تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وما من دابّةٍ ... الآية}، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمما لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما، قال الطبري وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض على ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا: قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، وقد قال مكي في المماثلة في أنها تعرف الله تعالى وتعبده، وهذا قول خلف ودابّةٍ وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق، وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة الغالبة، وقرأت طائفة «ولا طائر» عطفا على اللفظ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «ولا طائر» بالرفع عطفا على المعنى، وقرأت فرقة «ولا طير» وهو جمع «طائر» وقوله: بجناحيه تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال «طائر» السعد والنحس.
وقوله تعالى: {ألزمناه طائره في عنقه} أي: عمله، ويقال: «طار لفلان طائر» كذا أي سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى: {بجناحيه} إخراج للطائر عن هذا كله، وقرأ علقمة وابن هرمز «فرطنا في الكتاب» بتخفيف الراء والمعنى واحد، وقال النقاش معنى «فرطنا» مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله، والأول أصوب، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ، ومن شيء على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم، ويحشرون قالت فرقة حشر البهائم موتها، وقالت فرقة حشرها بعثها، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها). [المحرر الوجيز: 3/ 357-358]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والّذين كذّبوا بآياتنا صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات من يشأ اللّه يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ (39) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللّه أو أتتكم السّاعة أغير اللّه تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إيّاه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41)}
كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ثم انسحبت على سواهم، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئا الكلام من يشأ اللّه يضلله شرط وجوابه، وقوله: في الظّلمات ينوب عن «عمي»، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس، والصراط الطريق الواضح). [المحرر الوجيز: 3/ 359]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل أرأيتكم ... الآية}، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكا أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟
[المحرر الوجيز: 3/ 359]
وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة «أرأيتكم» بألف مهموزة على الأصل، لأن الهمزة عين الفعل، وقرأ نافع بتخفيف الهمزة بين على عرف التخفيف وقياسه، وروي عنه أنه قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة، وهذا تخفيف على غير قياس، والكاف في أرأيتك زيدا و «أرأيتكم» ليست باسم وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك، وأبصرك زيدا ونحوه، ويدل على ذلك أن رأيت بمعنى العلم، إنما تدخل على الابتداء والخبر، فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه، والكاف في أرأيتك زيدا ليست المفعول الثاني كقوله تعالى: {أرأيتك هذا الّذي كرّمت عليّ} [الإسراء: 62] فإذا لم تكن اسما صح أنها مجردة للخطاب وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما هي في أنت لأن علامتي خطاب لا تجتمعان على كلمة كما لا تجتمع علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع فيها والتأنيث لظهور ذلك في الكاف وبقيت التاء على حد واحد في الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث وروي عن بعض بني كلاب أنه قال: أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة، فهذه الكاف صلة في الخطاب وأتاكم عذاب اللّه معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها الهلاك، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك فيكشف ما تدعون لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه، ويحتمل أن يراد ب السّاعة في هذه الآية موت الإنسان). [المحرر الوجيز: 3/ 359-360]
تفسير قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {بل إيّاه تدعون ... الآية}، المعنى بل لا ملجأ لكم إلا الله، وأصنامكم مطرحة منسية، وما بمعنى الذي تدعون إليه من أجله، ويصح أن تكون ما ظرفية، ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام، قال الزجّاج هو مثل {وسئل القرية} [يوسف: 82] والضمير في إليه يحتمل أن يعود إلى الله -تعالى- بتقدير فيكشف ما تدعون إليه، وإن شاء استثناء لأن المحنة إذا أظلت عليهم فدعوا إليه في كشفها وصرفها فهو لا إله إلا هو كاشف إن شاء ومصيب إن شاء لا يجب عليه شيء، وتقدم معنى تنسون وإيّاه اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا، وقيل هو مبهم وليس بالقوي لأن الأسماء المبهمة مضمنة الإشارة إلى حاضر نحو ذاك وتلك وهؤلاء، و «ايا» ليس فيه معنى الإشارة). [المحرر الوجيز: 3/ 360-361]