تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فحاق بالّذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (10) قل سيروا في الأرض ثمّ انظروا كيف كان عاقبة المكذّبين (11)}
قرئ «ولقد» بضم الدال مراعاة للضمة بعد الساكن الذي بعد الدال، وقرئ بكسر الدال على عرف الالتقاء، وهذه تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجّة المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزئين، و «حاق» معناه نزل وأحاط، وهي مخصوصة في الشر، يقال حاق يحيق حيقا ومنه قول الشاعر:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ....... وحاق بهم من بأس ضبة حائق
وقال قوم: أصل حاق حق فبدلت القاف الواحدة كما بدلت النون في تظننت.
قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-: وهذا ضعيف، وما في قوله: ما كانوا يصح أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: استهزاؤهم، وهذه كناية عن العقوبة كما تهدد إنسانا فتقول سيلحقك عملك، المعنى عاقبته، وسخروا معناه استهزؤوا). [المحرر الوجيز: 3/ 318-319]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل سيروا ... الآية}، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل فعلهم، وقال كان ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي، وهي بمعنى الآخر والمآل، ومعنى الآية سيروا وتلقوا ممن سار لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين). [المحرر الوجيز: 3/ 319]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل لمن ما في السّماوات والأرض قل للّه كتب على نفسه الرّحمة ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الّذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) وله ما سكن في اللّيل والنّهار وهو السّميع العليم (13)}
قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: قل لمن ما في السّماوات والأرض؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله -عز وجل- أمر محمدا -عليه السلام- بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، وجاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: لمن ما في السّماوات والأرض والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه، بأمر لا يدافعه الخصم فيه، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم لمن ما في السّماوات والأرض؟ ثم سبقهم فقال: للّه، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: كتب على نفسه الرّحمة معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتضمن كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمة فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان، وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله -عز وجل- كتب عنده كتابا فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي، ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ....... نالا الملوك وفككا الأغلالا
ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: الرّحمة هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن ليجمعنّكم هو تفسير الرّحمة تقديره: أن يجمعكم فيكون ليجمعنّكم في موضع نصب على البدل من الرّحمة، وهو مثل قوله: {ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننّه حتّى حينٍ} [يوسف: 35] المعنى: أن يسجنوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في ليسجننّه، وقالت فرقة إلى بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، ولا ريب فيه لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه، وقوله تعالى: {الّذين خسروا أنفسهم... الآية} قيل إن الّذين منادى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات، وقيل: هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنّكم، قال المبرد: ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله في الآية ليجمعنّكم مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: ليجمعنّكم يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال الّذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا، وخصوا على جهة الوعيد، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، وقال الزجاج الّذين رفع بالابتداء وخبره فهم لا يؤمنون، وهذا قول حسن، والفاء في قوله: فهم جواب على القول بأن الّذين رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، وعلى القول بأن الّذين بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة، وخسروا معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه، ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [السريع]
لا يأخذ الرّشوة في حكمه ....... ولا يبالي غبن الخاسر). [المحرر الوجيز: 3/ 319-323]
تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وله ما سكن ... الآية} وله عطف على قوله للّه واللام للملك، وما بمعنى الذي، وسكن هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر، قاله السدي وغيره وقالت فرقة: هو من السكون، وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط، والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون سكن بمعنى استقر وثبت وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى إلى الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان والليل والنهار حاصران للزمان وهو السّميع العليم هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها مجاز عليها، ففي الضمير وعيد). [المحرر الوجيز: 3/ 323]