تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {إنّ الّذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتّح لهم أبواب السّماء ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40) لهم من جهنّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ وكذلك نجزي الظّالمين (41) والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون (42)}
هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر «لا تفتّح» بضم التاء الأولى وتشديد الثانية، وقرأ أبو عمرو «تفتح» بضم التاء وسكون الفاء وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة والكسائي «يفتح» بالياء من أسفل وتخفيف التاء، وقرأ أبو حيوة وأبو إبراهيم «يفتّح» بالياء وفتح الفاء وشد التاء، ومعنى الآية لا يرتفع لهم عمل ولا روح ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى، قاله ابن عباس وغيره، وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن والكافر آثارا اختصرتها إذ ليست بلازمة في الآية، وللين أسانيدها أيضا، ثم نفى الله عز وجل عنهم دخول الجنة وعلق كونه بكون محال لا يكون، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط، والجمل كما عهد وال سمّ كما عهد، وقرأ جمهور المسلمين: «الجمل»، واحد الجمال، وقال الحسن هو الجمل الذي يقوم بالمديد ومرة لما أكثروا عليه قال هو الأشتر وهو الجمل بالفارسية، ومرة قال هو الجمل ولد الناقة وقاله ابن مسعود.
- قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه عبارة تدل على حرج السائل لارتياب السائلين لا شك باللفظة من أجل القراءات المختلفة، وذكر الطبري عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: «حتى يلج الجمل الأصفر»، وقرأ أبو السمال «الجمل» بسكون الميم وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن جبير والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء: «الجمل» بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة، وقرأ سالم الأفطس وابن خير وابن عامر أيضا: «الجمل» بتخفيف الميم من الجمل وقالوا هو حبل السفن، وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس كان أعجميا فشدد الميم لعجمته.
- قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة وقرأ سعيد بن جبير فيما روي عنه: «الجمل» بضم الجيم وسكون الميم، وقرأ ابن عباس أيضا: «الجمل» بضم الجيم والميم، و «السم»: الثقب من الإبرة وغيرها يقال سم وسم بفتح السين وكسرها وضمها، وقرأ الجمهور بفتح السين، وقرأ ابن سيرين بضمها، وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها، وروي عنه الوجهان، والخياط والمخيط الإبرة، وقرأ ابن مسعود: «في سم المخيط» بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء، وقرأ طلحة «في سم المخيط» بفتح الميم، وكذلك أبى على هذه الصفة وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة وأهل الجرائم على الله تعالى). [المحرر الوجيز: 3/ 562-564]
تفسير قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {لهم من جهنّم مهادٌ ... الآية}، المعنى أن جهنم فراش لهم ومسكن ومضجع يتمهدونه وهي لهم غواش جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان أي يغطيه ويستره من جهة فوق، قال الضحاك «المهاد» الفراش، و «الغواشي» اللحف ودخل التنوين في غواشٍ عند سيبويه لنقصانه عن بناء مفاعل فلما زال البناء المانع من الصرف بأن حذفت الياء حذفا لا للالتقاء بل كما حذفت من قوله: {واللّيل إذا يسر} [الفجر: 4] {وذلك ما كنّا نبغ} [الكهف: 64] ومن قول الشاعر: [زهير]
ولأنت تفري ما خلقت وبع ....... ض القوم يخلق ثم لا يفر
زال الامتناع، وهذا كقولهم ذلذل بالتنوين وهم يريدون: الذلاذل لما زال البناء، قال الزجاج:
والتنوين في غواشٍ عند سيبويه عوض من الياء المنقوصة ورد أبو علي أن يكون هذا هو مذهب سيبويه، ويجوز الوقوف ب «يا» وبغير «يا» والاختيار بغير «يا»). [المحرر الوجيز: 3/ 564]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات ... الآية}، هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة ولهم الخلد فيها، ثم اعترض أثناء القول بعقب الصفة، التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط ويرجى في رحمة الله ويعلم أن دينه يسر وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق، وقد تقدم القول في جواز تكليف ما لا يطاق وفي وقوعه بمغن عن الإعادة، و «الوسع» معناه الطاقة وهو القدر الذي يتسع له قدر البشر). [المحرر الوجيز: 3/ 564-565]
تفسير قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد للّه الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ ونودوا أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون (43)}
هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل والحقد، وذلك أن صاحب الغل متعذب به ولا عذاب في الجنة، وورد في الحديث: «الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين».
- قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومعنى هذا الحديث إذا حمل على حقيقته، أن الله عز وجل يخلق جوهرا يجعله حيث يرى كمبارك الإبل، لأن الغل عرض لا يقوم بنفسه، وإن قيل إن هذه استعارة وعبر عن سقوطه عن نفوسهم فهذه الألفاظ على جهة التمثيل كما تقول فلان إذا دخل على الأمير ترك نخوته بالباب ملقاة فله وجه، والأول أصوب وأجرى مع الشرع في أشياء كثيرة، مثل قوله يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيذبح وغير ذلك، وروى الحسن عن علي بن أبي طالب قال:«فينا والله أهل بدر، نزلت: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين}» [الحجر: 47] وروي عنه أيضا أنه قال: فينا والله نزلت: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ}، وذكر قتادة: أن عليا قال:«إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ}».
- قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو المعنى الصحيح، فإن الآية عامة في أهل الجنة، و «الغل» الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعه غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء ومنه الانغلال في الشيء، ومنه المغل بالأمانة، ومنه قول علقمة بن عبدة:
سلاءة كعصا الهندي غل لها ....... ذو فيئة من نوى قران معجوم
وقوله: {من تحتهم الأنهار}؛ بين لأن ما كان لاطئا بالأرض فهو تحت ما كان منتصبا آخذا في سماء، وهدانا بمعى أرشدنا، والإشارة بهذا تتجه أن تكون إلى الإيمان والأعمال الصالحة المؤدية إلى دخول الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نفسها، أي أرشدنا إلى طرقها ولكل واحد من الوجهين أمثلة في القرآن، وقرأ ابن عامر وحده «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو من قوله: وما كنّا، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، قال أبو علي: وجه سقوط الواو أن الكلام متصل مرتبط بما قبله، ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا: لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ فقضوا بأن ذلك حق قضاه من يحس وكانوا في الدنيا يقضون بأن ذلك حق قضاه من يستدل ونودوا أي قيل لهم بصياح، وهذا النداء من قبل الله عز وجل، وأن يحتمل أن تكون مفسرة لمعنى النداء بمعنى أي، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وفيها ضمير مستتر تقديره أنه تلكم الجنة، ونحو هذا قول الأعشى: [البسيط]
في فتية كسيوف الهند قد علموا ....... أن هالك كل من يحفى وينتعل
تقديره أنه هالك، ومنه قول الآخر: [الوافر]
أكاشره ويعلم أن كلانا ....... على ما ساء صاحبه حريص
وتلكم الجنّة ابتداء وصفه وأورثتموها الخبر وتلكم إشارة فيها غيبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك، أي تلكم هذه الجنة، وحذفت هذه، وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها، فكل غائب عن منزله، وقوله: بما كنتم تعملون لا على طريق وجوب ذلك على الله، لكن بقرينة رحمته وتغمده، والأعمال أمارة من الله وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله تعالى، والقسم فيها على قدر العمل، و «أورثتم» مشيرة إلى الأقسام، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «أورثتموها» وكذلك الزخرف، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي» أورتموها» بإدغام الثاء في التاء وكذلك في الزخرف). [المحرر الوجيز: 3/ 565-567]