تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ الآية، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة، وقرأ عكرمة: «فلن نقبل» بنون العظمة «ملء الأرض» بالنصب، و «الملء» ما شحن به الوعاء، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر، تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ والملء اسم ما ملأت به، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال: «مل» دون همزة، ورويت عن نافع وذهباً نصب على التمييز، وقرأ ابن أبي عبلة: «ذهبا لو افتدى» به، دون واو، واختلف الناس في هذه الآية في قوله ولو افتدى فقال الطبري: هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو، كما دخلت في قوله وليكون من الموقنين [الأنعام: 75] لمتروك من الكلام، تقديره وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض.
قال الفقيه الإمام: وفي هذا التمثيل نظر فتأمله، وقال الزجّاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ولو افتدى» أيضا به في الآخرة لم يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا قول حسن، وقال قوم: الواو زائدة وهذا قول مردود، ويحتمل أن يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، كما تقول: أنا لا أفعل لك كذا بوجه، ولو رغبت إليّ، وباقي الآية وعيد بيّن). [المحرر الوجيز: 2/281-282]
تفسير قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وما تنفقوا من شيءٍ فإنّ اللّه به عليمٌ (92) كلّ الطّعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التّوراة قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93)
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض، من حيث أخبر تعالى: أنه لا يقبل من الموافي على الكفر ملء الأرض ذهباً [آل عمران: 91] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام، بتحريم ما كان يحب على نفسه، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات، على أنها معان منحازة، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم، وقوله تعالى لن تنالوا الآية، خطاب لجميع المؤمنين، وقال السدي وعمرو بن ميمون: البرّ الجنة.
قال الفقيه الإمام: وهذا تفسير بالمعنى، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير، فتحتمل الآية أن يريد: لن تنالوا بر الله تعالى بكم، أي رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم، وبسبب نزول هذه الآية، تصدق أبو طلحة بحائطه، المسمى بيرحاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه، فكأن زيدا شق عليه فقال له النبي: أما إن الله قد قبل صدقتك، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى على يدي سعد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوما وقال: إن الله يقول لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون، فأعتقها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى: ممّا تحبّون أي من رغائب الأموال التي يضن بها، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى- الحديث- وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية، فكان عبد الله بن عمر، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وإذا تأملت جميع الطاعات، وجدتها إنفاقا مما يحب الإنسان، إما من ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شي عجيب، فقال له الرجل: أراك تركت شيئا وهو أوثقها في نفسي الصيام، فقال أبوذر: قربة وليس هناك، ثم تلا لن تنالوا البرّ الآية، وقوله تعالى وما تنفقوا من شيءٍ فإنّ اللّه به عليمٌ شرط وجواب فيه وعد، أي عليم مجاز به وإن قل). [المحرر الوجيز: 2/283-284]