العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > الإيمان بالقرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #2  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 06:46 AM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي بيان وجوب الإيمان بالقرآن الكريم

مناظرة عبد العزيز بن يحيى المكّيّ لبشر بن غياثٍ المرّيسيّ بحضرة المأمون
..

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر مناظرات الممتحنين بين أيدي الملوك الجبّارين الّذين دعوا النّاس إلى هذه الضّلالة
مناظرة عبد العزيز بن يحيى المكّيّ لبشر بن غياثٍ المرّيسيّ بحضرة المأمون
أخبرنا الشّيخ الإمام أبو الحسين عليّ بن عبيد اللّه بن نصر بن الزّاغونيّ، قال: أخبرنا الشّيخ أبو القاسم عليّ بن أحمد بن محمّد بن عليّ بن البسريّ، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه عبيد اللّه بن محمّد بن محمّد بن حمدان بن بطّة رضي اللّه عنه إجازةً، قال:
- حدّثنا أبو حفصٍ عمر بن محمّد بن رجاءٍ قال: حدّثنا أبو أيّوب عبد الوهّاب بن عمرٍو النّزليّ، قال: حدّثني أبو القاسم العطّاف بن مسلمٍ، قال: حدّثني الحسين بن بشرٍ، ودبيسٌ الصّائغ، ومحمّد بن فرقدٍ، قالوا: قال لنا عبد العزيز بن يحيى المكّيّ الكنانيّ: أرسل لي أمير المؤمنين المأمون فأحضرني، وأحضر بشر بن غياثٍ المرّيسيّ فدخلنا عليه، فلمّا جلسنا بين يديه قال: إنّ النّاس قد أحبّوا أن تجتمعا وتتناظرا، فأردت أن يكون ذلك بحضرتي فأصّلا فيما بينكما أصلًا إن اختلفتما في فرعٍ رجعتما إلى الأصل، فإن انقضي فيما بينكما أمره إلّا كانت لكما عودةٌ.
قال عبد العزيز: " قلت: يا أمير المؤمنين إنّي رجلٌ لم يسمع أمير المؤمنين كلامي قبل هذا اليوم، وقد سمع كلام بشرٍ ودار في مسامعه، فصار دقيق كلامه جليلًا عند أمير المؤمنين وفي بعض كلامي دقّةٌ، فإن رأى أمير المؤمنين أن أتكلّم فأقدّم من كلامي شيئًا يتبيّن به الكلمة الّتي تدقّ على سامعها ولا تغبي إذا طرّت على أهل المجلس قال: ونزّهته أن أواجهه بها "
فقال: قل يا عبد العزيز.
قال: " قلت: يا أمير المؤمنين إنّه من ألحد في كتاب اللّه جاحدًا أو زائدًا، لم يناظر بالتّأويل ولا بالتّفسير ولا بالحديث "
قال: فبم يناظر؟
قلت له: " بالتّنزيل. قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {كذلك أرسلناك في أمّةٍ قد خلت من قبلها أممٌ لتتلو عليهم الّذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرّحمن} [الرعد: 30] " وقال: {إنّما أنذركم بالوحي} [الأنبياء: 45]، وقال لليهود حين ادّعت تحريم أشياء لم يحرّمها: {قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]، وإنّما يكون التّأويل والتّفسير لمن قرأ التّنزيل، فأمّا من ألحد في تنزيل القرآن وخالفه، لم يناظر بتأويله ولا بالحديث.
قال عبد العزيز: " فقال المأمون: أو يخالفك في التّنزيل؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، يخالفني في التّنزيل، أو ليتركنّ قوله " قال: فقال: سله.
قلت له: «يا بشر ما حجّتك بأنّ القرآن مخلوقٌ؟ انظر أحدّ سهمٍ في كنانتك فارمني به، ولا تكن بك حاجةٌ إلى معاودةٍ».
فقال: قوله {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62] .
قال: " فقلت للمأمون: يا أمير المؤمنين من أخذ بمكيالٍ فعليه أن يعطي به " فقال لي: ذاك يلزمه.
فقال له: أخبرني عن قوله: {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62]، هل بقي شيءٌ لم يأت عليه هذا الخبر؟
فقال لي: لا.
قلت له: أخبرني عن علم اللّه الّذي أخبر عنه في خمسة مواضع، فقال: في البقرة {ولا يحيطون بشيءٍ من علمه} [البقرة: 255]، وقال في النّساء {لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [النساء: 166]، وقال {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنّما أنزل بعلم اللّه} [هود: 14]، وقال في فاطر {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه} [فاطر: 11]، وقال في سجدة المؤمن {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه} [فاطر: 11] أفمقرٌّ أنت أنّ للّه علمًا كما أخبر عن علمه أو تخالف التّنزيل؟
قال عبد العزيز: " فحاد بشرٌ عن جوابي وأبى أن يصرّح بالكفر، فيقول: ليس للّه علمٌ، فأرجع بالمسألة وعلم ما يلزمه فأقول له: أخبرني عن علم اللّه داخلٍ في قوله {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62]، فلزم الحيدة واجتلب كلامًا لم أسأله عنه، فقال: معنى ذلك لا يجهل. فقلت: يا أمير المؤمنين فلا يكون الخبر عن المعنى قبل الإقرار بالشّيء يقرّ أنّ للّه علمًا، فإن سألته ما معنى العلم ليس هذا ممّا أسأله عنه، فيجيب بهذا إن كان هذا جوابًا حاد عن الجواب ولزم سبيل الكفّار.
فقال لي بشرٌ: وتعرف الحيدة؟
قال: قلت: نعم، إنّي لأعرف الحيدة من كتاب اللّه وهي سبيل الكفّار الّتي اتّبعتها "
فقال لي المأمون: والحيدة نجدها في كتاب اللّه؟
قلت: نعم، وفي سنّة المسلمين، وفي اللّغة.
فقال لي: فأين هي من كتاب اللّه؟
قال عبد العزيز: " قلت: إنّ إبراهيم عليه السّلام، قال لقومه: {هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون} [الشعراء: 73]، فكانوا بين أمرين: أن يقولوا: يسمعوننا حين ندعو أو ينفعوننا أو يضرّوننا، فيشهد عليهم من يسمع قولهم أنّهم قد كذبوا، أو يقولوا: لا يسمعوننا حين ندعو ولا يضرّوننا ولا ينفعوننا، فينفوا عن آلهتهم المقدرة، فبأيّ الخبرين أجابوا كانت الحجّة عليهم لإبراهيم عليه السّلام، فحادوا عن جوابه واجتلبوا كلامًا من غير فنّ كلامه، فقالوا: {وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74]، ولم يكن هذا جوابًا عن مسألة إبراهيم، ويروى أنّ عمر بن الخطّاب، قال لمعاوية وقد قدم عليه فنظر إليه يكاد يتفقّا شحمًا، فقال: ما هذه الشّحمة يا معاوية، لعلّها من نومة الضّحى وردّ الخصم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذًا تصونني يرحمك اللّه، فقد صدّق بشرٌ أنّ اللّه لا يجهل، إنّما سألته أن يقرّ بالعلم الّذي أخبر اللّه عنه، فأبى أن يقرّ به وحاد عن جوابي إلى نفي الجهل، فليقل: إنّ للّه علمًا وأنّ اللّه لا يجهل، ثمّ التفت إليّ بشرٌ فقلت: يا بشر أنا وأنت نقول أنّ اللّه لا يجهل، وأنا أقول أنّ للّه علمًا وأنت تأبى أن تقول، فدع ما تقول، وأقول ما لا يقول ولا أقول، وإنّما مناظرتي إيّاك فيما أقول ولا تقول، أو تقول ولا أقول، قال: وهو في ذلك يأبى أن يقرّ أنّ للّه علمًا، ويقول: إنّ اللّه لا يجهل، فلمّا أكثر، قلت: يا أمير المؤمنين إنّ نفي السّوء لا يثبت المدحة، وكنت متّكئًا على أسطوانةٍ، قلت: هذه الأسطوانة لا تجهل ولا تعلم، فليس نفي الجهل بإثباتٍ للعلم، فإثباته ما أثبت اللّه أولى به لأنّ على النّاس أن يثبتوا ما أثبت اللّه، وينفوا ما نفى اللّه، ويمسكوا حيث أمسك اللّه. ثمّ قلت: يا أمير المؤمنين لم يمدح اللّه ملكًا ولا نبيًّا ولا مؤمنًا بنفي الجهل، بل دلّ على إثبات العلم، فقال تعالى للملائكة {كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 11]، ولم يقل: لا يجهلون. وقال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتّى يتبيّن لك الّذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43] . وقال {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} [فاطر: 28]، ولم يقل: الّذين لا يجهلون، فمن أثبت العلم نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، فما اختار بشرٌ للّه اختار اللّه لنفسه، ولا من حيث اختار لملائكته ولرسله وللمؤمنين؟
فقال لي أمير المؤمنين: فإذا أقرّ أنّ للّه علمًا يكون ماذا؟
قلت: يا أمير المؤمنين اسأله عن علم اللّه، أداخلٌ هو في جملة الأشياء المخلوقة حين احتجّ بقوله {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62] وزعم أنّه لم يبق شيءٌ إلّا وقد أتى عليه هذا الخبر، فإن قال: نعم، فقد شبّه اللّه بخلقه الّذين أخرجهم اللّه من بطون أمّهاتهم لا يعلمون شيئًا، وكلّ من تقدّم وجوده علمه فقد دخل عليه الجهل فيما بين وجوده إلى حدوث علمه، وهذه صفة المخلوقين الّذين أخرجهم اللّه من بطون أمّهاتهم لا يعلمون شيئًا، فيكون بشرٌ قد شبّه اللّه بخلقه "،
فقال لي أمير المؤمنين: أحسنت أحسنت يا عبد العزيزثمّ التفت إلى بشرٍ، فقال: يأبى عليك عبد العزيز إلّا أن تقرّ أنّ للّه علمًا، " ثمّ قال لي أمير المؤمنين: تقول إنّ اللّه عالمٌ؟
قلت: نعم. "
قال: وتقول أنّ للّه علمًا؟
قلت: «نعم» .
قال: تقول أنّ اللّه سميعٌ بصيرٌ؟
قلت: «نعم يا أمير المؤمنين»
قال: فتقول أنّ للّه سمعًا وبصرًا كما قلت أنّ للّه علمًا؟
قال: " قلت: لا يا أمير المؤمنين "
فقال لي: فرّق بين هذين.
قال: فأقبل بشرٌ، فقال: يا أمير المؤمنين يا أفقه النّاس يا أعلم النّاس يقول اللّه عزّ وجلّ: {بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ ولكم الويل ممّا تصفون} [الأنبياء: 18] .
قال: " قلت: قد قدّمت إلى أمير المؤمنين فيما احتججت به أنّ على المؤمنين أن يثبتوا ما أثبت اللّه وينفوا ما نفى اللّه، ويمسكوا ما أمسك اللّه، فأخبرني اللّه أنّه عالمٌ، فقلت: إنّه عالمٌ بقوله {عالم الغيب والشّهادة} [الأنعام: 73]، وأخبرني أنّ له علمًا بقوله {فاعلموا أنّما أنزل بعلم اللّه} [هود: 14]، وأخبرني أنّه سميعٌ بصيرٌ، فقلت بالخبر ولم يخبرني أنّ له سمعا وبصرًا، فأمسكت "
فقال المأمون: ما هو مشبّهًا، لا تكذبوا عليه.
فقال لي بشرٌ: فما معنى العلم لو أنّ رجلين وردا عليك فقالا ما معنى العلم؟ فحلف أحدهما بالطّلاق أنّ العلم هو اللّه، وقال الآخر: أنّ العلم غير اللّه، ما كان جوابك؟
قلت: أمّا مسألتك إيّاي ما معنى العلم، فإنّك تسألني عمّا لم يخبرني اللّه به ولم يخبر أحدًا، فأمرتني أن أقول على اللّه ما لم أعلم كما أمر الشّيطان، فأولى الأمرين بي أن أمسك عمّا حرّم اللّه عليّ أن أقول به، وأمرني الشّيطان أن أقوله. قال اللّه عزّ وجلّ {إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا باللّه ما لم ينزّل به سلطانًا وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] . وقال {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ إنّما يأمركم بالسّوء والفحشاء وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون} [البقرة: 168] ثمّ أقبلت على المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ بشرًا قد علم أنّه قد أفحم فلم يكن عنده جوابٌ، فيسأل عمّا لم يكن له أن يسأل عنه ولا يكون لي أن أجيب عنه، فأراد أن يقول إنّ عبد العزيز سأل بشرًا عن مسألةٍ فلم يجبه، فأنا وبشرٌ يا أمير المؤمنين من مسألتي ومسألته على غير السّواء، سألته عمّا أعلمه اللّه به ووقّعه عليه بالإعلام وتعبّده بالإيمان لقوله {وقل آمنت بما أنزل اللّه من كتابٍ} [الشورى: 15]، فأبى أن يقرّ به، وسألني عن معنى العلم وقد ستر اللّه ذلك عنّي وعنه، وإنّما يدخل النّقص عليّ لو كان بشرٌ يعلم أو أحدٌ من العلماء ما العلم، فأمّا ما نجتمع أنا وبشرٌ والخلق في الجهل بمعرفته، فلم يكن الضّرر داخلًا عليّ دونه، وهذه مسألةٌ لا يحلّ لمؤمنٍ أن يسأل عنها ولمؤمنٍ أن يجيب فيها، لأنّ اللّه عزّ وجلّ أمسك عن أن يخبر كيف علمه، فلم يكن لأحدٍ أن يتكلّفه ولا يخبر عنه ولا لسائلٍ أن يسأل عنه، فلمّا كان علينا أن نقول سميعًا بصيرًا، قلنا، وليس لنا أن نقول: سمعٌ وبصرٌ.
قال عبد العزيز: " وقلت لبشرٍ: حين تسألني ما معنى العلم وتشير عليّ أن أقول على اللّه ما لم يقله، هل تجوز هذه المسألة في خلقٍ من خلق اللّه؟ قد قال اللّه عزّ وجلّ {إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم} [آل عمران: 44]، فلو ورد عليّ ثلاثة نفرٍ فحلف أحدهم أنّ الأقلام خشبٌ، وحلف الآخر أنّها قصبٌ، وحلف الآخر أنّها خوصٌ، كان عليّ أن أميّز بين قول هؤلاء؟ وقال اللّه عزّ وجلّ: {فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى كوكبًا} [الأنعام: 76]، فلو ورد عليّ رجلان فحلف أحدهما أنّه الزّهرة، وحلف الآخر أنّه المشتري، أكان عليّ أن أنظر بين هذين أيّهما المصيب من المخطئ؟ وقال اللّه عزّ وجلّ {فأذّن مؤذّنٌ بينهم أن لعنة اللّه على الظّالمين} [الأعراف: 44]، فلو أن ثلاثة نفرٍ حلفوا فقال أحدهم: المؤذّن ملكٌ، وقال الآخر: هو إنسيٌّ، وقال الآخر: هو جنّيٌّ، كان عليّ أو على أحدٍ من النّاس أن يقضي بينهم إلّا أن يكون اللّه أخبر في كتابه كيف ذلك وعلى لسان نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ وإذا لم يوجد شيءٌ من هذا عن اللّه ولا عن رسوله، لم يكن لأحدٍ أن يصل الخبر بتفسيرٍ من تلقاء نفسه، فإذا كان هذا لا يجوز في خلقٍ من خلق اللّه، كيف تجوز المسألة في اللّه وقد حرّم اللّه عزّ وجلّ على النّاس أن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون؟ "
قال عبد العزيز: " ورأيته قد حار في يديّ، فقلت: يا أمير المؤمنين احتجّ بشرٌ بقوله تعالى {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62]، فليعط بالمكيال الّذي أراد أن يأخذ به إن كان صادقًا " قال اللّه عزّ وجلّ {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116]، {كتب ربّكم على نفسه الرّحمة} [الأنعام: 54] وقال {ويحذّركم اللّه نفسه} [آل عمران: 28] وقال {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41]، فأخبر أنّ له نفسًا. وقال {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [العنكبوت: 57]، فلو أنّ ملحدًا ألحد عليّ وعلى بشرٍ، فقال: قد أخبر اللّه أنّ كلّ نفسٍ ذائقة الموت، وأنّ له نفسًا، ما كانت الحجّة لي وله عليه.
قال: فقال بشرٌ: إن كنت تريد نفس ضميرٍ أو توهّم جارحةٍ؟ فقلت: كم ألقي إليك أنّي أقول بالخبر وأمسك عن علم ما ستر عنّي، وإنّما أقول: إنّ للّه نفسًا كما قال، فليكن معناها عندك ما شئت، أهي داخلةٌ في قوله {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [العنكبوت: 57] ؟ إلى كم تفرّ إلى المعاني؟ انظر هل أجري معك حيث تجري؟
قال: فقال المأمون: ويحك يا عبد العزيز كيف هذا؟
قلت: " يا أمير المؤمنين إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل القرآن بأخبارٍ خاصّةٍ وعامّةٍ، ففيها ما يكون مخرجها مخرج العموم ومعناها معنى العموم، ومنه خبرٌ مخرج لفظه مخرجٌ خاصٌّ ومعناه معنًى خاصٌّ، منهما خبران محكمان لا ينصرفان بإلحاد ملحدٍ، ومن القرآن خبرٌ مخرج لفظه خاصٌّ ومعناه عامٌّ، وخبرٌ مخرج لفظه عامٌّ ومعناه خاصٌّ، وفي هذه دخلت الشّبه على من لم يعرف خاصّ القرآن وعامّه، فأمّا الخبر الّذي مخرجه عامٌّ ومعناه عامٌّ، فقوله: {وله كلٌّ شيءٍ} [النمل: 91] فجمع هذا الخبر الخلق والأمر فلم يبق شيءٌ إلّا وقد أخبر أنّه له، فمخرجه عامٌّ ومعناه عامٌّ، أمّا الخبر الّذي مخرجه خاصٌّ ومعناه خاصٌّ فما قدّم في عيسى عليه السّلام أنّه خلق من غير أبٍ، وفي آدم عليه السّلام، وقال: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]، فلم يتوهّم مؤمنٌ أنّ اللّه عزّ وجلّ عنى آدم وعيسى " وأمّا الخبر الّذي مخرجه خاصٌّ ومعناه عامٌّ، فهو قوله {وأنّه هو ربّ الشّعرى} [النجم: 49]، فهو ربّ الشّعرى وغير الشّعرى. وأمّا الخبر الّذي معناه خاصٌّ، فهو قوله {إلّا آل لوطٍ نجّيناهم بسحرٍ} [القمر: 34]، إنّما كان معناه خاصًّا، لأنّ امرأة لوطٍ لم تعن، ولمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ القرآن على معاني هذه الأخبار، لم يتركها أشباهًا على النّاس، ولكن بيانها خاصٌّ لقومٍ يفهمون، وإذا أنزل اللّه خبرًا مخرج لفظه خاصٌّ ومعناه عامٌّ، بيّن في أكثر ذلك ما بيّنه بأحد بيانين: إمّا أن يستثني من الجملة شيئًا فيكون بيانًا للنّاس أكملهم. أو يقدّم خبرًا خاصًّا فلا يعنيه، فإذا أنزل خبرًا عامًا لم يتوهّم عالمٌ أنّه عني في خبره العامّ خلاف ما خصّه ونصّه.
وأمّا الخبر الّذي بيّن له على العموم ثمّ يستثني ما لم يعنه، فهو قوله {فلبث فيهم ألف سنةٍ إلّا خمسين عامًا} [العنكبوت: 14]، فعقل المؤمنون أنّ الألف سنةٍ لم يستكملها نوحٌ في قومه قبل الطّوفان بقول اللّه عزّ وجلّ {إلّا خمسين عامًا} [العنكبوت: 14]، فكان ابتداء لفظه عامًّا ومعناه خاصٌّ بالاستثناء. وأمّا الخبر الخاصّ الّذي لا يجري عليه الخبر العام، فهو كقوله في إبليس {لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين} [ص: 85]، وقال {ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ} [الأعراف: 156]، فعقل أهل العلم، عن اللّه أنّه لم يعن إبليس بقوله {ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ} [الأعراف: 156]، لما قدّم فيه من الخبر الخاصّ باليأس من رحمة اللّه لأنّ من سنّته أن لا يترك الّذي لا يعني حتّى يخرجه بالاستثناء أو محاشاةٍ، فيقدّم فيه خبرًا كقوله {إنّا مهلكو أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين} [العنكبوت: 31] . قال إبراهيم عليه السّلام: {إنّ فيها لوطًا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلّا امرأته كانت من الغابرين}، فاستثنى لوطًا من أهل القرية، واستثنى امرأة لوطٍ من آل لوطٍ وقال في موضعٍ آخر {إلّا امرأته قدّرناها من الغابرين} [النمل: 57] وقال {منجّوك وأهلك إلّا امرأتك} [العنكبوت: 33]، فخصّ المرأة بالهلاك، وأنزل خبرًا مخرجه مخرجٌ عامٌّ، ومعناه خاصٌّ، فقال {إلّا آل لوطٍ نجّيناهم بسحرٍ} [القمر: 34]، فعقل المؤمنون عن اللّه أنّه لم يعن امرأة لوطٍ بالنّجاة، لما قدّم فيها من الخبر الخاصّ بالهلكة، وكذلك حين قدّم في نفسه خبرًا خاصًّا، فقال {وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت} [الفرقان: 58] . ثمّ قال {كلّ نفسٍ ذائقة الموت} [العنكبوت: 57] لم يكن لأحدٍ أن يتوهّم على اللّه أنّه عنى نفسه، وكذلك حين قدّم في قوله خبرًا خاصًّا، فقال {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]، فدلّ على قوله باسم معرفةٍ وعلى الشّيء باسم نكرةٍ فكانا شيئين متفرّقين، فقال {إذا أردناه} [النحل: 40] ولم يقل: إذا أردناهما ولم يقل أن يقول لهما ثمّ قال كن فيكون، ففرّق بين القول والشّيء المخلوق. ثمّ قال {خالق كلّ شيءٍ} [الزمر: 62]، فعقل أهل العلم عن اللّه أنّه لم يعن قوله في جملة الأشياء المخلوقة حين قدّم فيه خبرًا أنّه خلق الأشياء بقوله، وإنّما غلط بشرٌ يا أمير المؤمنين ومن قال بقوله بخاصّ القرآن وعامّه.
قال عبد العزيز: " ثمّ أقبلت على المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ بشرًا خالف كتاب اللّه وسنّة رسوله، وإجماع أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم "
فقال: أوفعل ذلك؟ .
قلت: «نعم يا أمير المؤمنين، أوقفك عليه السّاعة» .
فقال لي: كيف؟ .
قلت: " إنّ اليهود ادّعت تحريم أشياء في التّوراة، فقال اللّه عزّ وجلّ {قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] فإذا تليت التّوراة فلم يوجد ما ادّعوا، كان إمساك التّوراة مسقطًا لدعواهم، وكذلك يقال لبشرٍ: اتل بما قلت قرآنًا وإلّا فإنّ إمساك القرآن بما تدّعي مسقطٌ لدعواك، وكذلك تنظر في سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإن كانت معه سنّةٌ من رسول اللّه وإلّا كان إمساك سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسقطٌ لدعواه، وأمّا خلافه أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّ أصحاب محمّدٍ اختلفوا في الحلال والحرام ومخارج الأحكام، فلم يخطّئ بعضهم بعضًا فهم من أن يبدّع بعضهم بعضًا أبعد، وهم من أن يكفّر بعضهم بعضًا بالتّأويل أبعد، وبشرٌ ادّعى على الأمّة كلّها كلمةً تأوّلها، ثمّ زعم أنّ من خالفه كافرٌ، فهو خارجٌ من إجماع أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم "
قال بشرٌ: ما ادّعيت إلّا نصّ التّنزيل. قال: " قلت له: هات، فأنا أوّل من يقول بقولك إن كان معك تنزيلٌ ومن خالف فكافرٌ "
قال: فقال محمّد بن الجهم: أولا تقبل منه إلّا نصّ القرآن؟
قلت: لا، لأنّه إذا تأوّل فلخصمه أن يتأوّل معه.
قال: فقال لي محمّد بن الجهم: ومن أين لك من القرآن أنّ هذا الحصير مخلوقٌ؟ قلت: هو في القرآن من حيث لا تعلم، وقد أخبر اللّه أنّه خلق الأنعام وخلق الشّجرة، وهذا الحصير من الشّجر ومن جلود الأنعام، فمعك أنت شيءٌ تخبرني أنّ القرآن من ذلك الشّيء الّذي خلقه اللّه؟ . قال بشرٌ: معي نصّ القرآن. قال: فقلت: فكيف لم تأتني به أوّلًا حين قلت لك: ارمني بأحدّ سهمٍ في كنانتك؟ قال: فقال نعم، قول اللّه عزّ وجلّ {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3] قلت: لا أعلم أحدًا من المؤمنين لا يقول إنّ اللّه قد جعل القرآن عربيًّا وكلّ المؤمنين يقولون: إنّ اللّه قد جعل القرآن عربيًّا، فقد قالوا معك بالتّنزيل ولم يخالفوا التّنزيل، وأنت إنّما كفّرت القوم بمعنى جعل لأنّ معنى جعل عندك معنى خلق.
قال بشرٌ: ما بين جعل وخلق فرقٌ. قلت لبشرٍ: أخبرني عن جعل عندك حرفٌ محكمٌ لا يحتمل إلّا معنى خلق؟ قال: نعم، لا يعقل جعل في لغةٍ من اللّغات إلّا معنى خلق.
قلت: فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ {وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلًا} [النحل: 91]، معناه معنى خلقتم؟ أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ {ولا تجعلوا اللّه عرضةً لأيمانكم} [البقرة: 224]، معناه: لا تخلقوا؟ أخبرني عن قوله {لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63] . معناه: لا تخلقوا؟ .
قال: فقال لي المأمون: فما معناه؟
قال: قلت: يا أمير المؤمنين هذا رجلٌ جاهلٌ بلغة قومك، إنّ جعل في كتاب اللّه يحتمل معنيين: معنى خلق، ومعنى تصيير غير خلق، فلمّا كان خلق حرفًا محكمًا لا يحتمل معنيين، ولم يكن من صناعة العباد، لم يتعبّد اللّه الخلق به، فيقول: اخلقوا أو لا تخلقوا، إذ لم يكن الخلق من صناعة المخلوقين، ولمّا كان جعل يحتمل معنيين: معنى خلق وهو معنًى تفرّد اللّه به دون الخلق، ويحتمل معنى غير الخلق، خاطب الخلق بالأمر به والنّهي عنه، أفقال: اجعلوا ولا تجعلوا؟ ألم تسمع إلى قوله {لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63] وقوله {واجعلوا بيوتكم قبلةً} [يونس: 87]، ولمّا كان جعل يحتمل معنيين من اللّه: معنى خلق، ومعنى تصيير غير خلق، لم يدع ذلك لبسًا على المؤمنين حتّى جعل على كلّ كلمةٍ علمًا ودليلًا، ففرّق بين معنى جعل الّذي يكون على معنى خلق وبين جعل الّذي معناه غير معنى خلق، فأمّا معنى جعل الّذي هو على معنى خلق، فإنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل القرآن به مفصّلًا وهو بيانٌ لقومٍ يفهمون، وأنزل القول مفصّلًا يستغني السّامع إذا أخبر عنه أن يوصل الكلمة بكلمةٍ أخرى من ذلك قوله {الحمد للّه الّذي خلق السّموات والأرض وجعل الظّلمات والنّور}، فسواءٌ قال: جعل أو خلق. وقوله {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدةً} [النحل: 72] وقوله {وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78]، فهذا وما كان على مثاله على معنى خلق. وأمّا جعل الّذي معناه على غير معنى الخلق فهذا من القول الموصل، ألم تسمع إلى قوله {ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون} [القصص: 51]، كقوله {يا داود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض}، فلمّا قال {جعلناك خليفةً} [ص: 26] لم يدع الكلمة إذ لم تكن على معنى خلق حتّى وصلها بقوله {خليفةً} [البقرة: 30] وقوله {وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ} [القصص: 7]، فلم يأمرها أن تلقيه في اليمّ إلّا وهو مخلوقٌ، ثمّ قال {إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7]، فقد كان في وقتٍ مخلوقًا ولم يكن مرسلًا حتّى جعله مرسلًا. وقوله {فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكًّا} [الأعراف: 143]، وقد كان الجبل مخلوقًا قبل أن يجعله دكًّا، فهذا وما على مثاله من القول الموصل، فنرجع أنا وبشرٌ يا أمير المؤمنين، فيما اختلفنا فيه من قول اللّه {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3]، فما كان من القول الموصل، فهو كما قلت أنا: إنّ اللّه جعله عربيًّا، بأن صيّره عربيًّا، وأنزله بلغة العرب، ولم يصيّره أعجميًّا فينزله بلغة العجم. وإن كان الموصل كقوله {وجعل الظّلمات والنّور} [الأنعام: 1]، فهو كما قال بشرٌ. وإنّما دخل عليه الجهل لقلّة معرفته بلغة أهل اللّسان، فلو أنّ رجلًا قال: اللّهمّ اجعل لي ولدًا، لكان يعقل من بحضرته أنّه سأل ربّه أن يخلق له ولدًا، إذ لم يصل الكلمة بكلمةٍ ثانيةٍ، ولو قال: اللّهمّ اجعل ولدي، كان هذا الكلام لا يتمّ بهذا الإخبار عنه، حتّى يقول: اجعله صالحًا، اجعله تقيًّا، فيعقل عنه أنّه إنّما أراد أن يصيّره بارًّا، ولم يرد أن يخلقه، لأنّ اللّه قد خلقه. ألم تسمع إلى قول اللّه {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم ربّنا واجعلنا مسلمين لك} [البقرة: 127]، ولم يرفعا القواعد إلّا وهما مخلوقان، وحين قالا {واجعلنا} [البقرة: 128]، لم يدركا المسألة حتّى قال {مسلمين لك} [البقرة: 128] . فهذا وما كان على أمثاله في القرآن على غير معنى الخلق. ثمّ أقبل المأمون على بشرٍ، فقال: كلّم عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين لم أكلّمه؟ هذا رجلٌ يقول بالأخبار وأنا أقول بالقياس.
فقال له المأمون: وهل ديننا إلّا الأخبار؟ . قال: فأردت أن أعلّمه أنّ الكلام في القياس لم يفتني في الموضع الّذي يجب لي القول به، وكان جلس أمير المؤمنين مجلس الحاكم من الخصم، فقلت: يا أمير المؤمنين لو كان لبشرٍ غلامان، وأنا لا آخذ علمهما عن أحدٍ من النّاس إلّا عنه، يقال لأحدهما خالدٌ والآخر يزيد، فكتب إليّ ثمانية عشر كتابًا يقول في كلّ كتابٍ منها: ادفع هذا الكتاب إلى خالدٍ غلامي، وكتب إليّ مائةً وأربعةً وخمسين كتابًا يقول في كلّ كتابٍ منها: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد، ولا يقول: غلامي، وكتب إليّ كتابًا، فقال: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد وإلى خالدٍ غلاميّ، وكتب إليّ كتابًا واحدًا يقول فيه: خالدٌ غلامي ويزيد، ولم يقل: غلاميّ، فكتبت إليه: إنّي قد دفعت الكتاب إلى يزيد وإلى خالدٍ غلامك، فلقيني فقال: لم لم تكتب إليّ أنّك دفعت الكتاب إلى خالدٍ ويزيد غلاميّ، فقلت له: قد كتبت إليّ مائة كتابٍ وأربعةً وخمسين كتابًا تقول: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد، ولا تقول فيها: غلامي، وكتبت إليّ ثمانية عشر كتابًا تقول فيها: إلى خالدٍ غلامي.فقال لي بشرٌ: فرّطت، فحلقت أنا: إنّ بشرًا فرّط وحلف بشرٌ أنّي فرّطت، أيّنا كان المفرّط يا أمير المؤمنين؟
فقال المأمون: إذا كان هكذا، فبشرٌ المفرّط.
فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ اللّه عزّ وجلّ أخبرنا عن ذكر القرآن في أربعةٍ وخمسين ومائة موضعٍ، فلم يخبر عن خلقه في موضعٍ واحدٍ، ثمّ جمع بين القرآن والإنسان في موضعٍ واحدٍ، فقال {الرّحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان} [الرحمن: 1]، ففرّق بين القرآن والإنسان، وزعم بشرٌ أنّ اللّه فرّط في الكتاب، إذ كان القرآن مخلوقًا، وعليه يخبر بخلق القرآن.
قال عبد العزيز: فأخبرني أبو كاملٍ الخادم أنّ المأمون كان يقول: ما مرّ بكم مثل المكّيّ قطّ في خالدٍ ويزيد، فأمر له يعني: لعبد العزيز بعشرة آلاف درهمٍ، وأمر أن تجري له الأرزاق، وجرت بينه وبين المأمون بعد أشياء لم تذكر في هذا الكتاب.
- قال أبو أيّوب عبد الوهّاب بن عمرٍو: وأخبرني العطّاف بن مسلمٍ، عن هؤلاء المسلمين، في صدر هذا الكتاب، وعن غيرهم، من أصحاب المكّيّ: أنّ عبد العزيز، قال: " اجتمعت مع أمير المؤمنين بعد هذا المجلس فجرت بيني وبينه مناظراتٌ كثيرةٌ، فقال لي بعدما جرى بيننا: ويحك يا عبد العزيز، قل: القرآن مخلوقٌ، فواللّه لأوطأنّ الرّجال عقبك، ولا نوهن باسمك، فإن لم تقل، فانظر ما ينزل بك منّي "،
فقلت: يا أمير المؤمنين إنّ القلوب لا تردّ بالرّغبة ولا بالرّهبة، ترغّبني فتقول: قل حتّى أفعل بك، وإن لم تفعل، انظر ماذا ينزل بك منّي، فيميل إليك لساني ولا ينطق لك قلبي، فأكون قد نافقتك يا أمير المؤمنين.
فقال: ويحك، فبماذا تردّ القلوب؟
قال: قلت: بالبصائر يا أمير المؤمنين، بصّرني من أين القرآن مخلوقٌ؟ .
فقال لي: صدقت.). [الإبانة الكبرى: 6/ 225-248]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:19 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة الإمام أحمد بن حنبلٍ لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم

قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي رحمة الله
سمعت أبا الفضل يقول: قال أبي رحمة الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّد بقيد واحد يوجه إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي.
قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيّام وصار في رجلي أربعة أقياد.
فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق.
قلت: يا كافر كفرت.
فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
قال: فقلت إن هذا قد كفر وكان صاحبه الّذي يجيء معه خارج فلمّا دخل قلت إن هذا زعم أن علم الله مخلوق فنظر إليه كالمنكر عليه قال ثمّ انصرف
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله فمن زعم أن القران مخلوق فهو كافر ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر.
قال أبي: فلمّا كان ليلة الرّابعة بعد عشاء الأخرة وجه يعني المعتصم ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد أنّها والله نفسك إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس أليس قال الله تعالى {إنّا جعلناه قرآنًا عربيا} أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا.
قال أبي: فقلت فقد قال الله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم، قال فقال اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فاحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون من هذا، قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق.
فقال: ما أعرف شيئا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق وحملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني فجعلت أكاد أخر على وجهي حتّى انتهى بي إلى الدّار فأدخلت ثمّ خرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها وأغلق عليّ الباب، واقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل وليس في البيت سراج فاحتجت إلى الضّوء فمددت يدي أطلب شيئا فإذا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصّلاة وقمت أصلي، فلمّا أصبحت جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غاصة بأهلها فلمّا دنوت منه سلمت: فقال أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ثمّ قال لي اجلس فجلست وقد أثقلتني الأقياد فلمّا مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام.
قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه رسوله
قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله
قال: ثمّ قلت إن جدك ابن عبّاس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه تعالى فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا: الله ورسوله أعلم
قال: شهادة أن لا اله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
حدثنا أبو الفضل قال: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت بن عبّاس رضي الله عنه قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فذكر مثل ذلك
قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة.
قال أبي: فقلت في نفسي الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين، قال: ثمّ قال ناظروه وكلموه، ثمّ قال: يا عبد الرّحمن كلمه، فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول في علم الله. قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا ثمّ أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك
فيقول لي بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله
قال: فقلت له تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه
قال فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم
قال فيقول لهم: ما تقولون
فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضال مضل مبتدع
قال: فلا يزالون يكلموني
وقال: وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فيكون محدثا إلّا مخلوقا.
قلت له: قال الله تعالى {ص والقرآن ذي الذّكر} فالذكر هو القرآن ويلك أو ليس فيها لا ألف ولا لام
قال فجعل بن سمّاعة لا يفهم ما أقول.
قال فجعل يقول لهم ما يقول، قال فقالوا إنه يقول كذا وكذا، قال فقال لي إنسان منهم: حديث خباب: (يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فانك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)
قال: فقلت نعم هكذا هو
قال: فجعل بن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه
قال أبي: فقال بعضهم: أليس قال خالق كل شيء
قال: قلت قد قال تدمر كل شيء فدمرت ألا ما أراد الله.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول وذكر حديث عمران بن حصين: أن الله تبارك وتعالى كتب الذّكر، فقال: إن الله خلق الذّكر
قال: فقلت هذا خطأ حدثنا غير واحد كتب الذّكر
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلّم فلمّا قارب الزّوال قال لهم قوموا ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن فجعل يقول لي أما كنت تعرف صالح الرّشيديّ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالس وأشار إلى ناحية من الدّار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ، قال أبي ثمّ جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا _
فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله
قال: فجعل يقول والله إنه لفقيه وإنه لعالم وممّا يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ولا وطأن عقبة ولا ركبن إليه بجندي
قال: ثمّ التفت إليّ فيقول ويحك يا أحمد ما ما تقول؟
قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة ورسوله، فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما وهما صاحب الشّافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتّى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتّى رفع المائدة وأقاما إلى غد وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _
فأقول له: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به، فقال لي بن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك وإنه والله ليس هو السّيف إنه ضرب بعد ضرب ثمّ يقول لي ما تقول فأرد عليه نحوا ثمّ يأتي رسوله فيقول أين أحمد بن عمار _ أجب للرجل الّذي أنزلت في حجرته فيذهب ثمّ يعود فيقول يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _ فأرد عليه نحوا ممّا رددت على ابن أبي دؤاد فلا يزال رسله تأتي قال أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى اجيء فأطلق عنك بيدي
قال فلمّا كان في اليوم الثّاني أدخلت عليه.
فقال: ناظروه كلموه
قال: فجعلوا يتكلّمون هذا من ها هنا وهذا من ها هنا فأرد على هذا وهذا فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر قلت ما أدري ما هذا _
فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا _
قال: فيقول ناظروه
قال: ثمّ يقول يا أحمد إنّي عليك شفيق
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله
قال: فقلت له ما تقول في قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين}
فقال: خص الله بها المؤمنين
قال: فقلت له ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلا عبدا يهوديّ أو نصرانيّ
قال: فسكت
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن وبقوله أراك تنتحل الحديث
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي داود فيقول يا أمير أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول لي تدعو حمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم فلمّا طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ممّا أتى به في أول ليلة فافطر وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحو ممّا كان أول ليلة وجاءني ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.
فقلت له: فما أصنع
حتّى إذا كدت أن اصبح قلت لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد احملها بها إذا توجّهت إليه فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتدّ لي خيطا فجاءني بخيط فشددت الأقياد وأعدت التكة في السّراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيئا من أمري فاتعرى فلمّا كان في اليوم الثّالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح وقد حشرت الدّار الجند ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء
حتّى إذا صرت إليه قال: ناظروه كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم ودار بيننا كلام كثير حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه فجاءني ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرّحمن فقال لي: ويحل يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني،
فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله لقد كنت طمعت فيك خذوه فاسحبوه
قال: فأخذت وسحبت ثمّ خلعت ثمّ قال العقابين والسياط فجيء بالعقابين والسياط
قال أبي: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إليّ ما هذا مصر ورنى كمك
فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين
فقال لهم: يعني المعتصم - لا تحرقوه انزعوه عنه
قال: إنّي ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه ثمّ صيرت بين العقابين وشددت يدي وجيء بكرسي فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حضر، فقال له إنسان ممّن شدني: خذ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم ما قال فتخالفت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين.
قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع منهما إلى أن توفّي.
ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال ائتوا بغيرها ثمّ قال لهم تقدموا
فقال لأحدهم: أدنه اوجع قطع الله يدك
فتقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى ثمّ قال لآخر أدنه أوجع شدّ قطع الله يدك ثمّ تقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى
فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به
فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك
ويحك أجبني حتّى أطلق عنك بيدي
فجعل بعضهم يقول لي ويلك أمامك على رأسك قائم
قال لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق ابن إبراهيم يقول ويحك الخليفة على رأسك قائم
قال ثمّ يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ ثمّ قال للجلاد أدنه شدّ قطع الله يدك.
ثمّ لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول شدّ قطع الله يدك
ثمّ قام إلى الثّانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني ،فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعد على من أجاب
قال وجعل وهو يقول ويحك أجبني
قال: فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم
قال فرجع فجلس ثمّ جعل يقول للجلاد شدّ قطع الله يدك
قال أبي فذهب عقلي فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد وقال لي إنسان ممّن حضر أنا اكببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فقلت ما شعرت بذاك
قال: فجاؤني بسويق فقالوا اشرب فقلت لا أفطر فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم
قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر
وقال ابن سمّاعة: صليت والدّم يسيل من ضربك
فقلت: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا فسكت.
ثمّ خلى عنة فصار إلى المنزل ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه فنظر إليه فقال: قال لنا والله لقد رأيت منه ضرب السيوط ما رأيت ضربا أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثمّ أدخل ميلًا في بعض تلك الجراحات
فقال: لم ينفل فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك فبرأ منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه وكان أثر الضّرب بين في ظهره إلى أن توفّي رحمة الله علية.
سمعت أبي يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي
قال أبو الفضل أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثمّ جاءني بعد فقال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله والله ما رأيت أحدا - يعني - يشبهه
لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطّعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية ولقد عطش فقال لصاحب الشّراب ناولني فناوله قدحا فيه ماء ثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثمّ رده عليه
قال فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.
قال أبو الفضل قد كنت التمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيّام فلم أقدر على ذلك
وأخبرني رجل حضره قال: فقدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدّة قلبه. قال أبو الفضل دخلت على أبي - رحمة الله عليه - يومًا وقلت له بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي
فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل، فتبسّم أبي وسكت فلمّا كان بعد أيّام مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا
قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إيّاي ثمّ جعل يقول وما على رجل إلّا يعذب الله بسببه أحدا.). [سيرة الإمام أحمد: 52- 65] (م)
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر شيءٍ من محنة أبي عبد اللّه أحمد بن محمّد بن حنبلٍ رحمه اللّه وحجاجه لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم

- حدّثنا أبو حفصٍ عمر بن محمّد بن رجاءٍ، قال: حدّثنا أبو نصرٍ عصمة بن أبي عصمة، قال: حدّثنا أبو العبّاس الفضل بن زيادٍ، قال: حدّثنا أبو طالبٍ أحمد بن حميدٍ، قال: قال لي أحمد بن حنبلٍ: يا أبا طالبٍ " ليس شيءٌ أشدّ عليهم ممّا أدخلت عليهم حين ناظروني، قلت لهم: علم اللّه مخلوقٌ؟ قالوا: لا.
قلت: فإنّ علم اللّه هو القرآن. قال اللّه عزّ وجلّ: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم}[آل عمران: 61] وقال: {ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذًا لمن الظّالمين} [البقرة: 145] هذا في القرآن في غير موضعٍ من العلم "
- وحدّثني أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن الحسن بن بدينا، قال: حدّثنا صالح بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال:
قال لهم يعني: المعتصم: كلّموه، فقال لي عبد الرّحمن: «ما تقول في القرآن»، فقلت: ما تقول في علم اللّه، فسكت.
قال:فقال لي بعضهم: قال اللّه عزّ وجلّ {اللّه خالق كلّ شيءٍ} [الرعد: 16] فالقرآن أليس هو شيئًا؟
فقلت: قال اللّه عزّ وجلّ {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25]، فهل دمّرت إلّا ما أنت عليه.
فقال لي بعضهم: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلّا مخلوقًا؟
قال: فقلت لهم: قال اللّه عزّ وجلّ {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فالذّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألفٌ ولا لامٌ "
- حدّثنا أبو عمرٍو حمزة بن القاسم قال: حدّثنا حنبلٌ، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه، بنحو هذه القصّة قال: فقلت لهم: هذا نكرةٌ، «فقد يكون على جميع الذّكر، والذّكر معرفةٌ وهو القرآن»
- وأخبرني أبو عمر عثمان بن عمر الدّرّاج، قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون الخلّال، قال: كتب إليّ أحمد بن الحسين الورّاق من الموصل، قال: حدّثنا بكر بن محمّد بن الحكم، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: سألته عمّا احتجّ به حين دخل على هؤلاء، فقال: " احتجّوا عليّ بهذه الآية {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، أي: أنّ القرآن محدثٌ، فاحتججت عليهم بهذه الآية {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، قلت: فهو سمّاه الذّكر، وقلت: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، فهذا يمكن أن يكون غير القرآن محدثًا، ولكن {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فهو القرآن، ليس هو محدثًاقال: فبهذا احتججت عليهم.
واحتجّوا عليّ: ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ ولا كذا أعظم من آية الكرسيّ، قال: " فقلت له: إنّه لم يجعل آية الكرسيّ مخلوقةً، إنّما هذا مثلٌ ضربه، أي: هي أعظم من أن تخلق، ولو كانت مخلوقةً لكانت السّماء أعظم منها، أي: فليست بمخلوقةٍ.
قال: واحتجّوا عليّ بقوله: {اللّه خالق كلّ شيءٍ} [الرعد: 16]، فقلت: {ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]، فخلق من القرآن زوجين {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] فأوتيت القرآن؟ فأوتيت النّبوّة أوتيت كذا وكذا؟ وقال اللّه تعالى {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25]، فدمّرت كلّ شيءٍ، إنّما دمّرت ما أراد اللّه من شيءٍ
" قال: وقال لي ابن أبي دؤادٍ: أين تجد أنّ القرآن كلام اللّه؟ قلت: " {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته} [الكهف: 27] " فسكت. وقلت له: «بين يدي الرّئيس»، وجرى كلامٌ بيني وبينه، فقلت له: " اجتمعت أنا وأنت أنّه كلامٌ، وقلت: إنّه مخلوقٌ، فهاتوا الحجّة من كتاب اللّه أو من السّنّة "، فما أنكر ابن أبي دؤادٍ ولا أصحابه أنّه كلامٌ. قال: وكانوا يكرهون أن يظهروا أنّه ليس بكلامٍ فيشنّع عليهم.
- حدّثنا حمزة بن القاسم، قال: حدّثنا حنبلٌ، قال: قال أبو عبد اللّه: وكان إذا كلّمني ابن أبي دؤادٍ لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، فإذا كلّمني أبو إسحاق، ألنت له القول والكلام، قال: " فقال لي أبو إسحاق، لئن أجبتني لآتينّك في حشمي ومواليّ، ولأطأنّ بساطك، ولا نوهن باسمك يا أحمد اتّق اللّه في نفسك، يا أحمد اللّه اللّه، قال أبو عبد اللّه: «وكان لا يعلم ولا يعرف، ويظنّ أنّ القول قولهم»، فيقول: يا أحمد إنّي عليك شفيقٌ، فقلت: «يا أمير المؤمنين هذا القرآن وأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخباره، فما وضح من حجّةٍ صرت إليها» .
قال: فيتكلّم هذا وهذا. قال: فقال ابن أبي دؤادٍ لمّا انقطع وانقطع أصحابه: والّذي لا إله إلّا هو، لئن أجابك لهو أحبّ من مائة ألفٍ ومائة ألفٍ عددًا مرارًا كثيرةً.
قال أبو عبد اللّه: " وكان فيما احتججت عليهم يومئذٍ، قلت لهم: قال اللّه عزّ وجلّ: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وذلك أنّهم قالوا لي: أليس كلّ ما دون اللّه مخلوقٌ؟
فقلت لهم: فرّق بين الخلق والأمر، فما دون اللّه مخلوقٌ، فأمّا القرآن فكلامه ليس بمخلوقٍ. " فقالوا: قال اللّه عزّ وجلّ {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]،
فقلت لهم: " قال اللّه تعالى {أتى أمر اللّه} [النحل: 1]، فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوقٍ، فلا تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعضٍ، فقد نهينا عن ذلك ".
- قال حنبلٌ: وقال أبو عبد اللّه: " واحتججت عليهم فقلت: زعمتم أنّ الأخبار تردّونها باختلاف أسانيدها، وما يدخلها من الوهم والضّعف، فهذا القرآن نحن وأنتم مجمعون عليه وليس بين أهل القبلة فيه خلافٌ، وهو الإجماع. قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه تصديقًا منه لقول إبراهيم غير دافعٍ لمقالته ولا لما حكى عنه فقال: {إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا}، فذمّ إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكرٌ عندكم ". فقالوا: شبهٌ شبهٌ يا أمير المؤمنين.
فقلت: " أليس هذا القرآن؟ هذا منكرٌ عندكم مدفوعٌ، وهذه قصّة موسى، قال اللّه عزّ وجلّ لموسى في كتابه حكايةً عن نفسه {وكلّم اللّه موسى} [النساء: 164]، فأثبت اللّه الكلام لموسى كرامةً منه لموسى، ثمّ قال: يا موسى {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني} [طه: 14]، فتنكرون هذا، فيجوز أن يكون هذا الياء راجعةً تردّ على غير اللّه، أو يكون مخلوقٌ يدّعي الرّبوبيّة؟ وهل يجوز أن يقول هذا غير اللّه؟ وقال له {يا موسى لا تخف} [النمل: 10]، {إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك} [طه: 12] " فهذا كتاب اللّه يا أمير المؤمنين، فيجوز أن يقول لموسى: أنا ربّك مخلوقٌ، وموسى كان يعبد مخلوقًا، ومضى إلى فرعون برسالة مخلوقٍ يا أمير المؤمنين؟
قال: فأمسكوا، وأداروا بينهم كلامًا لم أفهمه. قال أبو عبد اللّه: «والقوم يدفعون هذا وينكرونه، ما رأيت أحدًا طلب الكلام واشتهاه إلّا أخرجه إلى أمرٍ عظيمٍ، لقد تكلّموا بكلامٍ، واحتجّوا بشيءٍ ما يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه، والقوم يرجعون إلى التّعطيل في أقاويلهم، وينكرون الرّؤية والآثار كلّها، ما ظننت أنّه هكذا حتّى سمعت مقالاتهم»
قال أبو عبد اللّه: " قيل لي يومئذٍ: كان اللّه ولا قرآن. فقلت له: كان اللّه ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم غير ذلك أنّ اللّه كان ولا علم، لكفر باللّه "
قال أبو عبد اللّه: " وقلت له يعني: لابن الحجّام: يا ويلك، لا يعلم حتّى يكون فعلمه وعلمك واحدٌ، كفرت باللّه عالم السّرّ وأخفى، عالم الغيب والشّهادة، علّام الغيوب، ويلك، يكون علمه مثل علمك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور "
قال أبو عبد اللّه: «فهذه أليست مقالته؟» قال أبو عبد اللّه: " وهذا هو الكفر باللّه، ما ظننت أنّ القوم هكذا. لقد جعل برغوثٌ يقول يومئذٍ: الجسم وكذا وكلامٌ لا أفهمه، فقلت: لا أعرف ولا أدري ما هذا، إلّا أنّني أعلم أنّه أحدٌ صمدٌ، لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فيسكت عنّي "
قال: فقال لي شعيبٌ: قال اللّه {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3]، أفليس كلّ مجعولٍ مخلوقًا؟ قلت: " فقد قال اللّه {فجعلهم جذاذًا} [الأنبياء: 58] أفخلقهم؟ {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل: 5]، أفخلقهم؟ أفكلّ مجعولٍ مخلوقٌ؟ كيف يكون مخلوقًا وقد كان قبل أن يخلق الجعل، قال: فأمسك.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرني عليّ بن أحمد أبو غالبٍ، قال: حدّثني محمّد بن يوسف المروزيّ المعروف بابن سريّة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه والجبائر على ظهره، قال لي: يا أبا جعفرٍ أشاط القوم بدمي، فقالوا له يعني المعتصم: يا أمير المؤمنين سله عن القرآن، أشيءٌ هو أو غير شيءٍ؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد أجبهم.
قال: فقلت له: " يا أمير المؤمنين إنّ هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالنّاسخ والمنسوخ، ولا بالعامّ والخاصّ، قد قال اللّه عزّ وجلّ في قصّة موسى {وكتبنا له في الألواح من كلّ شيءٍ} [الأعراف: 145]، فما كتب له القرآنوقال في قصّة سبأٍ {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] وما أوتيت القرآن، فأخرسوا.
- حدّثني أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن الحسن بن بدينا قال: حدّثنا صالح بن أحمد، أنّ أباه، قال: قال لي رجلٌ منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله.
قال: فقلت له: ما تقول في قول اللّه عزّ وجلّ {يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} [النساء: 11]، فقال: " خصّ اللّه بها المؤمنين. قال: قلت: فما تقول إن كان قاتلًا أو عبدًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا؟ فسكت "
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر، قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون الخلّال، قال: أخبرنا محمّد بن جعفرٍ، قال: سمعت هرثمة بن خالدٍ، قرابة إسحاق بن داود وكنّا جميعًا أنا وإسحاق، قال: قال أحمد بن حنبلٍ: قال لي ابن أبي دؤادٍ، وهم يناظروني، وقد كنت قلت لهم: أوجدوني ما تقولون في كتاب اللّه أو في سنّة رسول اللّه: أوجدني أنت يا ابن حنبلٍ في علمك أنّ هذا البساط الّذي نحن عليه مخلوقٌ؟ قال: قلت: نعم، قال اللّه عزّ وجلّ {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ} [النحل: 80] قال: فكأنّي ألقمته حجرًا "
- حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ الخصيب، قال: حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن الحجّاج المرّوذيّ، قال: قال لي أبو عبد اللّه: «مكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني» .
قلت: فكان يدخل إليك بالطّعام؟
قال: «لا» .
قلت: فكنت تأكل شيئًا؟
قال: «مكثت يومين لا أطعم، ومكثت يومين لا أشرب، ومكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني بين يديه، يعني الرّأس أبا إسحاق، وقد جمعوا عليّ نحوًا من خمسين بصريًّا وغير ذلك يعني من المناظرين، وفيهم الشّافعيّ الأعمى»،
فقلت له: كلّهم يناظرونك باللّيل؟
قال: " نعم كلّ ليلةٍ، وكان فيهم الغلام غسّان، يعني قاضي الكوفة، وقال: إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ "،
قلت له: كانوا كلّهم يكلّمونك؟
قال: " نعم، هذا يتكلّم من هاهنا، وهذا يحتجّ من هاهنا، وهذا يتأوّل على آيةٍ وعجيفٌ عن يمينه، وإسحاق عن يساره قائمٌ، ونحن بين يديه، يعني أبا إسحاق، فسألني غير مرّةٍ، فقلت: أوجدني في كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي إسحاق وعجيفٌ: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ؟، قلت لهم: ناظروني في الفقه أو في العلم، فقال عجيفٌ: أنت وحدك تريد أن تغلب هؤلاء الخلق كلّهم، ولزّني بقائمة سيفه، وأشار أبو عبد اللّه إلى عنقه يريني بيده هكذا، ثمّ قال إسحاق بن إبراهيم: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ، ولكزني بقائمة سيفه، وأومأ أبو عبد اللّه إلى حلقه "
قلت: فكان أبو إسحاق يتكلّم؟
قال: " لا، إلّا ساكتٌ، إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ، ثمّ قال أبو عبد اللّه: «لم يكن فيهم أحدٌ أرقّ عليّ من أبي إسحاق مع أنّه لم يكن فيهم رشيدٌ»
قال: وسمعت أبا عبد اللّه يقول: " لمّا قلت: لا أتكلّم إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ احتجّ الأعمى الشّافعيّ بحديث عمران بن حصينٍ «خلق اللّه الذّكر» . قال: فقلت له: هذا خطأٌ رواه الثّوريّ وأبو معاوية، وإنّما وهم فيه محمّد بن عبيدٍ، وقد نهيته أن يحدّث به.
قال: فقال أبو إسحاق: أراه فقيهًا.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وكتب إليّ أحمد بن الحسين الورّاق من الموصل قال: حدّثنا بكر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: " واجتمع عليّ خلقٌ من الخلق، وأنا بينهم مثل الأسير، وتلك القيود قد أثقلتني، قال: وكان يلغطون ويضحكون، وكلّ واحدٍ منهم ينزع آيةً، وآخر يجئ بحديثٍ قال: والرّئيس يسكتهم، قال: فكان هذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، فقال لي واحدٌ منهم: أليس يروى عن أبي السّليل، عن عبد اللّه بن رباحٍ، عن أبي كعبٍ؟
فقلت: «وأنت ما يدريك من أبو السّليل؟ ومن عبد اللّه بن رباحٍ؟ وما لك ولهذا؟» قال: فسكت وقال لي آخر: ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ.
فقلت: إنّما هذا مثلٌ فسكت. واحتجّ عليّ آخر بحديث الطّنافسيّ، عن الأعمش، عن جامع حديث عمران بن حصينٍ أنّ اللّه خلق الذّكر.
فقلت: هذا وهم فيه يعني الطّنافسيّ، وأبو معاوية يقول: كتب اللّه الذّكر. قال: وكنت أصيح عليهم، وأرفع صوتي، وكان أهون عليّ من كذا وكذا، ذهب اللّه بالرّعب من قلبي، حتّى لم أكن أبالي بهم ولا أهابهم، فلمّا يئسوا منّي واجتمعوا عليّ، قال لي عبد الرّحمن: ما رأيت مثلك قطّ، من صنع ما صنعت؟
قلت له: القرآن، قد اجتمعت أنا وأنتم على أنّه كلام اللّه، وزعمتم أنّه مخلوقٌ، فهاتوه من كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي ابن أبي دؤادٍ: وأنت تجد في كلّ شيءٍ كتابًا وسنّةً؟ فلمّا يئس منّي قال: خذوه، وأدخل الأتراك أيديهم في أقيادي فجرّوني إلى موضعٍ بعيدٍ، وذكر قصّة الضّرب.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وأخبرنا أحمد بن محمّد بن عبد الحميد الكوفيّ، قال: سمعت عبيد بن محمّدٍ القصير، قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال له أبو إسحاق: يا أحمد إن كنت تخشى من هؤلاء النّابتة جئتك أنا في جيشي إلى بيتك حتّى أسمع منك الحديث؟ قال: فقال له: «يا أمير المؤمنين خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أيّ شيءٍ تسأل عن هذا؟»
قال عبيد بن محمّدٍ: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ قال: " التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد فوقعت عينه على ابن أبي دؤادٍ فحوّل وجهه، فكأنّما وقعت عينه على قردٍ، قال: تعرف هذا يعني: عبد الرّحمن؟ قال: نعم. قال: قل: اللّه ربّ القرآن؟ قال: القرآن كلام اللّه. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا "
- وحدّثني أبي قال: حدّثنا أبو جعفر بن بدينا، أنّ صالح بن أحمد، حدّثهم قال: أخبرني رجلٌ حضره قال: «تفقّدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلّمونه، فما لحن في كلمةٍ، وما ظننت أنّ أحدًا يكون في شجاعته وشدّة قلبه»
- وحدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا أبو بكرٍ المرّوذيّ، قال: كان أبو عبد اللّه لا يلحن في الكلام، قال: " وأخبرت أنّه لمّا نوظر بين يدي الخليفة لم يتعلّق عليه بلحنٍ، حتّى حكي أنّه جعل يقول: فكيف أقول ما لم يقل؟ "
- قال أبو بكرٍ المرّوذيّ: وقال لي ابن أبي حسّان الورّاق: «طلب منّي أبو عبد اللّه وهو في السّجن كتاب حمزة في العربيّة، فدفعته إليه، فنظر فيه قبل أن يمتحن»
- أخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، وأخبرنا محمّد بن عليٍّ السّمسار قال: " رأيت شيخًا قد جاء إلى أبي عبد اللّه وهو مريضٌ، فجعل يبكي وقال إنّه ممّن حضر ضربه، فلمّا خرج سمعته يقول: واللّه، لقد كلّمت ثلاثةً من الخلفاء ووطئت بسطهم ما هبتهم وما دخلني من الرّعب ما دخلني منه وهو مسجًّى، واللّه لقد رأيته يناظر وهو عالٍ عليهم قويّ القلب، والمعتصم يكلّمه ويقول: أجبني إلى ما أسألك، أو شيءٌ منه، فيقول: لا أقول إلّا ما في كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه، فيقول له: لا تقول: القرآن مخلوقٌ؟ فيقول له: وكيف أقول ما لم يقل؟ . "
قال الرّجل: فقلت لرجلٍ كان إلى جانبي: ما تراه ما يرهب ما هو فيه، ولا يلحن في مثل هذا الوقت، والسّياط والعقابين بين يديه، وليس في يده منه شيءٌ.
- حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: سمعت أبا عبد اللّه، يقول: «لمّا ضربت كانا جلّادين يضرب كلّ واحدٍ منهما سوطًا ويتنحّى ويضرب الآخر سوطًا ويتنحّى» . قلت: قام إليك أبو إسحاق مرّتين؟ قال: " أمّا مرّةً، فأحفظ أنّه خرج إلى الرّواق، وقال: خذوه، فأخذوا بضبعيّ وجرّوني نحوًا من مائة ذراعٍ إلى العقابين فخلّعوني، وأنا أجد ذلك في كتفيّ إلى السّاعة، وكان عليّ شعرٌ كثيرٌ، وانقطعت تكّتي، فقلت: الآن تسود، يعني: وهو بينهم، قلت: من ناولك خيطًا في ذلك الموضع؟ قال: لا أدري، فشددت سراويلي، وأخبرت أنّهم خلعوا القميص ولم يخرقوه، وكان في كمّه شعر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "
- قال المرّوذيّ: وبلغني عن يعقوب الفرس، قال: سمعت عيسى الفتّاح، يقول: قال لي أبو عبد اللّه: «يا أبا موسى ما رأيت هؤلاء قطّ، كان أشدّ عليّ من تلفّت الجلّاد، ثمّ يثب عليّ»
- قال: وسمعت الفلّاس، يقول: سمعت عيسى الفتّاح، قال: قال لي أبو عبد اللّه: قال أبو إسحاق: «ما رأيت ابن أنثى أشجع من هذا الرّجل»
- قال المرّوذيّ: وسمعت عيسى الجلّاء، يقول: رأى رجلٌ في النّوم قائلًا يقول، وإذا جماعةٌ ناحيةٌ فجعل يقول: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] وأشار بيده إلى ابن أبي دؤادٍ وأصحابه {فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89] أحمد بن حنبلٍ وأصحابه "
- قال المرّوذيّ: وأخبرت عن زياد بن أبي بادويه القصريّ، قال: سمعت الحمّانيّ، يقول: " رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام قد جاء فأخذ بعضادتيّ، فقال: نجا النّاجون، وهلك الهالكون، فقلت: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمّي، من النّاجون؟ قال: «أحمد بن حنبلٍ وأصحابه»
- قال المرّوذيّ: وبلغني عن امرأةٍ رأوها في النّوم وقد شاب صدغها، فقيل لها: ما هذا الشّيب؟ فقالت: «لمّا ضرب أحمد بن حنبلٍ زفرت
جهنّم زفرةً لم يبق منّا أحدٌ إلّا شاب»
- وحدّثنا أبو إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: حدّثنا أبو عمر المخرّميّ، قال: كنت مع سعيد بن منصورٍ ونحن في الطّواف، قال: فسمعت هاتفًا يقول: ضرب أحمد بن حنبلٍ اليوم بالسّياط؟ قال: فقال لي سعيدٌ: أوما سمعت أوسمعت؟ قلت: بلى. قال: يعني: سعيد بن منصورٍ: هذا من صالحي الجنّ أو من الملائكة، إن كان هذا حقًّا، فإنّ اليوم قد ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال: فنظرنا فإذا قد ضرب في ذلك اليوم "
قال أبو عبد اللّه: " لمّا ضربت امتلأت ثيابي بالدّماء، وكنت صائمًا، فجاءوا بسويقٍ فلم أشرب، وأتممت صومي، وكان بعض الجيران ثمّ حاضرًا، فأيّ شيءٍ نزل به - يعني: لمّا امتنع أبو عبد اللّه من شرب السّويق - لا أدري إسحاق بن إبراهيم أو غيره قال: وبلغني أنّه لم يدخل على أبي عبد اللّه طعامٌ في قصر إسحاق، وقد كان منع أن يدخل إليه، وقال: تأكل من طعامنا. قال أبو عبد اللّه: فمكثت يومين لا أطعم "
قال المرّوذيّ: فقال لي النّيسابوريّ صاحب إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأمير: إذا جاؤوا بإفطاره فأرونيه قال: فجاءوا برغيفين وخبّازةٍ، قال: فأروه الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يقنعه.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد، عن أبي عبد اللّه، وذكر قصّةً طويلةً قال: «وجعل أولئك يلقون المسائل» قال: قلت: " هذا ممّا لا أتكلّم فيه، لأنّه ليس في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقلت لهم: «أيّ شيءٍ تقولون إذا دخلتم المسجد؟ وأيّ شيءٍ تقولون إذا خرجتم من المسجد؟» فسكتوا، قال: قلت: " يا أمير المؤمنين هؤلاء لا يدرون أيّ شيءٍ يقولون إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا، يسألون عن القرآن؟ أمر القرآن أعظم، وذكر كلامًا كثيرًا.). [الإبانة الكبرى: 6/ 249-268]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (قال صالحٌ: وصار أبي إلى بغداد مقيّداً، فمكث بالياسريّة أيّاماً، ثمّ حبس في دارٍ اكتريت عند دار عمارة، ثمّ حوّل إلى حبس العامّة في درب الموصليّة.
فقال: كنت أصلّي بأهل السجن، وأنا مقيّدٌ.
فلمّا كان في رمضان سنة تسع عشر - قلت: وذلك بعد موت المأمون بأربعة عشر شهراً - حوّلت إلى دار إسحاق بن إبراهيم -يعني: نائب بغداد-.
وأمّا حنبلٌ، فقال: حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد، في إصطبل الأمير محمّد بن إبراهيم؛ أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبسٍ ضيّقٍ، ومرض في رمضان.
ثمّ حوّل بعد قليلٍ إلى سجن العامّة، فمكث في السّجن نحواً من ثلاثين شهراً.
وكنّا نأتيه، فقرأ عليّ كتاب (الإرجاء) وغيره في الحبس، ورأيته يصلّي بهم في القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصّلاة والنّوم.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجّه إليّ كلّ يومٍ برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباحٍ، والآخر أبو شعيبٍ الحجّام، فلا يزالان يناظراني، حتّى إذا قاما دعي بقيدٍ، فزيد في قيودي، فصار في رجليّ أربعة أقياد.
فلمّا كان في اليوم الثّالث، دخل عليّ، فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟
قال: مخلوقٌ.
قلت: كفرت بالله .
فقال الرّسول الّذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم: إنّ هذا رسول أمير المؤمنين.
فقلت: إنّ هذا قد كفر.
فلمّا كان في اللّيلة الرّابعة، وجّه -يعني: المعتصم- ببغا الكبير إلى إسحاق، فأمره بحملي إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال:
يا أحمد، إنّها -والله- نفسك، إنّه لا يقتلك بالسّيف، إنّه قد آلى - إن لم تجبه - أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمسٌ ولا قمرٌ، أليس قد قال الله -تعالى-: {إنّا جعلناه قرآنا عربيّاً} [الزّخرف: 3]، أفيكون مجعولاً إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: فقد قال -تعالى-: {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل:5] أفخلقهم؟
قال: فسكت.
فلمّا صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت، وجيء بدابّةٍ، فأركبت وعليّ الأقياد، ما معي من يمسكني، فكدت غير مرّةٍ أن أخرّ على وجهي لثقل القيود.
فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرةً، ثمّ أدخلت بيتاً، وأقفل الباب عليّ في جوف اللّيل ولا سراج.
فأردت الوضوء، فمددت يدي، فإذا أنا بإناءٍ فيه ماءٌ، وطستٌ موضوعٌ، فتوضّأت وصلّيت.
فلمّا كان من الغد، أخرجت تكّتي، وشددت بها الأقياد أحملها، وعطفت سراويلي.
فجاء رسول المعتصم، فقال: أجب.
فأخذ بيدي، وأدخلني عليه، والتّكّة في يدي، أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالسٌ، وأحمد بن أبي دواد حاضرٌ، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه.
فقال لي المعتصم: ادنه، ادنه.
فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه، ثمّ قال: اجلس.
فجلست، وقد أثقلتني الأقياد، فمكثت قليلاً، ثمّ قلت: أتأذن في الكلام؟
قال: تكلّم.
فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟
فسكت هنيّةً، ثمّ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله.
فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله.
ثمّ قلت: إنّ جدّك ابن عبّاسٍ يقول:
لمّا قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- سألوه عن الإيمان، فقال: (أتدرون ما الإيمان؟).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وأنّ تعطوا الخمس من المغنم ).
قال أبي: فقال -يعني: المعتصم-: لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي، ما عرضت لك.
ثمّ قال: يا عبد الرّحمن بن إسحاق، ألم آمرك برفع المحنة؟
فقلت: الله أكبر! إنّ في هذا لفرجاً للمسلمين.
ثمّ قال لهم: ناظروه، وكلّموه، يا عبد الرّحمن كلّمه.
فقال: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول أنت في علم الله؟
فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله -تعالى-: {الله خالق كلّ شيءٍ} [الرّعد: 16] والقرآن أليس شيئاً؟
فقلت: قال الله: {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25] فدمّرت إلاّ ما أراد الله؟
فقال بعضهم: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: قال الله: {ص، والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فالذّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألفٌ ولامٌ.
وذكر بعضهم حديث عمران بن حصينٍ: (إنّ الله خلق الذّكر)،
فقلت: هذا خطأٌ، حدّثنا غير واحدٍ: (إنّ الله كتب الذّكر ).
واحتجوا بحديث ابن مسعودٍ: (ما خلق الله من جنّةٍ ولا نارٍ ولا سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ ).
فقلت: إنّما وقع الخلق على الجنّة والنّار والسّماء والأرض، ولم يقع على القرآن.
فقال بعضهم: حديث خبّابٍ: (يا هنتاه، تقرّب إلى الله بما استطعت، فإنّك لن تتقّرب إليه بشيءٍ أحبّ إليه من كلامه ).
فقلت: هكذا هو.
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب.
قال أبي: وكان يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطع الرّجل منهم، اعترض ابن أبي دواد، فيقول: يا أمير المؤمنين، هو -والله- ضالٌّ مضلٌّ مبتدعٌ!
فيقول: كلّموه، ناظروه.
فيكلّمني هذا، فأردّ عليه، ويكلّمني هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطعوا، يقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟
فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حتّى أقول به.
فيقول أحمد بن أبي دواد: أنت لا تقول إلاّ ما في الكتاب أو السّنّة؟
فقلت له: تأوّلت تأويلاً، فأنت أعلم، وما تأوّلت ما يحبس عليه، ولا يقيّد عليه .
قال حنبلٌ: قال أبو عبد الله: لقد احتجّوا عليّ بشيءٍ ما يقوى قلبي، ولا ينطلق لساني أن أحكيه.
أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتّى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [مريم: 42]، أفهذا منكرٌ عندكم؟
فقالوا: شبّه، يا أمير المؤمنين، شبّه.
قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: حدّثني بعض أصحابنا:
أنّ أحمد بن أبي دواد أقبل على أحمد يكلّمه، فلم يلتفت إليه، حتّى قال المعتصم: يا أحمد، ألا تكلّم أبا عبد الله؟
فقلت: لست أعرفه من أهل العلم فأكلّمه!!
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد يقول:
يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك، لهو أحبّ إليّ من ألف دينارٍ، ومائة ألف دينارٍ، فيعدّ من ذلك ما شاء الله أن يعدّ.
فقال: لئن أجابني لأطلقكنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجندي، ولأطأنّ عقبه.
ثمّ قال: يا أحمد، والله إنّي عليك لشفيقٍ، وإنّي لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فلمّا طال المجلس، ضجر، وقال: قوموا، وحبسني -يعني عنده - وعبد الرّحمن بن إسحاق يكلّمني، وقال: ويحك! أجبني .
وقال: ويحك! ألم تكن تأتينا؟

فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنةً، يرى طاعتك والحجّ والجهاد معك.
فيقول: والله إنّه لعالمٌ، وإنّه لفقيهٌ، وما يسوءني أن يكون معي يردّ عنّي أهل الملل.
ثمّ قال: ما كنت تعرف صالحاً الرّشيديّ؟
قلت: قد سمعت به .
قال: كان مؤدّبي، وكان في ذلك الموضع جالساً - وأشار إلى ناحيةٍ من الدّار - فسألني عن القرآن، فخالفني، فأمرت به، فوطئ وسحب! يا أحمد، أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فطال المجلس، وقام، ورددت إلى الموضع.
فلمّا كان بعد المغرب، وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي داود، يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي، حتّى إذا كان وقت الإفطار، جيء بالطّعام، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل - قلت: وكانت ليالي رمضان -.
قال: ووجّه المعتصم إليّ ابن أبي دواد في اللّيل، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟
فأردّ عليه نحواً ممّا كنت أردّ.
فقال ابن أبي دواد: والله لقد كتب اسمك في السّبعة: يحيى بن معينٍ وغيره، فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إيّاك.
ثمّ يقول: إنّ أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يلقيك في موضعٍ لا ترى فيه الشّمس.
ويقول: إن أجابني، جئت إليه حتّى أطلق عنه بيدي، ثمّ انصرف.
فلمّا أصبحنا، جاء رسوله، فأخذ بيدي حتّى ذهب بي إليه، فقال لهم: ناظروه، وكلّموه.
فجعلوا يناظروني، فأردّ عليهم، فإذا جاؤوا بشيءٍ من الكلام ممّا ليس في الكتاب والسّنّة، قلت: ما أدري ما هذا.
قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجّهت له الحجّة علينا، ثبت، وإذا كلّمناه بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا.
فقال: ناظروه.
فقال رجلٌ: يا أحمد، أراك تذكر الحديث وتنتحله.
فقلت: ما تقول في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} [النّساء: 11]؟
قال: خصّ الله بها المؤمنين.
قلت: ما تقول: إن كان قاتلاً أو عبداً؟
فسكت، وإنّما احتججت عليهم بهذا، لأنّهم كانوا يحتجّون بظاهر القرآن.
فحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث، احتججت بالقرآن -يعني: وإنّ السّنّة خصّصت القاتل والعبد، فأخرجتهما من العموم-.
قال: فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزّوال.
فلمّا ضجر، قال: قوموا.
ثمّ خلا بي، وبعبد الرّحمن بن إسحاق، فلم يزل يكلمني، ثمّ قام ودخل، ورددت إلى الموضع.
قال: فلمّا كانت اللّيلة الثّالثة، قلت: خليقٌ أن يحدث غداً من أمري شيءٌ، فقلت للموكّل بي: أريد خيطاً.
فجاءني بخيطٍ، فشددت به الأقياد، ورددت التّكّة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيءٌ، فأتعرّى.
فلمّا كان من الغد، أدخلت إلى الدّار، فإذا هي غاصّةٌ، فجعلت أدخل من موضعٍ إلى موضعٍ، وقومٌ معهم السّيوف، وقومٌ معهم السّياط، وغير ذلك.
ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحدٍ من هؤلاء، فلمّا انتهيت إليه، قال: اقعد.
ثمّ قال: ناظروه، كلّموه.
فجعلوا يناظروني، يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم.
فجعل بعض من هو قائمٌ على رأسي يومئ إليّ بيده، فلمّا طال المجلس، نحّاني، ثمّ خلا بهم، ثمّ نحّاهم، وردّني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتّى أطلق عنك بيدي.
فرددت عليه نحو ردّي، فقال: عليك.. - وذكر اللّعن - خذوه، اسحبوه، خلّعوه.
فسحبت، وخلعت.
قال: وقد كان صار إليّ شعرٌ من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في كمّ قميصي، فوجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم يقول: ما هذا المصرور؟
قلت: شعرٌ من شعر رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- وسعى بعضهم ليخرق القميص عنّي.
فقال المعتصم: لا تخرقوه.
فنزع، فظننت أنّه إنّما درئ عن القميص الخرق بالشّعر.
قال: وجلس المعتصم على كرسيٍّ، ثمّ قال: العقابين والسّياط.
فجيء بالعقابين، فمدّت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خذ ناتئ الخشبتين بيديك، وشدّ عليهما.
فلم أفهم ما قال، فتخلّعت يداي.

- قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: ذكروا أنّ المعتصم ألان في أمر أحمد لمّا علّق في العقابين، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته، حتّى أغراه أحمد بن أبي دواد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته، قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله.
فهاجه ذلك على ضربه.
وقال صالحٌ: قال أبي: ولمّا جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها.
ثمّ قال للجلاّدين: تقدّموا.
فجعل يتقدم إليّ الرّجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شدّ، قطع الله يدك!
ثمّ يتنحّى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كلّ ذلك: شدّ، قطع الله يدك!
فلمّا ضربت سبعة عشر سوطاً، قام إليّ -يعني: المعتصم- فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟ إنّي -والله- عليك لشفيقٌ.
وجعل عجيفٌ ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلّهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائمٌ.
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائمٌ، وأنت في الشّمس قائمٌ!
فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله أقول به.
فرجع، وجلس، وقال للجلاّد: تقدم، وأوجع، قطع الله يدك.
ثمّ قام الثّانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد! أجبني.
فجعلوا يقبلون عليّ، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائمٌ!
وجعل عبد الرّحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟
والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
ثمّ رجع، وقال للجلاّد: تقدّم.
فجعل يضربني سوطين، ويتنحّى، وهو في خلال ذلك يقول: شدّ، قطع الله يدك.
فذهب عقلي، ثمّ أفقت بعد، فإذا الأقياد قد أطلقت عنّي.
فقال لي رجلٌ ممّن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك باريّةً ودسناك!
قال أبي : فما شعرت بذلك، وأتوني بسويقٍ، وقالوا: اشرب وتقيّأ.
فقلت: لا أفطر.
ثمّ جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت الظّهر، فتقدّم ابن سماعة، فصلّى، فلمّا انفتل من صلاته، وقال لي: صلّيت، والدّم يسيل في ثوبك؟
قلت: قد صلّى عمر وجرحه يثعب دماً .
قال صالحٌ: ثمّ خلّي عنه، فصار إلى منزله.
وكان مكثه في السجن منذ أخذ إلى أن ضرب وخلّي عنه، ثمانيةً وعشرين شهراً.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 242- 252] (م)


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:20 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة رجلٍ آخر بحضرة المعتصم

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( باب مناظرة رجلٍ آخر بحضرة المعتصم
- قال الشّيخ: ووجدت في كتاب هذا الشّيخ أيضًا: حدّثنا أبو الحسن عليّ بن يحيى بن عيسى، قال: سمعت زرقان بن محمّدٍ، يقول: سمعت أبا داود السّجستانيّ، يقول: لمّا جيء بعبد اللّه بن عبد اللّه الخراسانيّ وأحضر للمحنة وأحمد بن حنبلٍ محبوسٌ قال: الخراسانيّ: هذا الّذي تدعوني إليه أعرضوه عليّ، قال: تقول: القرآن مخلوقٌ؟
قال: هذا الّذي تدعون إليه علمه اللّه ورسوله وجميع المؤمنين؟ قالوا: نعم.
قال: فوسعهم السّكوت عنه؟ فأطرق المعتصم مليًّا، ثمّ رفع رأسه، فقال: نعم قال: فما وسعكم ما وسع القوم؟ قال: فقال المعتصم: أخلوا لي بيتًا، فأخلي له بيتٌ، فطرح نفسه فيه على قفاه ورفع رجليه مع الحائط، وهو يقول: علمه اللّه وعلمه رسوله والمؤمنون، ووسعهم السّكوت عنه وسعنا ما وسع القوم، صدق الخراسانيّ، ما زال يقول ذلك ويردّده يومه وليلته، لا يجد فيه حجّةً، فلمّا كان من الغد أمر بإحضار الجماعة ثمّ جلس على كرسيّه وأحضر القوم، فبدأ الخراسانيّ فأسكتهم وقطع حجّتهم، فقال المعتصم: خلّوا عن الخراسانيّ، فقال ابن أبي دؤادٍ: يا أمير المؤمنين إنّ هذا متى يخرج على هذه السّبيل يفتن العامّة ويقول: غلبت أمير المؤمنين وغلبت قضاته وشيوخه وعلماءه، وقهرته وأدحضت حجّته، فقال: صدقت يا أحمد، ثمّ قال: جرّوا برجله، فجرّوا برجله على وجهه إلى البيت الّذي فيه أحمد بن حنبلٍ، فتعلّقت الرّزّة بغلصمته، فقال: اجذبوه فجذبوه فانقطع رأسه، قال أحمد بن حنبلٍ: فسمعت اللّسان يقول في الرّأس: غير مخلوقٍ ثلاث مرّاتٍ، ثمّ سكت قال أحمد: فكان ذلك ممّا بصّرني في أمري، وشجّع به قلبي ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 282-283]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة ابن الشّحّام قاضي الرّيّ للواثق

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب مناظرة ابن الشّحّام قاضي الرّيّ للواثق
- قال الشّيخ: ووجدت أيضًا في كتاب هذا الشّيخ بخطّه: سمعت أبا عبد اللّه بن محمّد بن إسماعيل بن الفضل بن جعفر بن يعقوب بن المنصور، يقول: حدّثني أبو الشّمر السّيبيّ قال: حدّثني ابن الرّازيّ قال: " كنت يومًا خارجًا من باب خراسان، فاستقبلت القاضي ابن الشّحّام وهو يومئذٍ قاضي الرّيّ، فسلّمت عليه، فقال لي: البيت البيت، فمضيت به إلى منزلي الّذي أسكنه، فقال لي: يا محمّد اخرج فارتدت خانًا للغلمان والدّوابّ، فخرجت فارتدت موضعًا ثمّ عدت إليه، فقال لي: تأهّب للخروج معي إلى سرّ من رأى، فقلت: أعزّ اللّه القاضي، وأيّ شيءٍ السّبب؟
فقال: حاجةٌ عرضت، ومسألةٌ أسأل أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه عنها، فدفعته عن نفسي أشدّ دفعٍ فلم يجبني إلى ذلك، فاكتريت زورقًا إلى سرّ من رأى، وأنزلت فيه الدّوابّ والغلمان، وخرجت أنا وهو، فلمّا صرت في بعض الطّريق ذاكرته بالحاجة ما هي فقال: يحكي قومٌ عن أمير المؤمنين أنّه يقول: القرآن مخلوقٌ، وأريد أن أسمع هذا شفاهًا، فتغيّرت عليه أشدّ تغيّرٍ، قال: ثمّ قلت: أظنّ أنّ منيّته قد ساقته وساقتني معه حتّى وافيت سرّ من رأى، فقال: اطلب خانًا ننزله، فنزل الخان ونزلت معه، ثمّ قال: يا محمّد ثمّ فاخرج فاسأل النّاس متى مجلسه، فسألت، فقيل لي: في غداة غدٍ يجلس، فقال للغلمان: قوموا بوقتٍ ثمّ أنّه نام وفكري يجول في كلّ شيءٍ، فلمّا كان طلوع الفجر، صاح بغلمانه فأسرجوا ثمّ أنبهني ثمّ جدّد الطّهر، ولبس ثيابه وتبخّر، فقلت: أرجو أن يدعني هاهنا ويمضي، فلمّا ركب قال لي: يا محمّد معي، فقلت في نفسي: ليس غير الموت، فلم يزل يسير وأنا معه في ركابه حتّى وافينا باب أمير المؤمنين وعليه ثياب القضاء وسواده وذيلته، وكان رجلًا عظيم الخلق، لا يمرّ بقومٍ إلّا نظروا إليه، فقال: يا محمّد قل للحجّاب يستأذنون لي على أمير المؤمنين، ويعلموه أنّي قاضي الرّيّ، فنظر الحجّاب إليه، ثمّ قالوا: يقول له: لم يؤذن لأحدٍ عليه، ودخل الحاجب فما أبطأ حتّى خرج إليّ فقال لي: قل له ينزل فنزل واعتمد على يديّ، وأنا أذكر اللّه وأسبّح، فلم يزل يدخل من دهليزٍ إلى دهليزٍ حتّى دخلنا إلى الصّحن، فإذا جماعةٌ يتناظرون، وقد علت أصواتهم في الدّار، حتّى وافى إلى القوم فسلّم عليهم ثمّ جلس، فجعل إذا نظر إليهم أطرقوا إلى الأرض وتشاغلوا بالكلام، وإذا أطرق إلى الأرض نظروا إليه، فنحن هكذا حتّى شيل السّتر، فإذا بأمير المؤمنين جالسٌ، فسلّمنا عليه، ثمّ أمرنا بالجلوس ولم يزل القوم يتكلّمون فيما جئنا فيه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين، فقال لابن الشّحّام: من الرّجل؟ فقال: عاملٌ من عمّالك، قاضي الرّيّ، أعرف بابن الشّحّام فقال: حاجةٌ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، جئت قاصدًا من الرّيّ إلى أمير المؤمنين، أسأله عن شيءٍ تحدّث النّاس به وأسمعه منه، وهي مسألةٌ فقال له: قل ما شئت. فقال: يا أمير المؤمنين على شريطة أن لا يكون المجيب لي غير أمير المؤمنين، ولا يعارض في المسألة أحدٌ، فقال: ذلك لك. فقلت: يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلٍ كان له بيتٌ يدخله في حوائجه، وهو يحفظ القرآن، فجرت منه يمينٌ أن لا يدخل البيت مخلوقٌ سواه، فعرضت له حاجةٌ فدخل إلى ذلك البيت، طلّقت امرأته أم لا؟ فضجّ أهل المجلس، وقالوا: يا أمير المؤمنين مسألة حيلةٍ. قال: فقال: يا أمير المؤمنين ليس هكذا، وعدتني أن لا يجيبني غيرك ولا يعارضني في المسألة، فأسكتهم ثمّ قال له: كيف حلف؟ قال له: رجلٌ كان له بيتٌ، وكان يحفظ القرآن، فحلف بالطّلاق ثلاثًا أنّه لا يدخل ذلك البيت مخلوقٌ سواه، فعرضت له حاجةٌ فدخل البيت، طلّقت امرأته أم لا؟ فقال: لا، وقرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما طلّقت، مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ ألقي السّتر فيما بيننا وبينه، ثمّ وثب القاضي واعتمد على يديّ، فقلت: ليته ترك يده من يدي، ولا أحسبه إلّا قاتلي، فلمّا صرنا في آخر الصّحن، عرض لنا خادمٌ
ومعه فرّاشٌ على كتفه بدرةٌ، فقال: إنّ أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه يقرأ عليك السّلام ويقول لك: استعن بهذه في مصلحتك، ولا تخلّ مجلسنا من حضورك، ثمّ رجع الخادم ولم يزل الفرّاش معه إلى الخان الّذي كنّا فيه، فقال لي: يا محمّد حلّ البدرة، فحللتها، فقال: احث بيدك للفرّاش، فضربت بيدي اليمين، فقال: بالاثنتين، فحثيت له حثيةً ما حملت يداي، وانصرف الفرّاش ثمّ قال لي: شدّها وضعها في الصّندوق. وقال: اطلب زورقًا للانحدار إلى بغداد، فاكتريت له زورقًا، وخرج من يومه من سرّ من رأى إلى بغداد ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 278-281]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة العبّاس بن موسى بن مشكويه الهمدانيّ بحضرة الواثق

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( باب مناظرة العبّاس بن موسى بن مشكويه الهمدانيّ بحضرة الواثق
- حدّثنا أبو عمر عبيد اللّه بن محمّد بن عبيد بن مسبّحٍ العطّار، قال: حدّثنا أبو بكرٍ القاسم بن إبراهيم الصّفّار القنطريّ، قال: حدّثنا سلامة بن جعفرٍ الرّمليّ، قال: حدّثنا العبّاس بن مشكويه الهمذانيّ، قال: " أدخلت على الخليفة المتكنّي بالواثق أنا وجماعةٌ من أهل العلم، فأقبل بالمسألة عليّ من بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين إنّي رجلٌ مروّعٌ ولا عهد لي بكلام الخلفاء من قبلك. "
فقال: لا ترع ولا بأس عليك، ما تقول في القرآن؟
فقلت: «كلام اللّه غير مخلوقٍ»،
فقال: أشهد لتقولنّ مخلوقًا أو لأضربنّ عنقك.
قال: " فقلت: إنّك إن تضرب عنقي، فإنّك في موضع ذلك إن جرت به المقادير من عند اللّه، فتثبّت عليّ يا أمير المؤمنين، فإمّا أن أكون عالمًا فتثبت حجّتي، وإمّا أن أكون جاهلًا فيجب عليك أن تعلّمني لأنّك أمير المؤمنين وخليفة اللّه في أرضه وابن عمّ نبيّه"
فقال: أما تقرأ {إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ} [القمر: 49]، {وخلق كلّ شيءٍ فقدّره تقديرًا} [الفرقان: 2]،
قلت: «يا أمير المؤمنين الكلّيّة في كتاب اللّه خاصٌّ أم عامٌّ؟»،
قال: عامٌّ.
قلت: " لا، بل خاصٌّ، قال اللّه عزّ وجلّ: {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] فهل أوتيت ملك سليمان عليه السّلام؟ فحذفني بعمودٍ كان بين يديه، ثمّ قال: أخرجوه، فاضربوا عنقه، فأخرجت إلى قبّةٍ قريبةٍ منه، فشدّ عليها كتافي، فناديت: يا أمير المؤمنين إنّك ضاربٌ عنقي، وأنا متقدّمك، فاستعدّ للمسألة جوابًا"
فقال: أخرجوا الزّنديق وضعوه في أضيق المحابس، فأخرجت إلى دار العامّة، فإذا أنا بابن أبي دؤادٍ يناظر النّاس على خلق القرآن، فلمّا نظر إليّ قال: يا خرّميّ
قلت: «أنت والّذين معك وهم شيعة الدّجّال» فحبسني في سجن ببغداد يقال له المطبّق، فأرسل إليّ جماعةٌ من العلماء رقعةً يشجّعونني ويثبّتونني على ما أنا عليه، فقرأت ما فيها، فإذا فيها:
[البحر البسيط]

عليك بالعلم واهجر كلّ مبتدعٍ.....وكلّ غاوٍ إلى الأهواء ميّال
ولا تميلنّ يــــــــــــــــــــــا هذا إلى بدعٍ.....يضلّ أصحابها بالقيل والقال
إنّ القــرآن كلام اللّه أنـــــــــــــزلـــــــــه.....ليس القرآن بمخلوقٍ ولا بال
لو أنّه كان مخلوقًــــــــــا لصيّـــــــــــــــره.....ريب الزّمان إلى موتٍ وإبطال
وكيف يبــــــــطل ما لا شيء يبطله.....أم كيف يبلى كلام الخالق العالي
وهل يضيـف كلام اللّه من أحدٍ.....إلى البلى غير ضلّالٍ وجهّــــــــــال
فلا تقل بالّذي قالوا وإن سفهوا.....وأوثـقـوك بأقيادٍ وأغـــــــــــــــــــــــلال
ألم تر العالم الصّبّـار حيث بلي.....بالسّوط هل زال عن حالٍ إلى حال
فاصبر على كلّ ما يأتي الزّمان به....فالصّبر سرباله من خير سربال
يا صاحب السّجن فكّر فيم تحسبه...أقاتلٌ هو أم عونٌ لقتّــــــــــــال
أم هل أتيت به رأسًــــــــــا لرافـضةٍ.....يرى الخروج لهم جهلًا على الوالي
أم هل أصيب على خمرٍ ومعزفةٍ.....يصرّف الكأس فيها كلّ ضلّال
ما هكــــــــــــــــــــــذا هو بل لكنّه ورعٌ.....عفٌّ عفيفٌ عن الأعراض والمال
ثمّ ذكرني بعد أيّامٍ وأخرجني من السّجن وأوقفني بين يديه، وقال: عساك مقيمًا على الكلام الّذي كنت سمعته منك؟
فقلت: «واللّه يا أمير المؤمنين إنّي لأدعو ربّي تبارك وتعالى في ليلي ونهاري ألّا يميتني إلّا على ما كنت سمعته منّي»
قال: أراك متمسّكًا، قلت: ليس هو شيءٌ قلته من تلقاء نفسي، ولكنّه شيءٌ لقيت فيه العلماء بمكّة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشّام، والثّغور، فرأيتهم على السّنّة والجماعة.
فقال لي: وما السّنّة والجماعة؟
قلت: " سألت عنها العلماء فكلٌّ يخبر ويقول: إنّ صفة المؤمن من أهل السّنّة والجماعة أن يقول العبد مخلصًا: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وإنّ محمّدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاءت الأنبياء والرّسل، ويشهد العبد على ما ظهر من لسانه وعقد عليه قلبه، والإيمان بالقدر خيره وشرّه من اللّه، ويعلم العبد أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، والإيمان قولٌ وعملٌ يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية، وأنّ اللّه عزّ وجلّ قد علم من خلقه ما هم فاعلون، وما هم إليه صائرون، فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير" وصلاة الجمعة والعيدين خلف كلّ إمامٍ برٍّ وفاجرٍ، وصلاة المكتوبة من غير أن تقدّم وقتًا أو تؤخّر وقتًا، وأن نشهد للعشرة الّذين شهد لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قريشٍ بالجنّة، والحبّ والبغض للّه وفي اللّه، وإيقاع الطّلاق إذا جرى كلمةٌ واحدةٌ، والمسح على الخفّين للمسافر ثلاثة أيّامٍ وللمقيم يومٌ وليلةٌ، والتّقصير في السّفر إذا سافر ستّة عشر فرسخًا بالهاشميّ - ثمانيةً وأربعين ميلًا - وتقديم الإفطار وتأخير السّحور، وتركيب اليمين على الشّمال في الصّلاة، والجهر بآمين، وإخفاء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، وأن تقول بلسانك وتعلم يقينًا بقلبك أنّ خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكرٍ، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليٌّ رضوان اللّه عليهم، والكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والإيمان بالبعث والنّشور وعذاب القبر ومنكرٍ ونكيرٍ والصّراط والميزان، وأنّ اللّه عزّ وجلّ يخرج أهل الكبائر من هذه الأمّة من النّار، وأنّه لا يخلّد فيها إلّا مشركٌ، وأنّ أهل الجنّة يرون اللّه عزّ وجلّ بأبصارهم، وأنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، وأنّ الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسّماوات مطويّاتٌ بيمينه، سبحانه عمّا يشركون.
قال: فلمّا سمع هذا منّي أمر بي فقلع لي أربعة أضراسٍ، وقال: أخرجوه عنّي لا يفسد عليّ ما أنا فيه، فأخرجت فلقيت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ فسألني عمّا جرى بيني وبين الخليفة فأخبرته، فقال: لا نسي اللّه لك هذا المقام حين تقف بين يديه. ثمّ قال: ينبغي أن نكتب هذا على أبواب مساجدنا، ونعلّمه أهلنا وأولادنا، ثمّ التفت إلى ابنه صالحٍ، فقال: اكتب هذا الحديث واجعله في رقٍّ أبيض واحتفظ به، واعلم أنّه من خير حديثٍ كتبته، إذا لقيت اللّه يوم القيامة تلقاه على السّنّة والجماعة.). [الإبانة الكبرى: 6/ 284-288]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة شيخٍ آخر بحضرة الواثق

قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (أخبرنا المسلّم بن علاّن، وغيره كتابةً: أنّ أبا اليمن الكنديّ أخبرهم، أخبرنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ، أخبرنا أبو بكرٍ الخطيب، حدّثنا محمّد بن الفرج البزّاز، حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدّثنا جعفر بن شعيبٍ الشّاشيّ، حدّثني محمّد بن يوسف الشّاشيّ، حدّثني إبراهيم بن أميّة، سمعت طاهر بن خلفٍ، سمعت المهتدي بالله محمّد ابن الواثق يقول:
كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، فأتي بشيخٍ مخضوبٍ مقيّدٍ، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه -يعني: ابن أبي دواد-.
قال: فأدخل الشّيخ، فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال: لا سلّم الله عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدّبك مؤدّبك، قال الله -تعالى-: {وإذا حيّيتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها} [النّساء: 86].
فقال ابن أبي دواد: الرّجل متكلّمٌ.
قال له: كلّمه.
فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟
قال: لم ينصفني، ولي السّؤال.
قال: سل.
قال: ما تقول في القرآن؟
قال: مخلوقٌ.
قال الشّيخ: هذا شيءٌ علمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- وأبو بكرٍ، وعمر، والخلفاء الرّاشدون، أم شيءٌ لم يعلموه؟
قال: شيءٌ لم يعلموه.
فقال: سبحان الله! شيءٌ لم يعلمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- علمته أنت؟
فخجل، فقال: أقلني.
قال: المسألة بحالها.
قال: نعم، علموه.
فقال: علموه، ولم يدعوا النّاس إليه؟
قال: نعم.
قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟
قال: فقام أبي، فدخل مجلساً، واستلقى وهو يقول:
شيءٌ لم يعلمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- ولا أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ ولا الخلفاء الرّاشدون، علمته أنت! سبحان الله! شيءٌ علموه، ولم يدعوا النّاس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟!
ثمّ أمر برفع قيوده، وأن يعطى أربع مائة دينارٍ، ويؤذن له في الرّجوع، وسقط من عينه ابن أبي دواد، ولم يمتحن بعدها أحداً.
هذه قصّةٌ مليحةٌ، وإن كان في طريقها من يجهل، ولها شاهدٌ.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 312-313]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
....
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( - حدثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني قال: حدثنا أحمد بن الممتنع بن عبيد الله القرشي التيمي قال: أنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة، والشأن منهم قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمر بالتوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، ويختم ويدفع إلى صاحبه، بين يديه، فسرني ذلك، وجعلت أنظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثا، وإذا نظر غضضت، وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح، فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقمت قائما، فقال: في نفسك منا شيء يجب أن تقوله؟ أو قال: تريد أن تقوله؟
فقلت: نعم، يا سيدي يا أمير المؤمنين، قال لي: عد إلى موضعك، فعدت، وعاد في النظر، حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح، فانصرف الناس ثم أذن لي، وقد أهمتني نفسي فدخلت فدعوت له، فقال لي: اجلس، فجلست، فقال: يا صالح، تقول لي، ما دار في نفسك، أو أقول أنا: ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه، وما تأمر به.
فقال: وأقول: كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق؟
فورد على قلبي أمر عظيم، وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين إلا مرة؟ وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، وما دار في نفسي إلا ما قلت، ثم أطرق مليا ، ثم قال لي: ويحك، اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن مني الحق، فسري عني فقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأولين والآخرين، فقال لي: ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذنة فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيى منه، ورق له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ الدعاء، وأوجز، فقال له الواثق اجلس ثم قال له: يا شيخ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يقل ويضيق، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وعاد مكان الرأفة له غضبا عليه، فقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يصبو ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال له الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك وائذن لي في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد، إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟
فقال: إلى أن تقول: القرآن مخلوق؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق
فقال الشيخ: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي وعليه ما نقول.
قال: أفعل.
قال الشيخ: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟
قال: نعم
قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه؟
قال: لا
قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى، حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا} أكان الله تعالى الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد
فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها
قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ علمها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟
فقال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت لك القول أن أحمد يصبو ويقل ويضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك الإمساك عن هذه المقالة، ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك
فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ.
فلما قطع ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه، فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم جاذبت عليه؟
قال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا مت أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله تعالى يوم القيامة، فأقول: يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق وأوجب ذلك علي؟
وبكى الشيخ فبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله فقال الشيخ: والله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال الواثق: تقيم فينا فينتفع بك فتياننا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، ولأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي وأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة ما تستعين بها على دهرك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة سوي.
قال: فسل حاجتك.
قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: فخل سبيلي إلى الثغر الساعة، وتأذن لي.
قال: قد أذنت لك، فسلم الشيخ، وخرج.
قال صالح: قال المهتدي بالله رحمة الله عليه: فرجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت. ). [الشريعة للآجري: ؟؟]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر محنة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
- حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مطرّفٍ القاضي البستيّ، وحدّثني أبو صالح بن ثابتٍ، وأخبرني أبو بكرٍ محمّد بن الحسن، قالوا: حدّثنا أبو عبد اللّه جعفر بن إدريس القزوينيّ، قال: حدّثنا أحمد بن الممتنع بن عبد اللّه القرشيّ التّيميّ، قال: أخبرنا أبو الفضل صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور الهاشميّ، وكان من وجوه بني هاشمٍ وأهل الجلالة والسّنّ منهم، قال: حضرت المهتدي باللّه أمير المؤمنين رحمة اللّه عليه وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامّة، فنظرت إلى قصص النّاس تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها فيأمرنا بالتّوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، وتختم وتدفع إلى صاحبه بين يديه، فيسرّني ذلك، وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إليّ، فغضضت عنه حتّى كان ذلك منّي ومنه مرارًا ثلاثًا، إذا نظر إليّ غضضت وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا، فقال: في نفسك منّا شيءٌ تحبّ أن تقوله، أو قال: تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيّدي يا أمير المؤمنين، فقال: عد إلى موضعك، فعدت. وعاد في النّظر حتّى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالحٌ فانصرف النّاس، ثمّ أذن لي وقد همّتني نفسي، فدخلت دعوت له، فقال لي: «اجلس» فجلست، فقال: «يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسك أنّه دار في نفسك؟»
قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وما تأمر به؟ فقال: «وأقول أنا، كأنّي بك وقد استحسنت ما رأيت منّا»، فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ، فورد على قلبي أمرٌ عظيمٌ، وهمّتني نفسي، ثمّ قلت: يا نفس هل تموتين إلّا مرّةً واحدةً، وهل تموتين قبل أجلك، وهل يجوز الكذب في جدٍّ أو هزلٍ، فقلت: واللّه يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلّا ما قلت، أطرق مليًّا، ثمّ قال: " ويحك، اسمع منّي ما أقول لك، فواللّه لتسمعنّ الحقّ، فسرّي عنّي وقلت: يا سيّدي ومن أولى بالحقّ منك وأنت خليفة ربّ العالمين، وابن عمّ سيّد المرسلين من الأوّلين والآخرين؟ فقال لي: " ما زلت أقول إنّ القرآن مخلوقٌ صدرًا من خلافة الواثق حتّى أقدم علينا ابن أبي دؤادٍ شيخًا من أهل الشّام من أهل أذنة، فأدخل الشّيخ على الواثق وهو جميل الوجه، تامّ القامة، حسن الشّيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له، فما زال يدنيه ويقرّبه حتّى قرّب منه، فسلّم الشّيخ فأحسن السّلام، ودعا فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس، ثمّ قال له: «يا شيخ ناظر ابن أبي دؤادٍ على ما يناظرك عليه»،
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤادٍ يقلّ ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق وعاد مكان الرّقة له غضبًا عليه، فقال أبو عبد اللّه: ابن أبي دؤادٍ يصبو، ويقلّ ويضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال الشّيخ: هوّن عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلّا لمناظرته.
فقال الشّيخ: يا أحمد إلى ما دعوت النّاس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول: القرآن مخلوقٌ.
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه ما نقول. قال: أفعل.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، واجبةٌ داخلةٌ في عقدة الدّين، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه ما قلت؟
قال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بعثه اللّه عزّ وجلّ إلى عباده، هل ستر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا أمره اللّه به في دينه؟ قال: لا.
قال الشّيخ: فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأمّة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ.
فقال الشّيخ: تكلّم. فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. فقال الواثق: واحدةٌ.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن اللّه سبحانه حين أنزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3]، كان اللّه عزّ وجلّ الصّادق في إكمال دينه أم أنت الصّادق في نقصانه، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: علمها. قال الشّيخ: فدعا النّاس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ثلاثٌ. فقال الواثق: ثلاثٌ.

فقال الشّيخ: يا أحمد فاتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ علمها كما زعمت، ولم يطالب أمّته بها؟ قال: نعم.
قال الشّيخ: واتّسع لأبي بكرٍ الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهم؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: نعم.
فأعرض الشّيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين قدّمت القول أنّ أحمد يصبو ويقلّ ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي اللّه عنهم، فلا وسّع اللّه على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتّسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ، فلا وسّع اللّه علينا، اقطعوا قيد هذا الشّيخ.
لمّا قطع ضرب الشّيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه، فقال الواثق: دع الشّيخ ليأخذه، فأخذه الشّيخ فوضعه في كمّه، فقال الواثق: لم جاذبت عليه؟
قال الشّيخ: لأنّي نويت أن أتقدّم إلى من أوصي إليه إذا أنا متّ أن يجعله بيني وبين كفني حتّى أخاصم به هذا الظّالم عند اللّه يوم القيامة، وأقول: يا ربّ سل عبدك هذا لم قيّدني؟ وروّع أهلي وولدي وإخواني بلا حقٍّ أوجب ذلك عليّ؟ .
وبكى الشّيخ، فبكى الواثق فبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ وسعةٍ ممّا ناله، فقال الشّيخ: واللّه يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكرامًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ كنت رجلًا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجةٌ، فقال الشّيخ: إن كانت ممكنةً فعلت.
فقال الواثق: تقيم قبلنا، فينتفع بك فتياننا.
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إنّ ردّك إيّاي إلى الموضع الّذي أخرجني منه هذا الظّالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم، فقد خلّفتهم على ذلك.
فقال الواثق: فتقبّل منّا صلةً تستعين بها على دهرك. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين لا تحلّ لي أنا عنها غنّيٌّ، وذو مرّةٍ سويٌّ، قال: فاسأل حاجتك.
قال: أوتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
قال: تخلّي سبيلي السّاعة وتأذن لي فيه. قال: قد أذنت لك.
فسلّم عليه الشّيخ وخرج. قال صالحٌ: قال المهتدي باللّه: فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، وأظنّ الواثق باللّه كان رجع عنها من ذلك الوقت.). [الإبانة الكبرى: 6/ 269-274]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر مناظرة هذا الشّيخ بحضرة الواثق نقلتها من كتب بعض شيوخ بلدتنا، وكتبتها من أصل كتابه، وهي أتمّ من هذه وأشبع في حجاجها، فأعدتها لموضع الزّيادة.
قال الشّيخ أبو عبد اللّه: رأيت في كتب بعض شيوخنا بخطّه:
- حدّثنا أبو موسى محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن منصورٍ، قال: أخبرنا صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور، قال: " كنت يومًا بين يدي أمير المؤمنين المهتدي باللّه رحمة اللّه عليه، وقد جلس للنّظر في المظالم للعامّة، فجعلت أنظر إليه، فذكر نحو القصّة الأولى أو شبيهًا بها حتّى بلغ منها إلى قوله: يا أحمد أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ حين نزّل على رسوله في القرآن {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]، وقلت أنت: الدّين لا يكون كاملًا حتّى يقال بمقالتك، أكان اللّه الصّادق في إكماله أم أنت الصّادق في نقصانه؟ فسكت أحمد، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين هذه ثنتان.
ثمّ قال الشّيخ: «يا أحمد الكلمة الّتي يكوّن اللّه تعالى بها الأشياء من أيّ شيءٍ خلقها؟» فسكت أحمد، فقال الشّيخ: «ثلاثٌ يا أمير المؤمنين»
ثمّ قال الشّيخ: «يا أحمد أخبرني حيث كان اللّه في وحدانيّته قبل أن يخلق الخلق كان تامًّا أو ناقصًا؟» قال: بل تامًّا.
قال: «فكيف يكون تامًّا من لا كلام له»، فسكت أحمد. فقال: أربعٌ يا أمير المؤمنين.
قال الشّيخ: «يا أحمد أكان اللّه عالمًا تامّ العلم، أم كان جاهلًا؟» فسكت أحمد. فقال: خمسٌ يا أمير المؤمنين.
ثمّ قال الشّيخ: " يا أحمد، قوله {ولكن حقّ القول منّي} [السجدة: 13] الكلمة منه أم خلقها من غيره؟ " فأمسك أحمد، فقال: ستٌّ يا أمير المؤمنين " وذكر من القصّة في القيد وغيرها شبيهًا بما مضى في الخبر الأوّل وزاد فيه:
" قال الواثق: يا شيخ زد أحمد من هذه الحجج لعلّه يرجع عن هذه المقالة.
قال: يا أمير المؤمنين عليكم نزل العلم، ومنكم اقتبسناه. ثمّ قال الشّيخ: يا أحمد قد علمنا وعلمت أنّ اللّه عزّ وجلّ قال {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس} [المائدة: 67]، أليس ما أنزل اللّه على رسوله؟ قال: نعم.
قال: فهل تقدر أن تقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بلّغنا هذا الّذي تدعونا إليه؟ أم هذه المقالة في كتاب اللّه أو سنّة نبيّه حتّى نتابعك عليها، وإن قلت: إنّه لم يبلّغنا، فقد نسبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى التّقصير في أمر اللّه، وأنّه كتم أمرًا أمره اللّه إبلاغنا إيّاه، فسكت أحمد فلم يجبه بشيءٍ.

قال الشّيخ: يا أحمد قول اللّه عزّ وجلّ: يا موسى {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني} [طه: 14]، أفيجوز أن يكون هذا مخلوقًا؟ فسكت أحمد.
قال الواثق: يا شيخ سلني حاجةً. قال: حاجتي أن تردّني السّاعة إلى منزلي الّذي أخرجت عنه، فأمر بردّه مكرمًا.
قال صالحٌ: فقال أمير المؤمنين المهتدي باللّه: فرجعت في ذلك اليوم عن تلك المقالة، ورجع أمير المؤمنين الواثق، ولم نسمعه يناظر في شيءٍ من ذلك القول حتّى مات ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 275-277]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وبإسنادنا إلى الخطيب: أخبرنا ابن رزقويه، أخبرنا أحمد بن سندي الحدّاد، أخبرنا أحمد بن الممتنع، أخبرنا صالح بن عليٍّ الهاشميّ، قال:
حضرت المهتدي بالله، وجلس لينظر في أمور المظلومين، فنظرت في القصص تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها، فيأمر بالتّوقيع فيها، وتحرّر، وتدفع إلى صاحبها، فيسرّني ذلك، فجعلت أنظر إليه ففطن، ونظر إليّ، فغضضت عنه، حتّى كان ذلك منّي ومنه مراراً، فقال: يا صالح.
قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، ووثبت.
فقال: في نفسك شيءٌ تريد أن تقوله؟!
قلت: نعم.
فقال: عد إلى موضعك.
فلمّا قام، خلا بي، وقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تأمر؟
قال: أقول: إنّه دار في نفسك أنّك استحسنت ما رأيت منّا.
فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ.
فورد عليّ أمرٌ عظيمٌ، ثمّ قلت: يا نفس، هل تموتين قبل أجلك؟
فقلت: ما دار في نفسي إلاّ ما قلت.
فأطرق مليّاً، ثمّ قال: ويحك! اسمع، فو الله لتسمعنّ الحقّ.
فسرّي عنّي، فقلت: يا سيّدي، ومن أولى بقول الحقّ منك، وأنت خليفة ربّ العالمين.
قال: ما زلت أقول: إنّ القرآن مخلوقٌ صدراً من أيّام الواثق - قلت: كان صغيراً أيّام الواثق، والحكاية فمنكرةٌ -.
ثمّ قال: حتّى أقدم أحمد بن أبي دواد علينا شيخاً من أذنة، فأدخل على الواثق مقيّداً، فرأيته استحيا منه، ورقّ له، وقرّبه، فسلّم، ودعا، فقال: يا شيخ، ناظر ابن أبي دواد.
فقال: يا أمير المؤمنين، نصّبوا ابن أبي دواد، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وقال: أيضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال: يا أمير المؤمنين، هوّن عليك، فائذن لي في مناظرته، فإن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه.
قال: أفعل.
فقال الشّيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالةٌ واجبةٌ داخلةٌ في عقد الدّين، فلا يكون الدّين كاملاً حتّى تقال فيه؟
قال: نعم.
قال: فأخبرني عن رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بعث، هل ستر شيئاً ممّا أمره الله به من أمر دينهم؟
قال: لا.
قال: فدعا الأمّة إلى مقالتك هذه؟
فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. قال: نعم.
فقال الشّيخ: فأخبرني عن الله حين قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]، هل كان الصّادق في إكمال دينه، أو أنت الصّادق في نقصانه حتّى يقال بمقالتك هذه؟
فسكت، فقال: أجب، فلم يجب.
فقال: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
ثمّ قال: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك، أعلمها رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أم لا؟
قال: علمها.
قال: فدعا النّاس إليها؟
فسكت.
فقال: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ.
ثمّ قال: يا أحمد، فاتّسع لرسول الله أن يعلمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمّته بها؟
قال: نعم.
واتّسع ذلك لأبي بكرٍ وعمر؟
قال: نعم.
فأعرض الشّيخ، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت أنّه يضعف عن المناظرة، إن لم يتّسع لنا الإمساك عنها، فلا وسّع الله على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم.
فقال الواثق: نعم، اقطعوا قيد الشّيخ.
فلمّا قطع، ضرب بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه.
فقال الواثق: لم أخذته؟
قال: لأنّي نويت أن أوصي أن يجعل في كفني حتّى أخاصم به هذا الظالم غداً.
وبكى، فبكى الواثق وبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ، فقال: لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكراماً لرسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-؛ لكونك من أهله.
فقال له: أقم قبلنا فننتفع بك، وتنتفع بنا.
قال: إنّ ردّك إيّاي إلى موضعي أنفع لك، أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم عليك، فقد خلّفتهم على ذلك.
قال: فتقبل منّا صلةً؟
قال: لا تحلّ لي، أنا عنها غنيٌّ.
قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت.
قال أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ الحافظ: هذا الأذنيّ هو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ .
قال إبراهيم نفطويه: حدّثني حامد بن العبّاس، عن رجلٍ، عن المهتدي:
أنّ الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 313- 316]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:48 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة