معاني النسخ في الكتاب والسنة
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ): (وأمّا النّسخ فإنّ له ثلاثة مواضع في الكتاب والسّنّة، ولكلّها شواهد ودلائل:
فأحدها: نسخ القرآن ممّا يعمل به، وهو علم النّاسخ من المنسوخ، والشّاهد عليه ما فسّره ابن عبّاسٍ في حديثه الّذي ذكرناه: أنّه إبدال الآية مكان الآية، ثمّ أوضحه مجاهدٌ، فقال: يثبت خطّها ويبدّل حكمها، فهذا هو المعروف عند العالم أنّ الآية النّاسخة والمنسوخة جميعًا ثابتتان في التّلاوة وفي خطّ المصحف، إلّا أنّ المنسوخة منهما غير معمولٍ بها، والنّاسخة هي الّتي أوجب اللّه عزّ وجلّ على النّاس اتّباعها والأخذ بها.
وأمّا النّسخ الثّاني: فأن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها، فتكون خارجةً من قلوب الرّجال، ومن ثبوت الخطّ والشّاهد عليه أحاديث عدّةٌ
- قال عبد اللّه بن صالحٍ، عن اللّيث، عن عقيلٍ , ويونس، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيفٍ، في مجلس سعيد بن المسيّب: أنّ رجلًا، كانت معه سورةٌ، فقام يقرؤها من اللّيل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرؤها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعضهم: يا رسول اللّه، قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا، فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول اللّه ما جئت إلّا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول اللّه؛ فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّها - أو قال: - نسخت البارحة)).
وزاد عقيلٌ في حديثه قال: وابن المسيّب جالسٌ لا ينكر ذلك.
قال أبو عبيدٍ: فقد تبيّن في هذا الحديث أنّ النّسخ هو رفع السّورة، وكذلك حديثه الآخر
- حدّثنا أبو المنذر إسماعيل بن عمر الواسطيّ، عن سفيان، عن سلمة بن كهيلٍ، عن ذرٍّ، عن عبد الرّحمن بن أبزى قال: صلّى رسول.... موضعه، فهذا هو المستعمل في كلام العوام، وله مع هذا شاهدٌ من القرآن
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ
في قوله عزّ وجلّ: {إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية: 29] قال: قال ابن عبّاسٍ: «ألستم قومًا عربًا هل تكون النّسخة إلّا من أصلٍ قد كان قبل ذلك»
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر} [الأنبياء: 105] قال: «الزّبور والتّوراة والإنجيل والقرآن، والذّكر هو الأصل الّذي نسخت منه هذه الكتب» قال أبو عبيدٍ: فهذان الحديثان لا معنى للنّسخ فيهما إلّا الاكتتاب من شيءٍ في آخر سواه، وإيّاه أراد عطاءٌ بقوله: {ما ننسخ من آيةٍ} [البقرة: 106] قال: هو ما نزل من القرآن). [الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز:14- 17]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب النّسخ على كم يكون من ضربٍ
أكثر النّسخ في كتاب اللّه جلّ وعزّ على ما تقدّم في الباب الّذي قبل هذا أن يزال الحكم بنقل العباد عنه مشتقٌّ من نسخت الكتاب ويبقى المنسوخ متلوًّا قال أبو جعفرٍ: كما حدّثنا محمّد بن جعفرٍ الأنباريّ، قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، قال: حدّثنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {ما ننسخ من آيةٍ} [البقرة: 106] قال: «نزيل حكمها ونثبت خطّها»
ونسخٌ ثانٍ قال أبو جعفرٍ: كما حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا ابن ديسمٍ، قال: حدّثنا أبو عمرٍو الدّوريّ، عن الكسائيّ، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} قال: " في تلاوته {فينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان} [الحج: 52] قال: يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف " قال أبو جعفرٍ: " وهذا مشتقٌّ من نسخت الشّمس الظّلّ، وقد زعم أبو عبيدٍ أنّ هذا النّسخ الثّاني قد كان ينزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السّورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب واحتجّ أبو عبيدٍ بأحاديث صحيحة السّند وخولف أبو عبيدٍ فيما قال، والّذين خالفوه على قولين
منهم من قال: لا يجوز ما قال ولا يسلب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئًا من القرآن بعدما نزل عليه واحتجّوا بقوله جلّ وعزّ {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86] .
والقول الآخر أنّ أبا عبيدٍ قد جاء بأحاديث إلّا أنّه قد غلط في تأويلها لأنّ تأويلها على النّسيان لا على النّسخ .
وقد تأوّل مجاهدٌ وقتادة {أو ننسها} [البقرة: 106] على هذا من النّسيان وهو معنى قول سعد بن أبي وقّاصٍ وفيه قولان آخران:
أحدهما: عن ابن عبّاسٍ قال {ما ننسخ من آيةٍ} [البقرة: 106] «نرفع حكمها» {أو ننسها} [البقرة: 106] نتركها فلا ننسخها.
وقيل {ننسها} [البقرة: 106] نبيح لكم تركها
وعلى قراءة البصريّين {ننسأها} أحسن ما قيل في معناه أو نتركها ونؤخّرها فلا ننسخها.
ونسخٌ ثالثٌ، وهو من نسخت الكتاب لم يذكر أبو عبيدٍ إلّا هذه الثّلاثة
وذكر غيره رابعًا فقال: تنزل الآية وتتلى في القرآن ثمّ تنسخ فلا تتلى
في القرآن ولا تثبت في الخطّ ويكون حكمها ثابتًا
كما روى الزّهريّ، عن عبيد اللّه، عن ابن عبّاسٍ، قال: خطبنا عمر بن
الخطّاب رضي اللّه عنه قال: «كنّا نقرأ الشّيخ والشّيخة إن زنيا فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذّة»
قال أبو جعفرٍ: وإسناد الحديث صحيحٌ إلّا أنّه ليس حكمه حكم القرآن الّذي نقله الجماعة عن الجماعة ولكنّه سنّةٌ ثابتةٌ وقد يقول الإنسان: كنت أقرأ كذا لغير القرآن والدّليل على هذا أنّه قال:
[ولولا أنّي أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدتها ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/429-439]