قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
قَالَ أبو بكر محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بشَّار ابن الأَنباريِّ (ت:328هـ): ((قل الأنفال لله والرسول) [1] وقف حسن).
(وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) وقف التمام إذا كانت (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) [5] صلة لضمر. فإن قال قائل: كيف تكون (كما) صلة لمضمر؟ قيل له: معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نظر إلى قلة المسلمين يوم بدر وإلى كثرة المشركين قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرًا فله كذا وكذا» ليرغبهم في القتال. فلما هزمهم الله وأظفره بهم قام إليه سعد بن عبادة فقال له: يا رسول الله إن أعطيت هؤلاء ما وعدتهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء. فأنزل الله تعالى {قل الأنفال لله والرسول} يصنع فيها ما يشاء فأمسكوا لما سمعوا ذلك على كراهية منهم له فأنزل الله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) أي: امض لأمر الله في الغنائم كما مضيت لأمر الله في خروجك وهم له كارهون فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على قوله: (لله والرسول) ويتم الوقف على قوله: (إن كنتم مؤمنين).
ويحسن الوقف على قوله أيضًا: (ومما رزقناهم ينفقون) [3] ويتم على قوله: (ومغفرة ورزق كريم) [4].
ويجوز أن تكون (كما) صلة لقوله: (يسألونك عن الأنفال) كأنه قال: «يسألونك عن الأنفال كما جادلوك يوم بدر. فقالوا: لم تخرجنا للقتال فنستعد له وإنما أخرجتنا للغنيمة» الدليل على هذا قوله: (يجادلونك في الحق بعدما تبين) [6] فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على ما قبل (كما).قال أبو عبيدة: معنى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)
اليمين كأنه قال: «والذي أخرجك من بيتك بالحق» كما قال: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3] فمعناه «والذي خلق الذكر والأنثى» فالوقف من هذا الوجه يتم ويحسن على ما قبل (كما). وروى أبو عبيد عن الفراء أنه قال: جواب (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون). وقال الكسائي: قد يكون قوله: (يجادلونك في الحق) هو الجواب. يقول: «فمجادلتهم إياك الآن كما أخرجك ربك من بيتك بالحق». فعلى مذهب الكسائي لا يحسن الوقف على قوله: (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) لأن (كما) متعلقة بـ(يجادلونك) وقال بعض أهل اللغة معنى (كما) «إذ» كأنه قال: «إذ أخرجك ربك بالحق» واحتج بقوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77] فمعناه «وأحسن إذا أحسن الله إليك» فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على ما قبل (كما) لأنها متعلقة بمضمر.
والوقف على قوله: (أولئك هم المؤمنون حقا) [4] حسن لمن لم يعلق (كما) بـ(يسألونك عن الأنفال)، والوقف على (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) قبيح من مذهب الكسائي لأن (يجادلونك) عنده جواب (كما). والوقف عليه أيضًا قبيح من المذهب الذي رواه أبو عبيد عن الفراء.)[إيضاح الوقف والابتداء: 2/677-680]
قال أبو عمرو عثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّانِيُّ (ت:444هـ): ({قل الأنفال لله والرسول} كاف. {إن كنتم مؤمنين} تام.ويكون جواب {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} في قوله: {وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون}. {ينفقون}. كاف. ومثله {المؤمنون حقًا}. ومثله {ورزقٌ كريم}).[المكتفى: 284]
قال أبو عبدِ الله محمدُ بنُ طَيْفُورَ الغزنويُّ السَّجَاوَنْدِيُّ (ت:560هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم. {عن الأنفال- 1- ط} {والرسول- 1- ج} لعطف المختلفتين مع الفاء
{ذات بينكم- 1- ص}. {يتوكلون- 2- ج} لأن {الذين} يصلح مبتدأ، إلا أن الوصل أولى على جعل {الذين} من تتمة صفات الإيمان لينصرف الثناء بحقيقة الإيمان إلى قوله: {إنما المؤمنون} والوقف على {ينفقون- 3- ط}.
{حقا- 4- ط}. {كريم- 4- ج} لأن تعلق الكاف يصلح بقوله: {الأنفال لله} ينفلها من يشاء بالحق وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهم كارهون. فعلى هذا لا يحسن الوقف إلا على {ينظرون- 6} لأن قوله: {يجادلونك} صفة لقوله: {كارهون}، ولكن قد يوقف على قوله تعالى: {بالحق} ضرورة، لطول الكلام على تأويل جواز الابتداء بأن، وإن كان المعنى متصلاً، فإن التقدير: كما أخرجك ربك وبعضهم كارهون، ويحتمل تعلق الكاف بقوله: {يجادلونك} لأن الجدال عن كراهة تكون، والتقدير: يكرهون الحق بعدما تبين كما أخرجك وبعضهم كارهون، وعلى هذا جاز الوقف على قوله: {كريم- 4} ثم يوقف على: {ينظرون- 6}، وجواز الوقف على قوله: {كريم- 4} ظاهر في القولين، لأن الآيات فصلت بين الكاف وما تعلق به قبله، وإنما بيان الخلاف [لتحقيق تعلق الكاف]. ). [علل الوقوف: 2/530 -533]
قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت:ق11هـ): (عن الأنفال (جائز) وقيل ليس بوقف لأنَّ ما بعده جواب لما قبله.
والرسول (كاف) لأنَّ عنده انقضى الجواب وقيل حسن لعطف الجملتين المختلفتين بالفاء.
ذات بينكم (كاف)
مؤمنون (تام)
وجلت قلوبهم (حسن)
وعلى ربهم يتوكلون (تام) إن رفع الذين على الابتداء والخبر أولئك هم المؤمنون حقًا أو رفع خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وكاف إن نصب بتقدير أعني وليس بوقف إن جعل بدلاً مما قبله أو نعتًا أو عطف بيان.
ينفقون (حسن) إن لم يجعل أولئك خبر الذين للفصل بين المبتدأ والخبر.
حقًا (كاف) وقيل تام.
كريم (كاف) إن علقت الكاف في كما بفعل محذوف وذكر أبو حيان في تأويل كما سبعة عشر قولاً حاصلها أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي الأنفال ثابتة لله ثبوتًا كما أخرجك ربك أو وأصلحوا ذات بينكم إصلاحًا كما أخرجك ربك أو وأطيعوا الله ورسوله طاعة محققة كما أخرجك ربك أو وعلى ربهم يتوكلون توكلاً حقيقيًا كما أخرجك ربك أو هم المؤمنون حقًا كما أخرجك ربك أو استقر لهم درجات استقرارًا ثابتًا كاستقرار إخراجك فعلى هذه التقديرات الست لا يوقف على ما قبل الكاف لتعلقها بما قبلها وإن علقت بما بعدها بتقدير يجادلونك مجادلة كما أخرجك ربك فهي متعلقة بما بعدها أو لكارهون كراهية ثابتة كما أخرجك ربك أو أنَّ الكاف بمعنى إذ وما زائدة نحو وأحسن كما أحسن الله إليك فمعناه وأحسن إذا أحسن الله إليك لأنَّ كما على هذا متعلقة بمضمر فيسوغ الوقف على ما قبل كما والتقدير اذكر إذ أخرجك ربك أو إن الكاف بمعنى على والتقدير امض على الذي أخرجك وإن كرهو ذلك كما في كراهتهم له أخرجك ربك أو أنَّ الكاف في محل رفع والتقدير كما أخرجك ربك فاتق الله أو أنها في محل رفع أيضًا والتقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك أو هي في محل رفع أيضًا والتقدير وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك ربك أو هي في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي هذا الحال من تنفيلك الغزاة على ما رأيت في كراهتهم لها كحال إخراجك للحرب أو هي صفة لخبر مبتدأ وحذوف هو وخبره والتقدير قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقًا أو أنَّ التشبيه وقع بين إخراجين إخراج ربك إياك من مكة وأنت كاره لخروجك وكان عاقبة ذلك الإخراج النصر والظفر كإخراجهم إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقب ذلك الخروج النصر والظفر كما كان عاقبة ذلك الخروج الأول السابع عشر إنها قسم مثل والسماء وما بناها بجعل الكاف بمعنى الواو قاله أبو عبيدة ومعناه والذي أخرجك كما قال وما خلق الذكر والأنثى أي والذي خلق الذكر والأنثى وبهذه التقادير يتضح المعنى ويكون الوقف تابع للمعنى فإن كانت الكاف متعلقة بفعل محذوف أو متعلقة بيجادلونك بعدها أو جعلت الكاف بمعنى إذ أو بمعنى على أو
بمعنى القسم حسن الوقف على كريم وجاز الابتداء بالكاف وليس بوقف إن جعلتها متصلة بيسألونك أو بغير ما ذكر واستيفاء الكلام على هذا الوقف جدير بأن يخص بتأليف وفيما ذكر غاية في بيان ذلك ولله الحمد).[منار الهدى: 156-157]
- أقوال المفسرين