تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم كتب ربّكم على نفسه الرّحمة أنّه من عمل منكم سوءاً بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفورٌ رحيمٌ (54) وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55)}
قال جمهور المفسرين: الّذين يراد بهم القوم الذين كان عرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد الّذين يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة، وقال الفضيل بن
عياض: قال قوم للنبي -صلى الله عليه وسلم- إنّا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية، وقوله بآياتنا يعم آيات القرآن وأيضا علامات النبوة كلها، وسلامٌ عليكم ابتداء والتقدير: سلام ثابت أو أوجب عليكم، والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت، وكتب بمعنى أوجب، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب، وفي: أين هذا الكتاب اختلاف؟ قيل في اللوح المحفوظ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في صحيح البخاري: إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وقرأ عاصم وابن عامر: «أنه» بفتح الهمزة في الأولى والثانية، ف «أنه» الأولى بدل من الرحمة و «أنه» الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره: فأمره أنه غفور رحيم، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه» ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه، وقال النحاس: هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام، قال أبو علي. ذلك لا يجوز لأن من لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب، وإذا جعلنا «فأنه» تكريرا للأولى عطفا عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه» بكسر الهمزة في الأولى والثانية، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهما، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع، وقال أبو عمرو الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع، و «الجهالة» في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم، قال مجاهد: من الجهالة أن لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ»، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا ....... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة، و «التوبة» الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه). [المحرر الوجيز: 3/ 370-373]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والإشارة بقوله وكذلك إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها، واللام في قوله ولتستبين متعلقة بفعل مضمر تقديره ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها، وقرأ نافع: «ولتستبين» بالتاء أي النبي صلى الله عليه وسلم، «سبيل» بالنصب حكاه مكي في المشكل له، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ولتستبين سبيل المجرمين» برفع السبيل وتأنيثها، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «وليستبين سبيل» برفع السبيل وتذكيرها، وعرب الحجاز تؤنث السبيل، وتميم وأهل نجد يذكرونها، وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد أن قوله المجرمين يعني به الآمرون بطرد الضعفة). [المحرر الوجيز: 3/ 373]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل إنّي نهيت أن أعبد الّذين تدعون من دون اللّه قل لا أتّبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين (56) قل إنّي على بيّنةٍ من ربّي وكذّبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلاّ للّه يقصّ الحقّ وهو خير الفاصلين (57) قل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم واللّه أعلم بالظّالمين (58)}
أمر الله -تعالى- نبيه -عليه السلام- أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه وأن أعبد هو بتأويل المصدر التقدير عن عبادة، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع أن أعبد موضع المصدر، وعبر عن الأصنام ب الّذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل، وتدعون معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضللت» بفتح اللام، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف: «ضللت» بكسرها، وهما لغتان وإذاً في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف أهواءكم جمع هوى وهو الإرادة المحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم). [المحرر الوجيز: 3/ 373-374]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل إنّي على بيّنةٍ من ربّي ... الآية}، هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عز وجل: {بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ} [القيامة: 14] ويصح أن تكون الهاء في بيّنةٍ مجردة للتأنيث، ويكون بمعنى البيان، كما قال: {ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ}[الأنفال: 42] والمراد بالآية أني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي وكذّبتم به الضمير في به عائد على بين في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي بيّنةٍ بمعناه في التأويل الآخر، أو على الرب، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه السلام، فيصح عود الضمير عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وللنبي -عليه السلام- أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضا من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك، وقال بعض المفسرين الضمير في به عائد على ما والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين، وقيل المراد بها العذاب، وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله وكذّبتم به يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا العذاب لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال، وقوله: إن الحكم إلّا للّه أي القضاء والإنفاذ يقصّ الحقّ أي يخبر به، والمعنى يقص القصص الحق، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر «يقضي الحق» أي ينفذه، وترجع هذه القراءة بقوله الفاصلين لأن الفصل مناسب للقضاء، وقد جاء أيضا الفصل والتفصيل مع القصص، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو أسرع الفاصلين»، قال أبو عمرو الداني: وقرأ عبد الله وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة والأعمش «يقضي بالحق» بزيادة باء الجر، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يقضي الحق وهو خير الفاصلين»). [المحرر الوجيز: 3/ 374-375]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى:{ قل لو أنّ عندي ... الآية}، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين، وحكى الزهراوي: أن المعنى لقامت القيامة، ورواه النقاش عن عكرمة، وقال بعض الناس: معنى لقضي الأمر أي لذبح الموت.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف جدا لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} [مريم: 39] وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة واللّه أعلم بالظّالمين يتضمن الوعيد والتهديد). [المحرر الوجيز: 3/ 375-376]