قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("على"
"على": على وجهين
أحدهما: أن تكون حرفا وخالف في ذلك جماعة فزعموا أنّها لا تكون إلّا اسما ونسبوه لسيبويه ولنا أمران:
أحدهما قوله: (تجن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الّذي لولا الأسى لقضاني)
أي: لقضى "عليّ" فحذفت "على" وجعل مجرورها مفعولا.
وقد حمل الأخفش "على" ذلك {ولكن لا تواعدوهن سرا} أي: "على" سر أي: نكاح.
وكذلك {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} أي: "على" صراطك.
والثّاني: أنهم يقولون نزلت "على" الّذي نزلت أي: "عليه" كما جاء {ويشرب ممّا تشربون} أي: "منه".
ولها تسعة معان:
أحدها: الاستعلاء إمّا "على" المجرور وهو الغالب نحو: {وعليها وعلى الفلك تحملون} أو"على" ما يقرب منه نحو: (أو أجد على النّار هدى) وقوله:
( ... وبات عن النّار الندى والمحلق)
وقد يكون الاستعلاء معنويا نحو: {ولهم عليّ ذنب} ونحو: {فضلنا بعضهم على بعض}.
الثّاني: المصاحبة "كمع" نحو: {وآتى المال على حبه} {وإن ربك لذو مغفرة للنّاس على ظلمهم}.
الثّالث: المجاوزة "كعن" كقوله:
(إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها)
أي: "عني" ويحتمل أن رضي ضمن معنى عطف.
وقال الكسائي حمل "على" نقيضه وهو سخط وقال:
(في ليلة لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلّا كواكبها)
أي "عنّا" وقد يقال ضمن يحكي معنى ينم.
الرّابع: التّعليل "كاللام" نحو: (ولتكبروا الله على ما هداكم) أي: لهدايته إيّاكم وقوله:
(علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت)
الخامس: الظّرفيّة كـ "في" نحو: {ودخل المدينة على حين غفلة} ونحو: (واتبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان) أي: "في" زمن ملكه، ويحتمل أن {تتلو} مضمن معنى تتقول فيكون بمنزلة {ولو تقول علينا بعض الأقاويل}.
السّادس: موافقة "من" نحو: {إذا اكتالوا على النّاس يستوفون}
السّابع: موافقة "الباء" نحو: {حقيق على أن لا أقول} وقد قرأ أبي"بالباء" وقالوا اركب "على" اسم الله.
الثّامن: أن تكون زائدة للتعويض أو غيره،
فالأول كقوله:
(إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يومًا على من يتكل)
أي من يتكل "عليه" فحذف "عليه" وزاد "على" قبل الموصول تعويضا له قاله ابن جني وقيل المراد إن لم يجد يومًا شيئا ثمّ ابتدأ مستفهما فقال "على" من يتكل وكذا قيل في قوله:
(ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلّا أخو ثقة فانظر بمن تثق)
إن الأصل فانظر لنفسك ثمّ استأنف الاستفهام وابن جني يقول في ذلك أيضا إن الأصل فانظر من تثق به فحذف "الباء" ومجرورها وزاد "الباء" عوضا وقيل "بل" تمّ الكلام عند قوله فانظر ثمّ ابتدأ مستفهما فقال بمن تثق.
والثّاني: قول حميد بن ثور:
(أبى الله إلّا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق)
قاله ابن مالك وفيه نظر لأن راقه الشّيء بمعنى أعجبه ولا معنى له هنا وإنّما المراد تعلو وترتفع.
التّاسع: أن تكون للاستدراك والإضراب كقولك فلان لا يدخل الجنّة لسوء صنيعه "على" أنه لا ييأس من رحمة الله تعالى وقوله:
(فواللّه لا أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسى ما بقيت على الأرض)
(على أنّها تعفو الكلوم وإنّما ... نوكل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي)
أي: "على" أن العادة نسيان المصائب البعيدة العهد.
وقوله:
(بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدّار خير من البعد)
ثمّ قال:
(على أن قرب الدّار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود)
أبطل "بعلى" الأولى عموم قوله لم يشف ما بنا فقال بلى إن فيه شفاء ما ثمّ أبطل بالثّانية قوله "على" أن قرب الدّار خير من البعد
وتعلق على هذه بما قبلها عند من قال به كتعلق "حاشا" بما قبلها عند من قال به لأنّها أوصلت معناه إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج أو هي خبر لمبتدأ محذوف أي والتّحقيق "على" كذا وهذا الوجه اختاره ابن الحاجب قال ودلّ "على" ذلك أن الجملة الأولى وقعت "على" غير التّحقيق ثمّ جيء بما هو التّحقيق فيها.
والثّاني: من وجهي "على" أن تكون اسما بمعنى "فوق" وذلك إذا دخلت عليها "من" كقوله:
(غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها ... )
وزاد الأخفش موضعا آخر وهو أن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد نحو قوله تعالى: {أمسك عليك زوجك} وقول الشّاعر:
(هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها)
لأنّه لا يتعدّى فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل في غير باب ظن وفقد وعدم لا يقال ضربتني ولا فرحت بي
وفيه نظر لأنّها لو كانت اسما في هذه المواضع لصحّ حلول فوق محلها ولأنّها لو لزمت اسميتها لما ذكر لزم الحكم باسمية "إلى" في نحو: {فصرهن إليك} {واضمم إليك} {وهزي إليك} وهذا كله يتخرّج إمّا على التّعلّق بمحذوف كما قيل في "اللّام" في سقيا لك وإمّا "على" حذف مضاف أي هون نفسك واضمم "إلى" نفسك.
وقد خرج ابن مالك "على" هذا قوله:
(وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلّا يزيدهم حبا إليّ هم)
فادّعى أن الأصل يزيدون أنفسهم ثمّ صار يزيدونهم ثمّ فصل ضمير الفاعل للضّرورة وأخر عن ضمير المفعول وحامله "على" ذلك ظنّه أن الضميرين لمسمى واحد وليس كذلك فإن مراده أنه ما يصاحب قوما فيذكر قومه لهم إلّا ويزيد هؤلاء القوم قومه حبا إليه لما يسمعه من ثنائهم عليهم والقصيدة في حماسة أبي تمام ولا يحسن تخريج ذلك "على" ظاهره كما قيل في قوله:
(قد بت أحرسي وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام)
لأن ذلك شعر فقد يستسهل فيه مثل هذا ولا "على" قول ابن الأنباري إن إلى قد ترد اسما فيقال انصرفت من إليك كما يقال غدوت من "عليك" لأنّه إن كان ثابتا ففي غاية الشذوذ، ولا "على" قول ابن عصفور إن "إليك" في {واضمم إليك} إغراء.
والمعنى خذ جناحك أي: عصاك لأن "إلى" لا تكون بمعنى خذ عند البصريين ولأن الجناح ليس بمعنى العصا إلّا عند الفراء وشذوذ من المفسّرين). [مغني اللبيب: 2 / 370 - 392]