مقدّمات في علم معاني الحروف وبيان أنواع المؤلّفات فيه*
علم معاني الحروف من العلوم اللغوية المهمّة للمفسّر، وهو مفيد في حلّ كثير من الإشكالات، واستخراج الأوجه التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والتفريق بين كثير من أقوال المفسرين.
والغفلة عن معاني الحروف قد توقع في خطأ في فهم معنى الآية، وقد يقع ذلك لبعض كبار المفسّرين.
قال مالك بن دينار: كنا نعرض المصاحف أنا والحسن وأبو العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصم الجحدري، قال: سأل رجل أبا العالية عن قول الله عز وجل {الذين هم عن صلاتهم ساهون} ما هو؟
فقال أبو العالية: «هو الذي لا يدري عن كم انصرف؟ عن شفع أو عن وتر»
فقال الحسن: مَهْ! ليس كذلك، {الذين هم عن صلاتهم ساهون}: «الذي يسهو عن ميقاتها حتى تفوت» رواه عبد الرزاق.
قال الزركشي: (لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: "في صلاتهم" فلما قال "عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت)ا.هـ.
وفهم أبي العالية قد يصحّ على معنى السهو عن معنى الصلاة وإرادتها بالقلب، ولو صلاها بجوارحه مع المسلمين كما يصلّي المنافقون من غير إرادة التقرّب إلى الله تعالى بالصلاة، بل قلوبهم في غفلة عن ذلك، وإنما يصلون رياءً، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (يُصلّون وليست الصلاة من شأنهم).
وأما مجرّد السهو في الصلاة فليس مما يتناوله الوعيد في الآية.
أمثلة لدراسة مسائل معاني الحروف في التفسير:
المسألة الأولى: معنى الباء في {بسم الله}
اختلف اللغويون في معنى الباء في (بسم الله) على أقوال أقربها للصواب أربعة أقوال، وهي أشهر ما قيل في هذه المسألة، وإليك بيان هذه الأقوال:
القول الأول: الباء للاستعانة، وهو قول أبي حيان الأندلسي، والسمين الحلبي، وقال به جماعة من المفسّرين.
والقول الثاني: الباء للابتداء، وهو قول الفراء، وابن قتيبة، وثعلب، وأبي بكر الصولي، وأبي منصور الأزهري، وابن سيده، وابن يعيش، وجماعة.
والقول الثالث: الباء للمصاحبة والملابسة، واختاره ابن عاشور.
والقول الرابع: الباء للتبرك، أي أبدأ متبركاً، وهذا القول مستخرج من قول بعض السلف في سبب كتابة البسملة في المصاحف، وأنها كتبت للتبرّك، وهذا المعنى يذكره بعض المفسرين مع بعض ما يذكرونه من المعاني.
والأظهر عندي أن هذه المعاني الأربعة كلها صحيحة لا تعارض بينها، وما ذكر من اعتراضات على بعض هذه الأقوال فله توجيه يصحّ به القول.
ومن ذلك اعتراض بعضهم على معنى الاستعانة بأنّ الاستعانة تكون بالله وليست باسم الله؛ قالوا: الأشهر أن يقول المستعين إذا أراد الاستعانة: أستعين بالله، ولا يقول: أستعين باسم الله.
وهذا الاعتراض يدفعه أنّ الذي يذكر اسم ربّه لا ريب أنّه يستعين بذكر اسمه على ما عزم عليه؛ فمعنى الاستعانة متحقق.
فهو يستعين بالله تعالى حقيقة، ويذكر اسمه متوسّلاً به إلى الله تعالى ليعينه؛ وهذا هو مراد من قال بمعنى الاستعانة.
وقد أرجع سيبويه معاني الباء إلى أصل واحد وهو الإلزاق؛ فقال في الكتاب: (وباء الجر إنما هي للإلزاق).
وهذا مقبول من حيث الأصل لكن يُعبَّر عن المعنى في كلّ موضع بما يناسبه، ولذلك استبدل ابن عاشور عبارة الإلزاق في هذا الموضع بالمصاحبة والملابسة وذكر أنها مترادفة، ومن أهل اللغة من يذكر بينها فروقاً دقيقة.
والإلزاق ينقسم إلى حسيّ ومعنوي؛ فالحسيّ للمحسوسات نحو: أمسكت بالقلم، والمعنويّ نحو: قرأتُ بِنَهَمٍ.
ثمّ يتفرَّع على الإلزاق الحسي والمعنوي أنواع أخرى؛ فقد يكون للاستعانة وقد يكون للتبرك، وقد يكون للاستفتاح، وقد يكون لغير ذلك، وقد تجتمع بعض هذه المعاني.
فما اجتمع منها من غير تنافر فيصحّ القول به، ولذلك يصحّ أن يستحضرَ المبسملَ عندَ بسملته هذه المعاني جميعاً، ولا يجد في نفسه تعارضاً بينها.
والغرض من التفصيل في هذه المسألة أن يتبيّن طالب علم التفسير أنّ من الأقوال في معاني الحروف ما يجتمع ولا يتنافر، وهذه قاعدة مهمة في التفسير ولها تطبيقات كثيرة في مسائل التفسير.
ومن أمثلة ذلك الجمع بين أقوال العلماء في معنى الباء في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}
فقيل: الباء للاستعانة، وقيل: للمصاحبة، وقيل: للملابسة، وقيل: للسبيية، وقيل: للتبرّك.
وهذه كلها معانٍ صحيحة لا تعارض بينها.
لكن مما يُنبَّه عليه ضعف بعض الأقوال التي قيلت في معنى الباء في قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}
فقيل: زائدة، وقيل: هي للقسم؛ وقيل: للاستعلاء.
فأمّا القول بالزيادة فضعيف جداً، وكذلك القول بأنّها للقسم، والقسم يفتقر إلى جواب، ولا ينعقد إلا معلوماً.
وأما القول بالاستعلاء فيكون صحيحاً إذا كان معنى الاستعلاء عند التسمية مطلوباً؛ كالتسمية عند الرمي، وفي أعمال الجهاد، وسائر ما يطلب فيه الاستعلاء كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}
وهذا المعنى لا يُراد إذا كانت التسمية لما يراد به التذلل لله تعالى والتقرّب إليه كما في التسمية لقراءة القرآن.
وبهذا تعلم أن معاني الحروف تتنوّع بحسب السياق والمقاصد وما يحتمله الكلام، وليست جامدة على معانٍ معيَّنة يكرر المفسّر القول بها في كلّ موضع(1).
المسألة الثانية: معنى "ما" في قول الله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}
اختلف في معنى "ما" ههنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: "ما" موصولة لإفادة العموم؛ والمعنى: إن الله يعلم كلَّ ما تعبدون من دونه من حجر أو شجر أو نجم أو نار أو جنّ أو إنس؛ فكلّ ما يُعبد من دون الله تعالى فالله محيط به علماً.
وإيماء هذا المعنى أنّ الله يعلم حال تلك المعبودات ونقصها وفقرها إليه وأنّها لا تستحقّ من العبادة شيئاً، وأنّ كلّ من أشرك بالله شيئاً في عبادته فهو بعلم الله وسيجازيه على شركه.
والقول الثاني: "ما" نافية ، والنفي متجّه لنفع تلك المعبودات؛ فكأنّها لمّا لم تنفعهم شيئاً نزّلت منزلة المعدوم، ومن حسن بيان العرب تنزيل عديم الفائدة منزلة عديم الوجود، وهذا فيه تبكيت عظيم الأثر على قلوب المشركين.
وهذا المعنى نظير قول الله تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}
وقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكهّان: ((ليسوا بشيء)).
والقول الثالث: "ما" استفهامية، والاستفهام إنكاري، و"يعلم" معلّقة، والمعنى: أيّ شيء تدعون من دون الله؟
القول الأول قول ابن جرير الطبري وجماعة من المفسرين فسّروا الآية على هذا المعنى، وذكره أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه.
والقول الثاني ذكره أبو البقاء العكبري وأبو حيّان الأندلسي والسمين الحلبي وابن عاشور وشرحه شرحاً حسناً، واختاره الأستاذ محمود صافي.
والقول الثالث ذكره سيبويه عن الخليل بن أحمد، وقال به أبو علي الفارسي والراغب الأصبهاني وأبو البقاء العكبري وجماعة.
المسألة الثالثة: معنى "من" في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}
في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: "من" للتعدية، كما في قول الله تعالى: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك} وقوله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق}، وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} ؛ فكذلك قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
وهو أظهر المعاني في مثل هذا السياق، وهذا القول هو معنى قول جماعة من المفسّرين، وهو معنى رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} قال: (ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه). رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال المعتمر بن سليمان: سمعت ليثا يحدث، عن مجاهد أنه قال: (ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك! إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه). رواه ابن جرير.
وقال إبراهيم النخعي: (يحفظونه من أمر الله) قال: من الجن). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو مخرّج على أنّ "من" للتعدية.
وروي معنى هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وعكرمة وغيرهم.
القول الثاني: "من" سببية، أي بسبب أمر الله لهم بحفظه يحفظونه، وهذا معنى قول الفراء وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب، وذكره أبو حيان، وجماعة من المفسرين.
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه) رواه ابن جرير.
قال ابن الجوزي: (فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به).
القول الثالث: "من" بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول قتادة، رواه عنه عبد الرزاق وابن جرير، ورواية عن مجاهد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، وقال به الخليل بن أحمد، ومقاتل بن سليمان، وهارون الأعور، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والمبرّد في المقتضب، وأبو البقاء العكبري، وجماعة.
وهذا القول صحيح، ويتفرّع إلى معنيين:
- أحدهما أن تكون الباء سببية؛ فيكون بمعنى القول الثاني، وهذا معنى قول الفرّاء: (و{يحفظونه} ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل: أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاي)ا.هـ.
- والآخر: أن تكون الباء للتعدية، أي يحفظونه بما مكَّنهم الله به من أسباب الحفظ.
القول الرابع: بمعنى "عن"، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكره ابن جرير الطبري عن بعض نحاة البصرة، وأنهم قالوا: (معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله، كما قالوا:"أطعمني من جوع، وعن جوع" و"كساني عن عري، ومن عري").
وهذا القول يرجع إلى معنى القول الثاني، وهو كقوله تعالى حكاية عن الخضر: {وما فعلته عن أمري}.
القول الخامس: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: (له معقِّبات من أمر الله يحفظونه) ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه} يقول: بإذن اللّه، فالمعقّبات: هي من أمر اللّه، وهي الملائكة) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: أخبرني الحارث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: (الملائكة من أمر الله يحفظونه).
وقال أيضا: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله ابن عباس أنه كان يقرأ: {له معقبات من بين يديه}، ورقباء، {من خلفه} من أمر الله {يحفظونه}.
وقال خصيف عن مجاهد: (الملائكة من أمر الله) رواه ابن جرير، وروى نحوه عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.
والتقدير على هذا القول له معقبات من أمر الله يحفظونه، ومتعلق الحفظ محذوف لإرادة العموم في كل ما يحتاج فيه إلى الحفظ.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، واختلافها كاختلاف الأقوال الصحيحة في المشترك اللفظي، وكاختلاف القراءات.
واختلاف التنوّع تقبل الأقوال فيه بثلاثة شروط:
- أحدها أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
- والثاني: أن تكون دلالة الآية عليه دلالة صحيحة من جهة اللغة.
- والثالث: أن يصحّ عن السّلف.
وشرح الأقوال الخمسة وبيان الفروق بينها، ودلالة الآية عليها يطول، لكن مما ينبّه عليه أثر الاختلاف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {له معقبات}، والمراد بالمعقبات، ومعنى الحفظ في قوله تعالى: {يحفظونه}.
ففيه قولان:
أحدهما: حفظ عناية ووقاية.
والآخر: حفظ رقابة وكتابة كما في قول الله تعالى: {وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين}.
قال ابن جريج: {يحفظونه من بين يديه ومن خلفه} مثل قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه، الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات). رواه ابن جرير.
وكلّ قول من هذين القولين ومن الأقوال في المسألتين الأخريين يخرّج عليه ما يناسبه من الأقوال في معنى "من".
وقد كثرت الأقوال في تفسير هذه الآية لسعة معانيها، وتعدد دلائلها، وعامّتها أقوال صحيحة، إلا ما ذكر عن بعضهم من أنّ في الآية نفياً محذوفا والتقدير: (لا يحفظونه من أمر الله) وهذا القول ذكره أبو إسحاق الزجاج عن بعض أهل اللغة، وهو تحريف لا يصحّ، ولا يُؤثر عن أحد من السلف، وإنما قاد إليه استشكال معنى الحفظ من أمر الله على القول بأنّ "من" للتعدية.
والصواب أنه لا إشكال فيه؛ فكلّ الأقدار من أوامر الله تعالى الكونية، والأوامر الكونية قد أجرى الله فيها سنن التدافع، كما تدفع الأمراض بالتداوي والرقى؛ ويتّقى البرد باللباس، والحرّ بالظلال والأكنان، وقد روى الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث الزهري عن أبي خزامة عن أبيه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟
قال: ((هي من قدر الله)).
وروي نحوه من حديث كعب بن مالك وحكيم بن حزام وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
ولمّا بلغ عمر نزول الوباء بالشام ونادى بالرحيل قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟
فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله). رواه البخاري.
وقال كعب الأحبار: (لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن لرأى على كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتُخُطِّفتُم). رواه ابن جرير.
فالمعقّبات التي يدفع الله بها الشرور وتحفظ بني آدم كثيرة، وهي مأمورة بالحفظ، كما أمر الله الجفن أن يحفظ العين، لكن إذا قضى الله أمراً يصيب العبد فلا رادّ لقضائه، ولا تنفعه حفظته إذا نزل به قضاء الله.
عناية المفسّرين ببيان معاني الحروف
وقد اعتنى المفسّرون ببيان معاني الحروف عناية حسنة لاتّصالها بالتفسير، ولا سيّما بعض من كتب في معاني القرآن كالفراء والأخفش وابن قتيبة والزجاج والنحاس وغيرهم.
ولابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وأبي السعود والألوسي وابن عاشور عناية حسنة بالتنبيه على معاني الحروف في التفسير.
أنواع المؤلّفات في شرح معاني الحروف
سلك العلماء طرقاً متنوعة في التأليف في شرح معاني الحروف، وسأوجز الحديث عن أشهر تلك الأنواع:
النوع الأول: إدراجها في كتب الوجوه والنظائر، وهو أوّل ما ظهر من الكتابة في معاني الحروف، وسبب ذلك أنّ الحروف ترد على وجوه متعددة من المعاني، غير أنّ هذا النوع من التأليف لا يختص بالحروف ولا يتقصّاها؛ ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذا النوع:
1. كتاب "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان البلخي(ت:150هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل: "إلى"، و"إلا" و"إن"، و"أو" و"أم" و"حتى"، و"لولا"، و"لما" وغيرها.
2. "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى النحوي(ت:170هـ) ، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف ومنها: "إن" و"أنى" و"أم" و"أو" و"من" و"في" "ولما" وغيرها، وفيه اعتماد كبير على كتاب مقاتل، وزيادة عليه.
3. التصاريف ليحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل معاني "من" و"في" و"إن" و"أن" وغيرها.
4. كتاب "وجوه القرآن" لإسماعيل بن أحمد الحيري الضرير(ت:431هـ).
5. "الوجوه والنظائر" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني(ت:478هـ)
6. "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي(ت:597هـ).
7. "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر"، لشمس الدين محمد بن محمد البلبيسي المعروف بابن العماد المصري(ت:887هـ).
النوع الثاني: إدراج شرحها في معاجم اللغة
وسبب ذلك أنّ الحروف من المفردات التي يكثر دورانها في الاستعمال؛ فكان من عناية أصحاب المعاجم اللغوية شرحها فيما يشرحون من المفردات على تفاوت ظاهر بينهم في ذلك، ومن أشهر المعاجم اللغوية:
1. كتاب "العين"، للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) وقد شرح معاني بعض الحروف كما في شرحه لـ"أو" و"أم" و"أي" وغيرها.
وهذا الكتاب أصله للخليل بن أحمد، وأتمّه تلميذه الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، وقد تتبعَّه ونقده الإمام أبو منصور الأزهري في كتابه الجليل "تهذيب اللغة"؛ فلذلك أوصي من يرجع إلى شرح مفردة في كتاب "العين" أن يطالع شرح تلك المفردة في "تهذيب اللغة".
2. جمهرة اللغة"، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي(ت:321هـ).
3. "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري(ت:370هـ).
4. "المحيط في اللغة"، لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني المعروف بالصاحب بن عباد (ت:385هـ).
5. "تاج اللغة وصحاح العربية"، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393هـ )
6. "مجمل اللغة"، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي(ت: 395هـ) ، وله أيضاً "مقاييس اللغة" ، لكن تناوله لمعاني الحروف في "مجمل اللغة" أكثر.
7. "المخصص"، لأبي الحسن علي بن إسماعيل المرسي المعروف بابن سيده الأندلسي(ت:458هـ)، وله أيضاً "المحكم والمحيط الأعظم"
8. "لسان العرب"، لأبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الأفريقي(ت:711هـ)
9. "القاموس المحيط"، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت:817هـ)
10. "تاج العروس من جواهر القاموس"، لأبي الفيض مرتضى الزبيدي(ت:1205هـ).
فهذه أشهر المعاجم اللغوية، وفيها تناول لمعاني بعض الحروف بالشرح والتمثيل، واستخراج كلام أصحاب المعاجم في معاني الحروف، وترتيبه على حروف المعجم عمل نافع لو تصدّى له أحد.
النوع الثالث: التأليف المفرد في معاني الحروف
وقد صنّف في معاني الحروف جماعة من أهل العلم، ومن أشهر كتبهم وأهمّها:
1: الحروف، لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت: 255هـ)، وهو جزء صغير نقله ياقوت الحموي من كتاب مفقود لأبي حاتم اسمه «لحن العامة».
2: المحلّى، لأبي بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغدادي(ت:317هـ)، وقد بدأه بتفسير وجوه النصب والرفع والخفض والجزم، ثمّ أخذ في شرح أنواع الحروف ومعانيها.
3: حروف المعاني والصفات، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 340 هـ).
4: الحروف، لأبي الحسن علي بن الفضل المزني النحوي (ت: ق4)، وكان معاصراً لابن جرير الطبري.
5: منازل الحروف، لأبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَّاني(ت:388ه).
6: الأُزهية في علم الحروف، لأبي الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ).
7: رصف المباني في حروف المعاني، لأبي جعفر أحمد بن عبد النور المالقي(ت:702ه)
8: التحفة الوفية بمعاني حروف العربية، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي(ت:742هـ) تلميذ أبي حيان الأندلسي.
9: الجنى الداني في حروف المعاني، لأبي محمد الحسن بن قاسم المرادي المراكشي(ت:749ه) المشتهر بابن أمّ قاسم.
10: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه).
11: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي(ت:ق8 هـ)، وفي اسم مؤلّفه خلاف، وقال الأستاذ محمّد عبد الخالق عضيمة: (الظاهر أن مؤلف الكتاب هو: العلاء بن أحمد بن محمد بن أحمد السيرامي المتوفي سنة 790).
12: مصابيح المغاني في حروف المعاني، لجمال الدين محمد بن علي المَوزعي المعروف بابن نور الدين (ت 825 هـ).
13: فتح الرؤوف في أحكام الحروف وما في معناها من الأسماء والظروف، لجمال الدين محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي المعروف بِبَحْرَق(ت: 930هـ) ، وهي منظومة شرحها في كتاب لطيف.
14. كفاية المُعاني في حروف المعاني، وهي منظومة حسنة لأبي محمد عبد الله بن محمد البيتوشي الكردي (ت:1211ه)، وقد ذُكر عنه أنه كان يحفظ "القاموس المحيط" عن ظهر قلب، وقد اعتنى بمنظومته هذه عناية فائقة، وألّف في شرحها ثلاثة كتب:
أ: الحفاية بتوضيح الكفاية، وهو شرح كبير طُبع في نحو ثمانمائة صفحة.
ب: والكفاية لراغب الحفاية، وهي تعليقات مختصرة.
ج: وصرف العناية في كشف الكفاية، وهو شرح متوسط أودع فيه زبدة ما في الحفاية مع زوائد وفوائد.
15: غنية الطالب ومنية الراغب في الصرف والنحو وحروف المعاني، للأستاذ أحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ).
وعامّة هذه الكتب مطبوعة.
هذا ، وقد ذُكر عن جماعة من العلماء المتقدمين أنّهم ألّفوا في الحروف كالخليل بن أحمد والكسائي والنضر بن شميل وأبي عمرو الشيباني وابن السكّيت والمبرّد وأبي علي الفارسي وغيرهم إلا أنّ ما ذكر عنهم على ثلاثة أصناف:
أ: صنف لا تصحّ نسبته إليهم، ومن ذلك:
- كتاب الحروف المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وقد طبع بتحقيق د.رمضان عبد التواب، وقال: (ويبدو أن الكتاب مزيّف) وذكر أنّ الحافظ الذهبي قد اختصره، وأن الفيروزآبادي والسيوطي قد نقلا عنه.
- ورسالة في الحروف العربية، طبعت منسوبة إلى النضر بن شميل المازني(ت: 204هـ) بتحقيق: هبة الدين الحسيني، في مجلة العلم ببغداد، ونشرها المستشرق أوغست هفنر في المجموع الذي سمّاه "البلغة في شذور اللغة".
ب: وصنف وإن كان عنوانه في الحروف إلا أنّ موضوعه في غير بيان معاني الحروف؛ ومن ذلك:
- كتاب ابن السكيت في "الحروف التي يُتكلّم بها في غير موضعها" لم يُرِدْ فيه حروف المعاني، وإنما أطلق لفظ الحرف على ما نسمّيه الجُملة.
- وكتاب الحروف لأبي عمرو الشيباني(ت:213هـ) إنما هو كتاب "الجيم" له، وهو معجم لغوي.
- وكتاب الحروف المنسوب لأبي نصر الفارابي(ت:339هـ) كتاب فلسفي لم يجر فيه على طريقة أهل اللغة في شرح حروف المعاني.
- وكتاب الحروف لابن الطحّان (ت:560هـ) هو في صفاتها ومخارجها.
- وكتاب الحروف لأبي الفضائل الرازي(ت: ق7 هـ) وهو كتاب فيه فصول عن علم الحروف الهجائية وصفاتها وأنواعها ومخارجها، وليس فيه حديث عن حروف المعاني.
ج: وصنف لم يصل إلينا، ولا أعرف عنه سوى اسمه، ككتب الكسائي والمبرّد وأبي علي الفارسي.
النوع الرابع: إفراد بعض الحروف بالتأليف.
ومن الكتب المفردة في معاني بعض الحروف:
1: الهمز، لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري(ت:215هـ).
2: الألفات، لأبي محمد بن القاسم بن بشار ابن الأنباري: (ت: 328 هـ)
3: الألفات، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني(ت:370هـ)
4: كتاب "اللامات"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت: 340هـ).
5:اللامات، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس(ت:338هـ).
6: واللامات، لأبي زكريا أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت:395هـ)، وله "مقالة كلا".
7: ولأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري(ت:577هـ) كتب مفردة في بعض الحروف منها: كتاب "كلا وكلتا"، كتاب "لو وما" ، وكتاب "كيف" ، وكتاب "الألف واللام".
8. الفصول المفيدة في الواوات المزيدة، لأبي سعيد خليل بن كيلكلدى بن عبدالله العلائي(ت:761هـ).
وتتبع ما كتب في هذا النوع من الرسائل والكتب وجمعه نافع جداً لو تصدّى له أحد.
الدراسات المعاصرة لمعاني الحروف في القرآن الكريم
لعلماء هذا العصر جهود مشكورة في إعداد موسوعات علمية في معاني الحروف في القرآن الكريم، ومن أهمّ تلك الأعمال:
1. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للأستاذ الجليل محمد عبد الخالق عضيمة، وهو عمل جليل أمضى فيه نحو خمسة وعشرين عاماً، وبذل وسعه في حصر مواضع حروف المعاني في القرآن الكريم، وأقوال العلماء في معانيها من مراجع كثيرة.
وقدّم لكل حرف بلمحات معرّفة عن مواضع وروده في القرآن الكريم ومعانيها.
2. معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم، إعداد الدكتور إسماعيل عمايرة والدكتور عبد الحميد السيد.
3. معجم حروف المعاني في القرآن الكريم، للأستاذ محمد حسن الشريف.
* هذا المبحث مستلّ من كتابي في شرح طرق التفسير، وهو
هنا