التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والشطر: الجانب، والشطر: النصف). [ياقوتة الصراط: 179]
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم...}
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا في هذا الموضع؟ , ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلاّ يخالف ما قبلها؛ فإن كان ما قبل إلاّ فاعلا كان الذي بعدها خارجاً من الفعل الذي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا؛ كما تقول: ذهب الناس إلاّ زيداً, فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله: {إلاّ الّذين ظلموا}معناه: إلا الذين ظلموا منهم, فلا حجّة لهم , {فلا تخشوهم} , وهو كما تقول في الكلام: الناس كلّهم لك حامدون إلا الظالم لك المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته , ولا بتركه الحمد لموضع العداوة, وكذلك الظالم لا حجّة له, وقد سمّي ظالماً.
وقد قال بعض النحويين: إلا في هذا الموضع بمنزلة الواو؛ كأنه قال: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ}, ولا للذين ظلموا, فهذا صواب في التفسير، خطأ في العربية؛ إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو؛ كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد بـ (إلاّ) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة , فاستدركتها , فقلت: اللهمّ إلا مائ, فالمعنى : له عليّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك, فتستثنى الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك؛ كما قال الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدةٍ ....... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة , ودار مروان). [معاني القرآن: 1/ 89-90]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واخشوني...}
أثبتت فيها الياء , ولم تثبت في غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء ؛ لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً, من ذلك {ربّي أكرمن} , و{ أهانن} في سورة "الفجر" وقوله: {أتمدّونن بمالٍ} , ومن غير النون "المناد" و"الداع" وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها؛ مثل قوله: {سندع الزّبانية . ويدع الإنسان} , وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو , وهي واو جماع، اكتفي بالضمّة قبلها , فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال ذلك، وهي في هوازن وعليا قيس؛ أنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا ....... ولا يألو لهم أحد ضرارا
وأنشدني الكسائي:
متى تقول خلت من أهلها الدار ....... كأنهم بجناحى طائر طاروا
وأنشدني بعضهم:
فلو أن الأطبّا كان عندي ....... وكان مع الأطباء الأساة
وتفعل ذلك في ياء التأنيث؛ كقول عنترة:
إن العدوّ لهم إليك وسيلة ....... إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب
يحذفون ياء التأنيث, وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة). [معاني القرآن: 1/ 90-91]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم},موضع (إلاّ) ها هنا ليس بموضع استثناء، إنما هو موضع واو الموالاة، ومجازها: لئلا يكون للناس عليكم حجة، وللذين ظلموا، وقال الأعشى:
إلاّ كخارجة المكلّف نفسه ....... وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا
ومعناه: وخارجة، وقال عنز بن دجاجة المازنيّ:
من كان أسرع في تفّرق فالجٍ ....... فلبونه جربت معاً وأغدّت
إلاّ كناشرة الذي ضيّعتم ....... كالغصن في غلوائه المتنبّت
غلوائه: سرعة نباته، يريد: وناشرة الذي ضيعتم، لأن بني مازن يزعمون أن فالجا الذي في بني سليم، وناشرة الذي في بني أسد: هما، ابنا مازنٍ.
{أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة}, يقول: ترحّمٌ من ربهم، قال الأعشى:
تقول بنتي إذا قرّبت مرتتحلاً ....... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضى ....... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
فمن رفع (مثل) جعله: عليك مثل ذلك قلت لي ودعوت لي به، ومن نصبه جعله أمراً يقول: عليك بالترحم والدعاء لي). [مجاز القرآن: 1/ 60-62]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون}
وقال: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا} , فهذا معنى "لكنّ", وزعم يونس أنه سمع أعرابياً فصيحا يقول: "ما أشتكي شيئاً إلاّ خيراً" , وذلك أنه قيل له: "كيف تجدك؟", وتكون "إلاّ" بمنزلة الواو نحو قول الشاعر:
وأرى لها داراً بأغدرة السـ ....... ـيدان لم يدرس لها رسم
إلاّ رماداً هامداً دفعت ....... عنه الرياح خوالدٌ سحم
أراد: أرى لها داراً ورماداً.
وقال بعض أهل العلم : إن الذين ظلموا ههنا: هم ناس من العرب كانوا يهوداً أو نصارى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه، فأما سائر العرب فلم يكن لهم حجة , وكانت حجة من يحتج منكسرة, إلا أنك تقول لمن تنكسر حجته: إن لك علي الحجة , ولكنها منكسرة , وإنك تحتج بلا حجة , وحجتك ضعيفة.
وقال: {ولأتمّ نعمتي عليكم} , يقول: لأن لا يكون للناس عليكم حجة, ولأتمّ نعمتي عليكم, عطف على الكلام الأول). [معاني القرآن: 1/ 119-120]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم} فهذا الاستثناء، وقد حكيت: ضربته إلا زيدًا بالفتح؛ ومن ذلك {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} و{فشربوا منه إلا قليلا منهم} وقوله {وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} كأنه ليس أن وتقول {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم
[معاني القرآن لقطرب: 459]
الشيطان إلا قليلا} لنهم كانوا يتبعون الشيطان جميعًا لولا فضل الله؛ وكأنه: ليس على الذين يستنبطونه إلا قليلا؛ لأن المستنبط له قد علمه، وذلك إذا كان المستثنى خارجًا مما دخل فيه الذين يستثنى منهم، كان نصبًا كهذا.
وكذلك ضربني القوم إلا زيدًا، وحكي أيضًا "ألا" بالفتح، ضربهم ألا زيدا، على لغة طيء، وضربتهم ألا عمرًا، ومررت بهم ألا بكرًا، نصب كله؛ لأن الاسم لم يدخل في الفعل الأول؛ ألا ترى أنك لو قلت: ضربني القوم إلا زيدًا، ثم قلت: ضربني إلا زيدًا استحال أن يقع الاسم في موضع الجمع الذي استثني منهم؛ فصار الاسم كالمصدر للفعل؛ كأنك إذا قلت: ضربتهم إلا زيدًا، قلت: ضربتهم ضربًا.
وإذا كان الاسم داخلاً فيما خرج منه القوم، جرى عليهم؛ إن رفعًا فرفع، وإن نصبًا فنصب، وإن جرًا فجر؛ وذلك مثل قوله: {ما فعلوه إلا قليل منهم}؛ لأنك تقول: ما فعله إلا قليل منهم، وما ضربني أحد إلا زيد، وما ضربت أحدًا إلا زيدًا، وما مررت بأحد إلا زيد فهذا وجه الكلام؛ وإنما نقصد إلى ما في القرآن منه.
فمن ذلك قوله {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} يجوز أن يكون: إلا على الذين ظلموا فإن عليهم الحجة لا عليكم؛ فهذا وجه.
ويكون "الذين" في موضع بعض؛ ولا يكون على: أن للذين ظلموا حجة عليكم؛ لأنهم لا حجة لهم.
وقد يكون على أن تصير "إلا" كأن معناها معنى لكن أو الواو، كأنه قال: لكن الذين ظلموا فلا تخشوهم، أو والذين ظلموا فلا تخشوهم.
ومثل ذلك قوله عز وجل {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} يكون على شيئين:
أحدهما: على إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون إلا قوم يونس.
ويكون على: لكن قوم يونس.
[معاني القرآن لقطرب: 460]
وكذلك {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}، يقول الحسن: {أسفل سافلين}؛ يريد: جهنم.
{والذين آمنوا مشفقون منها}؛ كأنه قال: إلا الذين آمنوا منهم.
وفي قول قتادة {أسفل سافلين} مثل {أرذل العمر}؛ أي إلى الكبر؛ فالمعنى: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو والذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون؛ تبتدئه، ولا يكون مستثنى؛ لأن الذين آمنوا قد رد بعضهم إلى الكبر؛ وكذلك يغلب على سماعي في التفسير من الثقة؛ صيرها بمنزلة أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون.
وقوله {بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} فالذين آمنوا وعملوا ليسوا من الذين كفروا، فيستثنوا منهم؛ فيجوز على شيئين:
على: إلا الذين آمنوا منهم؛ يريد: إلا الذين يؤمنون فيكونون منهم.
والوجه الآخر: ما ذكرنا من لكن والواو.
وكذلك {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} بالشعراء: 77]؛ كأنه قال: لكن رب العالمين؛ ولا يكون استثناء من المخلوقين.
وكذلك {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}؛ كأنه قال: لكن الذي فطرني.
وكذلك قوله {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وإن كان من الملائكة فهو مستثنى منهم.
[معاني القرآن لقطرب: 461]
وإن كان ليس منهم فكأنه قال: لكن إبليس أبى؛ وقد اختلف في ذلك؛ قال {كان من الجن ففسق عن أمر ربه}، قال الحسن: قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، قال أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم؛ كرامة أكرمه الله بها، وأمر بذلك إبليس لقوله {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}، ولم يدخل إبليس مع الملائكة في أمره الملائكة ولكنه أمره وأمرهم؛ وما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، ولكنه أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.
فقال للملائكة: اسجدوا؛ وهذا جائز في كلام العرب معروف، والمعنى عندهم كقول الرجل: أمر أهل البصرة بدخول المسجد فدخلوه، إلا رجلاً من أهل الكوفة، لم يدخل؛ فقد يعرف بهذا الكلام أنه لا يعنى أنه من غير أهل البصرة وغيرهم.
{فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} فعلى ذا كان يضعه أبو عمرو، فيما حفظ من ذلك، وسمع عن الحسن من القول فيه، والصفة له.
قال: ويذكر عن الحسن: أن الملائكة خلقت من نور، وأن إبليس خلق من نار.
وأما قوله عز وجل {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه} فتكون مخفوضة على الاستثناء، وتكون مثل قوله {وإذ هم نجوى} وقد يكون النجوى مصدر: نجوت القوم نجوى، وتكون مثل قوله {وإ ذ هم نجوى} فيجوز أن يكون {في كثير من نجواهم}؛ أي مناجاتهم، فيكون أيضًا على: إلا في من أمر بصدقة، على البدل دون الاستثناء؛ لأنه نفي.
[معاني القرآن لقطرب: 462]
وأما قوله {إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا} فيكون على: لا يخاف إلا من ظلم، ثم ابتدأ فقال {ثم بدل حسنا} كما تقول أريد أن أحسن إليك، ثم أكرمك على الابتداء.
وإن ذهبت به إلى معنى {ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} فلا بأس به.
وكذلك {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} فإنهم قالوا فيه: فإن ذلك موضوع عنه أن يقول السوء؛ فهذا وجه الآية؛ ويصير {من ظلم} في موضع خفض على البدل من القول؛ كأنه قال: إلا ممن ظلم.
وإن أردت البدل من الجهر صار منصوبًا؛ كأنك قلت: لا يحب الله من ظلم؛ أي لا يحب الظالم؛ وليس هذا بالمعنى السهل.
وقال يونس: أتانا القيسيون إلا تميميًا وحدًا؛ أجازه، والتميمي ليس من قيس، كأنه قال: ولكن تميميًا واحدًا؛ فهذا تقوية لقول الحسن في إبليس.
وحكى عن بعض العرب: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر؛ فالنقصان لا يكون زيادة، والضر لا يكون نفعًا؛ فليس بمستثنى منه، ولكن المعنى: لكن ما نقص، ولكن ما ضر.
وقال أبو زبيد:
من دم ضائع تغيب عنه = أقربوه إلا الصدى والجنوب
ومما جاء على معنى الواو من "إلا"، كان أبو عمرو ينشد هذا البيت:
وأرى لها دارًا بأغدرة السيدان لم يدرس لها رسم
[معاني القرآن لقطرب: 463]
إلا رمادًا هامدًا دفعت عنه الرياح خوالد سحم
وكان يونس فيما حكي لي عنه - ولم أسمع هذا القول منه - يزعم: أن المعنى فيه معنى الواو؛ كأنه قال: ورماد هامد؛ ولا معنى له يسهل غيره؛ لأنه قال: لم يدرس لها رسم إلا رمادًا؛ فلو جعل الرماد دارسًا لم يقل: دفعت عنه الرياح خوالد سحم؛ ولكن المعنى كأنه: ورماد أيضًا لم يدرس، وكذلك قال يونس فيما حكى عنه: أن معنى قوله
وكل أخ مفارقه أخوه = لعمر أبيك إلا الفرقدان
يريد: والفرقدان أيضًا؛ وليس لفظ البيت على هذه الآية، إنما أراد: إلا الفرقدان أي فهما لا يفترقان؛ ولكن المعنى: إلا الفرقدان، في رفعه على الصفة لكل؛ كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
[ورواه محمد]: غير.
ومثل معنى الواو قول الأعشى:
آليت لا أعطيه من أبنائنا = رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
حتى يفيدك من بنيه رهينة = نعش، ويرهنك السماك الفرقدا
إلا ابن خارجة المكلف نفسه = وابني قبيصة أن أغيب وتشهدا
كأن المعنى: وابني خارجة.
وكذلك قال النابغة الجعدي:
لولا ابن خارجة الأمير لقد أغضبت من شتمي على رغم
ثم قال [ورفعت كذا]:
[معاني القرآن لقطرب: 464]
إلا كمعرض ........ = ........................
كأنه قال: كمعرِّض وكمعْرِض أو لكن كمعرِّض.
وكذلك قول الشاعر:
من كان أسرع في مفارق فالج = جربت لبونته معا وأغدت
إلا كناشرة الذي ضيعتم = كالغصن في غلوائه المتنبت
كأنه قال: وناشرة الذي ضيعتم، وليس هاهنا استثناء.
وكذلك قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم = بهن فلول من قراع الكتائب
والفلول بالسيوف ليس بعيب فيكون مستثنى من أوله؛ ولكن المعنى: سيوفهم بهن فلول.
وكذلك قول النابغة الجعدي:
فتى كملت أعراقه غير أنه = جواد فلا يبقي من المال باقيا
غير أن جواد؛ كأنه قال: وهو جواد ولكنه جواد، ولا يكون على الاستثناء من أوله؛ لأنه قال: كملت أعراقه، ويخبر: أنه جواد من أعراقه أيضا؛ ولو كان استثناء لقال: كملت أعراقه غير أنه بخيل، أو جبان، أو شبه ذلك.
وأما قوله عز وجل: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} من ألم به أصابه؛ فإن جعلت اللمم من الفواحش كان مستثنى منها، وإن جعلته مصدرا فكأنك قلت: يلمون إلماما.
وأما قوله: {في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم} ثم قال: {إلا قول إبراهيم} فإنه يكون على شيئين: على: إلا إبراهيم إذ قال لأبيه لأن المعنى إلا قول إبراهيم؛ إلا إبراهيم إذ قال؛ فيكون مستنثى من "الذين معه"؛ لأنه واحد منهم.
[معاني القرآن لقطرب: 465]
ويكون على أن يكون كأنه لما قال: إذ قالوا لقومهم، قال: وقولهم "إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك"، يقول: إبراهيم لم يل ما قالوا، ولكنه قال لأستغفرن لك.
وأما قوله {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فرفع؛ والمعنى: آلهة غير الله على الوصف؛ وعليه قول لبيد:
لو كان غيري سليمى اليوم غيره = وقع الحوادث إلا الصارم الذكر
كأنه قال: لو كان غيرني غير الصارم الذكر لغيره.
وقال الآخر مثل ذلك:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة = قليل بها الأصوات إلا بغامها
كأنه قال: قليل بها الأصوات غير بغامها؛ أي التي هي غير بغامها.
وأما قوله {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}، ولم تكن الموتة الأولى في الجنة؛ ولكن المعنى على البدل وترك "فيها"؛ كأنه قال: لا يذوقون إلا الموتة الأولى؛ وذلك أنك لو قلت: لقيت زيدًا في الدار، ولقيت عمرًا، فكررت الفعل، جاز أن لا يكون عمرو ملقيًا في الدار؛ فلما جاز بتكرير الفعل جاز إضمار الفعل الثاني الذي ذكره.
وأما {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} فهذا أيضًا على البدل، لا يكون استثناءً؛ لن اللغو ليس بسلام؛ فكأنه قال: لا يسمعون إلا سلاما.
قال سعد بن مالك:
والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح
[معاني القرآن لقطرب: 466]
إلا الفتى الصبار في = النجدات والفرس الوقاح
كأنه قال: لا يبقى إلا الفتى الصبار؛ وليس باستثناء؛ لأن الفتى ليس من التخيل والمراح.
ومثله قول الشاعر:
عشية لا تغني الرماح مكانها = ولا النبل إلا المشرفى المصمم
فالرماح غير المشرفى، فالمعنى البدل.
وذلك مثل قول النابغة:
وقفت فيها أصيلالاً أسائلها = عيت جوابًا وما بالربع من أحد
إلا أواري لأيا ما أبينها = والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
والأواري ليس من أحد، ولا النؤي.
ومثل ذلك قول الآخر:
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وبقر ملمع كنوس
واليعافير ليسوا من الأنيس؛ فصار بدلاً.
وقد قال أبو ذؤيب:
فإن تمس في قبر بوهدة ثاويًا = أنيسك أصداء القبور تصيح
فجعل الأصداء أنيسه، على سعة الكلام.
[معاني القرآن لقطرب: 467]
وأما قوله عز وجل {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} فنصب؛ فلأن العلم ليس باتباع الظن، وإنما الاتباع مصدر اتبعوا اتباعًا؛ فكأنه قال: إلا أنهم يتبعون الظن اتباعًا؛ ولو رفع على سعة الكلام، فجعل علمهم اتباع الظن، على بيت أبي ذؤيب لكان جائزًا.
قال النابغة:
حلفت يمينًا غير ذي مثنوية = ولا علم إلا حسن ظن بغائب
فنصب؛ كأنه أراد المصدر؛ أي: أحسن بالصاحب حسنا.
والرفع هاهنا حسن؛ يجعل الأول هو الآخر، إلا أنا سمعناه منصوبًا.
ومثله قوله عز وجل {ولا هم ينقذون إلا رحمة منا} ومثله {ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها}.
وأما قوله {لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر} وكذلك {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك} فيجوز على وجهين: وجه يريد: إلا من اتبعك فلك عليه سلطان بطاعته إياك، ويريد: لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت مسلط عليه بالقتل له والإباحة؛ فيكون على موضع خفض.
والوجه الآخر: أن تريد لكن من تولى وكفر أو ومن تولى وكفر على ما ذكرنا في صدر هذا الكتاب.
[معاني القرآن لقطرب: 468]
وأما قوله {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} فيجوز على ثلاثة أوجه:
منها: أن تريد إلا من رحم: إلا الراحم، تريد الله عز وجل؛ يقول: لا عاصم غيره.
والوجه الآخر: أن تريد إلا من رحم الله من نوح عليه السلام وأمثاله؛ أي فهو يعصم بالله وأمره، كقول عيسى عليه السلام {وأحي الموتى بإذن الله} .
والوجه الثالث: أن تريد بعاصم لا معصوم من أمر الله إلا من رحم؛ إلا المرحوم عند الله؛ لأن معنى الآية ذلك إذا قال {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.
ومثل ذلك في فاعل وهي على معنى مفعول قولهم: الراحلة وإنما هي المرحولة؛ وهذا سر كاتم أي مكتوم، لأن السر لا يكون كاتمًا، وقولهم: ما أنت بحازم عقل أي محزوم، وكذلك: هذا أمر عارف؛ أي معروف، ورجل عارف؛ أي معروف، وقولهم: العارضة؛ لما عرض له من الذكارة والإناث.
قال أبو ذؤيب:
وقالوا تركناه تزلزل نفسه = وقد ساندوني أو كذا غير ساند
أراد مسند؛ إلا أنهم قالوا: ساند وسند.
وقال لبيد:
ثم أصدرناهما في وارد = صادر وهم صواه قد ثمل
[معاني القرآن لقطرب: 469]
كأنه يريد الطريق؛ وهو مورود مصدور عنه، أن يكون الطريق هو الوارد والصادر والهبوط والصعود، وكذلك: هذه تطليقة بائنة؛ أي مبانة فيما زعم الثقة.
وكذلك قوله {من ماء دافق} قال ابن عباس: مهراق؛ صيره مفعولاً.
وكذلك العائذ: التي يعوذ بها ولدها؛ فهي مفعولة في المعنى.
وكذلك {عيشة راضية} يجوز أن تريد: مرضية.
قال لبيد:
تعطي حقوقا على الأحساب ضامنة = حتى ينوب في قريانه الزهر
فقال: ضامنة.
وأنشدنا الثقة لخرنق:
تفلق فوق هادي الورد منهم = رؤوسًا بين حالقة ووفر
يريد: محلوقة.
وقال بشر:
ذكرت بها سلمى فبت كأنما = ذكرت حبيبا فاقدا تحت مرمس
وقالت نائحة همام بن مرة، أنشدناه من نثق به:
[معاني القرآن لقطرب: 470]
لقد عيل الأيتام طعنة ناشره = أناشر لا زالت يمينك آشره
من أشرتها: قطعتها؛ فالمعنى: مأشورة؛ لأنه يريدك لا زالت مقطوعة، لا قاطعة؛ وكأن هذا المعنى إنما [يحدث إذا كان] لا يخاف فيها التباس الفاعل بالمفعول). [معاني القرآن لقطرب: 471]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلّا الّذين ظلموا}, أي: إلّا أن يحتج عليكم الظالمون بباطل من الحجج, وهو قول اليهود: كنت , وأصحابك تصلون إلى بيت المقدس، فإن كان ذلك ضلالاً, فقد مات أصحابك عليه, وإن كان هدى فقد حوّلت عنه.
فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}, أي: صلاتكم, فلم تكن لأحد حجة). [تفسير غريب القرآن: 65-66]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة إلّا الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون}
{لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة}: أي: قد عرفكم اللّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيّنّاه ؛ لئلا يكون للناس على اللّه حجة في قوله: {ولكلّ وجهة هو مولّيها}, أي: هو موليها لئلا يكون.
وقوله عزّ وجلّ: {إلّا الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم}
قال بعضهم : لكن الذين ظلموا منهم , فلا تخشوهم، والقول عندي: أن المعنى في هذا واضح, المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك على من حجة إلا الظلم، أي: إلا أن تظلمني، المعنى: ما لك عليّ من حجة ألبتّة، ولكنك تظلمني، وما لك على حجة إلا ظلمي, وإنما سميّ ظلمة هنا حجة ؛ لأن المحتج به سماه حجة وحجّته داحضة عند اللّه.
قال اللّه عزّ وجلّ: {حجّتهم داحضة عند ربّهم}: سميت حجة إلا أنها حجة مبطلة, فليست بحجة موجبة حقاً.
وهذا بيان شاف إن شاء اللّه.
وقوله عزّ وجلّ:{ولأتمّ نعمتي عليكم}, أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة , {ولأتمّ نعمتي عليكم},{ولعلّكم تهتدون}). [معاني القرآن: 1/ 225-227]
تفسير قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كما أرسلنا فيكم...}
جواب لقوله: {فاذكروني أذكركم}: كما أرسلنا، فهذا جواب مقدّم ومؤخّر.
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: {أذكركم} , ألا ترى أنه قد جعل لقوله: {اذكروني} جواباً مجزوماً, فكان في ذلك دليل على أن الكاف التي في (كما) لما قبلها؛ لأنك تقول في الكلام: كما أحسنت فأحسن, ولا تحتاج إلى أن تشترط لـ (أحسن)؛ لأن الكاف شرط، معناه:افعل كما فعلت, وهو في العربية أنفذ من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان؛ مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه, فقد صارت (فأته) , و(ترضه) جوابين). [معاني القرآن: 1/ 92]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كما أرسلنا فيكم رسولاً مّنكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مّا لم تكونوا تعلمون}
قوله: {كما أرسلنا فيكم رسولاً مّنكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة} , {فاذكروني أذكركم}, أي: كما فعلت هذا, فاذكرونني). [معاني القرآن: 1/ 120]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ ونجل: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)}: (كما) تصلح أن تكون جوابا لما قبلها، فيكون: {لعلّكم تهتدون}., {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم}, والأجود أن تكون (كما) معلقة بقوله عزّ وجلّ {فاذكروني أذكركم}.
أي: فاذكروني بالشكر والإخلاص كما أرسلنا فيكم.
فإن قال قائل فكيف يكون جواب {كما أرسلنا}: {فاذكروني أذكركم}, جواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين ؛ لأن قوله:{فاذكروني} أمر، وقوله :{أذكركم}جزاء اذكروني,والمعنى :إن تذكروني أذكركم..
ومعنى الآية: أنها خطاب لمشركي العرب، فخاطبهم اللّه عزّ وجلّ بمادلهم على إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم , فقال:كما أرسلنا فيكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل منكم أمّي تعلمون أنه لم يتل كتابا قبل رسالته, ولا بعدها إلا بما أوحي إليه. وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة , ولا أخبار الأنبياء، ولا آبائهم ولا أقاصيصهم,فأرسل إليكم النبي صلى الله عليه وسلم ,فأنبأكم بأخبار الأنبياء، وبما كان من أخبارهم مع أممهم، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب، فكما أنعمت عليكم بإرساله فاذكروني بتوحيدي، وتصديقه صلى الله عليه وسلم.
{اشكروا لي}: أذكركم برحمتي , ومغفرتي , والثناء عليكم.
وقوله عزّ وجلّ:{ولا تكفرون}: الأكثر الذي أتى به القرّاء حذف الياءات مع النون). [معاني القرآن: 1/ 228]
تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واشكروا لي...}
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك. ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا؛ قال بعض الشعراء:
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم ....... فهلاّ شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة:
نصحت بني عوفٍ فلم يتقبّلوا ....... رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي). [معاني القرآن: 1/ 92]