العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة المائدة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 10:19 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير سورة المائدة [ من الآية (106) إلى الآية (108) ]

تفسير سورة المائدة
[ من الآية (106) إلى الآية (108) ]


بسم الله الرحمن الرحيم
{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20 ربيع الثاني 1434هـ/2-03-2013م, 11:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وأخبرني الحارث بن نبهان، عن عطاء بن السائب، عن عامر: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير المصلين، فيستحلفان بعد العصر). [الجامع في علوم القرآن: 1/43]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال ابن عياش: وقال زيد في هذه الآية: {شهادة بينكم}، هذه الآية كلها، قال: كان ذلك في رجلٍ توفي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حربٌ والناس كفار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وأصحاب المدينة؛ وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها). [الجامع في علوم القرآن: 1/62]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة قال سمعت ابن المسيب يقول اثنان ذوا عدل منكم قال مسلمين أو آخران من غيركم قال من أهل الكتاب. [تفسير عبد الرزاق: 1/199]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الحسن {أو آخران من غيركم} قال من المسلمين). [تفسير عبد الرزاق: 1/199]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الكلبي في قوله تعالى حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم قال خرج مولى لقريش تاجرا فأصابه قدره ومعه رجلان من أهل الكتاب فدفع إليهما ماله وكتب وصيته فذهبا بالوصية والمال إلى أهله فكتما بعض المال فقال أهله هل تجر صاحبنا بعدنا بتجارة قالا لا قالوا فهل استهلك من ماله شيئا قالا لا قالوا فإنه قد خرج من عندنا بمال فقدنا بعضه فاتهما عليه فاستحلفا في دبر الصلاة). [تفسير عبد الرزاق: 1/200]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة في قوله تعالى تحبسونهما بعد الصلاة قال استحلفا بعد العصر ثم عثر بعد عليهما فوجد عندهما إناء قال أحسبه من فضة كان مما خرج به الميت معه فأقام أهله البينة إن هذا للرجل وأنه خرج به معه وحلف رجلان من أولياء الميت على ذلك). [تفسير عبد الرزاق: 1/200]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم} إلى قوله: {وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ وأبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريحٍ، أنّه كان لا يجيز شهادة يهوديٍّ ولا نصرانيٍّ على المسلمين إلّا في وصيّةٍ، ولا يجيزها في الوصيّة إلا في السفر.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا سليمان التّيمي، عن سعيد بن المسيّب - في قوله عزّ وجلّ: {أو آخران من غيركم} -، أي: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا مغيرة، عن إبراهيم.
- قال المغيرة : وأخبرني من سمع سعيد بن جبيرٍ يقول ذلك.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا هشامٌ، عن ابن سيرين، عن عبيدة، أنّه قال مثل ذلك.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن داود، عن الشّعبي، عن شريح - في قوله عزّ وجلّ: {أو آخران من غيركم} -، قال: إذا مات الرّجل في أرض غربة، فلم يجد مسلمًا، فأشهد من غير المسلمين شاهدين، فشهادتهما جائزةٌ. وإن جاء مسلمان فشهدا بخلاف ذلك، أخذ بشهادة المسلمين، وتركت شهادتهما.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا زكريّا بن أبي زائدة، قال: حدّثنا الشّعبي، أنّ رجلًا حضرته الوفاة بدقوقاء، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهدهم على وصيّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما بتركته إلى أبي موسى الأشعريّ، فأخبراه، فقال الأشعري: هذا أمرٌ لم يكن بعد الّذي كان في عهد رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فأحلفهما بعد صلاة العصر باللّه ما خانا، ولا كذبا، ولا بدّلا، وإنّها لتركته، ثمّ أجاز شهادتهما.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن يونس، عن الحسن، - في قوله عزّ وجلّ: {اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم} -، قال: من المسلمين، إلّا أنّه يقول: من القبيلة، أو غير القبيلة.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا عبد الرّحمن بن زيادٍ، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب - في قوله عزّ وجلّ: {اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم} - قال: من أهل الكتاب.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: سمعته يقول: {من الّذين استحقّ عليهم الأوّلين}، ويقول: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم أنّه كان يقرأ: {من الّذين استحقّ عليهم الأوّلين}.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا يحيى بن زكريّا، عن ابن عون، عن الشّعبي، أنّه كان يقرأ: {ولا نكتم شهادةً إنّا إذًا لمن الآثمين}). [سنن سعيد بن منصور: 4/1661-1674]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن أبي النّضر، عن باذان، مولى أمّ هانئٍ عن ابن عبّاسٍ، عن تميمٍ الدّاريّ، في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال: برئ منها النّاس غيري وغير عديّ بن بدّاءٍ، وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشّام قبل الإسلام، فأتيا الشّام لتجارتهما، وقدم عليهما مولًى لبني سهمٍ، يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارةٍ، ومعه جامٌ من فضّةٍ يريد به الملك وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله، قال تميمٌ: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهمٍ، ثمّ اقتسمناه أنا وعديّ بن بدّاءٍ، فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره، قال تميمٌ: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمس مائة درهمٍ، وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فسألهم البيّنة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}، إلى قوله: {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص، ورجلٌ آخر فحلفا، فنزعت الخمس مائة درهمٍ من عديّ بن بدّاءٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ، وليس إسناده بصحيحٍ، وأبو النّضر الّذي روى عنه محمّد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمّد بن السّائب الكلبيّ يكنى أبا النّضر، وقد تركه أهل الحديث، وهو صاحب التّفسير. سمعت محمّد بن إسماعيل، يقول: محمّد بن السّائب الكلبيّ يكنى أبا النّضر، ولا نعرف لسالمٍ أبي النّضر المدينيّ روايةً عن أبي صالحٍ مولى أمّ هانئٍ. وقد روي عن ابن عبّاسٍ شيءٌ من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه). [سنن الترمذي: 5/108-109]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمّد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبيرٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: خرج رجلٌ من بني سهمٍ، مع تميمٍ الدّاريّ وعديّ بن بدّاءٍ، فمات السّهميّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمّا قدمنا بتركته فقدوا جامًا من فضّةٍ مخوّصًا بالذّهب، فأحلفهما رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ وجدوا الجام بمكّة، فقيل: اشتريناه من عديٍّ وتميمٍ، فقام رجلان من أولياء السّهميّ، فحلفا باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، وأنّ الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم}.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ وهو حديث ابن أبي زائدة). [سنن الترمذي: 5/109]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} يقول: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة يقول: وقت الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم، يقول: ذوا رشدٍ وعقلٍ وحجًا من المسلمين.
- كما حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، وعبيد اللّه بن يوسف الجبيريّ، قالا: حدّثنا مؤمّل بن إسماعيل، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، في قوله: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} قال: ذوا عقلٍ.
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {ذوا عدلٍ منكم}، فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملّتكم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا حميد بن مسعدة، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، قال: شاهدان ذوا عدلٍ منكم من المسلمين.
- حدّثنا عمران بن موسى القزّاز، قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيدٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سويدٍ، عن يحيى بن يعمر، في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم} من المسلمين.
- حدّثنا ابن بشّارٍ وابن المثنّى، قالا: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}، قال: اثنان من أهل دينكم.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قول اللّه تعالى: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}، قال: من الملّة.
- حدّثنا أبو كريبٍ قال: حدّثنا ابن إدريس، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله، إلاّ أنّه قال فيه: من أهل الملّة.
- حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة، عن هشامٍ، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}، قال: من أهل الملّة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا أبي، عن ابن عونٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا حسينٌ، عن زائدة، عن هشامٍ، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، فذكر مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن مهديٍّ، عن حمّادٍ، عن ابن أبي نجيحٍ. وقال: حدّثنا مالك بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيدٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {ذوا عدلٍ منكم} قال: ذوا عدلٍ من أهل الإسلام.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ذوا عدلٍ منكم}، قال: من المسلمين.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيّب يقول: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}: أي من أهل الإسلام.
وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدلٍ من حيّ الموصي، وذلك قولٌ روي عن عكرمة وعبيدة وعدّةٍ غيرهما.
واختلفوا في صفة الاثنين اللّذين ذكرهما اللّه في هذه الآية ما هي، وما هما؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصيّة الموصي.
وقال آخرون: هما وصيّان.
وتأويل الّذين زعموا أنّهما شاهدان، قوله: {شهادة بينكم} ليشهد شاهدان ذوا عدلٍ منكم على وصيّتكم.
وتأويل الّذين قالوا: هما وصيّان لا شاهدان قوله: {شهادة بينكم} بمعنى الحضور والشّهود لما يوصيهما به المريض، من قولك: شهدت وصيّة فلانٍ، بمعنى حضرته.
وأولى التّأويلين بقوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم} تأويل من تأوّله بمعنى: أنّهما من أهل الملّة دون من تأوّله أنّهما من حيّ الموصي.
وإنّما قلنا ذلك أولى التّأويلين بالآية، لأنّ اللّه تعالى عمّ المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم}، فغير جائزٍ أن يصرف ما عمّه اللّه تعالى إلى الخصوص إلاّ بحجّةٍ يجب التّسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم، كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.
وأولى المعنيين بقوله: {شهادة بينكم} اليمين، لا الشّهادة الّتي يقوم بها من عنده شهادةً لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكّام، لأنّا لا نعلم للّه تعالى حكمًا يجب فيه على الشّاهد اليمين، فيكون جائزًا صرف الشّهادة في هذا الموضع إلى الشّهادة الّتي يقوم بها بعض النّاس عند الحكّام والأئمّة.
وفي حكم الآية في هذه اليمين على ذوي العدل، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله: {تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه}، أوضح الدّليل على صحّة ما قلنا في ذلك من أنّ الشّهادة فيه الأيمان دون الشّهادة الّتي يقضى بها للمشهود له على المشهود عليه، وفساد ما خالفه.
فإن قال قائلٌ: فهل وجدت في حكم اللّه تعالى يمينًا تجب على المدّعي فتوجّه قولك في الشّهادة في هذا الموضع إلى الصّحّة؟
فإن قلت: لا، تبيّن فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنّه يجب على هذا التّأويل أن يكون المقسمان في قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما}: هما المدّعيّين.
وإن قلت: بلى، قيل لك: وفي أيّ حكم اللّه تعالى وجدت ذلك؟
قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني، وذلك في حكم الرّجل يدّعي قبل رجلٍ مالاً، فيقرّ به المدّعى عليه قبله ذلك ويدّعي قضاءه، فيكون القول قول ربّ الدّين، والرّجل يعترف في يد الرّجل السّلعة، فيزعم المعترفة في يده أنّه اشتراها من المدّعي أو أنّ المدّعي وهبها له، وما أشبه ذلك ممّا يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجب اللّه تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيّين اللّذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه.
واختلف أهل العربيّة في الرّافع قوله: {شهادة بينكم}، وقوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}، فقال بعض نحويّي البصرة: معنى قوله: {شهادة بينكم}: شهادة اثنين ذوي عدلٍ، ثمّ ألقيت الشّهادة وأقيم الاثنان مقامها، فارتفعا بما كانت الشّهادة به مرتفعةً لو جعلت في الكلام. قال: وذلك، في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف، نظير قوله: {واسأل القرية}، وإنّما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه، ثمّ عطف قوله: {أو آخران} على (الاثنين).
وقال بعض نحويّي الكوفة: رفع الاثنين بالشّهادة: أي ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم.
وقال آخر منهم: رفعت الشّهادة بـ {إذا حضر}، وقال: إنّما رفعت بذلك لأنّه قال: {إذا حضر}، فجعلها شهادةً محذوفةً مستأنفةً، ليست بالشّهادة الّتي قد رفعت لكلّ الخلق، لأنّه قال تعالى ذكره: {أو آخران من غيركم}، وهذه شهادةٌ لا تقع إلاّ في هذا الحال، وليست ممّا ثبت.
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصّواب، قول من قال: الشّهادة مرفوعةٌ بقوله: {إذا حضر}، لأنّ قوله: {إذا حضر} بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، والاثنان مرفوعٌ بالمعنى المتوهّم، وهو أن يشهد اثنان، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جرى من ذكر الشّهادة في قوله: {شهادة بينكم} وإنّما قلنا ذلك أولى بالصّواب، لأنّ الشّهادة مصدرٌ في هذا الموضع، والاثنان اسمٌ، والاسم لا يكون مصدرًا، غير أنّ العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. فالأمر وإن كان كذلك، فصرف كلّ ذلك إلى أصحّ وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً أولى بنا من صرفه إلى أضعفها). [جامع البيان: 9/55-60]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أو آخران من غيركم}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.
وقد اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: أو آخران من غيركم فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملّتكم. نحو الّذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا حميد بن مسعدة، وبشر بن معاذٍ، قالا: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب: {أو آخران من غيركم}: من أهل الكتاب.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، ومحمّد بن المثنّى، قالا: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ قال: حدّثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدّث، عن سعيد بن المسيّب: {أو آخران من غيركم}: من أهل الكتاب.
- حدّثني أبو حفصٍ الجبيريّ عبيد اللّه بن يوسف قال: حدّثنا مؤمّل بن إسماعيل قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، مثله.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيدٍ، مثله.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وسليمان التّيميّ، عن سعيد بن المسيّب، أنّهما قالا في قوله: {أو آخران من غيركم}، قالا: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرة، قال: حدّثني من، سمع سعيد بن جبيرٍ، يقول، مثل ذلك.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا التّيميّ، عن أبي مجلزٍ، قال: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: إن كان قربه أحدٌ من المسلمين أشهدهم، وإلاّ أشهد رجلين من المشركين.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا قتيبة، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن المغيرة، عن إبراهيم، وسعيد بن جبيرٍ، في قوله: {أو آخران من غيركم}، قالا: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثنا عمرٌو قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن سعيدٍ: {أو آخران من غيركم}، قال: من أهل الكتاب.
- حدّثنا عمرٌو قال: حدّثنا محمّد بن سواءٍ قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، مثله.
- حدّثنا هنّادٌ قال: حدّثنا وكيعٌ، وحدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، مثله.
- حدّثنا عمران بن موسى، قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيدٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سويدٍ، عن يحيى بن يعمر، في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم} من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ، عن شريحٍ، في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم}، قال: إذا كان الرّجل بأرض غربةٍ ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيّته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزةٌ. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم عن شريحٍ، أنّه كان لا يجيز شهادة اليهود والنّصارى على مسلمٍ إلاّ في الوصيّة، ولا يجيز شهادتهما على الوصيّة إلاّ إذا كانوا في سفرٍ.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا أبو معاوية ووكيعٌ، قالا: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريحٍ قال: لا تجوز شهادة اليهود والنّصارى إلاّ في سفرٍ، ولا تجوز في سفرٍ إلاّ في وصيّةٍ.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريحٍ، نحوه.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن الزّبير الأسديّ، قال: حدّثنا سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين، على المسلمين، فكتب: لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلاّ في وصيّةٍ، ولا يجوز في وصيّةٍ إلاّ أن يكون الرّجل مسافرًا.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قول اللّه، تعالى: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير الملّة.
- حدّثنا أبو كريبٍ قال: حدّثنا ابن إدريس، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله.
- حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة، عن هشامٍ، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: من غير أهل الملّة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا جريرٌ، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الصّلاة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا ابن إدريس، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل دينكم.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا حسينٌ، عن زائدة، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الملّة.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا أبو حرّة، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن عثمان قال: حدّثنا هشام بن محمّدٍ قال: سألت سعيد بن جبيرٍ عن قول اللّه: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا مالك بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيدٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: من غير أهل ملّتكم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {أو آخران من غيركم} قال: من غير أهل الإسلام.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، قال: قال أبو إسحاق: {أو آخران من غيركم}، قال: من اليهود والنّصارى.
قال: قال شريحٌ: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنّصرانيّ إلاّ في وصيّةٍ، ولا تجوز في وصيّةٍ إلاّ في سفرٍ.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا زكريّا، عن الشّعبيّ، أنّ رجلاً، من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدما بتركته ووصيّته، فقال الأشعريّ: هذا أمرٌ لم يكن بعد الّذي كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فأحلفهما، وأمضى شهادتهما.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشّعبيّ، أنّ أبا موسى، قضى بها بدقوقا.
- حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا عثمان بن الهيثم، قال: حدّثنا عوفٌ، عن محمّدٍ، أنّه كان يقول في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم}: شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {أو آخران من غيركم}: من غير أهل الإسلام.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا إسحاق قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن سعدٍ قال: أخبرنا أبو حفصٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ قال: من غير أهل الإسلام.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن عيّاشٍ، قال: قال زيد بن أسلم في هذه الآية: {شهادة بينكم} الآية كلّها، قال: كان ذلك في رجلٍ توفّي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام والأرض حربٌ والنّاس كفّارٌ، إلاّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بالمدينة، وكان النّاس يتوارثون بالوصيّة، ثمّ نسخت الوصيّة وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حيّكم وعشيرتكم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم، قال: حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم}، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم.
- حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزّهريّ، قال: مضت السّنّة أن لا، تجوز شهادة كافرٍ في حضرٍ ولا سفرٍ، إنّما هي في المسلمين.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: {اثنان ذوا عدلٍ منكم}: أي من عشيرته. {أو آخران من غيركم} قال: من غير عشيرته.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن ثابت بن يزيد، عن عاصمٍ، عن عكرمة: {أو آخران من غيركم} قال: من غير أهل حيّكم.
- حدّثنا ابن وكيعٍ قال: حدّثنا ابن مهديٍّ، عن ثابت بن يزيد، عن عاصمٍ، عن عكرمة: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير حيّكم.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا ثابت بن يزيد، عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة، في قول اللّه تعالى: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير أهل حيّه، يعني من المسلمين.
- حدّثني الحرث بن محمّدٍ قال: حدّثنا عبد العزيز قال: حدّثنا مباركٌ، عن الحسن: {أو آخران من غيركم}، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك كلّهم، من المسلمين.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن أيّوب، عن ابن سيرين عن عبيدة، قوله: {أو آخران من غيركم}، قال: مسلمين من غير حيّكم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني اللّيث، قال: حدّثني عقيلٌ، قال: سألت ابن شهابٍ عن قول اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين}، قلت: أرأيت الاثنين اللّذين ذكر اللّه من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللّذين يقومان مقامهما، أتراهما من غير أهل المرء الموصي، أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهابٍ: لم نسمع في هذه الآية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا عن أئمّة العامّة سنّةً أذكرها، وقد كنّا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا، فلا يذكرون فيها سنّةً معلومةً ولا قضاءً من إمامٍ عادلٍ، ولكنّه يختلف فيها رأيهم وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا الّذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميّت الّذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصيّةٍ، فإن سلّموا جازت وصيّته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدّلوا قول الميّت وآثروا بالوصيّة من أرادوا ممّن لم يوص لهم الميّت بشيءٍ حلف اللّذان يشهدان على ذلك بعد الصّلاة وهي صلاة المسلمين، فيقسمان باللّه: {إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين}، فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنّهما استحقّا إثمًا في شيءٍ من ذلك، فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الّذين ينكرون ما شهد به عليه الأوّلان المستحلفان أوّل مرّةٍ، فيقسمان باللّه: لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به، {وما اعتدينا إنّا إذن لمن الظّالمين}، {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم}، الآية.
وأولى التّأويلين في ذلك عندنا بالصّواب تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام، وذلك أنّ اللّه تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصيّة شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين، ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنّما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.
فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائزٍ صرف مغلق كلام اللّه تعالى إلاّ إلى أحسن وجوهه.
وقد دلّلنا قبل على أنّ قوله تعالى: {ذوا عدلٍ منكم} إنّما هو من أهل دينكم وملّتكم بما فيه كفايةٌ لمن وفّق لفهمه.
وإذا صحّ ذلك بما دلّلنا عليه، فمعلومٌ أنّ معنى قوله: {أو آخران من غيركم} إنّما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملّتكم.
وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان الآخران اللّذان من غير أهل ديننا يهوديّين كانا أو نصرانيّين أو مجوسيّين أو عابدي وثنٍ، أو على أيّ دينٍ كانا، لأنّ اللّه تعالى لم يخصّص آخرين من أهل ملّةٍ بعينها دون ملّةٍ بعد ألاّ يكونا من غير أهل الإسلام). [جامع البيان: 9/61-71]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصيّة، أن يشهد اثنان ذوا عدلٍ منكم أيّها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملّتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.
وقد بيّنّا فيما مضى السّبب الّذي من أجله قيل للمسافر الضّارب في الأرض {فأصابتكم مصيبة الموت} يقول: فنزل بكم الموت.
ووجّه أكثر التّأويل هذا الموضع إلى معنى التّعقيب دون التّخيير وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم.
وإنّما فعل ذلك من فعله، لأنّه وجّه معنى الشّهادة في قوله: {شهادة بينكم} إلى معنى الشّهادة الّتي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم، أو يبطلها.
ذكر بعض من تأوّل ذلك كذلك:
- حدّثنا عمران بن موسى القزّاز، قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيدٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سويدٍ، عن يحيى بن يعمر، في قوله: {ذوا عدلٍ منكم}: من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، ومحمّد بن المثنّى، قالا: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، في قوله: {اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم}، قال: اثنان من أهل دينكم، أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ، عن شريحٍ، في هذه الآية: {شهادة بينكم} إلى قوله: {أو آخران من غيركم}، قال: إذا كان الرّجل بأرض غربةٍ ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيّته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزةٌ.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم}، قال: هذا في الحضر، {أو آخران من غيركم}: في السّفر، {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}: هذا في الرّجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحدٌ من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنّصارى والمجوس، فيوصي إليهما.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وسعيد بن جبيرٍ، أنّهما قالا في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} الآية، قال: إذا حضر الرّجل الوفاة في سفرٍ، فيشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله: {ذوا عدلٍ منكم}، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره اللّه أن يشهد على وصيّته عدلين من المسلمين ثمّ قال: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}: فهذا لمن مات وليس عنده أحدٌ من المسلمين، فأمره اللّه تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين.
ووجّه ذلك آخرون إلى معنى التّخيير، وقالوا: إنّما عني بالشّهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصيّة الّتي أوصى إليهما، وائتمان الميّت إيّاهما على ما ائتمنهما عليه من مالٍ ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يأمن الرّجل على ماله من رآه موضعًا للأمانة، من مؤمنٍ وكافرٍ، في السّفر والحضر.
وقد ذكرنا الرّواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيّته إن شاء اللّه تعالى بعد). [جامع البيان: 9/71-74]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدلٍ منكم، أو كان أوصى إليهما، أو آخران من غيركم، إن كنتم في سفرٍ فحضرتكم المنيّة فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مالٍ وتركةٌ لورثتكم، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مالٍ فأصابتكم مصيبة الموت، فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموهما، وادّعوا عليهما خيانةً خاناها ممّا ائتمنا عليه، فإنّ الحكم فيهما حينئذٍ أن تحبسوهما، يقول: تستوقفونهما بعد الصّلاة.
وفي الكلام محذوفٌ اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو: فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيّتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مالٍ، فإنّكم تحبسونهما من بعد الصّلاة.
{فيقسمان باللّه إن ارتبتم} يقول: يحلفان باللّه إن اتّهمتموهما بخيانةٍ فيما ائتمنا عليه من تغيير وصيّةٍ أوصى إليهما بها، أو تبديلها والارتياب: هو الاتّهام {لا نشتري به ثمنًا} يقول: يحلفان باللّه لا نشتري بأيماننا باللّه ثمنًا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوضٍ نأخذه عليه، وعلى مالٍ نذهب به، أو لحقٍّ نجحده لهؤلاء القوم الّذين أوصى إلينا وإليهم وصيّتهم.
والهاء في قوله {به} من ذكر اللّه، والمعنيّ به الحلف والقسم، ولكنّه لمّا كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فيعرف من معنى الكلام، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف.
{ولو كان ذا قربى} يقول: يقسمان باللّه لا نطلب بإقسامنا باللّه عوضًا فنكذب فيها لأحدٍ، ولو كان الّذي نقسم به له ذا قرابةٍ منّا.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عبّاسٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}: فهذا لمن مات وليس عنده أحدٌ من المسلمين، فأمره اللّه بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصّلاة باللّه: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلاً.
وقوله: {تحبسونهما من بعد الصّلاة} من صلاة الآخرين ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصّلاة إن ارتبتم بهما، فيقسمان باللّه لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.
واختلفوا في الصّلاة الّتي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية فقال: {تحبسونهما من بعد الصّلاة}، فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا زكريّا، عن الشّعبيّ، أنّ رجلاً، من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدما بتركته ووصيّته، فقال الأشعريّ: هذا أمرٌ لم يكن بعد الّذي كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قال: فأحلفهما بعد العصر باللّه: ما خانا ولا كذبا، ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنّها لوصيّة الرّجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، وعمرو بن عليٍّ، قالا: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {أو آخران من غيركم} قال: إذا كان الرّجل بأرض الشّرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنّهما يحلفان بعد العصر.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى: {فأصابتكم مصيبة الموت}، فهذا رجلٌ مات بغربةٍ من الأرض، وترك تركته وأوصى بوصيّته، وشهد على وصيّته رجلان، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر وكان يقال: عندها تصير الأيمان.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني هشيمٌ، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، وسعيد بن جبيرٍ، أنّهما قالا في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم}، قالا: إذا حضر الرّجل الوفاة في سفرٍ، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب، فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما، وإن اتّهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: باللّه ما كذبنا، ولا كتمنا، ولا خنّا، ولا غيّرنا.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا يحيى بن القطّان قال: حدّثنا زكريّا قال: حدّثنا عامرٌ، أنّ رجلاً توفّي بدقوقا، فلم يجد من يشهده على وصيّته إلاّ رجلين نصرانيّين من أهلها، فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة باللّه: ما كتما، ولا غيّرا، وإنّ هذه الوصيّة. فأجازها.
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملّتهما.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله: {ذوا عدلٍ منكم} قال: هذا في الوصيّة عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه، قال: هذا في الحضر: {أو آخران من غيركم}: في السّفر، {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}: هذا الرّجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحدٌ من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنّصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فيقبلان به، فإن رضي أهل الميّت الوصيّة وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرّجلين، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السّلطان، فذلك قوله: {تحبسونهما من بعد الصّلاة إن ارتبتم}.
قال عبد اللّه بن عبّاسٍ: كأنّي أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعريّ في داره، ففتح الصّحيفة فأنكر أهل الميّت وخوّنوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنّهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرّجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان باللّه لا نشتري ثمنًا قليلاً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذن لمن الآثمين، إنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنّكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادةٌ وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها.
وأولى القولين في ذلك بالصّواب عندنا، قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأنّ اللّه تعالى عرّف الصّلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللاّم فيها، ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروفٍ، إمّا في جنسٍ، أو في واحدٍ معهودٍ معروفٍ عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت الصّلاة في هذا الموضع مجمعًا على أنّه لم يعن بها جميع الصّلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلف من اليهود والنّصارى، لأنّ لهم صلواتٌ ليست واحدةً، فيكون معلومًا أنّها المعنيّة بذلك. فإذ كان ذلك كذلك، صحّ أنّها صلاةٌ بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صحيحًا عنه أنّه إذ لاعن بين العجلانيّين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصّلوات، كان معلومًا أنّ الّتي عنيت بقوله: {تحبسونهما من بعد الصّلاة} هي الصّلاة الّتي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتخيّرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر باللّه من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشّمس.
وكان ابن زيدٍ يقول في قوله: {لا نشتري به ثمنًا}.
- ما حدّثني به يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {لا نشتري به ثمنًا}، قال: نأخذ به رشوةً). [جامع البيان: 9/74-79]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين}.
اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الأمصار: ولا نكتم شهادة اللّه بإضافة الشّهادة إلى اللّه، وخفض اسم اللّه تعالى، يعني: لا نكتم شهادة اللّه عندنا.
وذكر عن الشّعبيّ أنّه كان يقرؤه كالّذي:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن ابن عونٍ، عن عامرٍ، أنّه كان يقرأ: {ولا نكتم شهادةً اللّه، إنّا إذًا لمن الآثمين} بقطع الألف وخفض اسم اللّه هكذا حدّثنا به ابن وكيعٍ.
وكأنّ الشّعبيّ وجّه معنى الكلام إلى أنّهما يقسمان باللّه لا نشتري به ثمنًا ولا نكتم شهادةً عندنا، ثمّ ابتدأ يمينًا باستفهامٍ باللّه أنّهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما لمن الآثمين.
وقد روي عن الشّعبيّ في قراءة ذلك روايةٌ تخالف هذه الرّواية وذلك ما:
- حدّثني أحمد بن يوسف الثّعلبيّ، قال: حدّثنا القاسم بن سلاّمٍ، قال: حدّثنا عبّاد بن عبّادٍ، عن ابن عونٍ، عن الشّعبيّ، أنّه قرأ: (ولا نكتم شهادةً اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين).
قال أحمد: قال أبو عبيدٍ: تنوّن {شهادةً}، ويخفض {اللّه} على الاتّصال.
قال: وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام. وحفظي أنا لقراءة الشّعبيّ بترك الاستفهام.
وقرأها بعضهم: (ولا نكتم شهادةً اللّه) بتنوين الشّهادة ونصب اسم {اللّه}، بمعنى: ولا نكتم اللّه شهادةً عندنا.
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصّواب، قراءة من قرأ: {ولا نكتم شهادة اللّه} بإضافة الشّهادة إلى اسم {اللّه} وخفض اسم {اللّه}، لأنّها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار الّتي لا يتناكر صحّتها الأمّة.
وكان ابن زيدٍ يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة اللّه وإن كان صاحبها بعيدًا حدّثني بذلك يونس قال: أخبرنا ابن زيدٍ، عنه). [جامع البيان: 9/79-81]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين (106)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
- حدّثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا عمرٌو العنقزيّ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة قال: هذا في الوصيّة عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين ماله وما عليه.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ بن قتادة قوله: يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة فهذا رجلٌ مات بغربةٍ من الأرض، وترك تركةً، وأوصى بوصيّةٍ، وشهد على وصيّته رجلان.
قوله تعالى: اثنان ذوا عدلٍ
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحي بن خلفٍ قالا، ثنا عبد الأعلى عن محمّد بن إسحاق عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيطٍ قال: قال ابن مسعودٍ: وسئل عن هذه الآية اثنان ذوا عدلٍ منكم قال: هذا رجلٌ مسافرٌ ومعه مالٌ فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: اثنان ذوا عدلٍ منكم قال: إن مات وعنده المسلمون فأمره اللّه أن يشهد على وصيّته عدلين من المسلمين.
قوله تعالى: منكم
- وبه عن ابن عبّاسٍ قوله: اثنان ذوا عدلٍ منكم قال: من المسلمين وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، ومجاهدٍ ويحيى بن يعمر والسّدّيّ وقتادة، ومقاتل بن حيّان، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
قوله تعالى: أو آخران من غيركم
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا سعيد بن عونٍ، ثنا عبد الواحد بن زيادٍ، ثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال ابن عبّاسٍ في قوله: أو آخران من غيركم قال: من غير المسلمين من أهل الكتاب- وروي عن عبيدة، وشريحٍ وسعيد بن المسيّب ومحمد بن سيرين ويحي بن يعمر وعكرمة، ومجاهدٍ وسعيد بن جبيرٍ، والشّعبيّ وإبراهيم النّخعيّ وقتادة، وأبي مجلزٍ، والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا إسحاق بن الضّيف، ثنا خالد بن مخلدٍ القطوانيّ، ثنا عبد اللّه بن عبد الرّحمن الجهنيّ، عن ابن شهابٍ في قوله: أو آخران من غيركم قال: هم من أهل الميراث.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا الأنصاريّ محمّد بن عبد اللّه، ثنا أشعث عن الحسن في قوله: أو آخران من غيركم قال: من غير قومكم مسلمان.
قوله تعالى: إن أنتم ضربتم في الأرض
- حدّثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا عمرٌو العنقزيّ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: إن أنتم ضربتم في الأرض قال: في السّفر.
قوله تعالى: فأصابتكم مصيبة الموت
- وبه عن السّدّيّ قوله: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت قال: هذا في السّفر، الرّجل يدركه الموت في السّفر وليس بحضرته أحدٌ من المسلمين فيدعوا رجلين من اليهود أو النّصارى والمجوس فيوحي إليها ويرفع إليها ميراثه فيقبلانه فإن رضي أهل الميّت الوصيّة وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرّجلين فإن ارتابوا دفعوهما إلى السّلطان وذلك قوله: فأصابتكم مصيبة الموت
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال:
سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول في قوله: فأصابتكم مصيبة الموت قال في أرض الكفر.
قوله تعالى: تحبسونهما من بعد الصّلاة
- حدّثنا العبّاس بن يزيد العبديّ ثنا عبد الرّزّاق ، ثنا معمرٌ عن أيّوب عن ابن سيرين عن عبيدة في قوله: تحبسونهما من بعد الصّلاة قال: صلاة العصر
قوله تعالى: فيقسمان باللّه
- حدّثنا أبي، أخبرنا الحسين بن زيادٍ، ثنا محمّد بن سلمة عن محمّد بن إسحاق عن أبي النّضر عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هاني بنت أبي طالبٍ عن ابن عبّاسٍ عن تميمٍ الدّاريّ في هذه الآية يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال: برئ النّاس منها غيري وغير عديّ بن بدّاءٍ. وكانا نصرانيّن يختلفان إلى الشّام قبل الإسلام، فأتيا الشّام لتجارتهما، وقدم عليهما مولًى لبني سهمٍ- يقال له:
بديل بن أبي مريم بتجارةٍ ومعه جامٌ من فضّةٍ يريد به الملك، وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله، قال تميمٌ: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه بألف درهمٍ، ثمّ اقتسمناه أنا وعديّ بن بدّاءٍ فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميمٌ: فلمّا أسلمت بعد قدوم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهمٍ وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف، أنزل اللّه يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت إلى قوله: فيقسمان باللّه فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بدّاء.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي، حدّثني أبي عن أبيه عن ابن عبّاسٍ فيقسمان باللّه يقول: يحلفان باللّه بعد الصّلاة.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: فيقسمان بالله أصاحبكم لهذا أوصى وأنّ هذه لتركته.
قوله تعالى: ارتبتم
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني اللّيث، حدّثني عقيلٌ قال: ابن شهابٍ قوله: إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا قال: كانوا يقولون هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين يشهد بعضهم الميّت الّذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم، فيشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى وغيرهم فيخبرون من غاب عنهم منهم بما حضروا من وصيّته، فإن سلّموا جازت وصيّته، وإن إرتابوا في أن يكون بدّلوا قول الميّت، وآثروا بالوصيّة من أرادوا، وتركوا من لم يوص له الميّت بشيءٍ يحلف اللّذان يشهدان على ذلك بعد الصّلاة وهي صلاة المسلمين فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا- الآية
قوله تعالى: لا نشتري به ثمنًا
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: لا نشتري به ثمنًا يقول: لا نأخذ عليه أجرًا.
- قرئ على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: لا نشتري به ثمنًا قال: لا نشتري بأيماننا ثمنًا من الدّنيا ولو كان ذا قربى.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال:
سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول: في قوله: لا نشتري به ثمنًا قال: لا نأخذ به رشوةً.
قوله تعالى: ولو كان ذا قربى
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قول اللّه ذا قربى يعني قرابته.
قوله تعالى: ولا نكتم شهادة اللّه
- حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن الهرويّ، ثنا عليّ بن عاصمٍ عن داود عن عامرٍ في قوله: ولا نكتم شهادةً اللّه يعني: بقطع الألف وخفض اسم اللّه على القسم.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول في قوله: ولا نكتم شهادة اللّه قال: وإن كان صاحبها بعيدًا). [تفسير القرآن العظيم: 4/1228-1232]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وهو أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران فلا يحضر غيرهما فإن رضي ورثته بما شهدوا عليه من تركته فذلك ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان فإن عثر يقول وجد لطخ أو لبس أو تشبيه حلف الأوليان من الورثة واستحقا وأبطلا أيمان الشاهدين الأولين). [تفسير مجاهد: 209-210]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا الفسويّ من أصل كتابه لفظًا، ثنا يعقوب بن سفيان الفسويّ، ثنا يحيى بن يعلى بن الحارث، ثنا أبي يعلى بن الحارث، عن غيلان بن جامعٍ المحاربيّ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عامرٍ الشّعبيّ، عن أبي موسى الأشعريّ رضي اللّه عنه، أنّه " شهد عنده رجلان نصرانيّان على وصيّة رجلٍ مسلمٍ مات عندهم، قال: فارتاب أهل الوصيّة، فأتوا بهما أبا موسى الأشعريّ فاستحلفهما بعد صلاة العصر باللّه ما اشتريا به ثمنًا، ولا كتما شهادة اللّه، إنّا إذًا لمن الآثمين " قال عامرٌ: ثمّ قال أبو موسى الأشعريّ: واللّه إنّ هذه لقصّةٌ.... «صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرجاه»). [المستدرك: 2/343]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ ت د) ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال: خرج رجلٌ من بني سهم مع تميمٍ الداريّ، وعديّ بن بدّاءٍ، فمات السهميّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلما قدما بتركته، فقدوا جاماً من فضّةٍ مخوّصاً بذهبٍ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميمٍ وعدي بن بدّاءٍ، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، وأنّ الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} [المائدة: 106]، أخرجه البخاري والترمذي وأبو داود). [جامع الأصول: 2/129]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (ت) ابن عباس - رضي الله عنه -: قال: عن تميمٍ الداري في هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بدّاء وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهمٍ يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارةٍ، ومعه جامٌ من فضةٍ، يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض، فأوصى به إليهما، وأمر أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه بألف درهمٍ، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء، فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، ففقدوا الجام، فسألونا عنه؟ فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم البيّنة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه. فحلف، فأنزل الله: {يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص، ورجلٌ آخر، فحلفا، فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بدّاء.
أخرجه الترمذي، وقال: إنه غريب، وليس إسناده بصحيح.
[شرح الغريب]
(تأثمت) التأثم: تفعل من الإثم، فإما أنه فعل ما يخرج به من الإثم، أو أنه اعتدّ ما فعله إثماً). [جامع الأصول: 2/131]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين * فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
أخرج الترمذي وضعفه، وابن جرير، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ، وابن مردويه وأبو النعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم
عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف الله {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله {أن ترد أيمان بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله: ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل: اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيه نزلت {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}.
وأخرج ابن منده وأبو نعيم في المعرفة من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن المطلب بن أبي وداعة قال: خرج ثلاثة نفر تجارا، عدي بن بداء وتميم بن أوس الداري وخرج معهم بديل بن أبي مارية مولى بن العاص وكان مسلما، حتى إذا قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا في صحيفة فيه جميع ما معه، وفسره ثم طرحه في جوالفه فلما اشتد مرضه أوصى إلى تميم وإلى عدي النصرانيين فأمهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله قال: ومات بديل، فقبضا متاعه، ففتشاه وأخذا منه إناء كان فيه من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال مموه بالذهب، فانصرفا فقدما المدينة، فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا المتاع فوجدوا الصحيفة فيها تسمية ما كان فيها من متاعه وفيه الإناء الفضة المموه بالذهب، فرفعوهما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فأنزلت: (ياأيها الذين أمنوا شهادة بينكم) الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة قال كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها فلما هاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حول متجرهما إلى المدينة فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجزاه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا فقالوا لهما: هذا كتابه بيده قالوا:
ما كتمنا له شيئا فترافعوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله {إنا إذا لمن الآثمين} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب فقال أهله: هذا من متاعه ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا فترافعوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه ثم أن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء ثم قال: يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم - وهي القرية التي ولد فيها عيسى - فكتب له بها كتابا فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {شهادة بينكم} مضاف برفع شهادة بغير نون وبخفض بينكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي عن أبي طلحة عن ابن عباس {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين ثم قال {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين أمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة: ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة فذلك قوله تعالى {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا قام الأوليان فحلفا أنهما كذبا ذلك أدنى أن يأتي الكافران بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأوليان فليس على شهود المسلمين أقسام إنما الأقسام إذا كانا كافرين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {اثنان ذوا عدل منكم} قال: من أهل الإسلام {أو آخران من غيركم} قال: من غير أهل الأسلام وفي قوله {فيقسمان بالله} يقول: يحلفان بالله بعد الصلاة، وفي قوله {فآخران يقومان مقامهما} قال: من أولياء الميت فيحلفان {بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} يقول: فيحلفان بالله ما كان صاحبنا ليوصي بهذا وانهما لكاذبان، وفي قوله {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} يعني أولياء الميت فيستحقون ماله بأيمانهم ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين، وهي منسوخة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية {اثنان ذوا عدل منكم} قال: ما من الكتاب إلا قد جاء على شيء جاء على إدلاله غير هذه الآية ولئن أنا لم أخبركم بها لأنا أجهل من الذي ترك الغسل يوم الجمعة هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإن أدى فسبيل ما أدى وإن هو جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة: أن هذا الذي وقع إلي وما غيبت شيئا فإذا حلف برئ فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه فذلك الذي يقول الله {ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم}.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن مجاهد {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال: أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم فإن رضي ورثته بما غابا عنه من تركته فذلك ويحلف الشاهدان أنهما صادقان فإن عثر قال: وجد لطخ أو لبس أو تشبيه حلف الإثنان الأولان من الورثة فاستحقا وأبطلا أيمان الشاهدين.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله {أو آخران من غيركم} قال: من غير المسلمين من أهل الكتاب
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن سعيد بن المسيب في قوله {اثنان ذوا عدل منكم} قال: من أهل دينكم {أو آخران من غيركم} قال: من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي ولا النصراني إلا في وصية ولا تجوز في وصية إلا في سفر.
وأخرج عبد الرزاق وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه والحاكم وصححه عن الشعبي، أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء ولم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها وصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله {شهادة بينكم} الآية، كلها قال: كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة وكان الناس يتوارثون بينهم بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها.
وأخرج ابن جرير عن الزبير قال: مضت السنة أن لا يجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر إنما هي في المسلمين.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الآية منسوخة.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن عكرمة {أو آخران من غيركم} قال: من المسلمين من غير حيه.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ والبيهقي في "سننه" {اثنان ذوا عدل منكم} قال: من قبيلتكم {أو آخران من غيركم} قال: من غير قبيلتكم ألا ترى أنه يقول {تحبسونهما من بعد الصلاة} كلهم من المسلمين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عقيل قال: سألت ابن شهاب عن هذه الآية قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أو هما من أهل الكتاب ورأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما أتراهما من أهل المرء الموصي أم هما في غير المسلمين قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها وقد كنا نتذكرها أناسا من علمائنا
أحيانا فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل ولكنه مختلف فيها رأيهم وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية فإن سلموا جازت وصيته وإن ارتابوا أن يكونوا بدلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي أن المسلمين {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين} فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شيء من ذلك قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما يشهد عليه الأولان المستحلفان أول مرة فيقسمان بالله لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عبيدة في قوله {تحبسونهما من بعد الصلاة} قال: صلاة العصر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله {لا نشتري به ثمنا} قال: لا نأخذ به رشوة {ولا نكتم شهادة الله} وإن كان صاحبها بعيدا.
وأخرج أبو عبيدة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عامر الشعبي أنه كان يقرأ (ولا نكتم شهادة) يعني بقطع الكلام منونا (الله) بقطع الألف وخفض اسم الله على القسم.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرؤها (ولا نكتم شهادة الله) يقول هو القسم.
وأخرج عن عاصم (ولا نكتم شهادة الله) مضاف بنصب شهادة ولا ينون). [الدر المنثور: 5/574-584]

تفسير قوله تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) )
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله عثر ظهر الأوليان وأحدهما أولى أي أحقّ به طعامهم وذبائحهم كذا ثبت في بعض النّسخ هنا وقد تقدّم في الوصايا إلّا الأخير فسيأتي في الذّبائح). [فتح الباري: 8/270]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (فإن عثر ظهر
أشار به إلى قوله تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقا إثمًا} وفسّر عثر بقوله: ظهر، قال المفسّرون: أي فإن اشتهر وظهر وتحقّق من شاهدي الوصيّة أنّهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به بنسبته إليهما وظهر عليهما بذلك فآخران يقومان مقامهما، وتوضيح هذا يظهر من تفسير الآية الّتي هذه اللّفظة فيها وما قبلها، وهي قوله تعالى: {يا أيها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (المائدة: 107) ). [عمدة القاري: 18/198]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (الأوليان واحدها أولى
أشار به إلى قوله تعالى: {من الّذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان باللّه} (المائدة: 106) الآية وأشار إلى أن ما ذكر من قوله: الأوليان تثنية أولى، والأوليان مرفوع، بقوله استحق من الّذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشّهادة، وقرئ الأوّلين على أنه وصف للّذين، وقرئ الأوّلين على التّثنية وانتصابه على المدح، وقرأ الحسن الأوّلان، وأكثر هذه الألفاظ المذكورة هاهنا لم تقع في كثير، من النّسخ، وفي النّسخ الّتي وقعت فيها بالتقديم والتّأخير، والله أعلم). [عمدة القاري: 18/198]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({فإن عثر}) {على أنهم استحقا إثمًا} [المائدة: 107] أي (ظهر) وقوله تعالى: {من الذين استحق عليهم الأوليان} [المائدة: 107] (واحدهما أولى) وهذا ثابت في بعض النسخ ساقط من الفرع وأصله). [إرشاد الساري: 7/100-101]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {فإن عثر} فإن اطّلع منهما، أو ظهر. وأصل العثر: الوقوع على الشّيء والسّقوط عليه، ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلانٍ بكذا: إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيسٍ:
بذات لوثٍ عفرناةٍ إذا عثرت = فالتّعس أدنى لها من أن أقول لعا
يعني بقوله: (عثرت): أصاب ميسم خفّها حجرٌ أو غيره، ثمّ يستعمل ذلك في كلّ واقعٍ على شيءٍ كان عنه خفيًّا، كقولهم: (عثرت على الغزل بأخرة، فلم تدع بنجدٍ قردة)، بمعنى: وقعت.
وأمّا قوله: {على أنّهما استحقّا إثمًا} فإنّه يقول تعالى ذكره: فإن اطّلع من الوصيّين اللّذين ذكر اللّه أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما باللّه: لا نشتري بأيماننا ثمنًا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه، {على أنّهما استحقّا إثمًا}، يقول: على أنّهما استوجبا بأيمانهما الّتي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلّع على أنّهما كانا كاذبين في أيمانهما باللّه ما خنّا، ولا بدّلنا، ولا غيّرنا، فإن وجدا قد خانا من مال الميّت شيئًا، أو غيّرا وصيّته، أو بدّلا، فأثما بذلك من حلفهما بربّهما {فآخران يقومان مقامهما}، يقول: يقوم حينئذٍ مقامهما من ورثة الميّت الأوليان الموصى إليهما.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {أو آخران من غيركم}، قال: إذا كان الرّجل بأرض الشّرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنّهما يحلفان بعد العصر، فإذا اطّلع عليهما بعد حلفهما أنّهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميّت: إنّه كان كذا وكذا، ثمّ استحقّوا.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {أو آخران من غيركم}: من غير المسلمين، تحبسونهما من بعد الصّلاة، فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصّلاة باللّه: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلاً فإن اطّلع الأولياء على أنّ الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا باللّه: إنّ شهادة الكافرين باطلةٌ، وإنّا لم نعتد، فذلك قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}، يقول: إن اطّلع على أنّ الكافرين كذبا، {فآخران يقومان مقامهما} يقول: من الأولياء، فحلفا باللّه: إنّ شهادة الكافرين باطلةٌ، وإنّا لم نعتد فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}: أي اطّلع منهما على خيانةٍ أنّهما كذبا أو كتما.
واختلف أهل التّأويل في المعنى الّذي له حكم اللّه تعالى ذكره على الشّاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين بعد أن عثر عليهما أنّهما استحقّا إثمًا. فقال بعضهم: إنّما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميّت في وصيّته أنّه أوصى لغير الّذي يجوز في حكم الإسلام، وذلك أن يشهد أنّه أوصى بماله كلّه، أو أوصى أن يفضّل بعض ولده ببعض ماله.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {ذوا عدلٍ منكم}: من أهل الإسلام. {أو آخران من غيركم}: من غير أهل الإسلام. {إن أنتم ضربتم في الأرض} إلى: {فيقسمان باللّه}، يقول: فيحلفان باللّه بعد الصّلاة، فإن حلفا على شيءٍ يخالف ما أنزل اللّه تعالى من الفريضة يعني اللّذين ليسا من أهل الإسلام فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميّت، فيحلفان باللّه: ما كان صاحبنا ليوصي بهذا، أو: إنّهما لكاذبان، ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: يوقف الرّجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان باللّه: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذن لمن الآثمين، إنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته، فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرّجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانةً أو أحدًا يطعن عليهما رددنا شهادتهما، فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعن عليهما أو هما غير مرضيّين عندهم، أو اطّلع على أنّهما خانا شيئًا من المال وجدوه عندهما، فأقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام وحلفوا باللّه: لشهادتنا أنّهما لخائنان متّهمان في دينهما مطعونٌ عليهما أحقّ من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا فذلك قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}.
وقال آخرون: بل إنّما ألزم الشّاهدان اليمين، لأنّهما ادّعيا أنّه أوصى لهما ببعض المال. وإنّما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا عمران بن موسى القزّاز، قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعدٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سويدٍ، عن يحيى بن يعمر، في قوله: {تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه}، قال: زعما أنّه أوصى لهما بكذا وكذا. {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}: أي بدعواهما لأنفسهما {فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}: أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيءٍ ممّا تقولان.
والصّواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشّاهدين ألزما اليمين في ذلك باتّهام ورثة الميّت إيّاهما فيما دفع إليهما الميّت من ماله، ودعواهم قبلها خيانة مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الرّيبة الّتي كانت من الورثة فيهما، وصحّة التّهمة عليهما بشهادة شاهدٍ عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذٍ مع شهادة الشّاهد عليهما أو على أحدهما إنّما صحّح دعواه إذا حقّق حقّه، أو الإقرار يكون من الشّهود ببعض ما ادّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثمّ دعواهما في الّذي أقرّا به من مال الميّت ما لا يقبل فيه دعواهما إلاّ ببيّنةٍ، ثمّ لا يكون لهما على دعواهما تلك بيّنةٌ، فينقل حينئذٍ اليمين إلى أولياء الميّت.
وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصّحّة، لأنّا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشّهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها، فيكون الحكم في هذه الشّهادة نظيرًا لذلك. ولم نجد ذلك كذلك صحّ بخبرٍ عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولا بإجماعٍ من الأمّة، لأنّ استحلاف الشّهود في هذا الموضع من حكم اللّه تعالى، فيكون أصلاً مسلّمًا. والمقول إذا خرج من أن يكون أصلاً أو نظيرًا لأصلٍ فيما تنازعت فيه الأمّة، كان واضحًا فساده.
وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأنّ الشّاهدين استحلفا من أجل أنّهما ادّعيا على الميّت وصيّةً لهما بمالٍ من ماله أفسد من أجل أنّ أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم اللّه تعالى أنّ مدّعيًا لو ادّعى في مال ميّتٍ وصيّةً أنّ القول قول ورثة المدّعي في ماله الوصيّة مع أيمانهم، دون قول مدّعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدّعي بيّنةٌ. وقد جعل اللّه تعالى اليمين في هذه الآية على الشّهود إذا ارتيب بهما، وإنّما نقل الأيمان عنهم إلى أولياء الميّت، إذا عثر على أنّ الشّهود استحقّوا إثمًا في أيمانهم، فمعلومٌ بذلك فساد قول من قال: ألزم اليمين الشّهود لدعواهم لأنفسهم وصيّةً أوصى بها لهم الميّت في ماله.
على أنّ ما قلنا في ذلك عن أهل التّأويل هو التّأويل الّذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قضى به حين نزلت هذه الآية بين الّذين نزلت فيهم وبسببهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمّد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبيرٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: خرج رجلٌ من بني سهمٍ مع تميمٍ الدّاريّ وعديّ بن بدّاءٍ، فمات السّهميّ بأرضٍ ليس فيها مسلمٌ، فلمّا قدما بتركته فقدوا جامًا من فضّةٍ مخوّصًا بالذّهب، فأحلفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ثمّ وجد الجام بمكّة، فقالوا: اشتريناه من تميمٍ الدّاريّ وعديّ بن بدّاءٍ. فقام رجلان من أولياء السّهميّ فحلفا: لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، وأنّ الجام لصاحبهم قال: وفيهم أنزلت: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم}.
- حدّثنا الحسن بن أبي شعيبٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن أبي النّضر، عن باذان مولى أمّ هانئ ابنة أبي طالبٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن تميمٍ الدّاريّ، في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}، قال: برئ النّاس منها غيري وغير عديّ بن بدّاءٍ، وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشّام قبل الإسلام، فأتيا الشّام لتجارتهما، وقدم عليهما مولًى لبني سهمٍ يقال له: بديل بن أبي مريم، بتجارةٍ، ومعه جام فضّةٍ يريد به الملك، وهو عظم تجارته، فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله قال تميمٌ: فلمّا مات، أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهمٍ، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاءٍ، فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميمٌ: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمائة درهمٍ، وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسألهم البيّنة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله: {أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر منهم، فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بدّاءٍ.
- حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة، وابن سيرين وغيره قال: وثنا الحجّاج، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة، دخل حديث بعضهم في بعضٍ: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} الآية، قال: كان عديّ وتميمٌ الدّاريّ وهما من لخمٍ نصرانيّان يتّجران إلى مكّة في الجاهليّة فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حوّلا متّجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشّام تاجرًا فخرجوا جميعًا، حتّى إذا كانوا ببعض الطّريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيّته بيده ثمّ دسّها في متاعه، ثمّ أوصى إليهما فلمّا مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثمّ قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الّذي قبضنا له ودفع إلينا، قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا: لا.
قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ قالا: لا. قالوا: فهل تجر تجارةً؟ قالا: لا. قالوا: فإنّا قد فقدنا بعضه، فاتّهما، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {إنّا إذًا لمن الآثمين}، قال: فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر: باللّه الّذي لا إله إلاّ هو، ما قبضنا له غير هذا، ولا كتمنا، قال: فمكثنا ما شاء اللّه أن نمكث، ثمّ ظهر معهما على إناءٍ من فضّةٍ منقوشٍ مموّهٍ بذهبٍ، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم، ولكنّا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذّب أنفسنا، فترافعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت الآية الأخرى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلين من أهل الميّت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقّانه ثمّ إنّ تميمًا الدّاريّ أسلم وبايع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان يقول: صدق اللّه ورسوله، أنا أخذت الإناء.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم} الآية كلّها، قال: هذا شيءٌ حين لم يكن الإسلام إلاّ بالمدينة، وكانت الأرض كلّها كفرًا، فقال اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم}: من المسلمين، {أو آخران من غيركم}، من غير أهل الإسلام، {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}، قال: كان الرّجل يخرج مسافرًا والعرب أهل كفرٍ، فعسى أن يموت في سفره فيسند وصيّته إلى رجلين منهم، فيقسمان باللّه إن ارتبتم في أمرهما، إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان باللّه: ما كان معه إلاّ هذا الّذي قلنا. {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}، إنّما حلفا على باطلٍ وكذبٍ. {فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان} بالميّت {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين}، ذكرنا أنّه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه. قال: ثمّ عثر على بعض المتاع عندهما، فلمّا عثر على ذلك ردّت القسامة على وارثه، فأقسما، ثمّ ضمن هذان. قال اللّه تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ} فتبطل أيمانهم، {واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} الكاذبين الّذين يحلفون على الكذب.
وقال ابن زيدٍ: قدم تميمٌ الدّاريّ وصاحبٌ له، وكانا يومئذٍ مشركين ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنّهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته، فقال أولياء الميّت: كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضّةٍ، وقال الآخران: لم يكن معه إلاّ الّذي جئنا به. فحلفا خلف الصّلاة. ثمّ عثر عليهما بعد والإبريق معهما، فلمّا عثر عليهما ردّت القسامة على أولياء الميّت بالّذي قالوا مع صاحبهم، ثمّ ضمنها الّذي حلف عليه الأوليان.
- حدّثنا الرّبيع، قال: حدّثنا الشّافعيّ، قال: أخبرنا سعيد بن معاذ بن موسى الجعفريّ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قال بكرٌ: قال مقاتلٌ: أخذت هذا التّفسير عن مجاهدٍ والحسن والضّحّاك في قول اللّه: {اثنان ذوا عدلٍ منكم} أنّ رجلين نصرانيّين من أهل دارين، أحدهما تميميّ والآخر يمانيّ، صاحبهما مولًى لقريشٍ في تجارةٍ، فركبوا البحر ومع القرشيّ مالٌ معلومٌ قد علمه أولياؤه من بين آنيةٍ وبزٍّ ورقةٍ فمرض القرشيّ، فجعل وصيّته إلى الدّاريّين، فمات وقبض الدّاريّان المال والوصيّة، فدفعاه إلى أولياء الميّت، وجاءا ببعض ماله. وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للدّاريّين: إنّ صاحبنا قد خرج معه بمالٍ أكثر ممّا أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا فوضع فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنّكما خنتمانا فقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى آخر الآية.
فلمّا نزل: أن يحبسا من بعد الصّلاة، أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقاما بعد الصّلاة، فحلفا باللّه ربّ السّموات ما ترك مولاكم من المال إلاّ ما أتيناكم به، وإنّا لا نشتري بأيماننا ثمنًا قليلاً من الدّنيا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذن لمن الآثمين، فلمّا حلفا خلّي سبيلهما. ثمّ إنّهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميّت، فأخذ الدّاريّان فقالا: اشتريناه منه في حياته وكذبا، فكلّفا البيّنة فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه تعالى: {فإن عثر}، يقول: فإن اطّلع على أنّهما استحقّا إثمًا، يعني الدّاريّين، إن كتما حقًّا، فآخران من أولياء الميّت يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان، فيقسمان باللّه إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإنّ الّذي يطلب قبل الدّاريّين لحقٌّ، وما اعتدينا، إنّا إذن لمن الظّالمين. هذا قول الشّاهدين أولياء الميّت، ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها، يعني: الدّاريّين والنّاس أن يعودوا لمثل ذلك.
قال أبو جعفرٍ: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار الّتي روّينا دليلٌ واضحٌ على صحّة ما قلنا من أنّ حكم اللّه تعالى باليمين على الشّاهدين في هذا الموضع، إنّما هو من أجل دعوى ورثته على المسند إليهما الوصيّة خيانةً فيما دفع الميّت من ماله إليهما، أو غير ذلك ممّا لا يبرأ فيها المدّعي ذلك قبله إلاّ بيمينٍ، وإنّ نقل اليمين إلى ورثة الميّت بما أوجبه اللّه تعالى بعد أن عثر على الشّاهدين أنّهما استحقّا إثمًا في أيمانهما، ثمّ ظهر على كذبهما فيها، إنّ القوم ادّعوا فيما صحّ أنّه كان للميّت دعوى من انتقال ملكٍ عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، ممّا يكون اليمين فيها على ورثة الميّت دون المدّعى، وتكون البيّنة فيها على المدّعي، وفساد ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التّأويل.
وفيها أيضًا البيان الواضح على أنّ معنى الشّهادة الّتي ذكرها اللّه تعالى في أوّل هذه القصّة إنّما هي اليمين، كما قال اللّه تعالى في مواضع أخر: {والّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ باللّه إنّه لمن الصّادقين}، فالشّهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل: أشهد باللّه إنّه لمن الصّادقين، وكذلك معنى قوله: {شهادة بينكم} إنّما هو قسم بينكم، {إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة} أن يقسم {اثنان ذوا عدلٍ منكم} إن كانا ائتمنا على ما قال، فارتيب بهما، أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما. وذلك أنّ اللّه تعالى لمّا ذكر نقل اليمين من اللّذين ظهر على خيانتهما إلى الآخرين قال: {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما}، ومعلومٌ أنّ أولياء الميّت المدّعين قبل اللّذين ظهر على خيانتهما، غير جائزٍ أن يكونا شهداء بمعنى الشّهادة الّتي يؤخذ بها في الحكم حقّ مدّعى عليه لمدّعٍ، لأنّه لا يعلم للّه تعالى حكمٌ قضى فيه لأحدٍ بدعواه، ويمينه على مدّعًى عليه بغير بيّنةٍ ولا إقرارٍ من المدّعى عليه ولا برهانٍ.
فإذا كان معلومًا أنّ قوله: {لشهادتنا أحقّ من شهادتهما} إنّما معناه: قسمنا أحقّ من قسمهما، وكان قسم اللّذين عثر على أنّهما أثما هو الشّهادة الّتي ذكر اللّه تعالى في قوله: {أحقّ من شهادتهما}، صحّ أنّ معنى قوله: {شهادة بينكم} بمعنى الشّهادة في قوله: {لشهادتنا أحقّ من شهادتهما}، وأنّها بمعنى القسم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}، فقرأ ذلك قرّاء الحجاز والعراق والشّام: (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان) بضمّ التّاء.
وروي عن عليٍّ وأبيّ بن كعبٍ والحسن البصريّ أنّهم قرءوا ذلك: {من الّذين استحقّ عليهم} بفتح التّاء.
واختلفت أيضًا في قراءة قوله: {الأوليان}، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والشّام والبصرة: {الأوليان}.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: الأوّلين.
وذكر عن الحسن البصريّ أنّه كان يقرأ ذلك: (من الّذين استحقّ عليهم الأوّلان).
وأولى القراءتين بالصّواب في قوله: (من الّذين استحقّ عليهم) قراءة من قرأ بضمّ التّاء، لإجماع الحجّة من القرّاء عليه، مع مساعدة عامّة أهل التّأويل على صحّة تأويله، وذلك إجماع عامّتهم على أنّ تأويله: فآخران من أهل الميّت الّذين استحقّ المؤتمنان على مال الميّت الإثم فيهم، يقومان مقام المستحقّ الإثم فيهما بخيانتهما ما خانا من مال الميّت.
وقد ذكرنا قائل ذلك أو أكثر قائليه فيما مضى قبل، ونحن ذاكروا باقيهم إن شاء اللّه تعالى ذلك.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى: {شهادة بينكم}: أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران لا يحضره غير اثنين منهم، فإن رضي ورثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشّاهدان إن اتّهما إنّهما لصادقان، فإن عثر، وجد أنّهما استحقّا إثمًا حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا، وأبطلا أيمان الشّاهدين.
وأحسب أنّ الّذين قرءوا ذلك بفتح التّاء، أرادوا أن يوجّهوا تأويله إلى: فآخران يقومان مقامهما مقام المؤتمنين اللّذين عثر على خيانتهما في القسم والاستحقاق به عليهما دعواهما قبلهما من الّذين استحقّ على المؤتمنين على المال على خيانتهما القيام مقامهما في القسم والاستحقاق في الأوليان بالميّت.
وكذلك كانت قراءة من روّيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: {من الّذين استحقّ} بفتح التّاء على معنى: الأوليان بالميّت وماله.
وذلك مذهبٌ صحيحٌ وقراءةٌ غير مدفوعةٍ صحّتها، غير أنّا نختار الأخرى لإجماع الحجّة من القرّاء عليها مع موافقتها التّأويل الّذي ذكرنا عن الصّحابة والتّابعين.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرّحمن، وكريبٍ، عن عليٍّ، أنّه كان يقرأ: (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان).
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا مالك بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيدٍ، عن واصلٍ مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيلٍ، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعبٍ، أنّه كان يقرأ: (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان).
وأمّا أولى القراءات بالصّواب في قوله: {الأوليان} عندي، فقراءة من قرأ: {الأوليان} بصحّة معناها، وذلك لأنّ معنى: فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ فيهم الإثم، ثمّ حذف (الإثم) وأقيم مقامه (الأوليان)، لأنّهما هما اللّذان ظلما وأثما فيهما بما كان من خيانة اللّذين استحقّا الإثم وعثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان ائتمنهما عليه الميّت، كما قد بيّنّا فيما مضى من فعل العرب مثل ذلك من حذفهم الفعل اجتزاءً بالاسم، وحذفهم الاسم اجتزاءً بالفعل. ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصّة، وهو قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان}، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال: {فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا}، فقال: {به}، فعاد بالهاء على اسم (اللّه)، وإنّما المعنى: لا نشتري بقسمنا باللّه، فاجتزئ بالعود على اسم اللّه بالذّكر، والمراد به: لا نشتري بالقسم باللّه استغناءً بفهم السّامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ بذكر الأوليين من ذكر الإثم الّذي استحقّه الخائنان لخيانتهما إيّاها، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السّامع عند سماعه إيّاه عن إعادته، وذلك قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}.
وأمّا الّذين قرءوا ذلك: (الأوّلين)، فإنّهم قصدوا في معناه إلى التّرجمة به عن (الّذين)، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذ كان (الّذين) جمعًا وخفضًا، إذ كان (الّذين) مخفوضًا.
وذلك وجهٌ من التّأويل، غير أنّه إنّما يقال للشّيء أوّلٌ، إذا كان له آخر هو له أوّلٌ، وليس للّذين استحقّ عليهم الإثم آخرهم له أوّلٌ، بل كانت أيمان الّذين عثر على أنّهما استحقّا إثمًا قبل إيمانهم، فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرًا أولى أن يكونوا آخرين من أن يكونوا أوّلين وأيمانهم آخرةٌ لأولى قبلها.
وأمّا القراءة الّتي حكيت عن الحسن، فقراءةٌ عن قراءة الحجّة من القرّاء شاذّةٌ، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلاً على بعدها من الصّواب.
واختلف أهل العربيّة في الرّافع لقوله: {الأوليان} إذا قرئ كذلك، فقال بعض نحويّي البصرة: يزعم أنّه رفع ذلك بدلاً من (آخران) في قوله: {فآخران يقومان مقامهما}، وقال: إنّما جاز أن يبدل الأوليان وهو معرفةٌ من آخران وهو نكرةٌ، لأنّه حين قال: {يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم} كان كأنّه قد حدّهما حتّى صارا كالمعرفة في المعنى، فقال: (الأوليان)، فأجرى المعرفة عليهما بدلاً. قال: ومثل هذا ممّا يجري على المعنى كثيرٌ واستشهد لصحّة قوله ذلك بقول الرّاجز:
عليّ يوم يملك الأمورا = صوم شهورٍ وجبت نذورا.
وبادنًا مقلّدًا منحورا
قال: فجعله (عليّ واجبٌ)، لأنّه في المعنى قد أوجب.
وكان بعض نحويّي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون (الأوليان) بدلاً من (آخران) من أجل أنّه قد نسق (فيقسمان) على (يقومان) في قوله: {فآخران يقومان}، فلم يتمّ الخبر عند من قال: لا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر، كما قال: غير جائزٍ (مررت برجلٍ قام زيدٌ وقعد)، وزيدٌ بدلٌ من رجلٍ.
والصّواب من القول في ذلك عندي أن يقال: (الأوليان) مرفوعان بما لم يسمّ فاعله، وهو قوله: (استحقّ عليهم)، وإنّهما موضع الخبر عنهما، فعمل فيهما ما كان عاملاً في الخبر عنهما، وذلك أنّ معنى الكلام: فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الإثم بالخيانة، فوضع (الأوليان) موضع (الإثم) كما قال تعالى في موضعٍ آخر: {أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر}، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن باللّه واليوم الآخر؟ وكما قال: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم}، وكما قال بعض الهذليّين:
يمشّي بيننا حانوت خمرٍ = من الخرس الصّراصرة القطاط
وهو يعني صاحب حانوت خمرٍ، فأقام الحانوت مقامه لأنّه معلومٌ أنّ الحانوت لا يمشي، ولكن لمّا كان معلومًا عنده أنّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه حذف الصّاحب واجتزأ بذكر الحانوت منه، فكذلك قوله: (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان)، إنّما هو من الّذين استحقّ فيهم خيانتهما، فحذفت (الخيانة) وأقيم (المختانان) مقامها، فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.
وأمّا قوله: {عليهم} في هذا الموضع، فإنّ معناها: فيهم، كما قال تعالى: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان}، يعني: في ملك سليمان، وكما قال: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل} فـ (في) توضع موضع (على)، و(على) في موضع (في)، كلّ واحدةٍ منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، ومنه قول الشّاعر:
- متى ما تنكروها تعرفوها = على أقطارها علقٌ نفيث
وقد تأوّلت جماعةٌ من أهل التّأويل قول اللّه تعالى: ({فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان}) أنّهما رجلان آخران من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوّلين.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود بن أبي هندٍ، عن عامرٍ، عن شريحٍ، في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم}، قال: إذا كان الرّجل بأرض غربةٍ، ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيّته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزةٌ. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين وأبطلت شهادة الآخرين.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فإن عثر} أي اطّلع منهما على خيانةٍ على أنّهما كذبا أو كتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا، أجيزت شهادة الآخرين وأبطلت شهادة الأوّلين.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عبد الملك، عن عطاءٍ، قال: كان ابن عبّاسٍ يقرأ: (من الّذين استحقّ عليهم الأوّلين)، قال: كيف يكون (الأوليان)، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟.
- حدّثنا هنّادٌ وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: كان يقرأ: (من الّذين استحقّ عليهم الأوّلين) قال: وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟.
قال الإمام أبو جعفرٍ: فذهب ابن عبّاسٍ فيما أرى إلى نحو القول الّذي حكيت عن شريحٍ وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين يقومان مقام النّصرانيّين، أو عدلان من المسلمين هما أعدل وأجوز شهادةً من الشّاهدين الأوّلين أو المقسمين.
وفي إجماع جميع أهل العلم على أن لا حكم للّه تعالى يجب فيه على شاهد يمينٍ فيما قام به من الشّهادة، دليلٌ واضحٌ على أنّ غير هذا التّأويل الّذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول اللّه تعالى: {فآخران يقومان مقامهما} أولى به.
وأمّا قوله {الأوليان}، فإنّ معناه عندنا: الأولى بالميّت من المقسمين الأوّلين فالأولى، وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى، ثمّ حذف (منهما)، والعرب تفعل ذلك فتقول: فلانٌ أفضل، وهي تريد أفضل منك، وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللاّم، فعلوا ذلك أيضًا إذا كان جوابًا لكلامٍ قد مضى، فقالوا: هذا الأفضل، وهذا الأشرف يريدون هو الأشرف منك.
- وقال ابن زيدٍ: معنى ذلك: الأوليان بالميّت حدّثني يونس، عن ابن وهبٍ، عنه). [جامع البيان: 9/81-103]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين}.
يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللّذان يقومان مقام اللّذين عثر على أنّهما استحقّا إثمًا بخيانتهما مال الميّت الأوليان باليمين والميّت من الخائنين: {لشهادتنا أحقّ من شهادتهما}، يقول: لأيماننا أحقّ من أيمان المقسمين المستحقّين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانهما الّتي حلفا بها وما اعتدينا يقول: وما تجاوزنا الحقّ في أيماننا.
وقد بيّنّا أنّ معنى الاعتداء: المجاوزة في الشّيء حدّه.
{إنّا إذًا لمن الظّالمين} يقول: إنّا إن كنّا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين، {لمن الظّالمين}، يقول: لمن عداد من يأخذ ما ليس له أخذه، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال النّاس). [جامع البيان: 9/103-104]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين (107)
قوله تعالى: فإن عثر
- أخبرنا العبّاس بن الوليد بن مزيدٍ قراءةً، ثنا محمّد بن شعيبٍ عن عثمان بن عطاءٍ عن أبيه قوله: فإن عثر قال: فإن اطّلع أولياء الميّت.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: فإن عثر يقول: فإن اطّلع- وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
قوله تعالى: على أنّهما استحقّا إثمًا
- أخبرنا العبّاس بن الوليد بن مزيدٍ البيروتيّ قراءةً، ثنا محمّد بن شعيبٍ أخبرنا عثمان بن عطاءٍ عن أبيه قوله: فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا قال: فإن اطّلع أولياء الميّت على أنّهما استحقا بأيمانهما شهادتهما إثمًا من مال الميّت.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا يعني: الدّاريّان، يقول إن كتما حقا.
قول تعالى: فآخران يقومان مقامهما
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ حدّثني أبي، ثنا عمّي حدّثني، أبي عن أبيه عن ابن عبّاسٍ قوله: فآخران يقومان مقامهما من أولياء الميّت وروي عن مقاتل بن حيّان مثل ذلك.
قوله تعالى: من الّذين استحقّ عليهم الأوليان
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أبو أسامة عن أبي عبيدة عن إسحاق بن سويدٍ عن يحيى بن يعمر أنّه قرأها أو الأوليان قال: هما الوليّان.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: من الّذين استحقّ عليهم الأوليان قال: على الأوليان يقول من الذين شهد عليها.
قوله تعالى: فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فما كتب إليّ، ثنا أبي ثنا عمّي، حدّثني أبي عن أبيه عن ابن عبّاسٍ قوله: فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما يقول يحلفان باللّه ما كان صاحبنا يوصي بهذا أو أنّهما لكاذبان، ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما قال: حلفًا باللّه لشهادتنا إنّهما لخائنان متّهمان في دينهما مطعون عليها أحقّ من شهادتهما بما شهدا وما اعتدينا.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما يقول: فيحلفان باللّه إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا وإنّ الّذي نطلب قبل الدّاريّن لحقٌّ.
قوله تعالى: وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين
- وبه عن مقاتل بن حيّان وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين هذا قول الشّاهدين أولياء الميّت حين اطّلع على خيانة الدّاريّن). [تفسير القرآن العظيم: 4/1232-1234]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} أي اطلع منهما على خيانة على أنهما كذبا أو كتما فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلاف ما قالا أجيز شهادة الآخرين وبطلت شهادة الأولين.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد وأبو عبيدة، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ (من الذين استحق عليهم الأوليان) بفتح التاء.
وأخرج ابن مردويه والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {من الذين استحق عليهم الأوليان}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن عدي عن أبي مجلز أن أبي بن كعب قرأ {من الذين استحق عليهم الأوليان} قال عمر: كذبت، قال: أنت أكذب، فقال الرجل: تكذب أمير المؤمنين قال: أنا أشد تعظيما لحق أمير المؤمنين منك ولكن كذبته في تصديق كتاب الله ولم أصدق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله، فقال عمر: صدق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى ابن يعمر أنه قرأها (الأوليان) وقال: هما الوليان.
وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه كان يقرأ (من الذين استحق عليهم الأولين) ويقول: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية أنه كان يقرأ الأولين مشددة على الجماع.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم (من الذين استحق) برفع التاء وكسر الحاء (عليهم الأولين) مشددة على الجماع.
وأخرج ابن جرير عن ابن يزيد في قوله {الأوليان} قال: الميت). [الدر المنثور: 5/584-586]

تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ذلك}: هذا الّذي قلت لكم في أمر الأوصياء إذا ارتبتم في أمرهم واتّهمتموهم بخيانة المال من أوصى إليهم من حبسهم بعد الصّلاة، واستحلافكم إيّاهم على ما ادّعى قبلهم أولياء الميّت. {أدنى} لهم {أن يأتوا بالشّهادة على وجهها} يقول: هذا الفعل إذا فعلتم بهم أقرب لهم أن يصدقوا في أيمانهم، ولا يكتموا، ويقرّوا بالحقّ، ولا يخونوا. {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم}، يقول: أو يخافوا هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنّهم استحقّوا إثمًا في أيمانهم باللّه، أن تردّ أيمانهم على أولياء الميّت بعد أيمانهم الّتي عثر عليها أنّها كذبٌ، فيستحقّوا بها ما ادّعوا قبلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم مخافة الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانوا فيه أولياء الميّت وورثته.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل وقد تقدّمت الرّواية بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرّواية في ذلك عن بعض من بقي منهم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا}، يقول: إن اطّلع على أنّ الكافرين كذبا، {فآخران يقومان مقامهما} يقول: من الأولياء، فحلفا باللّه أنّ شهادة الكافرين باطلةٌ وأنّا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشّهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم. وليس على شهود المسلمين أقسامٌ، وإنّما الأقسام إذا كانوا كافرين.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة} الآية، يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العقاب.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم}، قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمان هؤلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: {تحبسونهما من بعد الصّلاة}، {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها}، و{على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: يوقف الرّجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان باللّه لا نشتري به ثمنًا قليلاً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه، إنّا إذن لمن الآثمين، إنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنّكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم أجز لكما شهادةً وعاقبتكما. فإن قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها). [جامع البيان: 9/104-106]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين}.
يقول تعالى ذكره: وخافوا اللّه أيّها النّاس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله، وأن تخونوا من ائتمنكم {واسمعوا} يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به وانتهوا إليه {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} يقول: واللّه لا يوفّق من فسق عن أمر ربّه فخالفه وأطاع الشّيطان وعصى ربّه.
وكان ابن زيدٍ يقول: الفاسق في هذا الموضع: هو الكاذب.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين}: الكاذبين يحلفون على الكذب.
وليس الّذي قال ابن زيدٍ من ذلك عندي بمدفوعٍ، إلاّ أنّ اللّه تعالى عمّ الخبر بأنّه لا يهدي جميع الفسّاق، ولم يخصّص منهم بعضًا دون بعضٍ بخبرٍ ولا عقلٍ، فذلك على معاني الفسق كلّها حتّى يخصّص شيئًا منها ما يجب التّسليم له، فيسلّم له.
ثمّ اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخٌ، أو هو محكمٌ ثابتٌ؟ فقال بعضهم: هو منسوخٌ.
- ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن رجلٍ، قد سمّاه، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، قال: هي منسوخةٌ.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: هي منسوخةٌ. يعني هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} الآية.
وقال جماعةٌ: هي محكمةٌ وليست بمنسوخةٍ. وقد ذكرنا قول أكثرهم فيما مضى.
والصّواب من القول في ذلك أنّ حكم الآية غير منسوخٍ، وذلك أنّ من حكم اللّه تعالى ذكره الّذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث اللّه تعالى ذكره نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يومنا هذا، أنّ من ادّعي عليه دعوى ممّا يملكه بنو آدم أنّ المدّعى عليه لا يبرّئه ممّا ادّعي عليه إلاّ اليمين إذا لم يكن للمدّعي بيّنةٌ تصحّح دعواه، وأنّه إن اعترف وفي يدي المدّعى عليه سلعةٌ له، فادّعى أنّها له دون الّذي في يده، فقال الّذي هي في يده: بل هي لي، اشتريتها من هذا المدّعي، أنّ القول قول من زعم الّذي هي في يده أنّه اشتراها منه دون من هي في يده مع يمينه إذا لم يكن للّذي هي في يده بيّنةٌ تحقّق به دعواه الشّراء منه.
فإذ كان ذلك حكم اللّه الّذي لا خلاف فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللّتان ذكر اللّه تعالى ذكره فيهما أمر وصيّة الموصي إلى عدلين من المسلمين أو إلى آخرين من غيرهم، إنّما ألزم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيما ذكر عنه الوصيّين اليمين حين ادّعى عليهما الورثة ما ادّعوا ثمّ لم يلزم المدّعى عليهما شيئًا إذ حلفا، حتّى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنّهما اشترياه من ميّتهم، فحينئذٍ ألزم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ورثة الميّت اليمين، لأنّ الوصيّين تحوّلا مدّعيين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميّت أنّه لهما اشتريا ذلك منه فصارا مقرّين بالمال للميّت مدّعيّين منه الشّراء، فاحتاجا حينئذٍ إلى بيّنةٍ تصحّح دعواهما، وورثة الميّت ربّ السّلعة أولى باليمين منهما، فذلك قوله تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما} الآية.
فإذ كان تأويل ذلك كذلك فلا وجه لدعوى مدّعٍ أنّ هذه الآية منسوخةٌ، لأنّه غير جائزٍ أن يقضى على حكمٍ من أحكام اللّه تعالى ذكره أنّه منسوخٌ إلاّ بخبرٍ يقطع العذر، إمّا من عند اللّه، أو من عند رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، أو بورود النّقل المستفيض بذلك، فأمّا ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحّته عقلٌ، فغير جائزٍ أن يقضى عليه بأنّه منسوخٌ). [جامع البيان: 9/106-109]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين (108)
قوله تعالى: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها
- حدّثنا محمّد بن يحيي اثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها يعني الدّاريّن.
- أخبرنا محمّد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن الفضل، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها فيقول: لهما الإمام قبل صلى الله عليه وسلم، تحلفان إنّكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادةٌ وعاقبتكما خافا. قال لهما ذلك ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها
قوله تعالى: أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي، حدّثني أبي عن أبيه عن ابن عبّاسٍ قوله: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم يعني: أولياء الميّت فيستحقّون ماله بأيمانهم ثمّ يوضع ميراثه كما أمر اللّه وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخةٌ.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم يقول: أي يخافون العقاب
قوله تعالى: واتّقوا اللّه واسمعوا
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، ثنا بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: واتّقوا اللّه واسمعوا يعني القضاة واللّه لا يهدي القوم الفاسقين
قوله تعالى: الفاسقين
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ قال سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول في قوله: واللّه لا يهدي القوم الفاسقين الكاذبين الّذين يحلفون على الكذب). [تفسير القرآن العظيم: 4/1234-1235]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} يقول: ذلك أحرى أن يصدقوا في شهادتهم {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} يقول: وأن يخافوا العنت.
وأخرج ابن جرير عن ابن يزيد في قوله {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} قال: فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله {واتقوا الله واسمعوا} قال: يعني القضاء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله {والله لا يهدي القوم الفاسقين} قال: الكاذبين الذين يحلفون على الكذب، والله تعالى أعلم). [الدر المنثور: 5/586-587]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20 ربيع الثاني 1434هـ/2-03-2013م, 11:17 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) )

قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو عمرو {شهادة بينكم} يضيف.
الأعرج "شهادة بينكم"، بالرفع، ينون وينصب البين على الظرف.
الحسن وأبو عمرو {ولا نكتم شهادة الله} يضيف.
[معاني القرآن لقطرب: 484]
الشعبي "ولا نكتم شهادة آلله إنا إذا" على اليمين؛ وتكون هذه الألف التي في "آلله" تخفض، كما تخفض الواو؛ لأنهما كالمتعقبتين؛ ألا ترى أنهم لا يقولون "أو الله" فيما سمعنا.
وقد حكي عن الشعبي: "شهادة الله" ينون "شهادة" ويخفض الاسم على اليمين؛ كأنه قال شهادة والله؛ فخفض على إضمار الواو وإعمالها مضمرة، كقولهم "خير، عافاك الله" يريد بخير، فترك الباء؛ وقولهم أيضًا "لاه أبوك" يريدون "لله" فحذف اللام الخافضة؛ وكذلك قولهم: "اللهم لا أفعل"؛ ومن نصف فقال "الله لا أفعل"؛ ومن نصف فقال "الله لا أفعل" فحسن؛ كأنه قال: أعطيك الله.
ومثله قول الشاعر:
ألا رب من قلبي له الله ناصح = ومن قلبه لي في الظباء السوانح
فالخفض لا بأس به على قراءة الشعبي). [معاني القرآن لقطرب: 485]
قالَ مُحمدُ بنُ الجَهْمِ السُّمَّرِيُّ (ت: 277هـ):(وقوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان...}
يقول: شاهدان أو وصيّان، وقد اختلف فيه. ورفع الاثنين بالشهادة، أي ليشهدكم اثنان من المسلمين.
{أو آخران من غيركم} من غير دينكم. هذا في السّفر، وله حديث طويل. إلا أنّ المعنى في قوله: {من الذين استحقّ عليهم الأوليان} فمن قال: الأوليان أراد ولّي الموروث؛ يقومان مقام النصرانيّين إذا اتّهما أنهما اختانا، فيحلفان بعد ما حلف النصرانيّان وظهر على خيانتهما، فهذا وجه قد قرأ به عليّ، وذكر عن أبيّ بن كعب.
حدّثنا الفراء قال: حدثني قيس بن الربيع عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس أنه قال (الأوّلين) يجعله نعتا للذين. وقال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما. وقوله (استحقّ عليهم) معناه: فيهم؛ كما قال {واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} أي في ملك، وكقوله: {ولأصلّبنّكم في جذوع النخل} جاء التفسير: على جذوع النخل.
وقرأ الحسن (الأوّلان) يريد: استحقّا بما حقّ عليهما من ظهور خيانتهما.
وقرأ عبد الله بن مسعود (الأوّلين) كقول ابن عباس. وقد يكون (الأوليان) ها هنا النصرانيّين - والله أعلم - فيرفعهما بـ (استحقّ)، ويجعلهما الأوليين باليمين؛ لأن اليمين كانت عليهما، وكانت البيّنة على الطالب؛ فقيل: الأوليان بموضع اليمين. وهو على معنى قول الحسن.
وقوله أن{تردّ أيمان} غيرهم على إيمانهم فتبطلها). [معاني القرآن للفراء: 1/323-324]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ مّنكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مّصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذا لّمن الآثمين}
وقال: {شهادة بينكم} ثم قال: {اثنان ذوا عدلٍ مّنكم} أي: شهادة بينكم شهادة اثنين. فلما ألقى "الشهادة" قام "الاثنان" مقامها وارتفعا بارتفاعها كما قال: {وسأل القرية} يريد: أهل القرية. وانتصب (القرية) بانتصاب "الأهل" وقامت مقامه. ثم عطف {أو آخران} على "الاثنين"). [معاني القرآن: 1/232]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} قد ذكرتها في كتاب تأويل «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 148]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا}.
قد اختلف الناس قديما في تأويل هذه الآية والسبب الذي نزلت فيه.
وأنا مخبر من تلك المذاهب والتأويلات، بأشبهها بلفظ الكتاب، وأولاها بمعناه.
وأراد الله عز وجل أن يعرفنا كيف نشده بالوصية عند حضور الموت، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصيّة.
وعلم الله سبحانه أنّ من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير دينكم {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وتمّ الكلام. فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصّة إن أمكن إشهادهما في السفر. والذّميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما.
ثم قال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد غيّرا، أو بدّلا وكتما وخانا.
وخصّ هذا الوقت، لأنه قبل وجوب الشمس، وأهل الأديان يعظمونه ويذكرون الله فيه، ويتوقّون الحلف الكاذب وقول الزّور، وأهل الكتاب يصلّون لطلوع الشمس وغروبها.
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أي: لا نبيعه بعرض، ولا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها.
فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به، قبلت شهادتهما، وأمضي الأمر على قولهما.
وروى معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن زكريا، عن الشعبي أنه قال:
مات رجل بدقوقا ولم يشهده إلا نصرانيّان، فأشهدهما على وصيته، فقدما الكوفة وأبو موسى الأشعري عليهما، فتقدّما إليه فأحلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر:
بالله ما بدّلا ولا كتما ولا كذبا وأجاز شهادتهما.
فإن عثر بعد هذه اليمين أي: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: حنثا في اليمين بكذب في قول، أو خيانة في وديعة {فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليّان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام بفلان، فتقول:
هذا الأولى، وهذان الأوليان، كما تقول: هذا الأكبر، في معنى الكبير، وهذا الأكبران، وعليهم بمعنى (منهم)، كما تقول: استحققت عليك كذا، واستوجبت عليك كذا، وأي: استحققته منك، واستوجبته منك، وقال الله سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2].
أي من الناس.
وقال صخر الغيّ:
متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث
يريد: من أقطارها.
فإذا أقام الوليان مقام الذّمّيين لليمين، حلفا بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما أي: أصحّ لكفرهما وإيماننا.
فإذا حلف الوليان على ما ظهرا عليه، رجع على الذّمّيين بما اختانا، ونقض ما مضى عليه الحكم بشهادتهما.
ثم قال سبحانه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أهل الذمة {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على أولياء الميت {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا.
وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل.
وبعضهم يذهب إلى أنه منسوخ بقوله سبحانه:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}). [تأويل مشكل القرآن: 377-381]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذا لمن الآثمين (106)
معناه أنّ الشهادة في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموت حاضره وهو يوصي بما يقول الموصي، صحيحا كان أو غير صحيح: إذا حضرني الموت، أو إذا مت فافعلوا واصنعوا.
والشهادة ترتفع من جهتين:
أحدهما أن ترتفع بالابتداء ويكون خبرها " اثنان "، والمعنى شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فتحذف شهادة ويقوم اثنان مقامها.
ويجوز أن يكون رفع (شهادة بينكم) على قوله وفيما فرض اللّه عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان، فيرتفع اثنان بشهادة، والمعنى أن يشهد اثنان فيرتفع اثنان بشهادة، والمعنى أ، يشهد اثنان ذوا عدل منكم.
معنى " منكم " قيل: فيه قولان:
قال بعضهم: منكم من أهل دينكم. (أو آخران من غيركم) من غير أهل ملّتكم.
وقال بعضهم: (ذوا عدل منكم) من أهل الميت، أو آخران من غيركم من غير أهل الميّت، واحتج هؤلاء بأن قوله: (فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى) يدل على أن منكم من ذوي قراباتكم.
وقال هؤلاء إذا كانوا أيضا عدولا من قرابات الميّت، فهم أولى لأنهم أعلم بأحوال الأهل من الغرائب، وأعلم بما يصلحهم، واحتجوا أيضا بأن (ذوى عدل) لا يكونان من غير أهل ملة الإسلام لأن الكفر قد باعد من العدالة.
فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن الوصية ينبغي أن يكون شاهدها عدلين من أهل الميت أو من غير أهله إن كان الموصي في حضر وكذلك إن كان في سفر.
فقوله: (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت).
ذكر الموت في السفر بعد قوله: إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فكان في الآية - واللّه أعلم - دليلا على الشهادة في الحضر والسفر.
وقد جاء في التفسير أن اثنين كانا شهدا في السفر غير مسلمين وللإجماع أن الشهود لا يجب أن يحلفوا.
وقد أجاز قوم في السفر شهادة الذّميين.
وقال الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشّهادة للّه) وقال: (ممّن ترضون من الشهداء)
والشاهد إذا علم أنه كذاب لم تجر أن تقبل شهادته، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله ثالث ثلاثة وأن اليهود قالت إن العزير ابن الله وعلمنا أنهم كاذبون، فكيف يجوز أن تقبل شهادة من هو مقيم على الكذب؟
ومعنى قوله: (تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه).
كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس.
وقوله: (إن ارتبتم).
إن وقع في أنفسكم منهم ريب، أي ظننتم بهم ريبة). [معاني القرآن: 2/214-216]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} وقرأ الأعرج (شهادة بينكم) وقرأ أبو عبد الرحمن (شهادة بينكم) فمن قرأ (شهادة بينكم) و(شهادة بينكم) فالمعنى عنده شهادة اثنين ثم حذف شهادة وأقام اثنين مقامها في الإعراب ويجوز أن يكون المعنى ليكن أن يشهد اثنان ومن قرأ (شهادة بينكم) فهو عنده بغير حذف والمعنى أن يشهد اثنان). [معاني القرآن: 2/375]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (فأما قوله تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ففي} هذا اختلاف كبير قال أبو موسى الأشعري وابن عباس ذو عدل منكم من أهل دينكم أو آخران من غيركم من أهل الكتاب وقال بهذا القول من التابعين عبيدة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وابن سيرين والشعبي
وقال الحسن والزهري ذوا عدل منكم من أقربائكم لأنهم أعلم بأموركم من غيرهم {أو آخران من غيركم} من غير أقربائكم من المسلمين وقال من احتج لهذا القول قد أجمع المسلمون على أن شهادة أهل الكتاب لا تجوز على المسلمين في غير الوصية وإجماعهم يقضي على اختلافهم وقال جل وعز: {ممن ترضون من الشهداء} فدل هذا على أن أحدا منهم ممن لا يرضى فالكافر يجب أن لا يرضى به أيضا فإنه قال جل وعز: {تحبسونهما من بعد الصلاة} فكيف يعظم الكافر الصلاة
وقال إبراهيم النخعي الآية منسوخة نسخها {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال زيد بن أسلم كان ذلك والأرض حرب والناس يتوارثون بالوصية وتوفي رجل وليس عنده أحد من أهل الإسلام فنزلت هذه الآية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ومعنى {تحبسونهما من بعد الصلاة} من بعد صلاة العصر ومعنى {لا نشتري به ثمنا} بما شهدنا عليه). [معاني القرآن: 2/376-378]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {ولو كان ذا قربى} معناه وإن كان ذا قربى كما قال سبحانه: {ولو افتدى به}). [معاني القرآن: 2/378]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين}
وقرأ عبد الله بن مسلم (ولا نكتم شهادة الله) وهو يحتمل معنيين أحدهما أن المعنى ولا نكتم الله شهادة والمعنى الآخر ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب وقرأ الشعبي (ولا نكتم شهادة الله) هذا عند أكثر أهل العربية لحن وإن كان سيبوبه قد أجاز حذف القسم والخفض وقرأ أبو عبد الرحمن (ولا نكتم شهادة الله) على الاستفهام). [معاني القرآن: 2/378-379]

تفسير قوله تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) )
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً) (107)؛ أي: فإن ظهر عليه، ووقع، وهو من قولهم: (عثرت على الغزل بأخرة، فلم تدع بنجدٍ قردةً).
(استحقّ عليهم الأولين) (107): واحدها الأولى؛ ومن قرأها: الأوليان، فالواحدة منها: الأولى). [مجاز القرآن: 1/181]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذا لّمن الظّالمين}
وقال: {من الّذين استحقّ عليهم الأوليان} أي: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم. وقال بعضهم {الأوليان} وبها نقرأ. لأنه حين قال: {يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم} كان كأنه قد حدهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى فقال: {الأوليان} فأجرى المعرفة عليهما بدلا. ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. قال الراجز:
عليّ يوم تملك الأمورا = صوم شهورٍ وجبت نذورا
=وبدناً مقلّداً منحورا
فجعله على "أوجب" لأنه في معنى "قد أوجب"). [معاني القرآن: 1/232]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن "من الذين استحق عليهم الأولان".
ابن عباس رحمه الله {استحق عليهم الأولين} وهي قراءة ابن مسعود.
قراءة ابن سيرين "استحق عليهم الأوليين".
قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي عمرو {الأوليان}.
أما قراءة الحسن فكأنها على "استحق عليهم الأولان يصيران فاعلين بـ: "استحق"؛ وأما قراءة ابن عباس رحمه الله، فكأنها "من الأولين الذين استحق عليهم"؛ كقولك "من الذين في الدار إخوتك وأصحابك".
وكذلك قراءة ابن سيرين؛ كأنه "من الأوليين اللذين استحق عليهم" وتكون "الأوليين" جميعًا؛ لأنك قد تقول هم الأولى؛ لأن "أفعل" قد تقع للواحد وللجميع؛ وقد يجوز أن يكون أراد اثنين، فجعل "الذين" لهما، كقوله {هذان خصمان اختصموا في ربهم}، وكقوله {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} وكان زيد يحجب بأخوين.
وأنشد:
إنا إذا داعي الصباح ثوبا = كنا الأكرمين الأطيبا
[قال أبو الحسن: كذا أنشدنا]:
وأما قراءة علي رضي الله عنه {الأوليان}، فتكون على مثل "الأولان" رفعًا بالفعل). [معاني القرآن لقطرب: 486]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فإن عثر على أنهما} قالوا: عثرت عليه، أعثر عثرًا وعثورًا؛ أي اطلعت عليه؛ والعثر والعثر والعثور الطلوع على الشيء، {وكذلك أعثرنا عليهم} من ذلك؛ كأنه أطلعنا عليهم.
وأما في المشي: فعثر في مشيه عثارًا). [معاني القرآن لقطرب: 502]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {فإن عثر}: ظهر).[غريب القرآن وتفسيره: 133]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({فإن عثر} أي ظهر {الأوليان} الوليّان). [تفسير غريب القرآن: 148]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : (ومن ذلك: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أكثر القرّاء يقرؤون فأصدق أكن بغير واو. واعتلّ بعض النحويين في ذلك بأنها محمولة على موضع فأصّدّق، لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، وأنشد:
فأبلوني بَلِيَّتكم لعلّي = أصالحكم وأستدرجْ نويّا
فجزم وأستدرج، وحمله على موضع أصالحكم لو لم يكن قبلها (لعلّي) كأنه قال: فأبلوني بليتكم أصالحكم وأستدرج.
وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ: فأصدق وأكون بالنصب، ويذهب إلى أن الكاتب أسقط الواو، كما تسقط حروف المد واللين في (كلمون) وأشباه ذلك.
وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها.
فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن بحمد الله.
وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، جناية الكاتب في الخط.
ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن، لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التّهجّي: فقد كتب في الإمام: (إن هذان لساحران) بحذف ألف التثنية.
وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل: قال رجلن و(فآخرن يقومان مقامهما) ، وكتبت كتّاب المصحف: الصلاة والزكوة والحيوة، بالواو، واتّبعناهم في هذه الحروف خاصة على التّيمّن بهم، ونحن لا نكتب: (القطاة والقناة والفلاة) إلا بالألف، ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه). [تأويل مشكل القرآن: 56-58] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (فإن عثر بعد هذه اليمين أي: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: حنثا في اليمين بكذب في قول، أو خيانة في وديعة {فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليّان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام بفلان، فتقول:
هذا الأولى، وهذان الأوليان، كما تقول: هذا الأكبر، في معنى الكبير، وهذا الأكبران، وعليهم بمعنى (منهم)، كما تقول: استحققت عليك كذا، واستوجبت عليك كذا، وأي: استحققته منك، واستوجبته منك، وقال الله سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}.
أي من الناس.
وقال صخر الغيّ:
=متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث
يريد: من أقطارها.
فإذا أقام الوليان مقام الذّمّيين لليمين، حلفا بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما أي: أصحّ لكفرهما وإيماننا.
فإذا حلف الوليان على ما ظهرا عليه، رجع على الذّمّيين بما اختانا، ونقض ما مضى عليه الحكم بشهادتهما). [تأويل مشكل القرآن: 379-380] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): («على» مكان «من»
قال الله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}، أي مع الناس.
وقال صخر الغيّ:
متى ما تنكروها تعرفوها = على أقطارها عَلَقٌ نَفِيثٌ
أي من أقطارها.
ومنه قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}، أي منهم). [تأويل مشكل القرآن: 573]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (فإن عثر على أنّهما استحقّا إثما فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذا لمن الظّالمين (107)
أي فإن اطلع على أنهما قد خانا.
(فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان).
وقد قرئت الأولين ويجوز (من الّذين استحق عليهم الأوليان) وهذا موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب.
فأوليان في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في (يقومان).
المعنى: " فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين).
(فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما).
فإذا ارتفع الأوليان على البدل، فاللذان في استحق من الضمير معنى الوصية، المعنى فليقم الأوليان من الّذين استحقت الوصية عليهم، أو استحق الإيصاء عليهم.
وقال بعضهم: معنى (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان) معناه: استحق فيهم، وقامت " على " مقام " في " كما قامت " في " مقام " على " في قوله: (ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل) ومعناه: على جذوع النخل.
وقال بعضهم معنى على (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان) كما قال: (الّذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون) أي إذا اكتالوا من الناس.
وقيل أن في " استحق " ذكر الإثم، لأن قوله عزّ وجلّ: (فإن عثر على أنّهما استحقّا إثما فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان)
كان المعنى: الذين جني الإثم عليهم.
وقيل إن " الأوليان " جائز أن يرتفعا باستحق، ويكون معناهما الأوليان باليمين، أي بأن يحلفا من يشهد بعدهما، فإن جاز شهادة النّصرانيين كان " الأوليان " على هذا القول النصرانيين، أو الآخران من غير بيت الميت.
وأجود هذه الأقوال أن يكون الأوليان بدلا، على أن المعنى: ليقم الأوليان من الذين استحق عليهم الوصية.
ومن قرأ (الأوّلين) رده على الذين، وكان المعنى من الذين استحق عليهم الإيصاء الأولين.
واحتج من قرأ بهذا فقال: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟). [معاني القرآن: 2/216-217]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} قال إبراهيم النخعي المعنى فإن اطلع). [معاني القرآن: 2/379]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال جل وعز: {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان}
إن اطلع عليهما بخيانة فأمر اثنان من أولياء الميت فحلفا واستحقا وقال أبو إسحاق وهذا موضع مشكل من الإعراب والمعنى وقد قيل فيه أقوال منها أن المعنى من الذين استحق فيهم الأوليان فقامت على مقام في كما قامت في مقام على في قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} وقيل المعنى من الذين استحق منهم الأوليان وقامت على مقام من كما قال تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} أي من الناس قال والقول المختار أن المعنى عندي ليقم الأولى بالميت فالأوليان بدل من الألف في يقومان والمعنى من الذين استحق عليهم الإيصاء
وأنكر ابن عباس هذه القراءة وقرأ (من الذين استحق عليهم الأولين) وقال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين). [معاني القرآن: 2/379-381]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( (فإن عثر) أي: اطلع). [ياقوتة الصراط: 215]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَإِنْ عُثِرَ} أي ظهر.
{الأَوْلَيَانِ} الوليان). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 72]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عُثِر}: ظهر). [العمدة في غريب القرآن: 124]

تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) )
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (ثم قال سبحانه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أهل الذمة {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على أولياء الميت {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا.
وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل.
وبعضهم يذهب إلى أنه منسوخ بقوله سبحانه:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}). [تأويل مشكل القرآن: 380-381] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين (108)
أي ذلك أقرب من الإتيان بالشهادة على وجهها، وأقرب إلى أن يخافوا). [معاني القرآن: 2/217]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 3 جمادى الأولى 1434هـ/14-03-2013م, 04:48 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي المجموع

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) }
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وإذا كان الفعل يدوم فالماضي والمستقبل واحد. صلى يصلي، وصام يصوم، واحد.
وأنشد:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه = أن الوليد أحق بالعذر
قال: هو بمعنى يشهد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} قال: زعم سيبويه أنه شهادة اثنين، ورفع الشهادة بمحذوف: معه شهادة اثنين قد تقدما. وقال الفراء: إن شئت رفعته بحين أي يشهد اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير أهل دينكم من النصارى أو اليهود. وهذا في السفر للضرورة، لأنه لا يجوز شهادة كافرٍ على مسلم، هذه الشهادة لكافرين {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}: للضرورة. ولا تجوز الشهادة لهما في غير هذا. {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} وهذا لا يكون في الإسلام أن يحبس المسلم حتى يحلف بعد الصلاة. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الكافران. {إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ} بأيماننا {ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} {فَإِنْ عُثِرَ} أي اطلع بعد ذا عليهما بأنهما قد اختانا و{اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} مقام النصرانيين، والنصرانيان من استحقت الخيانة فيهم فقال: {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} أي استحقت الخيانة، استحقها المسلمان على النصرانيين. الأوليان هما استحق على النصرانيين. وقال بعضهم: الأوليان هما الآخران، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أن هؤلاء قد اختانوا و{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} الأولين والأوليان يقرأ على ثلاثة أوجه). [مجالس ثعلب: 388-390]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال أبو العباس في قوله عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} أي اطلع عليهما بسوء). [مجالس ثعلب: 299]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وإذا كان الفعل يدوم فالماضي والمستقبل واحد. صلى يصلي، وصام يصوم، واحد.
وأنشد:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه = أن الوليد أحق بالعذر
قال: هو بمعنى يشهد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} قال: زعم سيبويه أنه شهادة اثنين، ورفع الشهادة بمحذوف: معه شهادة اثنين قد تقدما. وقال الفراء: إن شئت رفعته بحين أي يشهد اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير أهل دينكم من النصارى أو اليهود. وهذا في السفر للضرورة، لأنه لا يجوز شهادة كافرٍ على مسلم، هذه الشهادة لكافرين {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}: للضرورة. ولا تجوز الشهادة لهما في غير هذا. {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} وهذا لا يكون في الإسلام أن يحبس المسلم حتى يحلف بعد الصلاة. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الكافران. {إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ} بأيماننا {ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} {فَإِنْ عُثِرَ} أي اطلع بعد ذا عليهما بأنهما قد اختانا و{اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} مقام النصرانيين، والنصرانيان من استحقت الخيانة فيهم فقال: {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} أي استحقت الخيانة، استحقها المسلمان على النصرانيين. الأوليان هما استحق على النصرانيين. وقال بعضهم: الأوليان هما الآخران، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أن هؤلاء قد اختانوا و{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} الأولين والأوليان يقرأ على ثلاثة أوجه). [مجالس ثعلب: 388-390] (م)

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذاً لمن الآثمين (106) فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذاً لمن الظّالمين (107)
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين، لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن بداء، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما، قال الواقدي: وهما أخوان وقدم المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجرا فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري، هذا الذي قبضناه له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء؟ فقالوا: ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا، قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، واستحقا، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال: برئ الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء، وذكر القصة، إلا أنه قال وكان معه جام فضة يريد به الملك، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه، ونزعت من عدي خمسمائة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، وضعف أمره، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة.
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم، يقولون معنى قوله، منكم من المؤمنين، ومعنى، من غيركم من الكفار، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلا حضرته المنية بدقوقا ولم يجد أحدا من المؤمنين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية، ولا تجوز أيضا في الوصية إلا إذا كانوا في سفر، ومذهب جماعة ممن ذكر، أنها منسوخة بقوله تعالى وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم [الطلاق: 2] وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز.
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى: منكم يريد من عشيرتكم وقرابتكم، وقوله أو آخران من غيركم يريد من غير القرابة والعشيرة، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان، فإذا شهدا فإن لم يقر ارتياب مضت الشهادة، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين.
وقال بعض الناس الآية منسوخة، ولا يحلف شاهد، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة
الفقهاء، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب وإذا ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثما نظر، فإن كان الأمر بينا غرما دون يمين وليين، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان، قوله شهادة بينكم قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور، وقال الطبري: الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي تؤدى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله اثنان قال أبو علي: التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقدره غيره أولا كأنه قال مقيم شهادة بينكم اثنان، وأضيفت الشهادة إلى «بين» اتساعا في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء، كما قال تعالى: لقد تقطّع بينكم [الأنعام: 94] وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادة» بالتنوين «بينكم» بالنصب، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة» بالنصب والتنوين «بينكم» نصب، قال أبو الفتح: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان، وقوله تعالى: إذا حضر أحدكم الموت معناه إذا قرب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت، وهذا كقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه [النحل: 98] وكقوله إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ [الطلاق: 1] وهذا كثير، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن تجعل إذا بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب، ولك أن تجعل إذا في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله شهادة بينكم إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد، وقوله حين الوصيّة ظرف زمان، والعامل فيه حضر، وإن شئت جعلته بدلا من إذا، قال أبو علي: ولك أن تعلقه ب الموت لا يجوز أن تعمل فيه شهادة لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه، وقوله ذوا عدلٍ صفة لقوله اثنان، ومنكم صفة أيضا بعد صفة، وقوله تعالى: من غيركم صفة لآخران، وضربتم في الأرض معناه سافرتم للتجارة، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين، قال أبو علي: قوله تحبسونهما صفة ل آخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله: إن أنتم إلى الموت، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخران من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغني عن جواب إن لما تقدم من قوله أو آخران من غيركم وقال جمهور العلماء الصّلاة هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه، وقال ابن عباس: إنما هي بعد صلاة الذميين، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما، والفاء في قوله فيقسمان عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله من بعد الصّلاة قال أبو علي: وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة = فيبدو وتارات يجم فيغرق
تقديره عندهم إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله إن ارتبتم شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة، والضمير في قول الحالفين لا نشتري به ثمناً عائد على القسم، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، قال أبو علي: يعود على تحريف الشهادة، وقوله لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله: فيقسمان بالله، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان، وتقديره به ثمنا، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى.
وكذلك قوله تعالى: اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلًا [التوبة: 9] معناه ذا ثمن، ولا يجوز أن يكون نشتري في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجودا في اللغة في غير هذا الموضع، وخص «ذو القربى» بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل، وقوله تعالى: ولا نكتم شهادة اللّه أضاف شهادة إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتم» بجزم الميم، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن مسيسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادة» بالتنوين «الله» نصب ب نكتم، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله» ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازا، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادة» بالتنوين الله بقطع الألف دون مد وخفض الهاء، ورويت أيضا عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله» بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّوتنة منصوبة، ورويت هذه التي هي تنوين الشهادة ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب، قال أبو الفتح: أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادة» بالنصب والتنوين «آلله» بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا» بمد ألف الاستفهام أيضا دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين» بالإدغام). [المحرر الوجيز: 3/281-288]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فإن عثر استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه اتفاقا وبعد «إن» لم يرج ولم يقصد، وهذا كما يقال على الخبير سقطت، ووقعت على كذا، قال أبو علي: والإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأخذه إثم، فسمي آثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة، قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر هنا أن الإثم على بابه وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتهما لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك، واستحقّا معناه استوجباه من الله وكانا أهلا له فهذا استحقاق على بابه، إنه استيجاب حقيقة، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا» لأنهما ظلما وخانا فيه، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان، وذلك هو الإثم، وقوله تعالى: فآخران أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «استحق» مضمومة التاء.
والأوليان على التثنية لأولى وروى قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء «الأوليان» على التثنية وكذلك روى حفص عن عاصم، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر «استحق» بضم التاء «الأولين» على جمع أول، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «استحق» بفتح التاء «الأولان» على تثنية أول، وقرأ ابن سيرين «الأولين» على تثنية أول، ونصبهما على تقدير الأولين، فالأولين في الرتبة والقربى، قال أبو علي في قراءة ابن كثير ومن معه لا يخلو ارتفاع الأوليان من أن يكون على الابتداء وقد أخر فكأنه في التقدير و «الأوليان» بأمر الميت آخران يقومان، فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا، أو يكون خبر ابتداء محذوف كأنه فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان، أو يكون مسندا إليه استحق، وأجاز أبو الحسن فيه شيئا آخر، وهو أن يكون «الأوليان» صفة ل «آخران»، لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ثم قال أبو علي بعد كلامه هذا: فأما ما يسند إليه «استحق» فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية، أو الإثم. وسمي المأخوذ إثما كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة. ولذلك جاز أن يستند إليه استحقّ. ثم قال بعد كلام: فإن قلت هل يجوز أن يسند استحقّ إلى الأوليان. فالقول إن ذلك لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها. وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا الكلام نظر. ويجوز عندي أن يسند استحقّ إلى الأوليان.
وذلك أن أبا علي حمل لفظة الاستحقاق على أنه حقيقي فلم يجوزه إلا حيث يصح الاستحقاق الحقيقي في النازلة، وإنما يستحق حقيقة النصيب ونحوه. ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثما فإن الاستحقاق هنا حقيقة وفي قوله استحق مستعار، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه. فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة. إذ قد تسور تسوره وتملك تملكه.
وكذلك يقال فلان قد استحق ومنه شغل كذا إذا كان ذلك الأمر قد غلبه على أوقاته، وهكذا هي استحق في الآية على كل حال وإن أسندت إلى الأنصباء ونحوه لأن قوله استحقّ صلة ل الّذين والّذين واقع على الصنف المناقض للشاهدين الجائرين فالشاهدان ما استحقا قط في هذه النازلة شيئا حقيقة استحقاق، وإنما تسورا تسور المستحق فلنا أن نقدر الأوليان ابتداء وقد أخر. فيسند استحقّ على هذا إلى المال أو النصيب ونحوه على جهة الاستعارة. وكذلك إذا كان الأوليان خبر ابتداء وكذلك على البدل من الضمير في يقومان وعلى الصفة على مذهب أبي الحسن. ولنا أن نقدر الكلام بمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقهما والمبتغى أن يحضر وليها، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة، ثم بني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ويقوي هذا الغرض أن تعدي الفعل ب «على» لما كان باقتدار وحمل هيئته على الحال. ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار والضمير في عليهم عائد على كل حال في هذه القراءة على الجماعة التي تناقض شاهدي الزور الآثمين، ويحتمل أن يعود على الصنف الذين منهم شاهد الزور على ما نبينه الآن إن شاء الله في غير هذه القراءة.
وأما رواية قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء فيحتمل أن يكون الأوليان ابتداء أو خبر ابتداء، ويكون المعنى في الجمع أو القبيل الذي استحق القضية على هذا الصنف الشاهد بالزور، الضمير في عليهم عائد على صنف شاهدي الزور.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا التأويل تحويل وتحليق وصنعة في الّذين، وعليه ينبني كلام أبي علي في كتاب الحجة، ويحتمل أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم القيام، والصواب من التأويلين أن الضمير في عليهم عائد على الّذين، والأوليان رفع ب استحقّ وذلك متخرج على ثلاثة معان. أحدها أن يكون المراد من الذين استحق عليهم ما لهم وتركتهم شاهدا الزور. فسمى شاهدي الزور أوليين من حيث جعلتهما الحال الأولى كذلك، أي صيرهم عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته فجارا فيها، والمعنى الثاني أن يكون المراد من الجماعة الذين حق عليهم أن يكون منهم الأوليان، فاستحق بمعنى حق ووجب، كما تقول هذا بناء قد استحق بمعنى حق كعجب واستعجب ونحوه، والمعنى الثالث أن يجعل استحق بمعنى سعى واستوجب، فكأن الكلام فآخران من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم حقهم، أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقرباهما، ونحو هذا المعنى الذي يعطيه التعدي ب «على» قول الشاعر:
اسعى على حيّ بني ملك = كل امرئ في شأنه ساع
وكذلك في الحديث: «كنت أرعى عليهم الغنم» في بعض طرق حديث الثلاثة الذين ذكر أحدهم بره بأبويه حين انحطت عليهم الصخرة، وأما قراءة حمزة فمعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية، وذلك في قوله اثنان ذوا عدلٍ منكم ثم بعد ذلك قال أو آخران من غيركم وقوله تعالى: فيقسمان باللّه يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي التحريف، وقولهما لشهادتنا أحقّ من شهادتهما أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القضية أحق مما ذكراه أولا، وحرفا فيه، وما اعتدينا نحن في قولنا هذا ولا زدنا على الحد، وقولهما إنّا إذاً لمن الظّالمين في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه). [المحرر الوجيز: 3/288-292]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين (108) يوم يجمع اللّه الرّسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب (109)
الإشارة ب ذلك هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما. فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين، هذا قول ابن عباس رحمه الله، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة ب ذلك إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط، ثم يجيء قوله تعالى: أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بإزاء فإن عثر [المائدة: 107] الآية، وجمع الضمير في يأتوا ويخافوا إذ المراد صنف ونوع من الناس، وأو في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك تجيئني يا زيد أو تسخطني كأنك تريد وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان. وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا وأقرب إلى أن يخافوا، وقوله تعالى: على وجهها معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين، من حيث هم فاسقون، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا، ويحتمل أن يكون لفظ الفاسقين عاما والمراد الخصوص فيمن لا يتوب). [المحرر الوجيز: 3/292-293]

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين (106) فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم واتّقوا اللّه واسمعوا واللّه لا يهدي القوم الفاسقين (108)}
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكمٍ عزيزٍ، قيل: إنّه منسوخٌ رواه العوفي من ابن عبّاسٍ. وقال حمّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: إنّها منسوخةٌ. وقال آخرون -وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جريرٍ-: بل هو محكمٌ؛ ومن ادّعى النّسخ فعليه البيان.
فقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان} هذا هو الخبر؛ لقوله: {شهادة بينكم} فقيل تقديره: "شهادة اثنين"، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: دلّ الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.
وقوله: {ذوا عدلٍ} وصف الاثنين، بأن يكونا عدلين.
وقوله: {منكم} أي: من المسلمين. قاله الجمهور. قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ذوا عدلٍ منكم} قال: من المسلمين. رواه ابن أبي حاتمٍ، ثمّ قال: روي عن عبيدة، وسعيد بن المسيّب، والحسن، ومجاهدٍ، ويحيى بن يعمر، والسّدّي، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: عنى: ذلك {ذوا عدلٍ منكم} أي: من حي الموصي. وذلك قولٌ روي عن عكرمة وعبيدة وعدّةٍ غيرهما.
وقوله: {أو آخران من غيركم} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن عون، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عبّاسٍ في قوله: {أو آخران من غيركم} قال: من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب.
ثمّ قال: وروي عن عبيدة، وشريح، وسعيد بن المسيّب، ومحمّد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والشّعبيّ، وإبراهيم النّخعي، وقتادة، وأبي مجلز، والسّديّ، ومقاتل بن حيّان، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.
وعلى ما حكاه ابن جريرٍ عن عكرمة وعبيدة في قوله: {منكم} أي: المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: {أو آخران من غيركم} أي: من غير قبيلة الموصي. وقد روي عن ابن أبي حاتمٍ مثله عن الحسن البصريّ، والزّهريّ، رحمهما اللّه.
وقوله: {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي: سافرتم، {فأصابتكم مصيبة الموت} وهذان شرطان لجواز استشهاد الذّمّيّين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفرٍ، وأن يكون في وصيّةٍ، كما صرّح بذلك شريحٌ القاضي.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريحٍ قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلّا في سفرٍ، ولا تجوز في سفرٍ إلّا في وصيّةٍ.
ثمّ رواه عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عيّاشٍ، عن أبي إسحاق السّبيعي قال: قال شريحٌ، فذكر مثله.
وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه تعالى. وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثّلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزّهريّ قال: مضت السّنّة أنّه لا تجوز شهادة كافرٍ في حضرٍ ولا سفر، إنما هي في المسلمين.
وقال ابن زيدٍ: نزلت هذه الآية في رجلٍ توفّي وليس عنده أحدٌ من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حربٌ، والنّاس كفّارٌ، وكان النّاس يتوارثون بالوصيّة، ثمّ نسخت الوصيّة وفرضت الفرائض، وعمل النّاس بها.
رواه ابن جريرٍ، وفي هذا نظرٌ، واللّه أعلم.
وقال ابن جريرٍ: اختلف في قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم} هل المراد به أن يوصي إليهما، أو يشهدهما؟ على قولين:
أحدهما: أن يوصي إليهما، كما قال محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط قال: سئل ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، عن هذه الآية قال هذا رجلٌ سافر ومعه مالٌ، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.
رواه ابن أبي حاتمٍ وفيه انقطاعٌ.
والقول الثّاني: أنّهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصيٌّ ثالثٌ معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشّهادة، كما في قصّة تميم الدّاريّ، وعديّ بن بدّاء، كما سيأتي ذكرها آنفًا، إن شاء اللّه وبه التّوفيق.
وقد استشكل ابن جريرٍ كونهما شاهدين، قال: لأنّا لا نعلم حكمًا يحلف فيه الشّاهد. وهذا لا يمنع الحكم الّذي تضمّنته هذه الآية الكريمة، وهو حكمٌ مستقلٌّ بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أنّ هذا حكمٌ خاصٌّ بشهادةٍ خاصّةٍ في محلٍّ خاصٍّ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرائن الرّيبة حلف هذا الشّاهد بمقتضى ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصّلاة} قال [العوفيّ، عن] ابن عبّاسٍ: يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ، وإبراهيم النّخعي، وقتادة، وعكرمة، ومحمّد بن سيرين. وقال الزّهريّ: يعني صلاة المسلمين، وقال السّدّيّ، عن ابن عبّاسٍ: يعني صلاة أهل دينهما.
والمقصود: أن يقام هذان الشّاهدان بعد صلاةٍ اجتمع النّاس فيها بحضرتهم، {فيقسمان باللّه} أي: فيحلفان باللّه {إن ارتبتم} أي: إن ظهرت لكم منهما ريبةٌ، أنّهما قد خانا أو غلّا فيحلفان حينئذٍ باللّه {لا نشتري به} أي: بأيماننا. قاله مقاتل بن حيّان {ثمنًا} أي: لا نعتاض عنه بعوضٍ قليلٍ من الدّنيا الفانية الزّائلة، {ولو كان ذا قربى} أي: ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه، {ولا نكتم شهادة اللّه} أضافها إلى اللّه تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرها.
وقرأ بعضهم: "ولا نكتم شهادةً آللّه" مجرورًا على القسم. رواها ابن جريرٍ، عن عامر الشعبي.
وحكي عن بعضهم أنّه قرأ: "ولا نكتم شهادةً اللّه"، والقراءة الأولى هي المشهورة.
{إنّا إذًا لمن الآثمين} أي: إن فعلنا شيئًا من ذلك، من تحريف الشّهادة، أو تبديلها، أو تغييرها أو كتمها بالكلّيّة). [تفسير القرآن العظيم: 3/215-218]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا} أي: فإن اشتهر وظهر وتحقّق من الشّاهدين الوصيّين، أنّهما خانا أو غلا شيئًا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك {فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحقّ عليهم الأوليان} هذه قراءة الجمهور: "استحقّ عليهم الأوليان". وروي عن عليٍّ، وأبيّ، والحسن البصريّ أنّهم قرؤوها: {استحقّ عليهم الأوليان}.
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمّد الفروي، عن سليمان بن بلالٍ، عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن عبيد اللّه بن أبي رافعٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ: {من الّذين استحقّ عليهم الأوليان} ثمّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرّجاه.
وقرأ بعضهم، ومنهم ابن عبّاسٍ: "من الّذين استحقّ عليهم الأوّلين". وقرأ الحسن: "من الّذين استحقّ عليهم الأوّلان"، حكاه ابن جريرٍ.
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك: أي متى تحقّق ذلك بالخبر الصّحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقّين للتّركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما} أي: لقولنا: إنّهما خانا أحقّ وأصحّ وأثبت من شهادتهما المتقدّمة {وما اعتدينا} أي: فيما قلنا من الخيانة {إنّا إذًا لمن الظّالمين} أي: إن كنّا قد كذبنا عليهما.
وهذا التّحليف للورثة، والرّجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل، فيقسم المستحقّون على القاتل فيدفع برمّته إليهم، كما هو مقرّرٌ في باب "القسامة" من الأحكام.
وقد وردت السّنّة بمثل ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا الحسين بن زيادٍ، حدّثنا محمّد بن سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن أبي النّضر، عن باذان -يعني: أبا صالحٍ مولى أمّ هانئٍ بنت أبي طالبٍ-عن ابن عبّاسٍ، عن تميمٍ الدّاريّ في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال: برئ النّاس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء. وكانا نصرانيّين، يختلفان إلى الشّام قبل الإسلام، فأتيا الشّام لتجارتهما وقدم عليهما مولًى لبني سهمٍ، يقال له: بديل بن أبي مريم، بتجارةٍ ومعه جامٌ من فضّةٍ يريد به الملك، وهو عظم تجارته. فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله -قال تميمٌ: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه بألف درهمٍ، ثمّ اقتسمناه أنا وعديّ بن بدّاءٍ. فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما د فع إلينا غيره-قال تميمٌ: فلمّا أسلمت بعد قدوم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهمٍ، وأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه أن يستحلفوه بما يعظّم به على أهل دينه، فحلف فأنزل اللّه {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله: {فيقسمان باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما} فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائةٍ من عدي بن بدّاء.
وهكذا رواه أبو عيسى التّرمذيّ وابن جريرٍ كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحرّاني، عن محمد بن سلمة، عن محمّد بن إسحاق، به فذكره -وعنده: فأتوا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسألهم البيّنة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظّم به على أهل دينه، فحلف فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله: {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} فقام عمرو بن العاص ورجلٌ آخر، فحلفا. فنزعت الخمسمائةٍ من عديّ بن بدّاء.
ثمّ قال: هذا حديثٌ غريبٌ، وليس إسناده بصحيحٍ، وأبو النّضر الّذي روى عنه محمّد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمّد بن السّائب الكلبيّ، يكنّى أبا النّضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التّفسير، سمعت محمّد بن إسماعيل يقول: محمّد بن السّائب الكلبيّ، يكنّى أبا النّضر، ثمّ قال: ولا نعرف لسالمٍ أبي النّضر روايةً عن أبي صالحٍ مولى أمّ هانئٍ، وقد روي عن ابن عبّاسٍ شيءٌ من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.
حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمّد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قال: خرج رجلٌ من بني سهمٍ مع تميمٍ الدّاريّ وعديّ بن بدّاء، فمات السّهميّ بأرضٍ ليس فيها مسلمٌ، فلمّا قدما بتركته فقدوا جامًا من فضّةٍ مخوّصًا بالذّهب، فأحلفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ووجدوا الجام بمكّة، فقيل: اشتريناه من تميمٍ وعديٍّ. فقام رجلان من أولياء السّهميّ فحلفا باللّه لشهادتنا أحقّ من شهادتهما، وأنّ الجام لصاحبهم. وفيهم نزلت: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم}
وكذا رواه أبو داود، عن الحسن بن عليٍّ، عن يحيى بن آدم، به. ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، وهو حديث ابن أبي زائدة.
ومحمّد بن أبي القاسم، كوفيٌّ، قيل: إنّه صالح الحديث، وقد ذكر هذه القصّة مرسلةً غير واحدٍ من التّابعين منهم: عكرمة، ومحمّد بن سيرين، وقتادة. وذكروا أنّ التّحليف كان بعد صلاة العصر، رواه ابن جريرٍ. وكذا ذكرها مرسلةً: مجاهدٌ، والحسن، والضّحّاك. وهذا يدلّ على اشتهارها في السّلف وصحّتها.
ومن الشّواهد لصحّة هذه القصّة أيضًا ما رواه أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا هشيم، أخبرنا زكريّا، عن الشّعبيّ؛ أنّ رجلًا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ -يعني: أبا موسى الأشعريّ، رضي اللّه عنه-فأخبراه وقدّما بتركته ووصيّته، فقال الأشعريّ: هذا أمرٌ لم يكن بعد الّذي كان في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: فأحلفهما بعد العصر: باللّه ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنّها لوصيّة الرّجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
ثمّ رواه عن عمرو بن عليٍّ الفلاس، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشّعبيّ؛ أنّ أبا موسى قضى بدقوقا.
وهذان إسنادان صحيحان إلى الشّعبيّ، عن أبي موسى الأشعريّ.
فقوله: "هذا أمرٌ لم يكن بعد الّذي كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم" الظّاهر -واللّه أعلم-أنّه إنّما أراد بذلك قصّة تميمٍ وعديّ بن بدّاء، قد ذكروا أنّ إسلام تميم بن أوسٍ الدّاريّ، رضي اللّه عنه، كان في سنة تسعٍ من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخّرًا، يحتاج مدّعي نسخه إلى دليلٍ فاصلٍ في هذا المقام، واللّه أعلم.
وقال أسباطٌ عن السّدّي: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدلٍ منكم} قال: هذا في الوصيّة عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه، قال: هذا في الحضر، {أو آخران من غيركم} في السّفر، {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} هذا الرّجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحدٌ من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنّصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميّت الوصيّة وعرفوا [مال صاحبهم] تركوا الرّجلين وإن ارتابوا رفعوهما إلى السّلطان. فذلك قوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم} قال عبد اللّه بن عبّاسٍ: كأنّي أنظر إلى العلجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعريّ في داره، ففتح الصّحيفة، فأنكر أهل الميّت وخوّنوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنّهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرّجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان: باللّه لا نشتري به ثمنًا قليلًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين: أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنّكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادةٌ، وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها. رواه ابن جريرٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا الحسين، حدّثنا هشيم، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبيرٍ، أنّهما قالا في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا شهادة بينكم} الآية، قالا إذا حضر الرّجل الوفاة في سفرٍ، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما، وإن اتّهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: باللّه ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنّا ولا غيّرنا.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في تفسير هذه الآية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصّلاة باللّه: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلًا. فإن اطّلع الأولياء على أنّ الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا باللّه: أنّ شهادة الكافرين باطلةٌ، وإنّا لم نعتد، فذلك قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثمًا} يقول: إن اطّلع على أنّ الكافرين كذبا {فآخران يقومان مقامهما} يقول: من الأولياء، فحلفا باللّه: أنّ شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
وهكذا روى العوفي، عن ابن عبّاسٍ. رواهما ابن جريرٍ.
وهكذا قرّر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحدٍ من أئمّة التّابعين والسّلف، رضي اللّه عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد، رحمه اللّه). [تفسير القرآن العظيم: 3/218-221]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشّهادة على وجهها} أي: شرعيّة هذا الحكم على هذا الوجه المرضيّ من تحليف الشّاهدين الذّمّيّين وقد استريب بهما، أقرب إلى إقامتهما الشّهادة على الوجه المرضيّ.
وقوله: {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} أي: يكون الحامل لهم على الإتيان بالشّهادة على وجهها، هو تعظيم الحلف باللّه ومراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين النّاس إذا ردّت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقّون ما يدعون، ولهذا قال: {أو يخافوا أن تردّ أيمانٌ بعد أيمانهم} ثمّ قال: {واتّقوا اللّه} أي: في جميع أموركم {واسمعوا} أي: وأطيعوا {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} يعني: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته). [تفسير القرآن العظيم: 3/221-222]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:42 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة