نفي الشبه والمثل ليس في نفسه صفة مدح ولا يُحمد به المنفي عنه ذلك بمجرده
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( [الثالثُ والعشرون]: ([أنَّ] المعارضينَ بينَ الوحيِ والعقْلِ مِن الْجَهميَّةِ المُعَطِّلَةِ والفلاسفةِ الْمَلاحِدةِ، ومَن اتَّبَعَ سُبُلَهُم هم دائماً يُدْلُونَ بنفيِ التشبيهِ والتمثيلِ، ويَجعلونَهُ جُنَّةً لتعطيلِهم ونَفْيِهم، فجَحَدُوا عُلُوَّهُ على خَلْقِهِ ومُباينتَهُ لهم. وتَكَلُّمَهُ بالقرآنِ والتوراةِ والإنجيلِ وسائرِ كُتُبِهِ، وتَكليمَهُ لِمُوسى، واستواءَهُ على عَرْشِهِ ورُؤيَةَ المؤمنينَ لهُ بأبصارِهم مِنْ فوقِهم في الجنَّةِ، وسلامَهُ عليهم، وتَجَلِّيَهُ لهم ضَاحِكاً، وغيرَ ذلكَ مِمَّا أَخْبَرَ بهِ عنْ نفسِهِ، وأَخْبَرَ بهِ عنهُ رسولُهُ، وتَتَرَّسُوا بنفيِ التشبيهِ واتَّخَذُوهُ جُنَّةً يَصُدُّونَ بهِ القلوبَ عن الإيمانِ باللهِ وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، وكلُّ مَنْ نَفَى شيئاً مِمَّا وَصَفَ بهِ نفسَهُ جَعَلَ نفيَ التشبيهِ لهُ كالوِقايَةِ في الفعْلِ، حتَّى آلَ ذلكَ ببعضِهم إلى أنْ نَفَى ذاتَهُ وماهِيَّتَهُ خَشيَةَ التشبيهِ، فقالَ: هوَ وُجودٌ مَحْضٌ لا مَاهيَّةَ لهُ، ونَفَى آخَرونَ وُجودَهُ بالكُلِّيَّةِ خَشيَةَ التشبيهِ، وقالوا: يَلْزَمُنَا في الوُجودِ مَا لَزِمَ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ والكلامِ والعُلُوِّ في ذلكَ، فنحن نَسُدُّ البابَ بالكُلِّيَّةِ. ولا رَيبَ أنَّ الْمُشَبِّهَةَ الْمَحْضَةَ خيرٌ مِنْ هؤلاءِ وأَحسنُ قَوْلاً في رَبِّهِم، وأحسنُ ثناءً عليهِ منهم.
والطائفةُ المُعَطِّلَةُ بِمَنـزلةِ مَنْ قَدَحَ في مُلْكِ الْمَلِكِ وسُلطانِهِ، ونَفَى قُدرتَهُ وعِلمَهُ وتَدبيرَهُ لِمَملكتِهِ وسائرَ صفاتِ الْمُلْكِ.
والطائفةُ الثانيَةُ بِمَنـزلةِ مَنْ شَبَّهَهُ بِمَلِكِ غيرِهِ، موصوفٍ بأكملِ الصِّفَاتِ وأَحْسَنِ النعوتِ.
فيَنبغِي أن تَعْلَمَ في هذا قاعدةً نافعةً جِدًّا، وهيَ أنَّ نَفْيَ الشِّبْهِ والمِثْلِ والنظيرِ ليسَ في نفسِهِ صفةَ مَدْحٍ، ولا كَمالٍ ولا يُحْمَدُ بهِ المنفيُّ عنهُ ذلكَ بِمُجَرَّدِهِ؛ فإنَّ العَدَمَ الْمَحضَ الذي هوَ أَخَسُّ المعلوماتِ وأَنْقَصُها يُنْفَى عنهُ الشِّبْهُ والْمِثلُ والنظيرُ، ولا يكونُ ذلكَ كَمَالاً ومَدْحاً إلاَّ إذا تَضَمَّنَ كونَ مَنْ نُفِيَ عنهُ ذلكَ قد اخْتَصَّ مِنْ صفاتِ الكمالِ ونُعوتِ الجلالِ بأوصافٍ بَايَنَ بها غيرَهُ، وخَرَجَ بها عنْ أن يكونَ لهُ نظيرٌ أوْ شبهٌ، فهوَ لتَفَرُّدِهِ بها عنْ غيرِهِ، صحَّ أن يُنْفَى عنهُ الشبْهُ والْمِثْلُ والنظيرُ والكفءُ، فلا يُقالُ لِمَنْ لا سَمْعَ لهُ، ولا بَصَرَ ولا حياةَ ولا عِلْمَ ولا كلامَ ولا فِعْلَ، ليسَ لهُ شِبْهٌ ولا مِثْلٌ ولا نظيرٌ، اللَّهمَّ إلاَّ في بابِ الذمِّ والعيبِ؛ أيْ: قدْ سُلِبَ صفاتِ الكمالِ كُلَّها بحيثُ صارَ لا شِبْهَ لهُ في النقْصِ. هذا الذي عليهِ فِطَرُ الناسِ وعقولُهم، واستعمالُهم في المدْحِ والذمِّ، كما قالَ شاعرُ القومِ:
ليسَ كمِثلِ الفتى زُهَيْرِ خُلْقٌ يُساويهِ في الفضائلِ
وقالَ الآخرُ: ما إن كَمِثْلِهمُ في النَّاسِ مِنْ أَحَدٍ.
وقالَ الفَرَزْدَقُ:
فما مِثلُهُ في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً أبو أمِّهِ حيٌّ أَبوهُ يُقارِبُهُ
أيْ: ما مِثْلُهُ في الناسِ حيٌّ يُقارِبُهُ إلاَّ مُمَلَّكٌ هوَ خالُهُ.
وقالَ الآخرُ:
فما مِثلُهُ فيهم ولا هوَ كائنٌ وليسَ يكونُ - الدهرَ- ما دامَ يَذْبُلُ
نَفَى أن يكونَ لهُ مِثْلٌ في الحالِ والماضي والمستقبَلِ.
وقالَ الآخرُ:
ولم أَقُلْ مثلَكَ أَعْنِي بِهِ سواكَ يا فَرْداً بلا شَبَهِ
ومنهُ قولُهم: فلانٌ نَسيجُ وحدِهِ، شبَّهَهُ بثوبٍ لم يُنْسَجْ لهُ نظيٌر في حُسْنِهِ وصِفاتِهِ، فعكَسَ المُعَطِّلَةُ المعنى، وقَلَّبُوا الحقائقَ، وأَزَالُوا دَلالةَ اللفظِ عنْ مَوْضِعِها وجَعَلُوا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11] جُنَّةً وتُرْساً لنَفْيِ عُلُوِّهِ - سُبحانَهُ - على عَرْشِهِ وتكليمِهِ لرُسُلِهِ وإثباتِ صفاتِ كَمالِهِ). ([59]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([59]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (4/ 1366-1371).