تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ واللّه يضاعف لمن يشاء واللّه واسعٌ عليمٌ (261) الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذىً لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (262)}
هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ....... والحب يأكله في القرية السوس
وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد
حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح، واختلف العلماء في معنى قوله: {واللّه يضاعف لمن يشاء}، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة. وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. وليس هذا بثابت الإسناد عنه، وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه السلام «رب زد أمتي». فنزلت: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له} [الحديد: 11]، فقال: «رب زد أمتي»، فنزلت: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزمر: 10] وسنبلةٍ فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب، والجمع سنابل، وفي قوله تعالى: {مثل الّذين}، حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، أو تقدره كمثل ذي حبة، وقال الطبري في هذه الآية: «إن قوله: {في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ} معناه: إن وجد ذلك وإلا فعلى أن نفرضه» ثم أدخل عن الضحاك أنه قال: «في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة»، فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال هو، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك، قال أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة). [المحرر الوجيز: 2/ 57-58]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين ينفقون أموالهم} الآية، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى، وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى.
فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة، وذكر النقاش:«أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه»، وقال مكي: «في عثمان وابن عوف رضي الله عنهما»، والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم. قال: «ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد»، وقال زيد بن أسلم: «لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه»، وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال لها: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته »). [المحرر الوجيز: 2/ 58-60]
تفسير قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذىً واللّه غنيٌّ حليمٌ (263) يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر فمثله كمثل صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين (264)}
هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها. وقال المهدوي وغيره: «التقدير في إعرابه قولٌ معروفٌ أولى ومغفرةٌ خيرٌ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج». ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال النقاش: «يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم»، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم). [المحرر الوجيز: 2/ 60-61]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} الآية، العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية: «إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة»، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حسن، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى»، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي ينفق رئاء لا لوجه الله، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية. كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس. قال المهدوي: «والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء»، وقوله تعالى: {ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر} يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك. ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان. ثم مثل هذا المنفق رئاء ب صفوانٍ عليه ترابٌ فيظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى. فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية. فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن أرضا. وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير همز. ورويت عن عاصم.
والصفوان الحجر الكبير الأملس. قيل هو جمع واحدته صفواته. وقال قوم واحدته صفواة، وقيل هو إفراد وجمعه صفى، وأنكره المبرد وقال: «إنما هو جمع صفا»، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا. قال امرؤ القيس:
كميت يزل اللبد عن حال متنه ....... كما زلت الصفواء بالمتنزل
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة = بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
وقرأ الزهري وابن المسيب «صفوان» بفتح الفاء، وهي لغة، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه، ومنه قول رؤبة: برّاق أصلاد الجبين الأجله، قال النقاش: «الصلد الأجرد بلغة هذيل»، وقوله تعالى: {لا يقدرون} يريد به الذين ينفقون رئاء، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم، وجاءت العبارة ب يقدرون على معنى الذي. وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولا على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ، وقوله تعالى: {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسير إبطال المن والأذى للصدقة). [المحرر الوجيز: 2/ 61-65]