- قَالَ عَبْدُ الفَتَّاحِ بنُ عَبْدِ الغَنِيِّ القَاضِي (ت: 1403هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذا شرح واضح العبارة، سهل الأسلوب، للنظم المسمى «ناظمة الزهر» في علم الفواصل للإمام العالم الوَرِع أبي القاسم الشاطبي المقرر تدريسه لطلاب معهد القراءات بالأزهر؛ قصدنا به كشف رموزه، وإيضاح مشكله، وتبيين خفاياه. ونضرع إلى الله سبحانه أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وينفع به النفع العميم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المؤلفان
قال الناظم رضي الله عنه:
بدأت بحمد الله ناظمة الزهـر....... لتجني بعون الله عينا من الزهر
اللغة: البدء والابتداء بمعنى يقال: بدأت الشيء بكذا وابتدأته به إذا جعلته أوله. و«ناظمة الزهر» اسم للقصيدة وهي في الأصل اسم فاعل من نظم الشيء إذا سلكه في سلك واحد. ويسمى الشعر نظما لأن الشاعر يجمع بين الكلمات المؤتلفة في بيت واحد ثم يؤلف بين البيت وما يليه من أبيات القصيدة في الوزن والمعنى والقافية، فكأنه أتى بسلك واحد جمع فيه المعاني المختلفة ونسقها في ألفاظ مؤتلفة، فهو أشبه بناظم در في عقد واحد. وكلمة الزهر بالضم جمع زهراء وأزهر، يقال كوكب أزهر أي مضيء وليلة زهراء أي مضيئة. والكواكب الزهر: المضيئة. والمراد هنا فواصل آي القرآن الكريم تشبيها لها بالكواكب في الإضاءة والاهتداء بها. كأنه قال: ناظمة الفواصل الشبيهة بالكواكب الزهر في أن كلا منهما يهتدي به في الظلمات. فكما يهتدي الساري بالكواكب في ظلمات البر والبحر يهتدي السائر إلى الله تعالى بهذه الآيات إلى طرق الخير والسعادة. وكما تبدد الكواكب ظلمات الليل تبدد آيات القرآن ظلمات الجهل والشبُّه.
والحمد: الثناء بالجميل على جهة التعظيم. وقوله «لتجني» مضارع من جنى الثمرة واجتناها قطفها وجمعها. وقوله «عينا» المراد به هنا خيار الشيء أي النوع الكريم منه و«الزهر» بفتح الزاي هنا: جمع زهرة وهو النبت أو نوره وهو مارق منه.
الإعراب: قوله بدأت بحمد الله ناظمة الزهر جملة ماضية ومتعلقها ومفعولها. وقوله لتجني اللام فيه للتعليل. وتجني مضارع منصوب بأن مضمرة وسكن للضرورة وفيه ضمير مستتر عائد على ناظمة الزهر. «بعون الله» متعلق به. وعينا مفعوله «من الزهر» صفة المفعول.
المعنى: يقول الناظم: جعلت حمد الله في أول قصيدتي المسماة ناظمة الزهر لتحصل هذه القصيدة وتجمع بمعونة الله تعالى أكرم الفوائد وأحسنها الشبيهة
بعين الزهر وكرام النبات. وإنما توقف جمعها تلك الفوائد على بدئها بالحمد لله لقوله صلى الله عليه وسلم، كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر، أي قليل البركة. فلأجل أن تتم فوائدها ابتدأتها بحمد الله تعالى والثناء عليه.
وعذت بربي من شرور قضائه ....... ولذت به في السر والجهر من أمري
اللغة: عاذ بالشيء: التجأ إليه وتحصن به ولاذ بالشيء: استمسك به واعتصم، وهما متلازمان. والقضاء الحكم. والمراد به المفضي. وشرور قضائه أي شرور مقضياته. والشرور: جمع شر، والشر ما تضر عاقبته. والأمر: الشأن، وهو واحد الأمور.
الإعراب: وعذت: الواو عاطفة جملة عذت على جملة بدأت. وبربي متعلق به، وكذا من شرور قضائه، ولذت معطوف أيضًا على بدأت. وبه متعلق بلذت. وكذا في السر والجهر معطوف على السر. وقوله من أمري حال من السر والجهر.
المعنى: والتجأت إلى ربي ومالك أمري، وتحصنت به من شرور مقضياته مما يتعرض له مثلي مما تضر عاقبته، فشمل كل مكروه يتعرض له الإنسان ودخل في عمومه ما يتعرض له المؤلفون من العوائق والعقبات التي تعوقهم عن تمام مقاصدهم، وفي جملة ذلك الرياء المحبط لثواب العمل. وقوله ولذت به تأكيد للسابق أي واعتصمت بربي في شأني كله سره وجهره، فهو وحده القادر على أن يخلص سري من الشوائب، ويطهر عملي الذي أجهر به من الأهواء والنزعات ليعم بذلك نفعه، ويكمل أجره.
بحي مريد عالم متكلـم .......سميع بصير دائم قادر وتر
اللغة: الوتر الفرد.
الإعراب: بحي بدل من قوله ربي بتكرير الجار. وقوله مريد وجميع ما بعده أوصاف لحي.
المعنى: عذت بمن هذه نعوته، لأن من اتصف بهذه الصفات كان خير معاذ وأفضل ملاذ. وقد أثنى على الله بصفاته المعنوية وبصفتين من صفات السلب
وهما الدوام والوحدانية اللتان دل عليهما بقوله دائم وتر. ورتب هذه الصفات ترتيبًا بديعًا فقدم الحياة لأنه ينبني عليها غيرها من الصفات الوجودية. ثم الإرادة لأنها تدل على العلم. ثم اتبعها بالعلم لأنه نتيجة الإرادة. ثم بالكلام لأنه ينفق مع العلم في جميع تعلقاته؛ لأن كلا منهما يتعلق بالواجب والجائز والمستحيل.
إلا أن تعلق العلم تعلق انكشاف وتعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام، ثم أتبع ذلك بالسمع والبصر وهما صفتا انكشاف كالعلم تنكشف بهما الموجودات انكشافا تامًا غير انكشاف العلم. ويتعلقان بالواجب والممكن فقط. ثم أتبع ذلك بوصفه تعالى بالدوام إشعارًا بوحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله. فليست هناك ذات تشبه ذاته، ولا لأحد صفة تشبه صفته، ولا لغيره فعل كفعله.
وأحمده حمدا كثيـرا مباركـا .......وأسأله التوفيق للذكر والشكر
اللغة: التوفيق: توجيه العبد إلى الخير وتيسير أسبابه له. والمراد بالذكر هنا ذكر الله تعالى وهو شامل لذكره باللسان وتذكر عظمته بالقلب. والشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق له.
الإعراب: وأحمده جملة مضارعية ومفعولها وحمدًا مفعول مطلق. وكثيرًا صفته وكذا مباركًا. وأسأله التوفيق جملة مضارعية والضمير مفعول أول والتوفيق مفعول ثان. وللذكر متعلق بالتوفيق، والشكر معطوف عليه.
المعنى: أحمد ربي حمدًا كثير الخير والبركة لكثرة كمالاته، وعظيم آلائه ونعمه. وكأن الحمد الأول حمد لله باعتبار ذاته، وهذا حمد له باعتبار نعمه وعطاياه؛ ولهذا أتى بالصيغة المضارعية الدالة على التجدد والاستمرار. وأطلب منه التوفيق لذكره تعالى ومراقبته، ولشكره على نعمه. ومن أفضل الذكر تلاوة القرآن والاشتغال به. ومن الشكر على نعمة القرآن مدارسته والاهتمام بمعرفة عدد آيه،
وغير ذلك من علومه. فكأنه سأل ربه إتمام ما قصد إليه من بيان عدد آي القرآن في هذه المنظومة. وسمي ذلك شكرًا لله تعالى ما أنعم به عليه من معرفة القرآن وعلومه.
وبعـــد صـــــــلاة الله ثـم سلامــــــــــــه .......على خير مختار من المجد الغر
محمـد الهــــــــــادي الرءوف وأهلـه .......وعثرتـــــه سحــــب المكارم والبــــــر
اللغة: الصلاة من الله الرحمة. والسلام الأمان. والمجد بضم الميم وفتح الجيم مشددة: جمع ماجد وهو الرجل الكريم الآباء. والغر بضم الغين: جمع أغر وهو الشريف السيد. وأهل الرجل قرابته الأدنون. ويطلق على نساء الرجل. والعترة نسل الرجل وقرابته الأدنون. والسحب بضم السين وسكون الحاء للتخفيف وأصله سحب بضمتين: جمع سحابة وهي الغيم. والمكارم جمع مكرمة وهي الخصلة الحميدة والبر الخير.
الإعراب: الواو عاطفة. وهي نائبة عن أما. وأصله وأما بعد. و«أما» نائبة عن شرط وأداته. والتقدير مهما يكن من شيء بعد فصلاة الله إلخ. فحذف الشرط والأداة ونابت عنهما أما. ثم حذفت أما اكتفاء بالواو. وبعد: ظرف متعلق بفعل الشرط المحذوف مبني على الضم في محل نصب، وأصله بعد حمد الله، فحذف المضاف إليه ونوى معناه. وصلاة الله مبتدأ. ثم سلامه عطف عليه. وثم بمعنى الواو. وعلى خير متعلق بمحذوف خبره. ومختار مضاف إليه. ومن المجد متعلق بمحذوف صفة مختار. والغر صفة المجد. ومحمد بدل أو عطف بيان لخير مختار. والهادي صفته وكذا الرءوف. وأهله عطف على خير مختار، وكذا وعترته. وسحب المكارم صفة عترته، والمكان مضاف إليه. والبر عطف عليه، وجملة المبتدأ والخبر في محل جزم جواب أما المحذوفة. وحذفت منه الفاء للضرورة.
المعنى: وبعد حمد الله فرحمة الله وأمنه كائنان على خير وأفضل من اختاره الله من كل كريم الأب، شريف سيد. ثم بينه بأنه محمد الهادي إلى طرق الرشاد والخير، الرءوف العظيم الرأفة والرحمة بالمؤمنين كما وصفه الله تعالى بقوله
((بالمؤمنين رءوف رحيم)) وعلى آله وعترته وهم قرابته وخاصته. وعطف العترة على الأهل عطف مغاير إن أردنا بالأهل النساء خاصة. وإن أردنا بهم قرابته الأدنين فعطف مرادف، وأن أريد بأهل النبي أمته وهم كل مؤمن تقي – كما قيل – فمن عطف الخاص على العام فكأنه قال وعلى كل من آمن به وخاصة قرابته الأدنين.
ثم وصف عترته بأنهم سحب المكارم والبر إشارة إلى أنهم للناس بمنزلة السحب التي تجيء بالغيث فتحيي النبات والموات. فهم كذلك يغيثون الناس. ولكن لا بالماء بل بأنواع المكارم وخصال الخير. فيحيون القلوب والعقول. والكلام على سبيل الاستعارة التصريحية بتشبيههم بالسحب بجامع عموم النفع وكثرته في كل، أو المكنية بتشبيه مكارمهم وبرهم بالمطر وإثبات لازم المشبه به بعد حذفه المشبه.
وإني استخـرت الله ثـم استعنتـه .......على جمع آي الذكر في مشرع الشعر
اللغة: استخرت الله في أمري: طلبت منه الخير في ذلك الأمر، واستعنته طلبت منه العون. وآي جمع آية. والذكر: القرآن، والمشرع: طريق ورود الشاربة إلى الماء. والشعر: هو الكلام الموزون المقفي.
الإعراب: الواو للعطف. وإني استخرت الله: إن واسمها ضمير المتكلم وجملة استخرت خبرها والله مفعول استخرت. وجملة استعنته معطوفة على جملة استخرت. وقوله «على جمع آي الذكر» تنازعه كل من الفعلين فأعمل الثاني وحذف من الأول لكونه فضله، وفي مشرع متعلق بجمع.
المعنى: إني طلبت من الله الخير والمعونة على جمع آي القرآن في طريق من طرق الكلام هو طريق الشعر ليسهل على الطلاب حفظها، ومعرفة عددها. وإنما استخار الله في هذا الأمر واستعانه عليه لأن الاستخارة من سنن المرسلين.
وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن»، ولأن الاستعانة من الله لازمة لكل من يريد الشروع في أمر من الأمور خصوصًا مهمها، فلا يتم أمر من الأمور إلا بمعونته.
وأنبطت في أسراره سرّ عذبها .......فسر محياه بمثل حيا القطـر
اللغة: أنبط الشيء أظهره بعد خفاء، وأسرار جمع سر بكسر السين، وسِرّ الشيء جوفه ولبه وخالصه، والعذب: الحلو، والمحيا الوجه، والحيا بالقصر: المطر، والقطر: المطر المتقاطر.
الإعراب: الواو عاطفة، وقوله: (وأنبطت..) إلخ جملة ماضية، ومتعلقها ومفعولها والضمير في أسراره يعود على الشعر.
وفي عذبها يعود على آي الذكر.
وقوله: (فسر محياه..) ماضية مبنية للمجهول ونائب فاعلها وضمير محياه يعود على الشر وبمثل متعلق بسر.
وإضافة حيا إلى القطر بيانية.
أي حيا هو القطر أو القطر بمعنى المتقاطر فالإضافة حينئذ من إضافة الموصوف إلى صفته.
المعنى: وأظهرت ما كان خفيًا من خالص مسائل مقاطع الآيات ومباديها العذبة في جوف هذا الشعر. فسر وجهه وأينعت ثماره كما يسر وجه الأرض بالمطر. وتعبيره بالسرور استعارة لازدهاره بكثرة منافعه كما تزدهر الروضة إذا أصابها المطر. ففي الكلام تشبيه الشعر ببينان مثمر وفي جمع آي الذكر فيه ازدهرت أشجاره. ونمت ثمرته كما تنمو بالمطر.
ستحيي معانيه مغاني قبولها .......لإقبالها بين الطلاقة والبشر
اللغة: المعاني جمع معنى وهو ما يعني من اللفظ ويقصد والمغاني جمع مغني وهو المنزل الذي غنى به أهله أي أقاموا فيه. والقبول مصدر قبل الشيء إذا رضيه. وطلاقة الوجه انبساطه ويكني بها عن السرور. والبشر الفرح والسرور.
الإعراب: ستحيي الخ جملة مضارعية وفاعلها ومفعولها وسكنت ياء مغاني لضرورة الشعر. ولإقبالها متعلق بقوله ستحيي وبين ظرف لإقبالها.
المعنى: ستحيي معاني هذا الشعر منازل قبولها وهذا كناية عن النفوس لأنها محال القبول لإقبال تلك المعاني إلى النفوس في سهولة ويسر، فهي بمنزلة الحسناء التي تقبل بين الطلاقة والبشر، واستعار فصاحة الألفاظ المؤدية إلى المعاني
وسهولتها للطلاقة والبشر، فالمقصود ستحيي هذه المعاني النفوس لسهولة وصولها إليها بألفاظ عذبة، وأساليب بديعة.
وتطلع آيات الكتـاب إياتُهـا.......فتبسم عن ثغر وما غاب من ثغر
اللغة: تطلع: تظهر من أطلع الشيء إذا أظهره، والكتاب القرآن، وآياتها جمع آية وهي العلامة. وقصرت همزتها للضرورة، فتبسم تكشف. والثغر الفم أو الأسنان أو مقدمها، ويطلق على الموضع المخوف وهو هنا مستعار لمواضع الشبه.
الإعراب: وتطلع إلخ جملة مضارعية ومفعولها المقدم وفاعلها المؤخر فتبسم الفاء فيه عاطفة والضمير يعود على آياتها وعن ثغر متعلق بتبسم وما موصولة عطف على ثغر. وغاب صلة الموصول. ومن ثغر بيان لما.
المعنى: وتظهر علامات هذه القصيدة ورموزها التي سأبينها آيات القرآن الكريم من حيث بيان عددها اتفاقًا واختلافًا فتكشف هذه العلامات والرموز عن كل معنى حسن يشبه ثغر الحسناء فتزداد به حسنا كما تزداد الحسناء بابتسامها حسنا على حسن. وتوضح مع ذلك كل ما خفي من مشكلات هذا العلم وإلى ذلك الإشارة بقوله وما غاب من ثغر.
وتنظم أزواجًا تثير معادنًـا .......تخيرها أهل القرون على التبر
اللغة: تنظم تجمع. والأزواج جمع زوج والمراد به هنا الصنف. تثير تحرك والمعادن. جمع معدن: يقال عدن بالمكان إذا أقام به. ومنه جنات عدن أي إقامة ويطلق المعدن على مركز كل شيء وأصله. ويطلق على الذهب والفضة ونحوهما تخيرها آثرها وفضلها على غيرها، والقرون جمع قرن ويطلق على الزمن. ومدته مائة سنة على المشهور ويطلق على أهل العصر الواحد المجتمعين فيه لاقتران بعضهم ببعض، والمراد بخير القرون الصحابة رضي الله عنهم. والتبر الذهب غير المضروب.
الإعراب: وتنظم جملة مضارعية والضمير فيها يعود على القصيدة المذكورة أو على آياتها وأزواجًا مفعول به لتنظم وجملة تثير صفة المفعول ومعادنا مفعول
تنير وصرف لضرورة النظم وجملة نخيرها خير القرون صفة معادن وعلى التبر متعلق بقوله تخيرها.
المعنى: وتجمع هذه القصيدة إلى بيان عدد آي الكتاب أصنافًا من القواعد المهمة تؤدي إلى معان شريفة اهتم بها خير القرون وهم أهل القرن الأول وآثروها على الذهب الخالص لعظم شأنها وبقاء أجرها. وفي البيت إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم – الحديث وترغيب في معرفة هذا الفن والاهتمام به تأسيًا بالسلف الصالح الذين هم خير القرون.). [معالم اليسر:3-30]