تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({كَرهًا} [التوبة: 53] و {كُرهًا} [النساء: 19] : «واحدٌ»). [صحيح البخاري: 6/63]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله كرهًا وكرهًا واحدٌ أي بالضّمّ والفتح وهو كلام أبي عبيدة أيضًا وسقط لأبي ذرٍّ وبالضّمّ قرأ الكوفيّون حمزة والأعمش ويحيى بن وثّابٍ والكسائيّ والباقون بالفتح). [فتح الباري: 8/314]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (كرها وكرها
أشار به إلى قوله تعالى: {قل أنفقوا طوعًا أو كرها لن يتقبّل منكم} وأشار بأن فيه لغتين فتح الكاف وضمّها فبالضم قرأ الكوفيّون حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب والكسائيّ، وقرأ الباقون بالفتح، والمعنى: قل يا محمّد انفقوا طائعين أو مكرهين لن يتقبّل منكم أنكم كنتم قوما فاسقين، وبين الله سبب ذلك بقوله: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم} (التّوبة: 54) الآية). [عمدة القاري: 18/254-255]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({كرهًا}) بفتح الكاف (وكرهًا) بضمها (واحد) في المعنى ومراده قوله تعالى: {قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا} وسقط كرهًا الخ لأبي ذر). [إرشاد الساري: 7/139]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبّل منكم إنّكم كنتم قومًا فاسقين}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: قل يا محمّد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أيّ حالٍ شئتم من حال الطّوع والكره، فإنّكم إن تنفقوها لن يتقبّل اللّه منكم نفقاتكم، وأنتم في شكٍّ من دينكم وجهلٍ منكم بنبوّة نبيّكم وسوء معرفةٍ منكم بثواب اللّه وعقابه. {إنّكم كنتم قومًا فاسقين} يقول: خارجين عن الإيمان بربّكم.
وخرج قوله: {أنفقوا طوعًا أو كرهًا} مخرج الأمر ومعناه الخبر، والعرب تفعل ذلك في الأماكن الّتي يحسن فيها إن الّتي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جلّ ثناؤه: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر، ومنه قول الشّاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً = لدينا ولا مقليّةً إن تقلّت فكذلك
قوله: {أنفقوا طوعًا أو كرهًا} إنّما معناه: إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا {لن يتقبّل منكم}.
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيسٍ حين قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا عرض عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الخروج معه لغزو الرّوم: هذا مالي أعينك به.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: قال الجدّ بن قيسٍ: إنّي إذا رأيت النّساء لم أصبر حتّى أفتتن، ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت {أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبّل منكم} قال: لقوله: أعينك بمالي). [جامع البيان: 11/498-499]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبّل منكم إنّكم كنتم قومًا فاسقين (53)
قوله تعالى: قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان أنبأ الحسين بن عليٍّ ثنا عامر بن الفرات ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبّل منكم أمّا طوعًا: فمن قبل أنفسهم، وأمّا كرهًا: فمن الفرق من محمّدٍ- صلّى اللّه عليه وسلّم-.
- ذكره أحمد بن محمّد بن أبي أسلم ثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه أنبأ محمّد بن يزيد ثنا جويبرٌ عن الضّحّاك في قوله: قل أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم قال هذا في الزّكاة أمر اللّه أن يأخذها من أمّته طائعين أو كارهين، فأخذت منهم قال المنافقون: أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبّل منكم إنّكم كنتم قومًا فاسقين). [تفسير القرآن العظيم: 6/1812-1813]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 53 - 54.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الجد بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم} قال: لقوله أعينك بمالي). [الدر المنثور: 7/403]
تفسير قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا باللّه وبرسوله ولا يأتون الصّلاة إلاّ وهم كسالى ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون}.
يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين يا محمّد أن تقبل منهم نفقاتهم الّتي ينفقونها في سفرهم معك وفي غير ذلك من السّبل {إلاّ أنّهم كفروا باللّه وبرسوله} فـ {أن} الأولى في موضع نصبٍ، والثّانية في موضع رفعٍ، لأنّ معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلاّ كفرهم باللّه. {ولا يأتون الصّلاة إلاّ وهم كسالى} يقول: لا يأتونها إلاّ متثاقلين بها؛ لأنّهم لا يرجون بأدائها ثوابًا ولا يخافون بتركها عقابًا، وإنّما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين فإذا أمّنوهم لم يقيموها. {ولا ينفقون} يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئًا {إلاّ وهم كارهون} أن ينفقونه في الوجه الّذي ينفقونه فيه ممّا فيه تقويةٌ للإسلام وأهله). [جامع البيان: 11/499]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلّا أنّهم كفروا باللّه وبرسوله ولا يأتون الصّلاة إلّا وهم كسالى ولا ينفقون إلّا وهم كارهون (54)
قوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم.
- ذكره أحمد بن محمّد بن أبي أسلم ثنا إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه أنبأ محمّد بن يزيد الواسطيّ، أنبأ جويبرٌ عن الضّحّاك قوله: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم يعني: صدقاتهم. إلا أنّهم كفروا باللّه وبرسوله.
قوله تعالى: ولا يأتون الصّلاة إلا وهم كسالى.
- حدّثنا أبي ثنا مسلمٌ ثنا شعبة عن مسعدٍ عن سماكٍ الحنفيّ عن ابن عبّاسٍ: أنّه كره أن يقول الرّجل: إنّي كسلان، وزاد فيه مؤمّل بن إسماعيل بهذا الإسناد عن ابن عبّاسٍ: ويتأوّل هذه الآية ولا يأتون الصّلاة إلا وهم كسالى وفيما رواه مؤمّل بن إسماعيل عن شعبة بهذا الإسناد عن ابن عبّاسٍ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1813]
تفسير قوله تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك يا محمّد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدّنيا، إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك: التّقديم وهو مؤخّرٌ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} قال: هذه من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدّنيا، إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الآخرة.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها} في الآخرة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن المسيّب بن شريكٍ، عن سلمان الأقصريّ، عن الحسن: {إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا} قال: بأخذ الزّكاة والنّفقة في سبيل اللّه تعالى.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا} بالمصائب فيها، هي لهم عذابٌ وهي للمؤمنين أجرٌ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى التّأويلين بالصّواب في ذلك عندنا، التّأويل الّذي ذكرنا عن الحسن؛ لأنّ ذلك هو الظّاهر من التّنزيل، فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالة على صحّته.
وإنّما وجّه من وجّه ذلك إلى التّقديم وهو مؤخّرٌ؛ لأنّه لم يعرف لتعذيب اللّه المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدّنيا وجهًا يوجّهه إليه، وقال: كيف يعذّبهم بذلك في الدّنيا، وهي لهم فيها سرورٌ، وذهب عنه توجيهه إلى أنّه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب اللّه عليه فيها من حقوقه وفرائضه؛ إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيّب النّفس، ولا راجٍ من اللّه جزاءً ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا على ضجرٍ منه وكرهٍ.
وأمّا قوله: {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} فإنّه يعني: وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم باللّه وجحودهم نبوّة نبيّ اللّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، يقال منه: زهقت نفس فلانٍ، وزهقت، فمن قال: زهقت، قال: تزهق، ومن قال: زهقت، قال: تزهق زهوقًا، ومنه قيل: زهق فلانٌ بين أيدي القوم يزهق زهوقًا: إذا سبقهم فتقدّمهم، ويقال: زهق الباطل: إذا ذهب ودرس). [جامع البيان: 11/500-502]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)
قوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم.
- ذكره ابن أبي أسلم ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا محمّد بن يزيد ثنا جويبرٌ عن الضّحّاك قوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم يقول: لا تغررك أموالهم ولا أولادهم.
قوله تعالى: إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد النّرسيّ ثنا يزيد بن زريعٍ عن سعيدٍ عن قتادة فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا قال: هذه مقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدّنيا، إنّما يريد اللّه أن يعذّبهم بها في الآخرة.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ أنبأ أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم قرأ قول اللّه- عزّ وجلّ- فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا بالمصائب فيهم هي لهم عذابٌ وهي للمؤمنين أجرٌ.
قوله تعالى: وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان بن الأشعث أنبأ الحسين بن عليّ بن مهران ثنا عامر بن الفرات ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ وتزهق أنفسهم وهم كافرون قال: تزهق أنفسهم في الحياة الدّنيا وهم كافرون قال: هذه آيةٌ فيها تقديمٌ وتأخيرٌ.
- ذكره أحمد بن محمّد بن أبي أسلم ثنا إسحاق بن إبراهيم أنبا محمد ابن يزيد أنبأ جويبرٌ عن الضّحّاك قوله: وتزهق أنفسهم قال: في الدّنيا وهم كافرون قال: تزهق أنفسهم: تخرج). [تفسير القرآن العظيم: 6/1813-1814]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 55.
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها} في الآخرة
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال: بالمصائب فيهم هي لهم عذاب وللمؤمنين أجر.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} قال: هذه من مقاديم الكلام يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} قال: تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا {وهم كافرون} قال: هذه آية فيها تقديم وتأخير.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله {فلا تعجبك} يقول: لا يغررك {وتزهق} قال: تخرج أنفسهم من الدنيا {وهم كافرون}). [الدر المنثور: 7/403-404]
تفسير قوله تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويحلفون باللّه إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يفرقون}.
يقول تعالى ذكره: ويحلف باللّه لكم أيّها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلاً خوفًا منكم، إنّهم لمنكم في الدّين والملّة. يقول اللّه تعالى مكذّبًا لهم: {وما هم منكم} أي ليسوا من أهل دينكم وملّتكم، بل هم أهل شكٍّ ونفاقٍ. {ولكنّهم قومٌ يفرقون} يقول: ولكنّهم قومٌ يخافونكم، فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم: إنّا منكم؛ ليأمنوا فيكم فلا يقتلوا). [جامع البيان: 11/502]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ويحلفون باللّه إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يفرقون (56)
قوله تعالى: ويحلفون باللّه إنّهم لمنكم.
- وبه عن الضّحّاك في قوله: ويحلفون باللّه إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يفرقون قال: إنّما يحلفون باللّه تقيةً). [تفسير القرآن العظيم: 6/1814]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 56 - 57.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} الآية، قال: إنما يحلفون بالله تقية). [الدر المنثور: 7/404]
تفسير قوله تعالى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({مدّخلًا} [التوبة: 57] : «يدخلون فيه». {يجمحون} [التوبة: 57] : «يسرعون»). [صحيح البخاري: 6/63]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله مدخلًا يدخلون فيه قال أبو عبيدة في قوله ملجأً يلجئون إليه أو مغاراتٍ أو مدّخلًا يدخلون فيه ويتغيّبون انتهى وأصل مدّخلًا مدتخلًا فأدغم وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر بتشديد الخاء أيضًا وعن بن كثيرٍ في رواية مدخلًا بفتحتين بينهما سكونٌ. يجمحون يسرعون هو قول أبي عبيدة وزاد لا يردّ وجوههم شيءٌ ومنه فرسٌ جموحٌ). [فتح الباري: 8/314]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (مدّخلاً يدخلون فيه
أشار به إلى قوله تعالى: {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلًا} والمعنى: لو يجدون حصنا يتحصنون به، وحرزا يحترزون به. أو مغارات وهي الكهوف في الجبال أو مدخلًا وهو السّرب في الأرض وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنّهم يحلفون باللّه أنهم لمنكم يمينا مؤكدة وما هم منكم في نفس الأمر إنّما يخالطونكم كرها لا محبّة.
يجمحون يسرعون
أشار به إلى قوله تعالى: {لولوا إليه وهم يجمحون} وفسره بقوله: يسرعون، وهو آخر الآية المذكورة الآن يعني: في ذهابهم عنكم لأنهم إنّما يخالطونكم كرها لا محبّة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضّرورة أحكام). [عمدة القاري: 18/255]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({مدخلًا}) بتشديد الدال يريد لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلًا أي: (يدخلون فيه) والمدخل السرب في الأرض وقوله تعالى: {لولوا إليه وهم} ({يجمحون}) [التوبة: 57] أي (يسرعون) إسراعًا لا يردّهم شيء كالفرس الجموح). [إرشاد الساري: 7/139]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلاً لولّوا إليه وهم يجمحون}.
يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون ملجأً، يقول: عصرًا يعتصرون به من حصنٍ، ومعقلاً يعتقلون فيه منكم. {أو مغاراتٍ} وهي الغيران في الجبال، واحدتها: مغارة، وهي مفعلةٌ من غار الرّجل في الشّيء يغور فيه إذا دخل، ومنه قيل: غارت العين: إذا دخلت في الحدقة. {أو مدّخلاً} يقول: سربًا في الأرض يدخلون فيه، وقال: أو مدّخلاً الآية؛ لأنّه من ادّخل يدّخل.
وقوله: {لولّوا إليه} يقول: لأدبروا إليه هربًا منكم. {وهم يجمحون} يقول: وهم يسارعون في مشيهم.
وقيل: إنّ الجماح مشي بين المشيين، ومنه قول مهلهلٍ:
لقد جمحت جماحًا في دمائهم = حتّى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا
وإنّما وصفهم اللّه بما وصفهم به من هذه الصّفة؛ لأنّهم إنّما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، ولما هم عليه من الإيمان باللّه وبرسوله؛ لأنّهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنّفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأهل الإيمان به والعداوة لهم، فقال اللّه واصفهم بما في ضمائرهم: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ} الآية.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {لو يجدون ملجأً} الملجأ: الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران في الجبال. وقوله: {أو مدّخلاً} والمدّخل: السّرب.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلاً لولّوا إليه وهم يجمحون} ملجأً، يقول: حرزًا {أو مغاراتٍ} يعني الغيران. {أو مدّخلاً} يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النّفق في الأرض، وهو السّرب.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلاً} قال: حرزًا لهم يفرّون إليه منكم.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلاً} قال: محرزًا لهم، لفرّوا إليه منكم وقال ابن عبّاسٍ قوله: {لو يجدون ملجأً} حرزًا أو مغاراتٍ، قال: الغيران. {أو مدّخلاً} قال: نفقًا في الأرض.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا: يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة: {لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلاً} يقول: لو يجدون ملجأً: حصونًا {أو مغاراتٍ} غيرانًا. {أو مدّخلاً} أسرابًا. {لولّوا إليه وهم يجمحون}). [جامع البيان: 11/502-504]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلًا لولّوا إليه وهم يجمحون (57)
قوله تعالى: لو يجدون ملجأ.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: لو يجدون ملجأ قال: الملجأ: الحرز في الجبل، وهو المعقل.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد عن سعيدٍ عن قتادة قوله: لو يجدون ملجأ يقول لو يجدون ملجأ: حصونا.
قوله تعالى: أو مغاراتٍ
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: أو مغاراتٍ قال: الأسراب في الأرض المخفيّة.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بين صالحٍ عن عليّ بن طلحة عن ابن عباس أو مغاراتٍ قال: والمغارات: الغيران في الجبال.
- ذكر عن ضمرة عن ابن شوذبٍ في قوله: لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ قال: تذهبون على وجوهكم في الأرض.
قوله تعالى: أو مدخلا.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ قوله: أو مدّخلا والمدّخل: المتبوّأ. يقول: لو يجدون متبوّأً.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: أو مدّخلا والمدخل: السرب.
قوله تعالى: لولّوا إليه
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ لولّوا إليه قال: لفرّوا إليه منكم.
قوله تعالى: وهم يجمحون.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان، أنبأ الحسين بن عليٍّ ثنا عامر بن الفرات عن أسباطٍ عن السّدّيّ قوله: وهم يجمحون أمّا يجمحون: فيسرعون). [تفسير القرآن العظيم: 6/1814-1815]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا محرزا لهم يأوون إليه منكم). [تفسير مجاهد: 281]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {لو يجدون ملجأ} الآية، قال: الملجأ الحرز في الجبال والغارات الغيران في الجبال والمدخل السرب
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا} يقول: محرزا لهم يفرون إليه منكم {لولوا إليه} قال: لفروا إليه منكم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله {وهم يجمحون} قال: يسرعون). [الدر المنثور: 7/404-405]