فيعول نحو سيهوج، وسيهوب، وديقوع. وقد أبدلت تاء أولى مفردة في نحو: تجاه، وتراث، وتخمة، وتكلان، وزعم أبو عثمان أنّ إبدال نحو تخمة، مضطرد، وقال أبو الحسن:
ليس بمطرد.
فإذا كثر إبدال التاء من الواو أوّلا، هذه الكثرة، كان حملها على هذا الكثير أولى من حملها على ما لم يكثر، ولم يتسع هذا الاتساع. ولا يقرب حملها أيضا على تفعلة لأنّه لا يخلو من أن تجعلها اسما نحو: تودية، أو مصدرا نحو:
توصية، فأمّا باب تودية فقليل، كما أنّ تفعلة كذلك، وباب توصية فيه اتساع وحمل على لغة لم نعلم منها شيئا في
[الحجة للقراء السبعة: 3/14]
التنزيل، فإذا لم يكن هذان الوجهان بالسهلين حملته على فوعلة دونهما للكثرة، ألا ترى أن نحو صومعة، وحوجلة ودوسرة، وعومرة، قد كثر؟.
ومن لم يمل التوراة. فلأنّ الراء حرف يمنع الإمالة، لما فيه من التكرير، كما يمنعها المستعلي، فكما أنّ الراء لو كان مكانها مستعل مفتوح لم تحسن الإمالة، كذلك إذا كانت الراء مفتوحة. وأيضا فإنّ ما بعد الواو من توراة لو كان منفصلا لم تكن فيه الإمالة كذلك إذا كان متصلا.
وقول من أمال: إنّ الألف لما كانت رابعة لم تخل من أن تشبه ألف التأنيث أو الألف المنقلبة عن الياء أو عن الواو.
وألف التأنيث تمال وإن كان قبلها مستعل كقولهم: فوضى وجوخى.
فكما أمالوا المستعلية معها كذلك يميلون الراء، وإذا أمالوا نحو صغا، وضغا، وشقا مع أنّ الواو تصحّ في هذا البناء الذي على ثلاثة أحرف فأن يميلوا فيما لا تصحّ الواو معه أجدر.
[الحجة للقراء السبعة: 3/15]
وممّا يقوّي ذلك أنّهم قد أمالوا اسم المفعول إذا كان فيه مستعل، نحو معطا، وإذا أمالوا مع المستعلي كانت الإمالة مع الراء أجود، لأنّ الإمالة على الراء أغلب منها على المستعلي، ألا ترى أنّه قد حكى الإمالة في نحو عمران ونحو فراش، وجراب، ولو كان مكان الراء المستعلي لم تكن فيها إمالة؟. وممّا يقوّي الإمالة في الراء من توراة أنّهم قد قالوا: رأيت علقا، وعرقا، وضيقا، فأمالوه للتشبيه بألف حبلى إلّا أنّ الأول من هذه الحروف مكسور وليس من التوراة كذلك والإمالة في فتحة الراء نحو الكسرة في نحو: مع الأبرار [آل عمران/ 193] ومن قرار [إبراهيم/ 26] أقوى منها في التوراة، وذلك أنّ الراء المكسورة قد غلبت المستعلي في نحو قارب وغارم وطارد، فلما غلبت المستعلي مع قوته على الإمالة كان أن تغلب الراء المفتوحة فتميل فتحها إلى الكسرة
[الحجة للقراء السبعة: 3/16]
أولى، لأنّ الراء، وإن كان فيها تكرير، صارت به كأنّها حرفان مفتوحان؛ فهي بزنة حرف واحد، فلمّا قويت على المستعلي كانت على الراء المفتوحة أقوى). [الحجة للقراء السبعة: 3/17]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [الأَنجيل] بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: هذا مثال غير معروف النظير في كلامهم؛ لأنه ليس فيه أفعيل بفتح الهمزة، ولو كان أعجميًّا لكان فيه ضرب من الحِجاج؛ لكنه عندهم عربي، وهو أفعيل من نجل ينجُل: إذا أثار واستخرج، ومنه نَجْلُ الرجل لولده؛ لأنه كأنه استخرجهم من صلبه وبطن امرأته، قال الأعشى:
أنجب أزمان والداه به ... إذ نَجَلاه فنعم ما نَجلا
أي: أنجب والداه به أزمان إذ نجلاه، ففصل بالفاعل بين المضاف الذي هو أزمان وبين المضاف إليه الذي هو إذ، كقولهم: حينئذ، ويومئذ، وساعتئذ، وليلتئذ.
وقال أبو النجم:
تنجُل أيديهن كل منْجل
يريد: أيدي الإبل؛ أي: تثير بأيديها في سيرها ما تمر به من نبت وحجر وغيرهما.
وقيل له: إنجيل؛ لأن به ما استخرج علم الحلال والحرام ونحوهما، كما قيل: توراة، وهو فوعلة من وَرَى الزنْد إذا قدح وأصله وَوْرَيَة، فأبدلت الواو التي هي الفاء تاء كما قالوا: التُّجاه والتُّخَمة والتُّكْلان والتَّيقُور، وهي من الوجه والوخامة والوكيل والوقار، وقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة، فهذه من ورى الزند: إذا ظهرت ناره، وهذا من نَجَل ينجُل: إذا استَخْرج؛ لما في هذين الكتابين من معرفة الحِل والحِرْم كما قيل لكتاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- الفرقان؛ لأنه فرَّق بين الحق والباطل، وهذا الحديث الذي نحن عليه من بابٍ
[المحتسب: 1/152]
ضُمنه كتابنا الخصائص وسَمتُه: باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني؛ وذلك أن التوراة من لفظ ورى، والإنجيل من لفظ ن ج ل، والفرقان من ف ر ق، والتوارة فوعلة، والإنجيل إفعيل، والفرقان فُعلان. فالأصول مختلفة والمباني كذلك، والمعاني واحدة ومعتنقة، وكلها للإظهار والإبراز والفرق بين الأشياء، أفلا ترى إلى هذه الحكمة الممرور بها، الواطئة الأقدام عليها، المسهو لعادة الدعة وقلة المراعاة والمراجعة عنها؟
وفي كل شيء له شاهد ... يدل على أنه واحد
ونظائره تكاد تكون أكثر من الرمل، منه قولهم للمسك: صِوَار، فأصلاهما مختلفان: هذا من م س ك، وهذا من ص ور، ومثالاهما كذلك؛ لأن مِسْكًا فِعْلٌ، وصِوَار فِعَال، ومعنياهما واحد؛ وذلك لأنه سمي مسكًا لأنه بطيب رائحته يمسك الحس عليه استلذاذًا له، وصِوَار من صار يصور إذا عطف وجمع فأمسكت الشيء وعطفته وجمعته شيء واحد، ومنه قولهم: سحاب، قيل له ذلك كما قيل له حَبِيّ، فهذا من ح ب و، وهذا من س ح ب، وسحاب فَعال، وحبي فعيل، فالأصلان مختلفان، والمثالان اثنان، والمعنيان واحد، وذلك أنه لثقله ما ينسحب على وجه الأرض، وكذلك ما يحبو عليها، قالت امرأة تصف غيثًا:
وأقبل يزحف زحف الكسير ... كأن على عضديه رِفَاقا
وقال أوس أو عبيد:
دانٍ مسفٌ فويق الأرض هَيْدبُه ... يكاد يدفعه مَن قام بالرَّاح
واللطيف الحسن الجميل كثير؛ لكن أين لك بالمحسن المستثير؟ فهذا حديث هذا المثال الذي هو الإنجيل، وأما فتحه فغريب؛ ولكنه الشيخ أبو سعيد -نضر الله وجهه ونوَّر ضريحه- ونحن نعلم أنه لو مر بنا حرف لم نسمعه إلا من رجل من العرب لوجب علينا تسليمه له إذا أُونست فصاحته، وأن نَبْهأَ به، ونتحلى بالمذاكرة بإعرابه، فكيف الظن بالإمام في فصاحته وتحريه وثقته؟ ومعاذ الله أن يكون ذلك شيئًا جنح فيه إلى رأيه دون أن يكون أخذه عمن
[المحتسب: 1/153]
قبله، وبعد فقد حكى أبو زيد في السِّكِّينة: السَّكِّينة، بفتح السين وتشديد الكاف. فهذا فَعِّيلة وإن لم يكن لها نظير، وإفعيل أخو فِعِّيل، وأحسبني سمعت في بِرْطيل بَرْطيل، فهذا فَعليل بفتح الفاء، وأَفعيل وفَعليل وفَعِّيل يكاد يكون مثالًا واحدًا). [المحتسب: 1/154]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة إبراهيم فيما رواه المغيرة والأعمش عنه: [نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ بِالْحَقِّ] خفيفة الزاي، ورفع الباء من الكتاب.
قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على استقلال الجملة التي هي قوله عز اسمه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} .
ألا ترى أنه لا ضمير في قوله: [نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ] يعود على اسم الله تعالى؟ فعلى هذا ينبغي أن تكون جملة مستقلة أيضًا في قول مَن شدَّد الزاي ونصب الكتاب، فيكون اسم
[المحتسب: 1/160]
الله مرفوعًا بالابتداء، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر عنه، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} صفة له وثناء عليه، وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ثناء عليه معترضًا بين المبتدأ والخبر، ويكون {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} خبرين عنه، كحلو حامض.
وإن شئت جعلت قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرًا عنه، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أيضًا خبرين عنه؛ فيكون له ثلاثة أخبار.
وإن شئت أن تخبر عن المبتدأ بعشرة أخبار أو بأكثر من ذلك جاز وحسن؛ لما يتضمنه كل خبر منها من الفائدة، فكأنه أخبر عنه وآثنى عليه، ثم أخذ يقص الحديث فقال: [نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ].
ومَن شدد الزاي ونصب "الكتاب" جاز أن يكون على قوله خبرًا رابعًا، وجاز أن يكون أيضًا جميع ما قبل "نزل" ثناء وإعظامًا، ويفرد قوله: [نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ] فيجعل خبرًا عنه؛ كقولك: الله سبحانه، وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يأمر بالعدل، وينهى عن السوء. وفيه اكثر من هذا؛ إلا أن في هذا مقنعًا بحمد الله). [المحتسب: 1/161]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {التَّوْرَاةَ} [آية/ 3]:-
بفتح الراء في جميع القرآن، قرأها ابن كثير وعاصم ويعقوب.
وذلك لأن الراء حرف مكرر يمنع بالتكرير الذي فيه عن الإمالة، كما يمنع عنها الحرف المستعلي.
وقرأ نافع بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، على عادته فيما تحسن فيه الإمالة، لأنه كره إشباع الإمالة والمصير إلى الياء، إذ رآهم يقلبون الياء في مثل ذلك ألفًا، فكره أن يقلب الألف ياء، ومنه هربوا.
وذلك لأن هذه الألف رابعة، فهي كألف التأنيث في كونها في حكم المنقلب عن الياء، وألف التأنيث قد تمال وإن كان قبلها المستعلي نحو: فوضى وجوخى، كما تمال الألف المنقلبة عن الواو أيضًا مع المستعلي في نحو: صفا وطفا، فإذا أميل مثل هذه الألف مع المستعلي فلأن تمال مع
[الموضح: 361]
حرف التكرير أولى؛ لأنه لا يبلغ حد المستعلي في منع الإمالة). [الموضح: 362]
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين