شرح ابن القيم (ت:751هـ)[الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( (الحَكِيمُ):
(و... مِنْ أَسْمَائِهِ (( الحَكِيمُ )) )([1]) (الذي لا يَضَعُ الشيءَ إلاَّ في مَوْضِعِهِ)([2]). (والحكمةُ مِنْ صفاتِهِ سبحانَهُ، وحكمتُهُ تَسْتَلْزِمُ وَضْعَ كلِّ شيءٍ مَوْضِعَهُ الذي لا يَلِيقُ بهِ سِوَاهُ)([3]).
(و... اسمُ (( الحكيمِ )) منْ لوازمِهِ ثبوتُ الغاياتِ المحمودةِ المقصودةِ لهُ بأفعالِهِ، ووضعُهُ الأشياءَ في موضعِهَا، وإيقاعُهَا على أحسنِ الوجوهِ) ([4])؛ [فهوَ سبحانَهُ] ( ((الحكيمُ)) الذي بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الألبابَ)([5])، [وهوَ] (سبحانَهُ (( الحكيمُ الخبيرُ )) الذي يَضَعُ الأشياءَ مواضعَهَا وَيُنَـزِّلُهَا مَنَازِلَهَا اللائقةَ بها، فلا يَضَعُ الشيءَ في غيرِ موضعِهِ، ولا يُنْـزِلُهُ غيرَ منـزلتِهِ التي يَقْتَضِيهَا كمالُ عِلْمِهِ وحكمتِهِ وخبرتِهِ، فلا يَضَعُ الحرمانَ والمَنْعَ موضعَ العطاءِ والفضلِ، ولا الفضلَ والعطاءَ موضعَ الحرمانِ والمنعِ، ولا الثوابَ موضعَ العقابِ، ولا العقابَ موضعَ الثوابِ، ولا الخفضَ موضعَ الرفعِ، ولا الرفعَ موضعَ الخفضِ، ولا العزَّ مكانَ الذلِّ، ولا الذلَّ مكانَ العزِّ، ولا يَأْمُرُ بما يَنْبَغِي النَّهْيُ عنهُ، ولا يَنْهَى عَمَّا يَنْبَغِي الأمرُ بهِ)([6]) .
[فـ]( " الحكمةُ " تَتَضَمَّنُ كمالَ علمِهِ وخبرتِهِ، وأنَّهُ أَمَرَ وَنَهَى، وَخَلَقَ وَقَدَّرَ، لِمَا لهُ في ذلكَ من الحِكَمِ والغاياتِ الحميدةِ التي يَسْتَحِقُّ عليها كمالَ الحمدِ)([7])؛ [فإ]نَّهُ سبحانَهُ حكيمٌ، لا يَفْعَلُ شيئاً عَبَثاً ولا لِغَيْرِ مَعْنًى ومصلحةٍ وحكمةٍ هيَ الغايَةُ المقصودةُ بالفعلِ، بلْ أَفْعَالُهُ سبحانَهُ صادرةٌ عنْ حكمةٍ بالغةٍ لأجلِهَا فَعَلَ)([8]).
([فهوَ سبحانَهُ] (( الحكيمُ )) الذي إذا أَمَرَ بأمرٍ كانَ حسناً في نفسِهِ، وإذا نَهَى عنْ شيءٍ كانَ قَبِيحاً في نَفْسِهِ، وإذا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كانَ صَادِقاً، وإذا فَعَلَ فِعْلاً كانَ صَوَاباً، وإذا أَرَادَ شَيْئاً كانَ أَوْلَى بالإرادةِ منْ غيرِهِ، وهذا الوصفُ على الكمالِ لا يكونُ إلاَّ للهِ وحدَهُ)([9]).
(وقدْ تَقَرَّرَ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ كامِلُ الصِّفَاتِ، لهُ الأسماءُ الحسنَى، ولا يكونُ عن الكاملِ في ذاتِهِ وصفاتِهِ إلاَّ الفعلُ المُحْكَمُ)([10]).
(ولهذا كانَ (( الحكيمُ )) منْ أسمائِهِ الحُسْنَى، و (( الحكمةُ )) منْ صفاتِهِ العُلَى، والشريعةُ الصادرةُ عنْ أمرِهِ مَبْنَاهَا على الحكمةِ، والرسولُ المبعوثُ بها مبعوثاً بالكتابِ والحكمةِ... فَكَمَا لا يَخْرُجُ مَقْدُورٌ عنْ علمِهِ وقُدْرتِهِ ومشيئتِهِ، فهكذا لا يَخْرُجُ عنْ حكمتِهِ وحمدِهِ). ([11])
([فـ]اسمُهُ سبحانَهُ (( الحكيمُ )) يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ في خلقِهِ وأمرِهِ، في إرادتِهِ الدِّينِيَّةِ والكَوْنِيَّةِ، وهوَ حكيمٌ في كلِّ ما خَلَقَ، حَكِيمٌ في كلِّ ما أَمَرَ بهِ)([12]).
(وهوَ الحكيمُ الذي لَهُ الحُكْمُ، قالَ تَعَالَى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: 12]) ([13]).
(وهوَ الحكيمُ وذاكَ مِنْ أوصافِهِ = نوعانِ أيضاً ما هُمَا عَدَمَانِ
حُكْمٌ وإحكامٌ فكلٌّ منهما = نوعانِ أيضاً ثابِتَا البُرْهَانِ
والحُكْمُ شَرْعِيٌّ وَكَوْنِيٌّ وَلا = يَتَلازَمَانِ وما هُمَا سِيَّانِ
بلْ ذاكَ يُوجَدُ دونَ هذا مُفْرَداً = والعكسُ أيضاً ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
لنْ يَخْلُوَ المَرْبُوبُ مِنْ إِحْدَاهُمَا = أو مِنْهُمَا بلْ ليسَ يَنْتَفِيَانِ
لَكِنَّمَا الشَّرْعِيُّ مَحْبُوبٌ لَهُ = أَبَداً ولنْ يَخْلُو من الأكوانِ
هوَ أَمْرُهُ الدِّينِيُّ جَاءَتْ رُسْلُهُ = بِقِيَامِهِ في سائِرِ الأزمانِ
لَكِنَّمَا الكَوْنِيُّ فَهْوَ قَضَاؤُهُ = في خلقِهِ بالعَدْلِ والإحسانِ
هُوَ كُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ ذُو رِضاً = والشأنُ في المَقْضِيِّ كلُّ الشَّانِ
فَلِذَاكَ نَرْضَى بالقضاءِ وَنَسْخَطُ الْـ = مَقْضِيَّ حينَ يكونُ بالعصيانِ
فاللهُ يَرْضَى بالقضاءِ وَيَسْخَطُ الـ = مَقْضِيَّ ما الأمرانِ مُتَّحِدَانِ
فَقَضَاؤُهُ صفةٌ بهِ قامَتْ وَمَا الـ = مَقْضِيُّ إلاَّ صنعةُ الإنسانِ
والكونُ مَحْبُوبٌ ومبغوضٌ لَهُ = وكلاهُمَا بِمَشِيئَةِ الرحمنِ
هذا البيانُ يُزِيلُ لَبْساً طَالَمَا = هَلَكَتْ عليهِ الناسُ كلَّ زَمَانِ
وَيَحُلُّ مَا قَدْ عَقَّدُوا بأُصُولِهِم = وَبُحُوثِهِم فَافْهَمْهُ فَهْمَ بَيَانِ
مَنْ وَافَقَ الكَوْنِيَّ وَافَقَ سُخْطَهُ = [إِنْ] (14) لَمْ يُوَافِقْ طَاعَةَ الدَّيَّانِ
فلذاكَ لا يَعْدُوهُ ذَمٌّ أوْ فَوَا = تُ الحمدِ معْ أَجْرٍ وَمَعْ رِضْوَانِ
وَمُوَافِقُ الدِّينِيِّ لا يَعْدُوهُ أَجْـ = ـرٌ بلْ لهُ عندَ الصوابِ اثْنَانِ
[فَصْل]:
والحكمةُ العُلْيَا على نَوْعَيْنِ أَيْــ = ـضاً حُصِّلاَ بقواطِعِ البرهانِ
إِحْدَاهُمَا فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ = نَوْعَانِ أَيْضاً ليسَ يَفْتَرِقَانِ
إِحْكَامُ هذا الخَلْقِ إذْ إِيجَادُهُ = في غايَةِ الإحكامِ والإتْقَانِ
وَصُدُورُهُ مِنْ أَجْلِ غَايَاتٍ لَهُ = وَلَهُ عليها حَمْدُ كلِّ لِسَانِ
وَالحكمةُ الأُخْرَى فَحِكْمَةُ شَرْعِهِ = أيضاً وفيها ذَانِكَ الوَصْفَانِ
غَايَاتُهَا اللاَّتِي حُمِدْنَ وَكَوْنُهَا = فِي غايَةِ الإتقانِ والإحسانِ)([15]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/187) .
([2]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/67) .
([3]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/187) .
([4]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/55) .
([5]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/409) .
([6]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (2/191) .
([7]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/427) .
([8]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/87) .
وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/428): (و.... الحكمةُ هي الغايةُ التي يُفْعَلُ لأجلِها وتكونُ هي المطلوبةُ بالفعلِ ويكونُ وُجودُها أَوْلَى مِن عَدَمِها).
([9]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/427) .
([10]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (147) .
([11]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (97) .
([12]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (114) .
([13]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/53)
وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في مَدارجِ السَّالكِينَ (2/450 - 451): (فإنه سُبحانَهُ هو الجَوَادُ الذي لا يَنْقُصُ خَزائِنَهُ الإنفاقُ، ولا يَغِيضُ ما في يَمِينِهِ سَعةُ عَطائِه. فما مَنَعَ مَنْ مَنَعَهُ فَضْلَهُ إلا لحكمةٍ كاملةٍ في ذلك فإنه الجَوادُ الحكيمُ وحِكْمَتُهُ لا تُناقِضُ جُودَهُ فهو سبحانه لا يَضَعُ بِرَّهُ وفَضْلَهُ إلا في موضِعِه ووَقْتِهِ، بقدرِ ما تقتضيهِ حِكْمَتُهُ. ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعبادِه لَفَسَدُوا وهَلَكُوا. ولو عَلِمَ في الكفارِ خيرًا وقَبُولاً لنِعْمَةِ الإيمانِ، وشُكْرًا له عليها، ومَحبةً له واعترافًا بها، لَهَداهُم إلى الإيمانِ. ولهذا لمَّا قالُوا للمؤمنينَ {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}) أجابَهُم بقولِه {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
سَمِعْتُ شَيْخَ الإسلامِ ابنَ تَيْمِيَةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ يَقُولُ: هُمُ الذين يَعْرِفُونَ قَدْرَ نعمةِ الإيمانِ، ويشكرونَ الله عليها.
فهو سبحانه ما أَعْطَى إلا بحكمتِه. ولا منعَ إلا بحكمتِه، ولا أضلَّ إلا بحكمَتِه. وإذا تأملَ البصيرُ أحوالَ العالمَ ِوما فيه من النقصِ: رآهُ عينَ الحكمةِ. وما عُمِّرَتِ الدنيا والآخرةُ والجنةُ والنارُ إلا بحِكْمَتِهِ.
وفي الحكمةِ ثلاثةُ أقوالٍ للناسٍ:
أحدُها: أنها مُطابَقَةُ عِلمِه لمَعْلُومِه، وإرادتِه ومَشيئَتِه لمُرادِه. هذا تفسيرُ الجبريَّةِ. وهو في الحقيقةُ نَفْيُ حِكْمَتِه. إذ مطابقةُ المَعْلُومِ والمرادِ، أَعَمُّ من أن يَكُونَ ((حِكْمَةً)) أو خِلافُها، فإن السفيهَ مِن العبادِ: يُطابِقُ عِلْمُه وإِرادَتُه لِمَعْلُومِهِ ومُرادِهِ. معَ كَوْنِهِ سَفِيهًا.
الثاني – مَذْهَبُ القَدَرِيَّةِ النُّفاةِ: أنها مَصالِحُ العبادِ ومَنافِعُهُم العائدةُ عليهم. وهو إنكارٌ لوصفِهِ تَعالَى بالحِكْمَةِ.
ورَدُّوها إلى مخلوقٍ مِن مَخْلُوقَاتِه.
الثالثُ قولُ أهلِ الإثباتِ والسُّنَّةِ: إنها الغاياتُ المحمودةُ المطلوبةُ له سُبحانَهُ بخَلْقِه وأَمْرِهِ، التي أَمَرَ لأَجْلِهَا، وقَدَّرَ وخَلَقَ لأَجْلِهَا. وهي صِفَتُهُ القائمةُ به كسائِرِ صِفاتِه: مِن سَمْعِه وبَصَرِهِ، وقُدرَتِه، وإِرادَتِه وعِلمِه وحَياتِه وكلامِه.
وللردِّ على طائفِتَيِ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ مَوضِعٌ غيرُ هذا. واللهُ أَعْلَمُ).
(14) في الأصلِ (أفَلَمْ) ولعلَّ الصوابَ ما أَثْبَتُّهُ.
([15]) توضيحُ المقاصِدِ لابنِ عِيسَى (2/218-219، 225-226) .