تفسير قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى وقد نزّل عليكم مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله تعالى، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى: وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره [الإنعام: 68]، إلى نحو هذا من الآيات، وقرأ جمهور الناس «نزّل عليكم» بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري: وقرأ بعض الكوفيين «نزّل» بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل الله، وقرأ أبو حيوة وحميد «نزل» بفتح النون والزاي خفيفة، وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل» بألف على بناء الفعل للمفعول، والكتاب في هذا الموضع القرآن، وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالسوا، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم فحمل عليه الأدب، وقرأ هذه الآية إنّكم إذاً مثلهم وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، وهذا المعنى كقول الشاعر: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه = فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم). [المحرر الوجيز: 3/47-48]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: الّذين يتربّصون بكم فإن كان لكم فتحٌ من اللّه قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً (141) إنّ المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراؤن النّاس ولا يذكرون اللّه إلاّ قليلاً (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً (143)
الّذين صفة للمنافقين، ويتربّصون معناه: ينتظرون دور الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال المنافقين، ونستحوذ معناه: نغلب على أمركم، ونحطكم ونحسم أمركم، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر: [الرجز]
يحوذهن وله حوذي
أي يغلبهن على أمرهن، ويغلب الثيران عليهن، ويروى يحوزهن بالزاي، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن:
إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها = وأوردها على عوج طوال
أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها. وقوله تعالى: استحوذ عليهم الشّيطان [المجادلة: 19] معناه: غلب عليهم، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه، بل استعملت على الأصل، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين» وقرأ ابن أبي عبلة «ونمنعكم» بفتح العين على الصرف، ثم سلى وأنس المؤمنين بما وعدهم به في قوله فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة أي وبينهم وينصفكم من جميعهم، وبقوله ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلًا وقال يسيع الحضرمي: كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلًا كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك: يوم القيامة يكون الحكم، وبهذا قال جميع أهل التأويل.
و «السبيل»: الحجة والغلبة، ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى، إذ يظنونهم غير أولياء، ففي الكلام حذف مضاف، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم، وإن كانت نياتهم لم تقتضه، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى). [المحرر الوجيز: 3/48-49]