قال أحمد بن عبد النور المالقي (ت: 702هـ): (باب "إذن"
اعلم أن سيبويه – رحمه الله – جعل معنى "إذن" الجواب والجزاء، ويظهر من لفظه أنها حيث توجد يكون معناها الجواب والجزاء معًا، وهذا فهم أكثر النحويين منه، إلا أبا علي الفارسي فإنه فهم أنها جزاءٌ في موضعٍ وجواب في موضع، كما فهم من قوله: «وأما نعم فعدة وتصديق»، قال: وإنها عدة في موضع وتصديق في موضع، على ما يذكر في بابها، وإلا أبا علي الشلوبين من المتأخرين فإنه فهم أنها: جواب وجزاء، والجواب شرط، فإذا قال القائل: أزورك، وقال له المجيب: "إذن" أكرمك، فالمعنى عنده: إن تزرني أكرمك.
والصحيح أنها شرط في موضع وجواب في موضع، وإذا كانت شرطًا فلا تكون إلا جوابًا، وهذا هو المفهوم من كلام سيبويه، لأنه لم ينص على أنهما معًا في موضع واحد، وشهد لذلك كلام العرب فمنه قوله تعالى: {فعلتها إذن وأنا من الضالين}، "فإذن" هنا جواب لا جزاء، لأنه تصديقٌ لقول فرعون، إلا أنه بزيادة عليه، وكذلك إذا قال القائل: «أكرمك» فتقول له: «"إذن" أظنك صادقًا»، فهذا جواب لا جزاء معه، ويقال: أكرمك، فتقول: "إذن" أزورك، فهذا جواب وجزاء، فعلى هذا لا تخلو من الجواب وتكون في بعض المواضع جزاء.
فأما قوله:
ازجر حمارك لا يرتع بروضتنا .... إذن يريد وقيد العير مكروب
فهو على تقدير كلام تكون "إذن" جوابه، كأنه قيل: «لا يُرد»، فقال في الجواب: «"إذن" يُرد».
وزعم أبو علي الشلوبين أن المعنى في الآية: إن كنت فعلتُ الفعلة – وأنا كافرٌ كما زعمت – فعلتها وأنا من الضالين، ولم يثبت في ذلك لنفسه كفرًا ولا إيمانًا في هذا الفهم، والأول أظهر.
فإذا ثبت هذا فـ "إذن" تكون في أول الكلام وفي وسطه وفي آخره، على حسب الاعتماد عليها وعلى الكلام الذي تكون فيه.
وتدخل على الجمل الاسمية والفعلية الماضية وغير الماضية، فإذا دخلت على الجمل الاسمية لم تؤثر فيها، كقولك: "إذن" أنا أكرمك، وكذلك إذا دخلت على الأفعال الماضية والطلبية وفعل الحال، نحو قولك: "إذن" أكرمك زيد، و"إذن" أضرب عمرًا، و"إذن" لا تقم، و"إذن" يقوم زيد الآن.
فإذا دخلت على الأفعال المستقبلة فلا يخلو أن تتقدم عليها أو لا، فإن تقدمت عليها فلا يخلو ألا يتقدمها شيء أو يتقدمها، فإن لم يتقدمها شيء عملت في الفعل المذكور لأن الاعتماد عليها نحو قولك: "إذن" أكرمك ومنه قوله: «"إذن" يُردُّ» المتقدم في البيت.
وحكى عيسى بن عمر أنها تلغى مع التقدم، وذلك شاذ لا يعتبر، وسواء وليت الفعل المذكور أو فصل بينهما وبينه بقسم، كقولك: «"إذن" والله أكرمك»، أو ظرف أو مجرور، كقولك: «"إذن" يوم الجمعة أكرمك»، «و"إذن" بسبب عمرو أحسن إليك»، وإنما بقي التأثير مع الفصل بما ذكر؛ لأن القسم معناه التوكيد، ولأن الظرف والمجرور يجوز بهما الفصل لكثرة استعمالهما واتساع العرب فيهما في غير موضع بوقوعهما صفتين وصلتين وخبرين وحالين لما هو كذلك.
وإذ يفصل فيهما بين المضاف والمضاف إليه في الشعر مع شدة اتصالهما كما قال:
كما حُط الكتاب بكف يومًا .... يهودي يُقارب أو يزيل
وقال آخر:
كأن أصوات من ايغالهن بنا .... أواخر الميس أصواتُ الفراريج
فأولى الفصل بهما بين العامل والمعمول.
وإنما جاز الفصل بينها وبين معمولها بما ذكر وإن كانت حرفًا، إذ الحرف لا يُفصل بينه وبين معموله، إلا إذا أشبه الفعل كـ "إن" وأخواتها لأنها أيضًا مشبهة بـ «ظننت» في التقديم والتوسط والتأخير والاعتماد عليها مرة وعلى ما هو معمولها أخرى، إلا أنها أضعف منها لكون هذه حرفًا، وتلك فعل، فاعلمه.
فإن تقدم "إذن" المذكورة شيء فلا يخلو أن يكون يطلب ما بعدها كالشرط والقسم والمبتدأ وما يدخل عليه، أو حرف العطف أو غير ذلك.
فإن كان شيء مما ذكرنا أُلغيت لا غير؛ لأن الاعتماد على ما قبلها، من ذلك نحو قولك في الشرط: «إن قام زيد "إذن" أكرمك» فتجزم«أكرم» لأنه جواب الشرط، ولا تأثير لـ "إذن"، وتقول في القسم: «والله "إذن" لأكرمك ولأكرمنك» فلا تعمل "إذن" لأن ما بعدها جواب القسم، وعليه قوله:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها .... وأمكنني منها إذن لا أقيلها
فـ «لا أقيلها» جواب القسم الموطأ عليه "باللام" الداخلة على "إن" في أول البيت.
وتقول في المبتدأ: « [زيد] "إذن" يكرمك» فـ «يكرمك» مرفوع لأنه خبر عن «زيد»، وكذلك حكمه في خبر ما يدخل على المبتدأ والخبر من «كان» أو «إن» وشبههما، كقولك: «كان زيد "إذن" يكرمك» و«إن زيدًا "إذن" يكرمك» و«ظننت زيدًا "إذن" يكرمك»، لأن المفعول الثاني في باب «ظننت» حكمه أن يكون خبرًا للمبتدأ في الأصل فهو كخبر"كان" و"إن"، فأما قوله:
لا تتركني فيهم شطيرا .... إني إذن أهلك أو أطيرا
فنصب «أهلك» و«أطير» لأن الاعتماد على "إذن"، وخبر "إن" محذوف للدلالة عليه، كأنه قال: إني أتلف، وفسره بقوله: «"إذن" أهلك»، وحذف خبر "إن" قد سمع، وسيأتي بيانه في بابها.
فإن دخل عليها حروف العطف فلا يخلو أن يراد بالجملة التي هي فيه العطف أو الاستئناف، فإن أريد الاستئناف كان الاعتماد على "إذن" فعملت، ويكون الحرف حرف ابتداء نحو قولك: «أنا أكرمك و"إذن" أحسن إليك»، وكأن الجملة الأولى لم تذكر.
وإن أريد العطف جاز في "إذن" وجهان: العمل مراعاة للاعتماد عليها، وعدمه بالرفع فيما بعدها اعتمادًا على حرف العطف وهي متوسطة كما بين القسم والجواب، قال الله تعالى: {وإذن لا يلبثوا خلافك إلا قليلا}، وقرئ بإثبات "النون" في يلبثون على ترك العمل، وحذفها على العمل.
فإن تقدمها خلاف ذلك كله كان الحكم لها، ووضعها مع ما بعدها في الموضع عارض لوصف أو غيره، كقولك: «جاء زيد "إذن" يكرمك» فـ «"إذن" يكرمك» جملة في موضع الحال.
فإن تأخرت عن الفعل المذكور ألغيت لا غير، لأنها لا اعتماد عليها مع كونه حرفًا، بخلاف «ظننت» مع معمولها لأنها فعل قوي.
واعلم أن "إذن" اختلف في صورة كتبها: فمذهب أبي العباس المبرد.
أنها تكتب "بالنون" في حالتي الوصل والوقف ومذهب المازني أنها تكتب "بالألف" في كلتا الحالتين، ومذهب الفراء أنها إن عملت كتبت "بالنون" وإن لم تعمل كتبت "بالألف".
فعلَّة من كتبها "بالنون" في الحالتين من الوصل والوقف أنها حرف، و"نونها" أصلية فهي كـ "أن" و"عن" و"لن".
وعلَّة من كتبها "بالألف" في الحالتين شبهها بالأسماء المنقوصة لكونها على ثلاثة أحرف بها، فصارت كالتنوين في مثل «دمًا» و«يدًا» في حال النصب.
وعلَّة من فرّق بين كونها عاملة، فكتبت "بالنون" تشبيهًا بـ "عن" و"أن" كونها غير عاملة فتكتب "بالألف" تشبيهًا بالأسماء المذكورة كـ «دمًا» و«يدًا».
والذي عندي فيها: الاختيار أن يُنظر: فإن وصلت في الكلام كتبت "بالنون" عملت أو لم تعمل، كما يفعل بأمثالها من الحروف [لأن ذلك لفظها مع كونها حرفًا لا اشتقاق لها]، وإذا وقف عليها كتبت "بالألف"، لأنها إذ ذاك مشبهة بالأسماء المنقوصة المذكورة في عدد حروفها، وأن "النون" فيها كالتنوين، وأنها لا تعمل مع الوقف مثل الأسماء مطلقًا.
فإن قيل: شبهتها في الوصل بـ "عن" و"لن" و"أن" فينبغي أن تكتب "بالنون" لأنها حرف مثلها، فالجواب: أن "لن" و"أن" و"عن" تخالف "إذن" من وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا من أن "إذن" تشبه الأسماء في عدد الحروف كما تقدم و"أن" و"لن" و"عن" لا تشبهها في ذلك.
والآخر: أن "لن" و"أن" و"عن" لا تكون إلا عاملةً في معمولها فهي معه كشيء واحد وقف أو وصلت، و"إذن" إذا وقفت عليها قد تكون غير عاملة، إذ العمل لا يلزم فيها فصح لك ما ذكرت.
واختلف النحويون أيضًا في نصب ما بعدها، إذا كان منصوبًا بم هو؟ فقال الخليل على ما حكى عنه أبو عبيدة: أنه ينتصب بإضمار "أن" بعدها.
وذهب سيبويه وأكثر النحويين أنها تنصب بنفسها.
وكأن من نصب بإضمار "أن" قاسها على "حتى" و"كي" و"لاميها" و"لام الجحود"، ولا يصح القياس على ذلك؛ لأن "حتى" و"كي" و"لامها" و"لام الجحود" إنما تنصب [بإضمار] "أن" لجواز دخولها على المصادر، وربما ظهرت "أن" مع بعضها في بعض المواضع على ما يُبين بعد، ولما كانت "إذن" لا يصح دخولها على مصدر ملفوظ به ولا مقدر، ولا يصح إظهار "أن" بعدها في موضع من المواضع لم يجز القياس في نصب ما بعدها على ما ذكر.
ومن الكوفيين من زعم أن "إذن" مركبة من "إذ" الظرفية و"أن" فعلى هذا يكون نصب ما بعدها بـ "أن" المنطوق بها، إلا أنها سهلت "همزتها" بنقلها إلى ما قبلها من "الذال" وركبا تركيبًا واحدًا ، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن الأصل في الحروف البساطة، ولا يدعى التركيب إلا بدليلٍ قاطع.
والثاني: أنها لو كانت مركبة من "إذ" و"أن" لكانت ناصبة على كل حال: تقدمت أو تأخرت، وعدم العمل في المواضع المذكورة قبلُ دليل على عدم التركيب.
وإذا فسد المذهبان صح مذهب الجماعة من البساطة والعمل بنفسها، وإنما عملت حيث عملت لطلبها المعمول واعتماد الكلام عليها، وإنما لم تعمل لأن الاعتماد عليها في الجوابية خاصة مع عدم طلبها لما تعمل فيه، والعمل لما يعمل في العربية إنما هو لتضمن المعمول أو اللزوم لطلبه والاختصاص به ما لم يكن كجزء منه "كالألف" و"اللام" و"سين" الاستقبال فلا يعمل "إذ" ذاك، فاعلمه).[رصف المباني: 62 - 70]