سورة البلد
[ من الآية (11) إلى الآية (20) ]
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)}
قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله جلّ وعزّ: (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ (14).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (فكّ رقبةً أو أطعم) بالنصب.
وقرأ الباقون (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ).
قال أبو منصور: من قرأ (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ)
فالمعنى: اقتحام العقبة: (فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ).
فك رقبة: الإعانة في فكاكها، كالمكاتب، والمعتق على مال، يعان على فكاكها.
ومن قرأ (فكّ رقبةً) فهو محمول على المعنى، كأنه لما قال: فلا اقتحم العقبة قال: فلا فكّ رقبة، ولا أطعم في يوم ذي مسغبة وهذه القراءة مروية عن على رضي الله عنه). [معاني القراءات وعللها: 3/147] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (1- وقوله تعالى: {فك رقبة} [13].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {فك} بالفتح جعلوه فعلا ماضيا {رقبة} مفعول.
وتقول العرب: فككت الأسير والرهن أفك فكا، فالمصدر على لفظ الماضي، ونسق {إطعام} [14] على {فك} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/481]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: فك رقبة أو أطعم في يوم ذي مسغبة [13، 14]. [فكّ] بفتح الكاف، [رقبة] نصب، أطعم بغير ألف. عبيد وعلي بن نصر عن أبي عمرو: فك رقبة أو أطعم نصب بغير ألف، وقال عباس: سألت أبا عمرو فقال: أيتهما شئت.
وقرأ عاصم وابن عامر ونافع وحمزة: فك رقبة أو إطعام في يوم.
حدّثني الدباغ عن أبي الربيع عن عبد الوارث عن أبي عمرو: فك رقبة مضافا أو إطعام.
حدّثني به الخزاز عن محمد بن يحيى عن عبد الصمد عن أبيه عن أبي عمرو.
قال أبو علي: حدّثنا أحمد بن محمد قال: حدّثنا المؤمّل بن هشام قال: حدّثنا إسماعيل بن عليّة قال: قال أبو رجاء سمعت الحسن يقول: فلا اقتحم العقبة [البلد/ 11] قال: جهنّم.
[الحجة للقراء السبعة: 6/413]
وقال قتادة: فلا اقتحم العقبة أنها قحمة شديدة، فاقتحموها بطاعة اللّه.
أبو عبيدة: فلا اقتحم العقبة: فلم يقتحم العقبة في الدنيا، ثم فسّر العقبة فقال: وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة.
قال أبو علي: قول من قال: فك رقبة أو إطعام المعنى فيه: وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ لا بدّ من تقدير هذا المحذوف لأنه لا يخلو من أن تقدّر حذف هذا المضاف أو لا تقدّره، فإن لم تقدّره وتركت الكلام على ظاهره، كان المعنى: العقبة فكّ رقبة ولا تكون العقبة الفكّ لأنه عين، والفكّ حدث، والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى، فإذا لم يستفهم كان المضاف مرادا، فيكون المعنى اقتحام العقبة فكّ رقبة، أو إطعام، أي: اقتحامها أحد هذين، أو هذا الضرب من فعل القرب، ومثل هذا قوله: وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة [الهمزة/ 5، 6] أي: الحطمة نار اللّه، ومثله: وما أدراك ماهيه، نار حاميه [القارعة/ 10، 11]. أي: هي نار حامية، وكذلك قوله: وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس [القارعة/ 3، 4]، المعنى: القارعة يوم يكون الناس لأن القارعة مصدر، فيكون اسم الزمان خبرا عنه، فهذه الجمل التي من الابتداء، والخبر تفسير لهذه الأشياء المتقدم ذكرها من نحو اقتحام العقبة، والحطمة والقارعة، كما أن قولهم: لهم مغفرة وأجر عظيم [المائدة/ 9، الحجرات/ 3] تفسير للوعد.
ومعنى: فلا اقتحم العقبة لم يقتحمها، وإذا كانت لا* بمعنى
[الحجة للقراء السبعة: 6/414]
لم، لم يلزم تكريرها، كما لم يلزم التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو: فلا صدق ولا صلى [القيامة/ 31] فهو كتكرّر لم يسرفوا ولم يقتروا [الفرقان/ 67] وقوله: ثم كان من الذين آمنوا [البلد/ 17] أي: كان مقتحم العقبة وفاكّ الرقبة، مع ما أتاه من هذه القرب، من الذين آمنوا، فإنه إن لم يكن منهم لم ينفعه قربة لإحباط الكفر لها.
قال أبو الحسن: هي أجود من الأخرى وبها نقرأ، وقوله: في يوم ذي مسغبة [البلد/ 14] جاز أن يوصف اليوم بهذا، كما جاز أن يقال: ليل نائم ونهار صائم، ونحو ذلك، ومن قال: فك رقبة أو أطعم في يوم ذي مسغبة [البلد/ 13، 14]، فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرا لاقتحام العقبة، فإن قلت: إن هذا الضرب لم يفسّر بالفعل، وإنّما فسّر بالابتداء والخبر، مثل قوله: نار الله الموقدة [الهمزة/ 6] وقوله: نار حامية [القارعة/ 11]، هذه جمل من ابتداء وخبر، وليس فيها شيء من الفعل والفاعل، فهلّا رجّحت القراءة الأخرى من أجل هذه الكثرة، والحمل عليها، قيل: إنه قد يمكن أن يكون قوله: كذبت ثمود وعاد بالقارعة [الحاقة/ 4] تفسيرا لقوله: وما أدراك ما القارعة [القارعة/ 3]، ويكون تفسيرا على المعنى.
وقد جاء: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم [آل عمران/ 59] وفسّر المثل بقوله، خلقه من تراب [آل عمران/ 59]، فكذلك قول من: فك رقبة أو أطعم، وزعموا أن أبا عمرو احتجّ لقراءة: فك رقبة بقوله: ثم كان من الذين آمنوا [البلد/ 17] كأنه لمّا كان فعلا وجب أن يكون المعطوف عليه مثله، وقد يجوز أن يكون ذلك كالقطع من الأول والاستئناف، كأنه أعلم أن فكاك الرقبة من الرقّ من الذين
[الحجة للقراء السبعة: 6/415]
آمنوا، لأنه بالإيمان يحرز ثواب ذلك ويحوزه، فإذا لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها لم ينفع ذلك). [الحجة للقراء السبعة: 6/416] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام} 14 - 11
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ {فك} بفتح الكاف جعلوه فعلا ماضيا {رقبة} نصب مفعول بها {أو إطعام} نسق على فك تقول العرب فككت الأسير والرّهن أفكه فكا فالمصدر على لفظ الماضي قال أبو عمرو وتصديقه قوله {ثمّ كان من الّذين آمنوا} 17 يقول لما كان {فك رقبة} فعلا وجب أن يكون المعطوف عليه مثله تقول أفلا فعل ثمّ قال معناه فهلا فك رقبة أو أطعم فكان من الّذين آمنوا
وقرأ الباقون فك رقبة مضافا {أو إطعام} بكسر الألف قال أبو عبيدة {فلا اقتحم العقبة} أي فلم يقتحم العقبة في الدّنيا ثمّ فسر العقبة فقال {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة} وحجتهم أنّها تفسير لقوله {وما أدراك ما العقبة} ثمّ أخبر ما هي فقال {فك رقبة * أو إطعام} ومثله قوله وما أدراك ماهيه ثم قال نار حامية وكذلك وما أدراك ما الحطمة
[حجة القراءات: 764]
ثمّ قال نار الله الموقدة وكذلك قوله وما أدراك ما يوم الدّين ثمّ قال يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
قال بعض أهل النّحو من قال فك رقبة مضافا أو إطام المعنى فيه ما أدراك ما اقتحام العقبة لا بد من تقدير هذا المحذوف لأنّه لا يخلو من أن تقدر حذف المضاف أو لا تقدره فإن لم تقدره وتركت الكلام على ظاهره كان المعنى العقبة فك رقبة ولا تكون العقبة الفك لأنّه عين والفك حدث والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى فإذا لم يستقم كان المضاف مرادا فيكون المعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام أي اقتحامها أحد هذين ومن قال {فك رقبة} أو (أطعم) فإنّه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرا لاقتحام العقبة
فإن قيل إن هذا الضّرب لم يفسر بالفعل وإنّما فسر بالابتداء والخبر نحو قوله {نار الله الموقدة} وقوله: {نار حامية} قيل إنّه يمكن أن يكون قوله {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} تفسيرا لقوله {وما أدراك ما الحاقة} ويكون تفسيرا على المعنى وقد جاء {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} وفسّر المثل بقوله خلقه نم تراب فكذلك قوله
[حجة القراءات: 765]
(فك رقبة * أو أطعم) تفسير على المعنى). [حجة القراءات: 766] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): («2» قَوْلُهُ: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْكَافِ مِنْ {فَكُّ}، جَعَلُوهُ فِعْلاً مَاضِيًا، وَبِنَصْبِ {رَقَبَةٍ}، عَلَى أَنَّهَا مَفَعُولَةٌ لـ {فَكُّ}، وَقَرَؤُوا: (أَوْ أَطْعَمَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، جَعَلُوهُ فِعْلاً مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَكُّ} بِالرَّفْعِ، جَعَلُوهُ مَصْدَرًا مَرْفُوعًا، عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ فَكُّ، وَأَضَافُوا {فَكُّ} إِلَى {رَقَبَةٍ}، عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَخَفَضُوا {رَقَبَةٍ}، وَقَرَؤُوا {أَوْ إطْعَامٌ} بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَبِالرَّفْعِ، جَعَلُوهُ مَصْدَرَ «أَطْعَمَ» كـ «إِكْرَامٍ» مَصْدَرَ «أَكْرَمَ»، وَرَفَعُوهُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى {فَكُّ}.
وَحُجَّةُ مَنْ رَفَعَ {فَكُّ، وَإِطْعَامٌ} أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ السُّؤَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} «12» احْتَاجَ هَذَا السُّؤَالُ إِلَى جَوَابٍ وَتَفْسِيرٍ، وَتَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ، بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا السُّؤَالَ بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرَ فَقَالَ: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} «6» أَيْ: هِيَ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، وَمِثْلُهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} «10» ثُمَّ فَسَّرَ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/375]
فَقَالَ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} «11»، أَيْ: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرِ السُّؤَالِ
فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} فَسَّرَ بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَرَفَعَ {فَكُّ} عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ {أَوْ إِطْعَامٌ}، عَلَى الإِبَاحَةِ، وَفِي الْكَلامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ {فَلاَ اقْتَحَمَ} «11» وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالتَّفْسِيرُ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ مَا هُوَ؟ فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {فَكُّ رَقَبَةٍ}، أَيْ: اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الإِضْمَارِ لِيَكُونَ الْمُفَسِّرُ
مِثْلَ الْمُفَسَّرِ، لأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ {فَكُّ}، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُفَسَّرُ مَصْدَرًا، وَلَوْ جَعَلْتَ {فَكُّ} تَفْسِيرًا لـ {الْعَقَبَةِ} لَجَعَلْتَ الْمَصْدَرَ تَفْسِيرًا لِغَيْرِ مَصْدَرٍ، وَلَوْ لَمْ تُضْمِرْ لَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَالْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ، وَلَيْسَ الأَمْرُ
عَلَى ذَلِكَ، إِنَّمَا الْمَعْنَى: اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ هُوَ فَكُّ رَقَبَةٍ.
«3» وَحُجَّة مَنْ قَرَأَ (فَكَّ وَأَطْعَمَ) بِالْفَتْحِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ لَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: {فَلاَ اقْتَحَمَ}، وَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرِ الاقْتِحَامِ مَا هُوَ؟ فَسَّرَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ مِثْلِهِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} «الْحَاقَّةِ 3»، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ بِقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} «4»، وَمِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمَلِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} «آلِ عِمْرَانَ 59»، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْثِيلَ بَيْنَ
آدَمَ وَعِيسَى كَيْفَ هُوَ فَقَالَ: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَهَذَا قَدْ فَسَّرَ فِيهِ الاسْمَ بِالْمَاضِي فَتَفْسِيرُ الْمَاضِي بِالْمَاضِي أَقْوَى وَأَحْسَنُ، وَلَوْ جَعَلْتَ «فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ» فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ تَفْسِيرًا لِلْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} لَحَسُنَ، كَمَا حَسُنَ أَنْ يَكُونَ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} تَفْسِيرًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ اسْمُ «إِنَّ وَخَبَرِهَا»، وَيُقَوِّي الْقِرَاءَةَ بِالْفَتْحِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي أَنَّ بَعْدَهُ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/376]
آمَنُوا} «17» فَعَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِيَتَّفِقَ الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/377] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- (فَكَّ رَقَبَةً) [آيَةُ/13] بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَصْبِ الرَّقَبَةِ، (أَوْ أَطْعَمَ) [آيَةُ/14] مَفْتُوحَةَ الأَلِفِ عَلَى أَفْعَلَ: -
قَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو والْكِسَائِيُّ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ (فَكَّ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ فِيهِ، وَ{رَقَبَةً} نَصْبٌ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (أَوْ أَطْعَمَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى (فَكَّ)، وَالْفِعْلُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ تَفْسِيرٌ لاقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} فَجَعَلَ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} تَفْسِيرًا لِلْمَثَلِ، وَيُؤَيَّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا، فَلَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلاً، وَبِهَذَا احْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَكُّ رَقَبَةٍ} بِضَمِّ الْكَافِ، وَجَرِّ {رَقَبَةٍ}، {أَوْ إِطْعَامٍ} بِكَسْرِ
[الموضح: 1372]
الأَلِفِ وَرَفْعِ الْمِيمِ مُنَوَّنَةً.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ (وَمَا أَدْرِيكَ مَا الْعَقَبَةُ) يُرَادُ بِهِ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ؟ فَيَكُونُ جَوَابُهُ: اقْتحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ). [الموضح: 1373] (م)
قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله جلّ وعزّ: (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ (14).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (فكّ رقبةً أو أطعم) بالنصب.
وقرأ الباقون (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ).
قال أبو منصور: من قرأ (فكّ رقبةٍ (13) أو إطعامٌ)
فالمعنى: اقتحام العقبة: (فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ).
فك رقبة: الإعانة في فكاكها، كالمكاتب، والمعتق على مال، يعان على فكاكها.
ومن قرأ (فكّ رقبةً) فهو محمول على المعنى، كأنه لما قال: فلا اقتحم العقبة قال: فلا فكّ رقبة، ولا أطعم في يوم ذي مسغبة وهذه القراءة مروية عن على رضي الله عنه). [معاني القراءات وعللها: 3/147] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (ونسق {إطعام} [14] على {فك} {ويوم ذي مسغبة} [14] المسغبة: المجاعة، قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/481]
لاه ابن عمك لا فضلت في حسب = عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة = ولا بنفسك في الضرا تواسيني
وحدثني أبو عمر عن ثعلب عن أبي نصر عن الأصمعي قال: الفك أن تفك الرقبة والخلخال واليد فكا، ويقال: أصابه فكك. قال رؤية:
هاجك من أروى كمنهاض الفكك
وتسمى النجوم المستديرة الفكة. ويقال: في فلان فكة: إذا كان في رأيه استرخاء. ويقال: فلان يسعى في فكاك رقبته، وهلم فكاك رهنك. ويقال: انكسر أحد فكية أي: لحييه وينشد:
كأن بين فكها والفك = فارة مسك ذبحت في سك
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/482]
وأجمع القراء على {ذي} بالياء نعت لـ{يوم} إلا الحسن البصري فإنه قرأ، {في يوم ذا مسغبة} جعل «ذا» نعتًا لمحذوف، والتقدير: أو إطعام في يوم فقيرًا ذا مسغبة. والاختيار ما عليه الناس. و{يتيما} مفعول إطعام.
وقرأ الباقون: {فك رقبة} جعلوه مصدرًا. وأضافوه إلى رقبة، والمصدر إذا كان بتقدير الفعل عمل عمله فهاذ وإن كان في اللفظ مضافًا فهو في المعنى مفعول وتلخيصه: فلا يقتحم العقبة، ولا يجوز الصراط إلا من كان بهذه الصفة أن يفك رقبة {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} أي: أو أن يطعم يتيما. فقال أهل البصرة: ينتصب «يتيما» «بإطعام».
وقال أهل الكوفة: المصدر إذا نون أو دخلته الألف واللام لم يعمل فقيل لهم: فبم تنصبون يتيما؟ فقالوا: بفعل مشتق من هذا المصدر والتقدير عندهم: {أو إطعام} أن يطعم يتيمًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/483]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: فك رقبة أو أطعم في يوم ذي مسغبة [13، 14]. [فكّ] بفتح الكاف، [رقبة] نصب، أطعم بغير ألف. عبيد وعلي بن نصر عن أبي عمرو: فك رقبة أو أطعم نصب بغير ألف، وقال عباس: سألت أبا عمرو فقال: أيتهما شئت.
وقرأ عاصم وابن عامر ونافع وحمزة: فك رقبة أو إطعام في يوم.
حدّثني الدباغ عن أبي الربيع عن عبد الوارث عن أبي عمرو: فك رقبة مضافا أو إطعام.
حدّثني به الخزاز عن محمد بن يحيى عن عبد الصمد عن أبيه عن أبي عمرو.
قال أبو علي: حدّثنا أحمد بن محمد قال: حدّثنا المؤمّل بن هشام قال: حدّثنا إسماعيل بن عليّة قال: قال أبو رجاء سمعت الحسن يقول: فلا اقتحم العقبة [البلد/ 11] قال: جهنّم.
[الحجة للقراء السبعة: 6/413]
وقال قتادة: فلا اقتحم العقبة أنها قحمة شديدة، فاقتحموها بطاعة اللّه.
أبو عبيدة: فلا اقتحم العقبة: فلم يقتحم العقبة في الدنيا، ثم فسّر العقبة فقال: وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة.
قال أبو علي: قول من قال: فك رقبة أو إطعام المعنى فيه: وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ لا بدّ من تقدير هذا المحذوف لأنه لا يخلو من أن تقدّر حذف هذا المضاف أو لا تقدّره، فإن لم تقدّره وتركت الكلام على ظاهره، كان المعنى: العقبة فكّ رقبة ولا تكون العقبة الفكّ لأنه عين، والفكّ حدث، والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى، فإذا لم يستفهم كان المضاف مرادا، فيكون المعنى اقتحام العقبة فكّ رقبة، أو إطعام، أي: اقتحامها أحد هذين، أو هذا الضرب من فعل القرب، ومثل هذا قوله: وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة [الهمزة/ 5، 6] أي: الحطمة نار اللّه، ومثله: وما أدراك ماهيه، نار حاميه [القارعة/ 10، 11]. أي: هي نار حامية، وكذلك قوله: وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس [القارعة/ 3، 4]، المعنى: القارعة يوم يكون الناس لأن القارعة مصدر، فيكون اسم الزمان خبرا عنه، فهذه الجمل التي من الابتداء، والخبر تفسير لهذه الأشياء المتقدم ذكرها من نحو اقتحام العقبة، والحطمة والقارعة، كما أن قولهم: لهم مغفرة وأجر عظيم [المائدة/ 9، الحجرات/ 3] تفسير للوعد.
ومعنى: فلا اقتحم العقبة لم يقتحمها، وإذا كانت لا* بمعنى
[الحجة للقراء السبعة: 6/414]
لم، لم يلزم تكريرها، كما لم يلزم التكرير مع لم، فإن تكررت في موضع نحو: فلا صدق ولا صلى [القيامة/ 31] فهو كتكرّر لم يسرفوا ولم يقتروا [الفرقان/ 67] وقوله: ثم كان من الذين آمنوا [البلد/ 17] أي: كان مقتحم العقبة وفاكّ الرقبة، مع ما أتاه من هذه القرب، من الذين آمنوا، فإنه إن لم يكن منهم لم ينفعه قربة لإحباط الكفر لها.
قال أبو الحسن: هي أجود من الأخرى وبها نقرأ، وقوله: في يوم ذي مسغبة [البلد/ 14] جاز أن يوصف اليوم بهذا، كما جاز أن يقال: ليل نائم ونهار صائم، ونحو ذلك، ومن قال: فك رقبة أو أطعم في يوم ذي مسغبة [البلد/ 13، 14]، فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرا لاقتحام العقبة، فإن قلت: إن هذا الضرب لم يفسّر بالفعل، وإنّما فسّر بالابتداء والخبر، مثل قوله: نار الله الموقدة [الهمزة/ 6] وقوله: نار حامية [القارعة/ 11]، هذه جمل من ابتداء وخبر، وليس فيها شيء من الفعل والفاعل، فهلّا رجّحت القراءة الأخرى من أجل هذه الكثرة، والحمل عليها، قيل: إنه قد يمكن أن يكون قوله: كذبت ثمود وعاد بالقارعة [الحاقة/ 4] تفسيرا لقوله: وما أدراك ما القارعة [القارعة/ 3]، ويكون تفسيرا على المعنى.
وقد جاء: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم [آل عمران/ 59] وفسّر المثل بقوله، خلقه من تراب [آل عمران/ 59]، فكذلك قول من: فك رقبة أو أطعم، وزعموا أن أبا عمرو احتجّ لقراءة: فك رقبة بقوله: ثم كان من الذين آمنوا [البلد/ 17] كأنه لمّا كان فعلا وجب أن يكون المعطوف عليه مثله، وقد يجوز أن يكون ذلك كالقطع من الأول والاستئناف، كأنه أعلم أن فكاك الرقبة من الرقّ من الذين
[الحجة للقراء السبعة: 6/415]
آمنوا، لأنه بالإيمان يحرز ثواب ذلك ويحوزه، فإذا لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها لم ينفع ذلك). [الحجة للقراء السبعة: 6/416] (م)
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قرأ: [فِي يَوْمٍ ذِا مَسْغَبَةٍ] - الحسن وأبو رجاء.
قال أبو الفتح: هو منصوب، ويحتمل نصبه أمرين:
أظهرهما أن يكون مفعول "إطعام"، أي: وأن تطعموا ذا مسغبة، "ويتيما" بدل منه، كقولك: رأيت كريما رجلا. ويجوز أن يكون يتيما وصفا لذا مسغبة، كقولك: رأيت كريما عاقلا، وجاز وصف الصفة الذي هو كريم؛ لأنه لما لم يجز على موصوف أشبه الاسم، كقولك الأعشى:
وبيداء تحسب آرامها ... رجال إباد بأجيادها
فقوله: "تحسب" صفة لبيداء، وإن كانت في الأصل صفة. وكذلك قول رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فقوله: خاوي المخترق صفة لقوله: قاتم الأعماق، وهو صفة لموصوف محذوف، أي: وبلد قاتم: قاتم الأعماق، كما أن قوله: "وبيداء، ورب بيداء، ورب بلدة بيداء. فاعرف ذلك، فهذا أحد وجهي قوله: [ذِا مَسْغَبَةٍ].
والآخر أن يكون أيضا صفة، إلا أنه صفة لموضع الجار والمجرور جميعا، وذلك أن قوله {فِي يَوْمٍ} ظرف، وهو منصوب الموضع، فيكون وصفا له على معناه دون لفظه، كما جاز أن يعطف عليه في معناه دون لفظه في قوله:
ألا حي ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا
[المحتسب: 2/362]
حتى كأنه قال: اليوم، أو غدا. وكذلك قول الآخر:
كشحا طوى من بلد مختارا ... من يأسه اليائس أو حذارا
ونظائره كثيرة، فلذلك يكون قوله: [فِي يَوْمٍ ذِا مَسْغَبَةٍ] على أن [مسغبة] صفة ليوم على معناه، دون لفظه). [المحتسب: 2/363]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام} 14 - 11
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ {فك} بفتح الكاف جعلوه فعلا ماضيا {رقبة} نصب مفعول بها {أو إطعام} نسق على فك تقول العرب فككت الأسير والرّهن أفكه فكا فالمصدر على لفظ الماضي قال أبو عمرو وتصديقه قوله {ثمّ كان من الّذين آمنوا} 17 يقول لما كان {فك رقبة} فعلا وجب أن يكون المعطوف عليه مثله تقول أفلا فعل ثمّ قال معناه فهلا فك رقبة أو أطعم فكان من الّذين آمنوا
وقرأ الباقون فك رقبة مضافا {أو إطعام} بكسر الألف قال أبو عبيدة {فلا اقتحم العقبة} أي فلم يقتحم العقبة في الدّنيا ثمّ فسر العقبة فقال {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة} وحجتهم أنّها تفسير لقوله {وما أدراك ما العقبة} ثمّ أخبر ما هي فقال {فك رقبة * أو إطعام} ومثله قوله وما أدراك ماهيه ثم قال نار حامية وكذلك وما أدراك ما الحطمة
[حجة القراءات: 764]
ثمّ قال نار الله الموقدة وكذلك قوله وما أدراك ما يوم الدّين ثمّ قال يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
قال بعض أهل النّحو من قال فك رقبة مضافا أو إطام المعنى فيه ما أدراك ما اقتحام العقبة لا بد من تقدير هذا المحذوف لأنّه لا يخلو من أن تقدر حذف المضاف أو لا تقدره فإن لم تقدره وتركت الكلام على ظاهره كان المعنى العقبة فك رقبة ولا تكون العقبة الفك لأنّه عين والفك حدث والخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى فإذا لم يستقم كان المضاف مرادا فيكون المعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام أي اقتحامها أحد هذين ومن قال {فك رقبة} أو (أطعم) فإنّه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرا لاقتحام العقبة
فإن قيل إن هذا الضّرب لم يفسر بالفعل وإنّما فسر بالابتداء والخبر نحو قوله {نار الله الموقدة} وقوله: {نار حامية} قيل إنّه يمكن أن يكون قوله {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} تفسيرا لقوله {وما أدراك ما الحاقة} ويكون تفسيرا على المعنى وقد جاء {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} وفسّر المثل بقوله خلقه نم تراب فكذلك قوله
[حجة القراءات: 765]
(فك رقبة * أو أطعم) تفسير على المعنى). [حجة القراءات: 766] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): («2» قَوْلُهُ: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْكَافِ مِنْ {فَكُّ}، جَعَلُوهُ فِعْلاً مَاضِيًا، وَبِنَصْبِ {رَقَبَةٍ}، عَلَى أَنَّهَا مَفَعُولَةٌ لـ {فَكُّ}، وَقَرَؤُوا: (أَوْ أَطْعَمَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، جَعَلُوهُ فِعْلاً مَاضِيًا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَكُّ} بِالرَّفْعِ، جَعَلُوهُ مَصْدَرًا مَرْفُوعًا، عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هُوَ فَكُّ، وَأَضَافُوا {فَكُّ} إِلَى {رَقَبَةٍ}، عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَخَفَضُوا {رَقَبَةٍ}، وَقَرَؤُوا {أَوْ إطْعَامٌ} بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَبِالرَّفْعِ، جَعَلُوهُ مَصْدَرَ «أَطْعَمَ» كـ «إِكْرَامٍ» مَصْدَرَ «أَكْرَمَ»، وَرَفَعُوهُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى {فَكُّ}.
وَحُجَّةُ مَنْ رَفَعَ {فَكُّ، وَإِطْعَامٌ} أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ السُّؤَالُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} «12» احْتَاجَ هَذَا السُّؤَالُ إِلَى جَوَابٍ وَتَفْسِيرٍ، وَتَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ بِالْجُمَلِ، بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا السُّؤَالَ بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرَ فَقَالَ: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} «6» أَيْ: هِيَ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، وَمِثْلُهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} «10» ثُمَّ فَسَّرَ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/375]
فَقَالَ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} «11»، أَيْ: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرِ السُّؤَالِ
فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} فَسَّرَ بِالابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَرَفَعَ {فَكُّ} عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ {أَوْ إِطْعَامٌ}، عَلَى الإِبَاحَةِ، وَفِي الْكَلامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ {فَلاَ اقْتَحَمَ} «11» وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالتَّفْسِيرُ: إِنَّمَا هُوَ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ مَا هُوَ؟ فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {فَكُّ رَقَبَةٍ}، أَيْ: اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الإِضْمَارِ لِيَكُونَ الْمُفَسِّرُ
مِثْلَ الْمُفَسَّرِ، لأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ {فَكُّ}، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُفَسَّرُ مَصْدَرًا، وَلَوْ جَعَلْتَ {فَكُّ} تَفْسِيرًا لـ {الْعَقَبَةِ} لَجَعَلْتَ الْمَصْدَرَ تَفْسِيرًا لِغَيْرِ مَصْدَرٍ، وَلَوْ لَمْ تُضْمِرْ لَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَالْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ، وَلَيْسَ الأَمْرُ
عَلَى ذَلِكَ، إِنَّمَا الْمَعْنَى: اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ هُوَ فَكُّ رَقَبَةٍ.
«3» وَحُجَّة مَنْ قَرَأَ (فَكَّ وَأَطْعَمَ) بِالْفَتْحِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ لَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: {فَلاَ اقْتَحَمَ}، وَاحْتَاجَ إِلَى تَفْسِيرِ الاقْتِحَامِ مَا هُوَ؟ فَسَّرَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ مِثْلِهِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} «الْحَاقَّةِ 3»، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِفِعْلٍ مَاضٍ بِقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} «4»، وَمِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمَلِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} «آلِ عِمْرَانَ 59»، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْثِيلَ بَيْنَ
آدَمَ وَعِيسَى كَيْفَ هُوَ فَقَالَ: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَهَذَا قَدْ فَسَّرَ فِيهِ الاسْمَ بِالْمَاضِي فَتَفْسِيرُ الْمَاضِي بِالْمَاضِي أَقْوَى وَأَحْسَنُ، وَلَوْ جَعَلْتَ «فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ» فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ تَفْسِيرًا لِلْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} لَحَسُنَ، كَمَا حَسُنَ أَنْ يَكُونَ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} تَفْسِيرًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ اسْمُ «إِنَّ وَخَبَرِهَا»، وَيُقَوِّي الْقِرَاءَةَ بِالْفَتْحِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي أَنَّ بَعْدَهُ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/376]
آمَنُوا} «17» فَعَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِيَتَّفِقَ الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/377] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- (فَكَّ رَقَبَةً) [آيَةُ/13] بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَصْبِ الرَّقَبَةِ، (أَوْ أَطْعَمَ) [آيَةُ/14] مَفْتُوحَةَ الأَلِفِ عَلَى أَفْعَلَ: -
قَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو والْكِسَائِيُّ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ (فَكَّ) فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ فِيهِ، وَ{رَقَبَةً} نَصْبٌ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقَوْلُهُ (أَوْ أَطْعَمَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى (فَكَّ)، وَالْفِعْلُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ تَفْسِيرٌ لاقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} فَجَعَلَ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} تَفْسِيرًا لِلْمَثَلِ، وَيُؤَيَّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا، فَلَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلاً، وَبِهَذَا احْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فَكُّ رَقَبَةٍ} بِضَمِّ الْكَافِ، وَجَرِّ {رَقَبَةٍ}، {أَوْ إِطْعَامٍ} بِكَسْرِ
[الموضح: 1372]
الأَلِفِ وَرَفْعِ الْمِيمِ مُنَوَّنَةً.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ (وَمَا أَدْرِيكَ مَا الْعَقَبَةُ) يُرَادُ بِهِ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ؟ فَيَكُونُ جَوَابُهُ: اقْتحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ). [الموضح: 1373] (م)
قوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)}
قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله تعالى: {مسكينا ذا متربة} [15].
نسق على {يتيما ذا مقربة} أي: قد لصق بالتراب من الفقر وشدته، يقال ترب الرجل: إذا افتقر والتصق بالتراب، وأترب: إذا استغنى أي: صار ماله كالتراب كثرة، فأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: «تربت يداك» فقد فسرته في غير هذا الموضع.
وأما الفر بني المسكين والفقير، فإن أكثر الناس قالوا المسكين أسوأ حالا من الفقير الذي له البلغة من العيش، والمسكين الذي لا شيء له. واحتجوا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/483]
بقول الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته = وفق العيال فلم يترك له سبد
وقال آخرون: الفقير أسوأ حالا من المسكين؛ لأن الله تعالى قال: {أما السفينة فكانت لمساكين} فقال من يحتج للقول الأول: هذا لا يلزم من جهتين:
إحداهما: أن أبا محمد قطربًا قرأ: {أما السفينة فكانت لمساكين} أي: لملاحين.
والجهة الأخرى: أن الله تعالى قال: {لمساكين} أهل بيت فيهم كثرة عدد فهم فقراء وإن كانت لهم سفينة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/484]
قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)} قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: حدّثنا الخزاز عن محمد بن يحيى عن أبي الربيع عن حفص عن عاصم: مؤصدة، والمشأمة [البلد/ 19] بالكسر فيهما.
قال غير أحمد: يعني إذا وقف، فأما إذا وصل، فالفتح لا غيره.
قال أحمد: وحدّثني الدباغ عن أبي الربيع عن حفص عن عاصم: مؤصدة مهموزة، المشأمة مشدّدة، قال أحمد: كذا قال وليس له وجه.
قال أبو علي قول عاصم: وإمالة الفتحة التي في مؤصدة* نحو الكسر وكذا المشأمة عربي. قال سيبويه: قالوا أخذت أخذه، وضربت ضربه، شبّه الهاء بالألف، وأمال ما قبلها كما يميل ما قبل الألف، فإن قلت: كيف أمالها، والألف لو كانت هنا موضع الهاء لم تلزم فيها الإمالة، لأنه ليس كسرة ولا ياء؟ قيل: قد تمال الألف في الأواخر وإن لم يكن ما يوجب الإمالة، وذلك نحو قولهم: طلبنا ورأيت عنتا، فكما أمالوا هذه الألف وإن لم يكن في الكلمة ما يوجب الإمالة، كذلك أميلت الهاء تشبيها بالألف، وهذه الإمالة في ذا الحرف على ألسنة مولدي الكوفة والبصرة اليوم، وأما التشديد في المشأمة فلا أعلم له وجها). [الحجة للقراء السبعة: 6/417] (م)
قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (عليهم نارٌ مؤصدةٌ (20).
قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة ويعقوب " مؤصدة " بالهمز، وكذلك؟ " مؤصدة " في الهمزة.
وقرأ الباقون " موصدة " بغير همز في السورتين.
[معاني القراءات وعللها: 3/147]
قال أبو منصور: هما لغتان: أوصدت الباب، وآصدته، إذا أطبقته والحظيرة يقال لها: الوصيدة والأصيدة). [معاني القراءات وعللها: 3/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {نار مؤصدة} [20].
قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم: {مؤصدة} بالهمز مفعلة من أصدت الباب أيك أطبقته مثل آمنت، فاء الفعل همزة.
وقرأ الباقون بترك الهمز جعلوه من أوصدت، فاء الفعل واو مثل النار الموقدة، من أوقدت.
فأما فتحة الدال في {مؤصدة} والميم في: {المشأمة} فإجماع؛ وإنما ذكرته لأن ابن مجاهد حدثني عن الخزاز عن القطعي عن أبي الربيع عن حفص {مؤصدة} بإماله الدال، {والمشأمة} بكسر الميم. وهذه لغة أعني إمالة الحرف الذي يلي هاء التأنيث كقولهم: القيامة والآخرة ورحمة، واللغة الأولى الاختيار؛ لأن هاء التأنيث بفتح ما قبلها في جميع كلام العرب إلا في موضع واحد، وهو قولهم: هذه؛ لأن هذه بدل من ياء والأصل هذي، تقول: هذه المرأة، وهذي المرأة، وينشد:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/486]
فهذي سيوف يا صدي بن مالك = كثير ولكن أين بالسيف ضارب
وفيها قراءة ثالثة: روي عن حفص أيضًا: {أصحاب المشمة} [19] بتشديد الشين؛ وذلك أن من العرب من إذا أسقط الهمزة شدد الحرف الذي قبل الهمزة عوضًا مما حذف، كقول أبي جعفر: {ثم اجعل على كل جبل منهن جزا} حذف وعوض فأعرف ذلك فإنه حسن.
قال أبو عبد الله: سألت ابن مجاهد لم شدد {جزا} فقال عوضًا من الهمزة وكذلك {المشمة} مثله.
فإن قيل: كيف تقف على قراءة حمزة على {أصحاب المشمة} ومن شرطه أن يدع الهمز إذا وقف؟
فقل: أنقل فتحة الهمزة إلى الشين وأسقطها. فأقول {أصحاب المشمة} وتفسير {أصحاب المشأمة}: هم الذين كفروا بالقرآن، وهم الذين يعطون كتابهم بشمالهم. والشمال – بلغة بني غطيف – يقال: له: المشأمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/487]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: حدّثنا الخزاز عن محمد بن يحيى عن أبي الربيع عن حفص عن عاصم: مؤصدة، والمشأمة [البلد/ 19] بالكسر فيهما.
قال غير أحمد: يعني إذا وقف، فأما إذا وصل، فالفتح لا غيره.
قال أحمد: وحدّثني الدباغ عن أبي الربيع عن حفص عن عاصم: مؤصدة مهموزة، المشأمة مشدّدة، قال أحمد: كذا قال وليس له وجه.
قال أبو علي قول عاصم: وإمالة الفتحة التي في مؤصدة* نحو الكسر وكذا المشأمة عربي. قال سيبويه: قالوا أخذت أخذه، وضربت ضربه، شبّه الهاء بالألف، وأمال ما قبلها كما يميل ما قبل الألف، فإن قلت: كيف أمالها، والألف لو كانت هنا موضع الهاء لم تلزم فيها الإمالة، لأنه ليس كسرة ولا ياء؟ قيل: قد تمال الألف في الأواخر وإن لم يكن ما يوجب الإمالة، وذلك نحو قولهم: طلبنا ورأيت عنتا، فكما أمالوا هذه الألف وإن لم يكن في الكلمة ما يوجب الإمالة، كذلك أميلت الهاء تشبيها بالألف، وهذه الإمالة في ذا الحرف على ألسنة مولدي الكوفة والبصرة اليوم، وأما التشديد في المشأمة فلا أعلم له وجها). [الحجة للقراء السبعة: 6/417] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي: موصدة* [البلد/ 20] بغير همز، وفي سورة الهمزة مثله، وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم، مؤصدة بالهمز في الموضعين.
أبو عبيدة: نار مؤصدة: مطبقة، آصدت وأوصدت: لغتان، أي: أطبقت.
قال أبو علي: من قال: موصدة* فلم يهمز، احتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون على لغة من قال: أوصدت والوصيد، وموصدة على هذا: مفعلة مثل موعدة، ولا سبيل إلى همزها إلى على قول من قال:
.... مؤسى والآخر من آصد، مثل: آمن، فعلى هذا القول: مؤصدة كما تقول: مؤمنة، ثم تخفّف فتقلب واوا، كما تقول في تخفيف جؤنة وبؤس، ونؤي: جونة وبوس ونوي، فتقلبها في التخفيف واوا.
ومن همز فقال: مؤصدة* أخذها من: آصدت، فإذا جعلها اسم الفاعل أو المفعول قال: مؤصدة كما تقول: مؤمنة. ويجوز فيمن همز أن يكون من الوصيد، وهمزة على قياس:
[الحجة للقراء السبعة: 6/416]
أحبّ المؤقدان إليّ مؤسى وقد حكي: وضعته يتنا ووتنا وأتنا، فجاء في الفاء الحروف الثلاثة). [الحجة للقراء السبعة: 6/417]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({عليهم نار مؤصدة}
قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص {مؤصدة} بالهمز
وقرأ لباون بغير همز
فمن همزه جعله مفعلة من آصدت الباب أي أطبقته مثل آمنت فاء الفعل همزة تقول آصد يؤصد إيصادا ومن ترك الهمز جعله من أوصد يوصد إيصادا فاء الفعل واو قال الكسائي أوصدت الباب وآصدته إذا رددته). [حجة القراءات: 766]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): («4» قَوْلُهُ: {مُؤْصَدَةٌ} قَرَأَهُ حَفْصٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ بِالْهَمْزِ، وَمِثْلُهُ فِي الْهُمَزَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ.
وَحُجَّةُ مَنْ هَمَزَ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا «آصَدْتُ الْبَابَ» أَيْ أَطْبَقْتُهُ، فَهُوَ «أَفْعَلْتُ» وَفَاءُ الْفِعْلِ فِيهِ هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ، أُبْدِلَ مِنْهَا أَلِفٌ فَثَبَتَتْ هَمْزَةً فِي اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ {مُؤْصَدَةٌ} أَيْ مُطْبَقَةٌ.
«5» وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا «أَوْصَدْتُ الْبَابَ»، أَيْ أَطْبَقْتُهُ، فَفَاءُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ وَاوٌ، فَلاَ يَجُوزُ هَمْزُ اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى هَذَا، إِذْ لاَ أَصْلَ لَهُ فِي الْهَمْزِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: {بِالْوَصِيدِ} «الْكَهْفِ 18» بِالْوَاوِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَهْمُوزِ لَقَالَ بـ «الأَصِيدِ»، فَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ أَوْصَدْتُ، وَآصَدْتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ الْهَمْزَ، لَكِنْ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ فَأَبْدَلَ مِنْهَا وَاوًا لانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا، عَلَى أَصْلِ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/377]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {مُؤْصَدَةٌ} بِالْهَمْزِ [آيَةُ/20]: -
قَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ و- ص- عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ.
وَكَانَ حَمْزَةُ إِذَا وَقَفَ تَرَكَ الْهَمْزِ، وَأَبُو عَمْرٍو لا يَتْرُكُهَا بِحَالٍ لانْتِقَالِهَا مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ الْكَلِمَةَ مِنْ آصَدْتُ الْبَابَ إِذَا أَطْبَقْتَهُ، وَفَاءُ الْكَلِمَةِ هَمْزَةٌ، فَهِيَ كَآمَنَ، فَقَوْلُهُ {مُؤْصَدَةٌ} بِالْهَمْزِ كَمُؤْمَنَةٍ عَلَى مُفْعَلَةٍ، وَالإِيصَادُ الإِطْبَاقُ كَالإِيمَانِ.
وَأَمَّا تَرْكُ حَمْزَةَ الْهَمْزَةِ فِي حَالِ الْوَقْفِ؛ فَلأَنَّ الْوَقْفَ مَوْضِعُ تَغْيِيرٍ؛ فَيُخَفِّفُ الْهَمْزَةَ بِقَلْبِهَا وَاوًا.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (مُوصَدَةٌ) غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ، كَذَلِكَ اخْتِلافُهُمْ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ.
[الموضح: 1373]
وَالْوَجْهُ فِي تَرْكِ الْهُمَزَةِ أَنَّهُ يُقَالُ أَوْصَدْتُ الْبَابَ بِمَعْنَى آصَدْتُهُ، فَمُوصَدَةٌ بِلا هَمْزٍ مِنْ أَوْصَدْتُ كَمُوعَدَةٍ مِنْ أَوْعَدْتُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آصَدَ بِالْهَمْزِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، إِلاَّ أَنَّ الْهَمْزَةَ خُفِّفَتْ بِقَلْبِهَا وَاوًا لانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا، وَالأَصْلُ {مُؤْصَدَةٌ} بِالْهَمْزِ، فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا، فَقِيلَ (مُوصَدَةٌ) بِالوَاوِ، كَمَا قَالَوا فِي تَخْفِيفِ جُؤْنَةٍ وَبُؤْسٍ: جُونَةٌ وَبُوسٌ، وَكَذَلِكَ فِي لُؤْمٍ لُومٌ). [الموضح: 1374]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين