تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر واللّه لا يهدي القوم الظّالمين (258)}
ألم تر تنبيه، وهي رؤية القلب، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم تر» بجزم الراء، «والّذي حاجّ إبراهيم هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة»، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جريج: «هو أول ملك في الأرض» وهذا مردود. وقال قتادة: «هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل». وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين. والآخر بخت نصر. وقيل: إن الّذي حاجّ إبراهيم نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما: ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال: من ربكم وإلهكم؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار، فقال له من ربك وإلهك؟ قال قال إبراهيم: ربّي الّذي يحيي ويميت، فلما سمعها نمرود قال: أنا أحيي وأميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس، فبهت الّذي كفر، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على كثيب من رمل كالدقيق، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك، وقال الربيع وغيره في هذه القصص: ان النمرود لما قال: أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال: قد أحييت هذا وأمتّ هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت، والرواية الأخرى ذكر السدي: أنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت اثنين فماتا، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة، ففزع نمرود إلى المجاز وموه به على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه بأمر لا مجاز فيه، فبهت الّذي كفر، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه.
وقوله حاجّ وزنه «فاعل» من الحجة أي جاذبه إياها والضمير في ربّه يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يعود على الّذي حاجّ، وأن مفعول من أجله والضمير في آتاه للنمرود، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل من التأويل، وقرأ جمهور القراء أن أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أنا إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع، فإن ورشا وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن، مثل أنا أحيي أنا أخوك إلا في قوله تعالى: {إن أنا إلّا نذيرٌ} [الأعراف: 188] [الشعراء: 115] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، قال أبو علي: «ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحيانا في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك الألف، وهي مثل ألف حيهلا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي، فتأمل». قال أبو علي: «فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ....... حميدا قد تذريت السناما
وقرأ الجمهور: «فبهت» الذي بضم الباء وكسر الهاء، يقال بهت الرجل: إذا انقطع وقامت عليه الحجة. قال ابن سيده: «ويقال في هذا المعنى: «بهت» بفتح الباء وكسر الهاء، «وبهت» بفتح الباء وضم الهاء». قال الطبري: «وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى، «بهت» بفتح الباء والهاء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء»، قال ابن جني: «قرأ أبو حيوة: «فبهت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع: «فبهت» بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون «بهت» بفتحهما لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهت» بكسر الهاء كخرق ودهش، قال: والأكثر بالضم في الهاء»، قال ابن جني: «يعني أن الضم يكون للمبالغة»، قال الفقيه أبو محمد: «وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة».
وقوله تعالى: {واللّه لا يهدي القوم الظّالمين}، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته. والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالما). [المحرر الوجيز: 2/ 34-38]
تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عامٍ} عطفت أو في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله: {ألم تر إلى الّذي حاجّ} [الآية: 258] يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج، ثم جاء قوله أو كالّذي، عطفا على ذلك المعنى، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أو كالذي مر» بفتح الواو، وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: «الذي مر على القرية هو عزير»، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر: «هو أرمياء»، وقال ابن إسحاق: «أرمياء هو الخضر» وحكاه النقاش عن وهب بن منبه، قال الفقيه أبو محمد: «وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه»، وحكى مكي عن مجاهد: «أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى»، قال النقاش: «ويقال هو غلام لوط عليه السلام». قال أبو محمد: «واختلف في القرية أيما هي؟» فحكى النقاش: «أن قوما قالوا هي المؤتفكة». وقال ابن زيد: «إن القوم {الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا} [البقرة: 243] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عامٍ»، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد. وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها. والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان». وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة والربيع: «القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل، حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها»، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى: {وممّا يعرشون} [النحل: 68] قال السدي: «يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها»، وقال غير السدي: «معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة»، قال أبو محمد: «وانظر استعمال العريش مع على، في الحديث في قوله، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر»، وخاويةٌ معناه خالية، يقال خوت الدار تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري: «والأول أفصح».
وقوله: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها} معناه من أي طريق وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله، إنما كان عن إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وليس يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك»، وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال، أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟ قال: فأماته اللّه تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه، وقيل تبن وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل من عصير وقيل، قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتا مائة عام، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا أكل شيئا ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير، وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي عزير، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه بقي سبعين ميتا كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية.
وقوله تعالى: {ثمّ بعثه} معناه: أحياه وجعل له الحركة والانتقال، فسأله الله تعالى بواسطة الملك كم لبثت؟ على جهة التقرير، وكم في موضع نصب على الظرف، فقال: لبثت يوماً أو بعض يومٍ، قال ابن جريج وقتادة والربيع: «أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب، فظن هذا اليوم واحدا فقال لبثت يوماً ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يومٍ فقيل له بل لبثت مائة عامٍ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك»، قال النقاش: «العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح»، وقال تعالى: {وكلٌّ في فلكٍ يسبحون} [الأنبياء: 33].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذا معنى كلام النقاش. والعام على هذا كالقول والقال. وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد»، وروي في قصص هذه الآية: أن الله بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع: لبثت في كل القرآن بإظهار الثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال والثاء المثلثة من حيز، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، بالإدغام في كل القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان، قال أبو علي: ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة».
قوله عز وجل: {... فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (259)}
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّا على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني، وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
وقرأ ابن مسعود: «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه»، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة»، قال أبو علي: «واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل: {لم يتسنّه} {واقتده} [الأنعام: 90]، و{ما أغنى عنّي ماليه} [الحاقة: 28] و{سلطانيه} [الحاقة: 29] {وما أدراك ما هيه} [القارعة: 10] وإسقاطها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في {يتسنّه}، {واقتده}، ويثبتها في الباقي. ولم يختلفوا في {حسابيه} [الحاقة: 20- 26] و{كتابيه} [الحاقة: 19- 25] أنهما بالهاء في الوقف والوصل»، ويتسنّه يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم. وقال الزجّاج: «ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن. قلبت النون ياء كما فعل في تظننت، حتى قلت لم أتظنن، فيجيء تسنن تسنى. ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن». ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت. وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل. ويحتمل يتسنّه أن يكون من السنة وهو الجدب. والقحط، وما أشبهه، يسمونه بذلك. وقد اشتق منه فعل فقيل: استنّوا، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت، والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام. وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات، وقال أسنهت عند بني فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ....... ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر الجزم ب لم، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقد ذكر. وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام.
وقال النقاش: «{لم يتسنّه} معناه: لم يتغير من قوله تعالى: {من ماءٍ غير آسنٍ} [محمد: 15]»، ورد النحاة على هذا القول، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، وأما قوله تعالى: {وانظر إلى حمارك}، فقال وهب بن منبه وغيره: «المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا». ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق، وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: «بل قيل له وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة»، قالا: «وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه»، قالا: «وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته».
وقوله تعالى: {ولنجعلك آيةً للنّاس} معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش: «موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا»، وقال عكرمة: «جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة»، وقال غير الأعمش: «بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض». وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن قال: هي عظام الحمار، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. «ننشزها» بالزاي، وروى أبان عن عاصم «ننشرها» بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
فمن قرأها «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها. يقال أنشر الله الموتى فنشروا، قال الله تعالى: {ثمّ إذا شاء أنشره} [عبس: 22].
وقال الأعشى:
... ... ... ... ....... يا عجبا للميّت النّاشر
وقراءة عاصم: «ننشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ: «ننشزها» بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول الشاعر:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه ....... إذا ما علا نشزا حصان مجلّل
قال أبو علي وغيره: «فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء»، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى:
... ... ... ... ....... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشزا
يقال نشز وأنشزته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع»، وقال النقاش: «ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها»، وقوله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} [المجادلة: 11] أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز الناب. فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة: نشز. وقرأ النخعي «ننشزها» بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة وقرأ أبي بن كعب: «كيف ننشيها» بالياء. والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ....... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري: «المعنى في قوله: {فلمّا تبيّن له} أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال أعلم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف»، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «أعلم أن» مقطوعة الألف مضمومة الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة الميم. وقرأها أبو رجاء، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش، «قيل أعلم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فأما هذه فبينة المعنى أي قال الملك له. والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري. بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: الله لا إله إلا هو ونحو هذا». وقال أبو علي: «معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يعني علم المعاينة»، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما، قال الملك له «اعلم»، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: «اعلم» وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ....... ... ... ... ...
وقوله:
وألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ ....... ... ... ... ...
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ....... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل ). [المحرر الوجيز: 2/ 38-49]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (260)}
العامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكر. واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟ فقال الجمهور: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة». وترجم الطبري في تفسيره فقال: «وقال آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها»، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: ربّ أرني كيف تحي الموتى؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم». الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث. وقال: «إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟» وأما من قال: بأن إبراهيم لم يكن شاكا، فاختلفوا في سبب سؤاله، فقال قتادة: «إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال». وقال الضحاك: «نحوه، قال: وقد علم عليه السلام أن الله قادر على إحياء الموتى»، وقال ابن زيد: «رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر»، وقال ابن إسحاق: «بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له: أنا أحيي وأميت، فكر في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال». وقال السدي وسعيد بن جبير: «بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره»، وقال سعيد بن جبير: «{ولكن ليطمئنّ قلبي} يريد بالخلة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول»، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أولم تؤمن؟} أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث»، وأما قول عطاء بن أبي رباح: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة»، وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه السلام أنه قال: ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {ربّي الّذي يحيي ويميت} [البقرة: 258] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون كيف خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، كيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، وكيف في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له: أولم تؤمن قال بلى، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقوله تعالى: {أولم تؤمن} معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى»، والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير، وليطمئنّ معناه ليسكن عن فكره، والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا»، الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود: أنا أحيي وأميت، وقال الطبري: «معنى ليطمئنّ ليوقن». وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض»، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول، وقاله مجاهد وابن جريج وابن زيد، وقال ابن عباس: «مكان الغراب الكركي».
وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء
وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش، حتى التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى، وقرأ حمزة وحده: «فصرهن إليك» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول رؤبة:
صرنا به الحكم وعنّا الحكما ....... ... ... ... ...
ومنه قول الخنساء:
فلو يلاقي الذي لاقيته حضن ....... لظلّت الشّمّ منه وهي تنصار
أي تنقطع ويقال أيضا صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر:
يصور عنوقها أحوى زنيم ....... له صخب كما صخب الغريم
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور، وعن الخنا زور، فهذا كله في ضم الصاد.
ويقال أيضا في هذين المعنيين: القطع والإمالة. صرت الشيء بكسر الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وجف كأنّه ....... على اللّيت قنوان الكروم الدّوالح
ففي اللفظة لغتان قرئ بهما، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية {صرهن}: «معناه: قطعهن»، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه: «أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن»، وقاله الضحاك، وقال أبو الأسواد الدؤلي: «هي بالسريانية»، وقال قتادة: «{صرهن} فصلهن»، وقال ابن إسحاق: «معناه قطعهن، وهو الصور في كلام العرب»، وقال عطاء بن أبي رباح: «{فصرهنّ} معناه اضممهن إليك». وقال ابن زيد: «معناه اجمعهن»، وروي عن ابن عباس: «معناه أوثقهن».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة. فقوله إليك على تأويل التقطيع متعلق بخذ. وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بصرهن، وفي الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن». وقرأ قوم «فصرّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت، ذكره النقاش. قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين كشد يشد ونحوه. لكن قد جاء منه نمّ الحديث ينمّه وينمّه وهر الحرب يهرها ويهرها ومنه قول الأعشى: «ليعتورنك القول حتّى تهرّه إلى غير ذلك في حروف قليلة». قال ابن جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة»، واختلف المتأولون في معنى قوله: {ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءاً}، فروى أبو حمزة عن ابن عباس: «أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة». وفي هذا القول بعد، وقال قتادة والربيع: «المعنى واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع الدنيا وجميع أقطارها». وقرأ الجمهور: «جزءا» بالهمز، وقرأ أبو جعفر «جزّا» بشد الزاي في جميع القرآن. وهي لغة في الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه. وقال ابن جريج والسدي: «أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها». قالا: «وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء». وقال مجاهد: «بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا». قال الطبري: «معناه دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله أعلم أي ذلك كان». ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى سيرهن إليه سعياً، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه. ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل شيء). [المحرر الوجيز: 2/ 49-57]