تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربّك أو يأتي بعض آيات ربّك يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنّا منتظرون (158)}
الضمير في ينظرون هو للطائفة التي قيل لها قبل فقد جاءكم بينة من ربكم وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم، وينظرون معناه ينتظرون، والملائكة هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.
ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم» بالياء، وقرأ الباقون «تأتيهم» بالتاء من فوق، وقوله أو يأتي ربّك قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله أو يأتي ربّك أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى. ألا ترى أن الله تعالى يقول: {فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2] فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف، وقوله:{ أو يأتي بعض آيات ربّك}؛ أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطا يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله، لكن لما قال بعد ذلك يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب، قوى أن الإشارة بقوله أو يأتي بعض آيات ربّك إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، ويقوي أيضا أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر.
ففي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال: هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب، والأخذات المعهودة لله عز وجل، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويصح أن يريد بقوله: أو يأتي بعض آيات ربّك جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله: يوم يأتي بعض آيات ربّك الآية التي ترفع التوبة معها، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها، وقرأ زهير الفرقبي «يوم يأتي» بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع» بتاء، وأنث الإيمان لما أضيف إلى مؤنث. أو لما نزل منزلة التوبة، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها، هي طلوع الشمس من المغرب.
وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث، إما طلوع الشمس من مغربها، وإما خروج الدابة، وإما خروج يأجوج ومأجوج.
قال أبو محمد: وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس.
وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق، وحتى إذا أراد الله عز وجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين، ويقوي النظر أيضا أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة، وقوله أو كسبت في إيمانها خيراً يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله لم تكن آمنت من قبل هو للكفار، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحا»، وقوله تعالى:{ قل انتظروا ... الآية}؛ تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به). [المحرر الوجيز: 3/ 498-501]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيءٍ إنّما أمرهم إلى اللّه ثمّ ينبّئهم بما كانوا يفعلون (159) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسّيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون (160)}
قال ابن عباس والصحاب وقتادة: المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد، أي فرقوا دين الإسلام، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي «فارقوا». ومعناه تركوا، ثم بيّن قوله وكانوا شيعاً أنهم فرقوه أيضا، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه، وقوله لست منهم في شيءٍ أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع، ولأنهم لهم حظ من تفريق الدين، وقوله إنّما أمرهم إلى اللّه إلى آخر الآية وعيد محض، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد، كما أن القرينة في قوله: {فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى اللّه} [البقرة: 275] تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح «فرقوا» بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر). [المحرر الوجيز: 3/ 501-502]