الحضري والسفري
قلت: (أمثلة ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر غير مسافر كثيرة جداًَ، ولذلك لم يشتغل العلماء بإحصائها، وإنما تتبّع بعضهم ما قيل: إنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر روايةً أو استنتاجاً.
ولمعرفة السفريّ والحضري فوائد في استنباط بعض الأحكام وترتيب تواريخ الأدلة، ولذلك فائدة في القول بالنسخ والإطلاق والتقييد والتخصيص وغير ذلك، ويُحتاج إلى ما تبيّن منه في الجمع والترجيح بين الأقوال).
أمثلة السفري
قَالَ أبو عمرو عثمانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت:444هـ): (أخبرنا فارس بن أحمد، قال: أنا أحمد بن محمد، قال: أنا أحمد بن عثمان، قال: أنا الفضل، قال: أنا أحمد بن يزيد، قال: أنا أبو كامل فضيل بن حسين، قال: أنا حسان بن إبراهيم، قال: أنا أمية الأزدي، عن جابر بن زيد...وأنزل على النبي في أسفاره أربع آيات: آيتان منهن أنزلتا عليه وهو قاطن بمكة:
إحداهما: قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} نزلت عليه فيما يقال وهو بالجحفة.
والثانية: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا..} إلى آخرها، قيل: نزلت عليه بالشام ليلة أسري به.
والآيتان الأخريان نزلتا عليه وهو قاطن بالمدينة:
إحداهما: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة..} إلى آخرها نزلت عليه وهو بذات الجيش.
والثانية: {اليوم أكملت لكم دينكم..} إلى قوله تعالى: {دينا} نزلت عليه وهو بعرفة). [البيان: 137]
قالَ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ الحسينِ بنِ علي البيهقيُّ (ت:458هـ): (حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق، قال: حدثنا أحمد بن حفص قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن عاصم الأحول، عن أم عمرو بنت عبس أنها قالت: (حدثتني عمتي أنها كانت في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت عليه سورة المائدة؛ فاندقَّت كف راحلته العضباء من ثقل السورة) ). [دلائل النبوة:؟؟]
قَالَ محمَّدُ بنُ يعقوبَ الفَيرُوزآبادِيُّ (ت:817هـ): (وأما ابتداء سورة الحج فنزلت فى غزوة بنى المصطلق.
وقوله تعالى {والله يعصمك من الناس} نزلت فى بعض الغزوات لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحرسنى الليلة؟ فنزلت الآية.
وفى سورة القصص {إنك لا تهدى من أحببت} نزلت بالليل وهو فى لحاف عائشة رضى الله عنها وعن أبيها.
وأما السور والآيات التى نزلت والملائكة يشيعونها ففاتحة الكتاب. نزل بها جبريل وسبعمائة ألف ملك يشيعها. بحيث امتلأ منهم ما بين السماء والأرض، طبقوا العالم بزجل تسبيحهم، وخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهيبة ذلك الحال، وهو يقول فى سجوده: سبحان الله والحمد لله. ونزلت سورة الأنعام وسبعون ألف ملك يشيعها. ونزلت سورة الكهف واثنا عشر ألف ملك يشيعها. ونزلت آية الكرسى وثلاثون ألف ملك يشيعها. ونزلت يس واثنا عشر ألف ملك يشيعها). [بصائر ذوي التمييز:؟؟]
قالَ عبدُ الرَّحمن بنُ عُمَرَ بنِ رَسْلانَ البُلقِينيُّ (ت: 824هـ): (وفي سورة الفتح أمثلة لأنواع، منها:
أنها ليلية سفرية، ففي لفظ الحديث السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام القوم، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: ((قد أنزلت علي الليلة سورة)). الحديث. وقد كتبت في المصاحف مدنية). [مواقع العلوم:32]
قالَ عبدُ الرَّحمن بنُ عُمَرَ بنِ رَسْلانَ البُلقِينيُّ (ت: 824هـ): (النوع الثالث والرابع: السفري والحضري
فقد تقدم في النوعين الأولين في السفري أمثلة: في سورة البقرة والنساء والأنفال والحج، وسورة الفتح بجملتها، وآية التيمم المصاحبة لآية الوضوء في المائدة. نزلت في السفر بالبيداء، أو بذات الجيش، وذلك في القفول من غزوة المريسيع في السنة الرابعة، على اختلاف في ذلك، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة).
والخلاف في ذلك مبسوط في التفسير، وما قدمناه في الحج قد جاء ما يفيد مستنثى منه مرويا في الصحيح، ففي البخاري من طريق قيس بن عبادة.
عن أبي ذر، أنه كان يقسم أن هذه الآية: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} الآية [الحج: 19] نزلت في حمزة، وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر.
فالظاهر أنه نزلت في يوم بدر وقت المبارزة لما فيه من الإشارة بـ "هذان" والمراد بالأولين من المسلمين حمزة، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، والمراد بالآخرين من المشركين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
ومما نزل – أيضا – في السفر قوله – تعالى-: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية [النحل: 126]، نزلت في أحد لما مثل بحمزة، قاله ابن عباس وأبو هريرة فيما رواه الواحدي عن مجاهد.
ومقسم، عن ابن عباس، وعن أبي عثمان النهدي.
عن أبي هريرة مرفوعا في الغيلانيات من طريق أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد وقد مثل به فبقر بطنه، وقطع شدقه، فقال: ((رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك إلا ما علمت وصولا للرحم فعولا للخير، لولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك))، فنزل جبريل بخواتيم سورة النحل"، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف).
وفي رواية الترمذي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126]).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب.
وقد يقال: لا معارضة؛ لأن إعمال هذا الصبر إنما وقع يوم فتح مكة). [مواقع العلوم: 37-41] قالَ جلالُ الدينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بكرِ السيوطيُّ (ت: 911هـ): (النوع الثالث والرابع: الحضري والسفري
الأول: كثير.
وللثاني: أمثلة ذكر البلقيني منها قليلاً:
أحدها: وهو مما لم يذكره {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} الآية [البقرة: 196].
ففي "الصحيح" من حديث كعب بن عجرة: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تتساقط على وجهي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيؤذيك هوام رأسك؟)) فقلت: نعم فأنزل الله هذه الآية).
ثانيها: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} الآية [البقرة: 281] نزلت بمنى فيما رواه البيهقي في "الدلائل".
ثالثها: {آمن الرسول} الآية [البقرة: 285] إلى آخر السورة، قيل: نزلت يوم فتح مكة.
رابعها: ولم يذكره البلقيني {ليس لك من الأمر شيء} الآية [آل عمران: 128] نزلت بأحد، فروى الترمذي عن ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ((اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية))، فنزلت: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} الآية [آل عمران: 128])، وفي "الصحيح" أن ذلك كان في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح.
خامسها: ولم يذكره {وما محمد إلا رسول} الآية [آل عمران: 144] نزلت بأحد، فقد روى البيهقي في "الدلائل" من طريق آدم عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: (أشعرت أن محمداً قُتل؟ فقال: إن كان محمد قد قتل فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دينكم) فنزلت.
سادسها: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} الآية [النساء: 58] نزلت يوم الفتح في شأن مفتاح الكعبة.
سابعها: آية الكلالة – نزلت بين مكة والمدينة في مرجعه عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع.
ثامنها: ولم يذكره: أول المائدة، ففي شعب الإيمان من طريق سفيان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد، قالت: (نزلت سورة المائدة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إن كادت من ثقلها أن تكسر عظام الناقة).
وفي "الدلائل" من حديث عاصم الأحول عن أم عمرو بنت عبس عن عمها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنزلت عليه سورة المائدة فاندقت كتف راحلته العضباء من ثقل السورة).
وروى أبو عبيد عن عمر بن طارق عن يحيى بن أيوب عن أبي صخر عن محمد بن كعب القرظي قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على راحلته فانصدع كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تاسعها: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: 3] ففي "الصحيح" من حديث عمر – رضي الله عنه – أنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع انتهى.
عاشرها: آية التيمم فيها، ففيه من حديث عائشة أنها نزلت بالبيداء أو بذات الجيش قريب المدينة في القفول من غزوة المريسيع.
حادي عشرها: أول الأنفال، فقد روى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: (لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اذهب فاطرحه)))، قال: (فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي)، قال: (فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهب فخذ سيفك))).
ثاني عشرها: ولم يذكره: {إذ تستغيثون ربكم} الآية [الأنفال: 9]، ففي "الصحيح" عن عمر قال: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر فاستقبل القبلة وجعل يهتف بربه فأنزل الله هذه الآية).
ثالث عشرها: ولم يذكره: {ومن يولهم يومئذ دبره} الآية [الانفال: 16]، روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم بدر.
رابع عشرها: آيات من أثناء براءة في غزوة تبوك.
خامس عشرها: ولم يذكره: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآيتين [التوبة: 113-114]، فقد روى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس: (أنه صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة واعتمر، فلما هبط من ثنية عسفان نزل على قبر أمه وبكى ودعا الله أن يأذن له في الشفاعة لها فنزل جبريل بهاتين الآيتين).
سادس عشرها: {وإن عاقبتم فعاقبوا} الآية [النحل: 126] إلى آخر السورة.
فأخرج البيهقي في "الدلائل" والبزار في مسنده من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به، فذكر الحديث إلى أن قال: ((لأمثلن بسبعين منهم مكانك)) فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية [النحل: 126] إلى آخر السورة)، فهو صريح في نزولها بأحد، وعزا البلقيني هذا الحديث إلى الفيلانيات وهو قصور.
وأخرج الترمذي من حديث أبي بن كعب قال: (لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم. قال: فلما كان يوم الفتح أنزل الله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126]).
قال الترمذي: حسن غريب، قال البلقيني: وقد يقال لا معارضة بين الحديثين؛ لأن أعمال هذا الصبر إنما وقع يوم فتح مكة.
قلت: المعارضة واقعة بين قوله: (نزلت والنبي واقف على حمزة ووقوفه بأحد)، وقوله: (فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله)، وأي جمع حصل من كلامه المذكور؟ وإنما يجمع بما تقدم عن ابن الحصار أنها نزلت:
أولاً: بمكة، ثم ثانياً: بأحد، ثم ثالثاً: يوم الفتح تذكيراً من الله لعباده.
سابع عشرها: ولم يذكره أول الحج، ففي الترمذي عن عمران بن حصين قال: (أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} إلى قوله: {ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1-2] وهو في سفر فقال: ((أتدرون أي يوم ذلك؟)) الحديث). وفي "المستدرك" عن أنس مثله.
ثامن عشرها: {هذان خصمان اختصموا} إلى قوله: {الحميد} [الحج: 19-24] ففي البخاري عن أبي ذر أنه كان يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه.
قال البلقيني: فالظاهر أنها نزلت يوم بدر وقت المبارزة لما فيه من الإشارة بهذان.
تاسع عشرها: ولم يذكره {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} الآية [الحج: 39] – ففي المستدرك عن ابن عباس: (لما أخرج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: (إنا لله وإنا إليه راجعون أخرجوا نبيهم ليهلكن فنزلت هذه الآية)).
قال ابن الحصار: استنبط بعضهم من هذا الحديث أنها نزلت في سفر الهجرة.
العشرون: {إن الذي فرض عليك القرآن} الآية [القصص: 85]، قيل: نزلت بالجحفة في سفر الهجرة.
الحادي والعشرون: أول الروم كما تقدم.
الثاني والعشرون: سورة الفتح بجملتها، كذا قال البلقيني وتمسك بظاهر ما رواه البخاري من حديث عمر: (بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)) فقرأ: {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآية [الفتح: 1-2])، ولا دليل فيه على نزولها كلها تلك الليلة، بل النازل فيها أولها وقد وردت أحاديث بنزول سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها.
لطيفة: ورد تبيين الموضع الذي نزلت فيه وهو كراع الغميم رواه الحاكم أيضاً.
الثالث والعشرون: ولم يذكره: سورة المنافقون، فقد روى الترمذي من طريق إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي قال: أخبرنا زيد بن أرقم قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب، فسبق أعرابي فملأ الحوض، فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ورفع الأعرابي خشبةً فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فجاء عمي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك فوقع عليَّ من الهم ما لم يقع على أحد، فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فلحقني أبو بكر فقال: ما قال لك رسول الله؟ قلت: ما قال شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر، ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين).
قال الترمذي: حسن صحيح.
ففي هذا الحديث مع كونها نزلت بالسفر ما يقتضي أنها نزلت بالليل ثم روى أيضاً من حديثه أن ذلك في غزوة تبوك، ومن حديث جابر بن عبد الله نحو ذلك، وفيه قال سفيان: يروون أنها غزوة بني المصطلق وقال في كل من الحديثين حسن صحيح، وهو في "الصحيحين" بدون قول سفيان وذكر ابن إسحاق أيضاً أنها نزلت في غزوة بني المصطلق.
الرابع والعشرون: سورة النصر، روى البيهقي والبزار عن ابن عمر أنها نزلت أواسط أيام التشريق عام حجة الوداع). [التحبير في علم التفسير: 63-73]
قالَ جلالُ الدينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بكرِ السيوطيُّ (ت: 911هـ): (النوع الثاني في معرفة الحضري والسفري
أمثلة الحضري كثيرة.
وأما السفري فله أمثلة تتبَّعتُها:
منها: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} الآية [البقرة: 125] نزلت بمكة عام حجة الوداع، فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال: (لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم قال: ((نعم)) قال: أفلا نتخذه مصلى فنزلت).
وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال: (يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا قال: ((بلى)) قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت).
وقال ابن الحصار: نزلت إما في عمرة القضاء أو في غزوة الفتح أو حجة الوداع.
ومنها: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} الآية [البقرة: 189]، روى ابن جرير عن الزهري: أنها نزلت في عمرة الحديبية،، وعن السدي: أنها نزلت في حجة الوداع.
ومنها: {وأتموا الحج والعمرة لله} الآية [البقرة: 196]، فأخرج ابن أبي حاتم عن صفوان ابن أمية قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرني في عمرتي فنزلت فقال: ((أين السائل عن العمرة ألق عنك ثيابك ثم اغتسل . . .)) الحديث).
ومنها: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} الآية [البقرة: 196] نزلت بالحديبية كما أخرجه أحمد عن كعب بن عجرة الذي نزلت فيه والواحدي عن ابن عباس.
ومنها: {آمن الرسول} الآية [البقرة: 285]، قيل: نزلت يوم فتح مكة ولم أقف له على دليل.
ومنها: {واتقوا يوما ترجعون} الآية [البقرة: 281] نزلت بمنى عام حجة الوداع فيما أخرجه البيهقي في "الدلائل".
ومنها: {الذين استجابوا لله والرسول} الآية [آل عمران: 172] أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس: (أنها نزلت بحمراء الأسد).
ومنها: آية التيمم في النساء، أخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك: (أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم).
ومنها: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} الآية [النساء: 58]، نزلت يوم الفتح في جوف الكعبة كما أخرجه سنيد في تفسيره عن ابن جريج وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.
ومنها: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية [النساء: 102]، نزلت بعسفان بين الظهر والعصر كما أخرجه أحمد عن أبي عياش الزرقي.
ومنها: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية [النساء: 176]، أخرج البزار وغيره عن حذيفة: (أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له).
ومنها: أول المائدة، أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن أسماء بنت يزيد: (أنها نزلت بمنى) وأخرج في "الدلائل" عن أم عمرو عن عمها: (أنها نزلت في مسير له).
وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة.
ومنها: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: 3]، في "الصحيح" عن عمر: (أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع)، وله طرق كثيرة لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري: (أنها نزلت يوم غدير خم).
وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه: (إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع)، وكلاهما لا يصح.
ومنها: آية التيمم فيها في "الصحيح" عن عائشة: (أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة)، وفي لفظ بالبيداء أو بذات الجيش.
قال ابن عبد البر في "التمهيد": يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق وجزم به في "الاستذكار"، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع واستبعد ذلك بعض المتأخرين قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل وهذه القصة من ناحية خيبر لقول عائشة: (بالبيداء أو بذات الجيش) وهما بين المدينة وخيبر، كما جزم به النووي لكن جزم ابن التين بأن البيداء هي ذو الحليفة.
وقال أبو عبيد البكري: البيداء هو الشرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة. قال: وذات الجيش من المدينة على بريد.
ومنها: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم} الآية[المائدة: 11].
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: (ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة حين أراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به فأطلعه الله على ذلك).
ومنها: {والله يعصمك من الناس} الآية [المائدة: 67] في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة: (أنها نزلت في السفر).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر: (أنها نزلت في ذات الرقيع بأعلى نخل في غزوة بني أنمار).
ومنها: أول الأنفال نزلت ببدر عقب الوَقْعة كما أخرجه أحمد عن سعد بن أبي وقاص.
ومنها: {إذ تستغيثون ربكم} الآية [الأنفال: 9] نزلت ببدر أيضا كما أخرجه الترمذي عن عمر.
ومنها: {والذين يكنزون الذهب} الآية [التوبة: 34] نزلت في بعض أسفاره كما أخرجه أحمد عن ثوبان.
ومنها: قوله: {لو كان عرضا قريبا} الآيات [التوبة: 42] نزلت في غزوة تبوك كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
ومنها: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} الآية [التوبة: 65] نزلت في غزوة تبوك كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر.
ومنها: {ما كان للنبي والذين آمنوا} الآية [التوبة: 113] أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: (أنها نزلت لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا وهبط من ثنية عسفان فزار قبر أمه واستأذن في الاستغفار لها).
ومنها: خاتمة النحل أخرج البيهقي في "الدلائل" والبزار عن أبي هريرة: (أنها نزلت بأحد والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على حمزة حين استشهد)، وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب: (أنها نزلت يوم فتح مكة).
ومنها: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} الآية [الإسراء: 76] أخرج أبو الشيخ والبيهقي في "الدلائل" من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم: أنها نزلت في تبوك.
ومنها: أول الحج، أخرج الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين قال: (لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} إلى قوله {ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1-2] أنزلت عليه هذه وهو في سفر..) الحديث.
وعند ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: (أنها نزلت في مسيره في غزوة بني المصطلق).
ومنها: {هذان خصمان} الآيات [الحج: 19] قال القاضي جلال الدين البلقيني: الظاهر أنها نزلت يوم بدر وقت المبارزة لما فيه من الإشارة بـ«هذان».
ومنها: {أذن للذين يقاتلون} الآية [الحج: 39] أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: (لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة)، قال أبو بكر: (أخرجوا نبيهم ليهلكن فنزلت).
قال ابن الحصار: استنبط بعضهم من هذا الحديث أنها نزلت في سفر الهجرة.
ومنها: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} الآية [الفرقان: 45] قال ابن حبيب: نزلت بالطائف ولم أقف له على مستند.
ومنها: {إن الذي فرض عليك القرآن} الآية [القصص: 85] نزل بالجحفة في سفر الهجرة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك.
ومنها: أول الروم، روى الترمذي عن أبي سعيد قال: (لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت {الم غلبت الروم} إلى قوله {بنصر الله} الآية [الروم: 1-5]).
قال الترمذي: غلبت الروم يعني بالفتح ومنها {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} الآية [الزخرف: 45] قال ابن حبيب: نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء.
ومنها: {وكأين من قرية هي أشد قوة} الآية [محمد: 13] قال السخاوي في "جمال القراء": قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فنزلت.
ومنها: سورة الفتح أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها وفي "المستدرك" أيضا من حديث مجمع بن جارية: (أن أولها نزل بكراع الغميم).
ومنها: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} الآية [الحجرات: 13]، أخرج الواحدي عن ابن أبي مليكة: أنها نزلت بمكة يوم الفتح لما رقي بلال على ظهر الكعبة وأذن فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟.
ومنها: {سيهزم الجمع} الآية [القمر: 45] قيل: إنها نزلت يوم بدر حكاه ابن الفرس وهو مردود لما سيأتي في النوع الثاني عشر ثم رأيت عن ابن عباس ما يؤيده.
ومنها: قال النسفي: قوله {ثلة من الأولين} الآية [الواقعة: 13] وقوله {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} الآية [الواقعة: 81] نزلتا في سفره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم أقف له على مستند.
ومنها: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} الآية [الواقعة: 82]، أخرج ابن أبي حاتم من طريق يعقوب بن مجاهد أبي حزرة قال: نزلت في رجل من الأنصار في غزوة تبوك لما نزلوا الحجر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك فدعا فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها فقال رجل من المنافقين: إنما مطرنا بنوء كذا فنزلت.
ومنها: آية الامتحان {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} الآية [الممتحنة: 10] أخرج ابن جرير عن الزهري: أنها نزلت بأسفل الحديبية.
ومنها: سورة المنافقين، أخرج الترمذي عن زيد بن أرقم: (أنها نزلت ليلا في غزوة تبوك) وأخرج سفيان: أنها في غزوة بني المصطلق وبه جزم ابن إسحاق وغيره.
ومنها: سورة المرسلات، أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: (بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه {والمرسلات} الآية الحديث).
ومنها: سورة المطففين أو بعضها، حكى النسفي وغيره: أنها نزلت في سفر الهجرة قبل دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة.
ومنها: أول سورة اقرأ نزل بغار حراء كما في "الصحيحين".
ومنها: سورة الكوثر، أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير: أنها نزلت يوم الحديبية وفيه نظر.
ومنها: سورة النصر، أخرج البزار والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عمر قال: (أنزلت هذه السورة {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1] على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق فعرف أنه الوداع فأمر بناقته القصواء فرحلت ثم قام فخطب الناس فذكر خطبته المشهورة) ). [الإتقان في علوم القرآن: 1/114-136]
قلت: ( ما جمعه السيوطي - رحمه الله - بحاجة إلى غربلة فلا يصحّ اعتماده قبل تمحيصه، وقد اجتهد في الجمع والترتيب؛ فكفى الباحثين كثيراً من عناء التتبّع، وعدُّه سورةَ (اقرأ) من السفري لأجل أن مطلعها نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء لا يصحّ).