الخلاصة في وضع المصحف على الأرض
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (ترك المصحف على الأرض
لا خلاف بين أهل العلم في القول بحرمة ترك المصحف على الأرض على سبيل الإهمال له؛ بل صرح بعضهم بتكفير من فعل ذلك استخفافا، وإنما الخلاف في ترك المصحف على الأرض لحاجة كوضعه عليها منشورا من غير أن يكون بينه وبين الأرض حائل عند القراءة فيه مثلا، حيث أباحه قوم وكرهه آخرون، وقال بتحريمه فريق ثالث لما فيه من صورة الامتهان وإن لم يكن امتهانه مقصودا وهاك نصوصهم في ذلك:
قال القرطبي في تذكاره: (من صور صيانة المصحف أن يضعه في حجره إذا قرأه أو ع لى شيء بين يديه، ولا يضعه في الأرض)
قال الهيتمي في الفتاوى الحديثية في معرض ذكره للآداب مع الكتب أنه إذا نسخ من الكتاب أو طالع فيه فلا يضعه في الأرض مفروشا منشورا، بل يجعله بينه وبين الأرض حائلا، فإذا كان ذلك مطلوبا في الكتب ففي المصاحف من طريق الأولى إلى أن قال: (ويجوز وضع المصحف في كوة طاهرة من غير فرش، لكن الأولى بفرش، وأولى منه وأفضل كما مر تعليقه). وقال أيضا: (والأولى أن لا يستدبره ولا يتخطاه و لا يرميه على الأرض بالوضع، ولا حاجة تدعوا لذلك بل لو قيل بكراهة الأخير لم يبعد).
وقال الشيخ عليش في فتح العلي المالك: (يجب رفع نحو ورقة عليها بسم الله عن مكان الامتهان، ويكره تقبيلها). وقال الشيخ عليش في موضع آخر من الفتح: (قول الفقهاء وضع المصحف على الأرض الطاهرة استخفافا به ردة، فعلم منه أن وضعه عليها بلا استخفاف ممنوع). وقال العدوي بالخرشي: (ومما يرتد به وضعه بالأرض مع قصد الاستخفاف).
وجاء في الفتاوى الهندية:( وينبغي للمتعلم أن يوقر العلم، ولا ينبغي أن يضع الكتاب على التراب). فظاهره المنع في المصحف من طريق الأولى.
وجزم الهيتمي في تحفة المحتاج بحرمة ترك رفعه عن الأرض، قال: (وينبغي أن لا يجعله في شق، لأنه قد يسقط فيمتهن). وقال الشرواني في حاشيته على التحفة: ("قوله وترك رفعه...إلخ" المراد منه إذا رأى ورقة مطروحة على الأرض حرم عليه تركها بقرينة قوله بعد وينبغي... إلخ، وليس المراد كما هو ظاهر أنه يحرم عليه وضع المصحف على الأرض والقراءة فيه ع ش." قوله ورقة..إلخ" أي فيها شيء من نحو القرآن.
"قوله و ينبغي ألا يجعله... إلخ" وطريقه أن يغسله بالماء أو يحرقه بالنار صيانة لاسم الله تعالى عن تعرضه للامتهان شرح الروض، وانظر هل المراد بالانبغاء هنا الندب أو الوجوب، والأقرب الأول).
وعبارة الشبراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج عند ذكره ما جزم به صاحب التحفة من حرمة ترك رفع المصحف من على الأرض، قال: ("قوله وترك رفعه" المراد منه أنه إذا رأى ورقة مطروحة على الأرض حرم عليه تركها، والقرينة عليه قوله عقب ذلك " وينبغي
إلخ" وليس المراد كما هو ظاهر أنه يحرم عليه وضع المصحف على الأرض، والقراءة فيه خلافا لبعض ضعفة الطلبة).
وجزم غير واحد من أصحابنا الحنابلة بإباحة ترك المصحف على الأرض بغير قصد الاستخفاف، وهو الذي صرح به ابن مفلح في الآداب الشرعية، وابن عبد الهادي في مغني ذوي الأفهام.
والظاهر أن الذين شددوا في مسألة ترك المصحف على الأرض إنما راعوا ما في الترك من صورة الامتهان، وربما احتجوا بما ورد من النهي عن الكتابة على الأرض أو الحيطان ، فقد روى ابن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في الأرض، فقال لشاب من هذيل: "ما هذا؟" قال: من كتاب كتبه يهودي.قال: " لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه". قال محمد بن الزبير: "ورأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه". كذا في التذكار للقرطبي، وأخرجه الحكيم الترمذي في النوادر.
وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف قال: (حدثنا أبو طاهر قال: أنبأنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري عن محمد بن الزبير عن عمر بن عبد العزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كتابا من ذكر الله في الأرض، فقال: " من وضع هذا؟" فقيل له: هشام. فقال: "لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله في غير موضعه". قال محمد بن الزبير: "ورأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب في حائط فضربه").
وقد يأتي لهذه المسألة مزيد بيان عند الكلام على رمي المصحف على الأرض ووضعه عليها، ومسألة تعليق المصحف).[المتحف: 401-403]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (رمي المصحف على الأرض لا خلاف بين أهل العلم في تحريم رمي المصحف على الأرض على سبيل الاستخفاف به والامتهان له؛ بل قد صرح بعضهم باعتبار ذلك ردة من فاعله لما فيه من الانتقاص لحرمة المصحف على ما مر بيانه في مسألة الاستخفاف بالمصحف.
فإن كان رمي المصحف على الأرض لم يقصد به الاستخفاف وإنما حمل عليه نحو استعجال أو كسل أو ما شابه ذلك مما ينتفي معه قصد الامتهان، فقد اختلفت في ذلك كلمة أهل العلم.. منهم من صرح بالتحريم هنا أيضا لمنافاته لما تقتضيه حرمة المصحف، ولأن رميه على الأرض قد تضمن امتهانه ولو صورة وأشعر بعدم التعظيم اللازم للمصحف.
ومنهم من فرق بين رمي دعت الحاجة إليه كبعد الرامي عن الأرض كما لو كان على سلم مثلا، وبين رمي لم تدع الحاجة إليه؛ بل كان الكسل أو التساهل هو الحامل عليه، فقال بحرمة الرمي في الثانية وكراهته في الأولى.
ومنهم من عدل عن القول بالكراهة واعتبره خلاف الأولى. وكأن الذين سهلوا في مسألة الرمي إذا تجرد عن قصد الامتهان قد احتجوا بإلقاء موسى عليه السلام بالألواح لما ناله من الغم بسبب اتخاذ قومه من بعده العجل إلها.
قال القرطبي في غير موضع من كتبه وهو بصدد الكلام على المصحف: (من حرمته ألا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله إياه).
وفي حاشية الشرواني على تحفة المحتاج ما نصه: (وقع السؤال على الفقيه مثلا يضرب الأولاد الذين يتعلمون منه بألواحهم هل ذلك كفر أم لا؟ وإن رماهم بألواح من بعد؟فيه نظر، والجواب عنه أن الظاهر الثاني، لأن الظاهر من حاله أنه لا يريد الاستخفاف بالقرآن.. نعم ينبغي حرمته لإشعاره بعدم التعظيم، كما قالوه فيما لو روح بالكراسة على وجهه)ا.ه ع ش.
وقد صرح ابن مفلح من أصحابنا الحنابلة في غير موضع من كتبه بإلحاق مسألة رمي المصحف على الأرض؛ بلا وضع ولا حاجة بمسألة توسد المصحف وذكر في تحريم ذلك وجهين. وحكى عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال: (دخلت على أبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل- ومعي كتاب له، فرميت به من قامتي فانتهرني وقال: ترمي بكلام الأبرار). وعبارته في الفروع وغيره: (وقد رمي رجل بكتاب عند أحمد فغضب، وقال: هكذا يفعل بكلام الأبرار).
وقال البهوتي- وقد ذكر نحوا مما مر-: (فكيف بكتاب الله وما هو فيه؟).
على أن الأكثرين قد قالوا بكراهة رمي المصحف على الأرض لتنافيه مع الأدب اللازم للمصحف والظاهر أنهم أرادوا بالكراهة الكراهة التحريمية، وقد قال الهيثمي في الفتاوى الحديثية وهو بصدد ذكر الآداب مع المصحف: (والأولى أن لا يستدبره ولا يتخطاه ولا يرميه على الأرض بالوضع ولا حاجة تدعو لذلك؛ بل لو قيل بكراهة الأخير لم يبعد).
وقد مر في مسألة ترك المصحف على الأرض أن من أهل العلم من يقول بمنع ذلك مطلقا؛ بل قد صرح بعضهم بوجوب رفع نحو ورقة عليها بسم الله عن مكان الامتهان). [المتحف: 614-613]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (وضع المصحف على الأرض
لا يخلو وضع المصحف على الأرض من أن يكون على سبيل الاستخفاف بالمصحف , أو أن يكون خاليا عن قصد الاستخفاف , فإن كان بقصد الاستخفاف بالمصحف , فقد صرح بعض أهل العلم بكفر فاعله على ما مر بيانه فى مسألة الاستخفاف بالمصحف فى موضعها من هذا البحث .
وأما إن كان وضع المصحف على الأرض مجردا عن إرادة الاستخفاف بالمصحف فلا يخلو من أن يكون ذلك الوضع لغرض صحيح وحاجة اقتضته أو أن يكون مجردا عن ذلك كله وصار حصوله على هذا الوضع محض اتفاق ولغير غرض وقد اختلفت كلمة العلماء فى حكم ذلك لكون الوضع على هذا النحو قد يشعر بابتذال المصحف ويتضمن امتهانه ولو صورة ويتنافى مع ما تقتضيه حرمة المصحف من وجوب صيانته وإكرامه وتنزيه ومع أن أهل العلم قد اتفقوا على كون وضع المصحف على الأرض خلاف الأولى إلا منهم من قال بالكراهة , ومنهم من قال بالتحريم , ومنهم من فرق بين وضع على الأرض لا تقتضيه حاجة ولا يستدعيه غرض صحيح وبين وضعه على الأرض لنحو قراءة منه أو نسخ فمنعه فى الأول وأجازه فى الثانى وهاك طرفا من نصوصهم فى هذا الشأن : -
قال القرطبى فى التذكار فى معرض ذكره لصور صيانة المصحف [ومنها أن يضعه فى حجره إذا قرأه أو على شئ بين يديه ولا يضعه فى الأرض ] وقال الهيتمى فى الفتاوى الحديثية وهو بصدد ذكره للآداب مع الكتب [أنه إذا نسخ من الكتاب أو طالع فيه فلا يضعه فى الأرض مفروشا منشورا بل يجعله بين شيئين أو على كرسى لئلا ينقطع حبكه , وإذا وضعها بمكان فليجعل بينها وبين الأرض حائلا ] فإذا كان ذلك مطلوبا فى الكتب ففى المصاحف من طريق الأولى . ومضى الهيتمى فى ذكر الآداب مع الكتب إلى أن قال : [ويجوز وضع المصحف فى كوة طاهرة من غير فرش لكن الأولى بفرش وأولى منه وأفضل كما مر تعليقه] وقال الشبراملسى فى حاشيته على النهاية بعد أن ذكر ما جزم به صاحب التحفة من حرمة ترك رفع المصحف من على الأرض قال [قوله وترك رفعه المراد منه إذا رأى ورقة مطروحة على الأرض حرم عليه تركها , والقرينة عليه قوله عقب ذلك وينبغى الخ , وليس المراد كما هو ظاهر أنه يحرم عليه وضع المصحف على الأرض والقراءة فيه خلافا لبعض ضعفة الطلبة]
وتابع الشروانى فى حاشيته على التحفة الشبراملسى فى أنه لا يحرم وضع المصحف على الأرض حال القراءة فيه والقول بعدم تحريم وضع المصحف على الأرض إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك هو ظاهر نقل ابن مفلح الحنبلى فى غير موضع من كتبه بل صرح بعدم الكراهة والحالة هذه وهو الذى جزم به ابن عبد الهادى الحنبلى فى مغنى ذوى الأفهام بيد أن ظاهر كلام فقهاء الأحناف يقتضى المنع من وضع المصحف على الأرض فقد جاء فى الفتاوى الهندية ما نصه [وينبغى للمتعلم أن يوقر العلم ولا ينبغى أن يضع الكتاب على التراب ] والمنع من وضع المصحف على الأرض مطلقا هو الذى أفتى به الشيخ عليش من فقهاء المالكية حيث قال :[قول الفقهاء وضع المصحف على الأرض الطاهره استخفافا به ردة . فعلم منه أن وضعه عليها بلا استخفاف ممنوع ]
حجة مانعى وضع المصحف على الأرض :-
أخرج ابن أبى داود فى المصاحف والقرطبى فى التذكار واللفظ لابن أبى داود قال : [حدثنا أبو طاهر قال : أنبأنا ابن وهب , أخبرنى سفيان الثورى , عن محمد بن الزبير عن عمر بن عبد العزيز [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كتابا من ذكر الله فى الأرض فقال : من وضع هذا ؟ فقيل هشام فقال لعن الله من فعل هذا , لا تضعوا ذكر الله فى غير موضعه ]. قال محمد بن الزبير [ورأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب فى حائط فضربه] ). [المتحف: 762-764]