أبو عبد الله عكرمة البربري مولى ابن عباس (ت:105هـ)
روى: عن ابن عباس، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عمر وغيرهم، وأرسل عن أبي بكر وعليّ وسعد بن أبي وقاص، واختلف في سماعه من عائشة.
مولده في أول خلافة عثمان نحو عام 25 للهجرة.
قال يزيد بن زريع: (كان عكرمة بربرياً للحصين بن أبي الحرّ العنبري، فوهبه لابن عباس حين ولي البصرة). رواه ابن عدي في الكامل.
وكانت ولاية ابن عباس للبصرة في أوائل خلافة عليّ بن أبي طالب قبل عام التحكيم؛ وبقي عكرمة ملازماً لابن عباس يخدمه ويتعلم منه إلى أن توفي ابن عباس وهو في الرقّ، فتكون مدّة مكثه عند ابن عباس نحو ثلاثين عاماً، استفاد فيها علماً غزيراً مما سمعه من ابن عباس وغيره.
وكان حافظاً فَهِماً، ولما رأى منه ابن عباس النجابة والحفظ ألزمه تعلّم القرآن والأحكام؛ كما في طبقات ابن سعد وحلية أبي نعيم من طريق حماد بن زيد، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة أنه قال: (كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلمني السنة).
وقال حرمي بن عمارة: حدثنا عبد الرحمن بن حسان قال: سمعت عكرمة، يقول: «طلبت العلم أربعين سنة فكنت أفتي بالباب وابن عباس بالدار» رواه العقيلي.
وقال عفان بن مسلم: حدثنا حماد بن سلمة، عن داود، عن عكرمة قال: (قرأ ابن عباس هذه الآية: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}
قال: قال ابن عباس: "لم أدرِ أنجا القوم أم هلكوا"، فما زلت أبيّن له أبصّره حتى عرف أنهم قد نجوا.
قال: فكساني حلَّة). رواه ابن سعد.
- وروى هشام بن يوسف قاضي أهل صنعاء عن محمد بن راشد قال: مات ابن عباس وعكرمة عبد؛ فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار؛ فبلغ ذلك عكرمة؛ فأتى عليّا؛ فقال: بعتني بأربعة آلاف دينار؟
قال: نعم.
قال: أما إنه ما خِيرَ لك؛ بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف دينار؛ فراح عليٌّ إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه). رواه ابن سعد.
وقال أيوب السختياني: (اجتمع حفاظ ابن عباس فيهم سعيد بن جبير وعطاء وطاوس على عكرمة، فقعدوا فجلسوا يسألونه عن حديث ابن عباس، قال: وكلما حدثهم حديثا، قال سعيد بن جبير هكذا، فعقد ثلاثين، حتى سُئل عن الحوت، فقال عكرمة: كان يسايرهما في ضحضاح من الماء؛ فقال سعيد: أشهد على ابن عباس أنه قال كانا يحملانه في مكتل، فقال أيوب: أراه كان يقول القولين جميعا). رواه العقيلي.
وهذا يشبه ما ذكره أبو بكر الهذلي قال: قلت للزهري: إن عكرمة وسعيد بن جبير اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة: الحارث بن قيس، فقال: صدقا جميعا كانت أمّه تدعى غيطلة، وكان أبوه يدعى قيسا.
- وقال حبيب بن أبي ثابت: (اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة؛ فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا). رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال يحيى بن سعيد القطان: (أصحاب ابن عباس ستة: مجاهد، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد). رواه ابن أبي خيثمة وابن عساكر.
- وقال عمرو بن دينار: دفع إلي جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: (هذا عكرمة، هذا مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه). رواه ابن سعد في الطبقات والبخاري في التاريخ الكبير وابن أبي خيثمة في تاريخه.
- وقال أيوب السختياني: قال عكرمة: (إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم). رواه ابن سعد.
- وقال مغيرة بن مقسم: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: (نعم؛ عكرمة). رواه ابن أبي خيثمة.
- وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: (ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة). رواه أبو نعيم في الحلية.
- قال ابن حبان: (كان عكرمة من علماء الناس في زمانه بالقرآن والفقه، وكان جابر بن زيد يقول: عكرمة من أعلم الناس).
- وقال سلام بن مسكين سمعت قتادة يقول: (أعلمهم بالتفسير عكرمة). رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال زيد بن الحباب: سمعت سفيان الثوري يقول بالكوفة: (خذوا التفسير عن أربعة، عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك). رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال سفيان بن عيينة: ( لما قدم عِكرمَة البصرة أمسك الْحَسَن، عَن التفسير). رواه ابن عدي، وروى العقيلي نحوه عن سفيان عن أيوب.
- وقال عمرو بن دينار: «كنت إذا سمعت من عكرمة يحدث عن المغازي، كأنه مشرف عليهم ينظر كيف كانوا يصنعون ويقتتلون» رواه الفسوي في المعرفة وأبو نعيم في الحلية واللفظ له.
قال ابن أبي خيثمة: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: (تزوَّج عكرمةُ أمَّ سعيد بن جبير).
قلت: عكرمة أسنّ من سعيد بن جبير بأكثر من عشرين سنة.
ما انتقد به عكرمة:
كان عكرمة كثير الرواية، قد وعى علماً كثيراً اشتمل على غرائب لا يعرفها كثير من الناس، فأنكر بعضُ التابعين بعضَ حديثه، ورُوي عن بعضهم اتّهامه بالكذب، والأقرب أنهم يريدون الخطأ في الرواية لا أنّه يتعمّد الكذب، ونسبوه إلى أنه يفهم عن ابن عباس ما لم يرده فيحدّث عنه فيكون كاذباً في تحديثه، ولم تثتبت عليه تهمة الكذب، وما أُنكر عليه من الروايات تبيّن صدقه فيها، وأنّه لم ينفرد بروايتها، بل صحّت عن ابن عباس من طرق أخرى.
- قال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال عكرمة: (أرأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي، أفلا يكذبوني في وجهي؛ فإذا كذبوني في وجهي؛ فقد والله كذبوني). رواه ابن سعد.
- وقال أبو إسحاق: سمعت سعيد بن جبير يقول: إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها.
قال: فجاء عكرمة فحدثه بتلك الأحاديث كلها.
قال: والقوم سكوت؛ فما تكلم سعيد.
قال: ثم قام عكرمة؛ فقالوا: يا أبا عبد الله ما شأنك؟
قال: فعقد ثلاثين، وقال: أصاب الحديث). رواه ابن سعد.
وهذا يدلّ على أنّ بعض من نقل عنه ما يُستنكر يخطئ في النقل.
- وقال أيوب بن يزيد: قال ابن عمر لنافع: (لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس).
وقال محمد بن موسى الحرشي: أنبأنا عبد الله بن عيسى أبو خلف: نا يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول لنافع: (اتق الله ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، كما أحل الصرف وأسلم ابنه صيرفيا). رواه ابن عساكر.
قال الذهبي: (هذا ضعيف السند، وقد رواه أبو خلف عبد الله بن عيسى، عن يحيى البكاء، وهو ضعيف، أنه سمع ابن عمر يقوله).
وقال ابن حبان: (أما عكرمة فحمل أهل العلم عنه الحديث والفقه في الأقاليم كلها وما أعلم أحدا ذمه بشيء إلا بدعابة كانت فيه).
وقال أيضا: (ومن زعم أنا كنا نتقي حديث عكرمة فلم ينصف إذ لم نتّق الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى وذويه).
- وقال النضر بن شميل: حدثنا سالم أبو عتاب بصري، قال: كنت أطوف أنا وبكر بن عبد الله المزني، فضحك بكر، فقيل له: ما يضحكك؟
قال: العجب من أهل البصرة أن عكرمة حدثهم -يعني: عن ابن عباس- في تحليل الصرف، فإن كان عكرمة حدثهم أنه أحله، فأنا أشهد أنه صدق، ولكني أقيم خمسين من أشياخ المهاجرين والأنصار يشهدون أنه انتفى منه). رواه ابن عدي وابن عساكر.
- وقال الحكم بن أبي إسحاق: كنت عند سعيد بن المسيب وثم مولى له فقال له: (انظر لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس).
- وقال أحمد بن حنبل: حدثنا إسحاق ابن الطباع قال: (سألت مالك بن أنس: أبلغك أن ابن عمر قال لنافع: لا تكذبن علي كما كذب عكرمة على ابن عباس؟ قال: لا، ولكن بلغني أن سعيد بن المسيب قال ذلك لِبُرْدٍ مولاه). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسائل أبيه.
قال الذهبي: (هذا أشبه، ولم يكن لعكرمة ذكر في أيام ابن عمر، ولا كان تصدى للرواية).
- وقال عطاء الخراساني: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم.
فقال: كذب مخبثان، اذهب إليه، فسبّه، سأحدثكم: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما حلَّ تزوجها).
والصحيح أنّ عكرمة لم يكذب على ابن عباس في هذه الرواية، ولم يخطئ فهمها عنه، فقد ثبتت عن ابن عباس من طرق أخرى، والخطأ فيها من ابن عباس رضي الله عنهما إذ ظنّ أنّه تزوّجها وهو محرم، وقد صحّ عن ميمونة أنه ما تزوّجها إلا وهو حلال، وهذا الخطأ مع براءة عكرمة منه لو ثبت عليه مثله لا يقتضي جرحه ولا تكذيبه؛ فكم من عالم أخطأ في بعض فهمه فلم يعبه ذلك.
- ورى ابن لهيعة عن ابن هبيرة قال: قدم علينا عكرمة فكان يحّدثنا بالحديث عن الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ يحدثنا به عن غيره؛ فأتينا شيخا عندنا يُقال له إسماعيل بن عبيد الله الأنصاري قد كان سمع من ابن عباس؛ فذكرنا ذلك له؛ فقال: أنا أخبره لكم.
قال: فأتاه فسأله عن أشياء ساءل عنها ابن عباس فأخبره بها على مثل ما سمع.
قال: فأتيناه فسألناه؛ فقال: (الرجل صدوق، ولكنَّه سمع من العلم فأكثر وكلما سنح له طريق سلكه). رواه ابن عدي وابن عساكر.
- وقال يزيد بن أبي زياد: (دخلت على علي بن عبد الله بن عباس، وعكرمة مقيد على باب الحسن. قال: قلت: ما لهذا هكذا؟ قال: إنه يكذب على أبي).
قال ابن حبان: (لا يجب على من شم رائحة العلم أن يعرّج على قول يزيد بن أبي زياد حيث يقول: "دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش قلت: من هذا؟ قال: إن هذا يكذب على أبى".
قال: (ومن أمحل المحال أن يُجرح العدل بكلام المجروح؛ لأن يزيد بن أبى زياد ليس ممن يحتج بنقل حديثه ولا بشيء يقوله).
- وقال حماد بن زيد: أنبأنا أيوب عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس قال: (لو أن مولى ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا). رواه ابن عساكر.
- وقال أيضاً: قيل لأيوب: أكنتم أو كانوا يتهمون عكرمة؟ قال: (أما أنا فلم أكن أتهمه). رواه العقيلي وابن عساكر.
- وقال أبو معمر القطيعي: حدثنا ابن فضيل، عن عثمان بن حكيم قال: (رأيت عكرمة جاء إلى أبي أمامة بن سهل بن حنيف فقال: أنشدك بالله، أما سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فهو حق؟ فقال أبو أمامة: بلى). رواه العقيلي وابن عساكر.
قال ابن حجر: (وهذا إسناد صحيح).
وهذا توثيق من ابن عباس لعكرمة في حفظه وفهمه، وأنّه يأمنه على ما سمعه منه.
- وقال أبو حمزة السكري: حدثنا يزيد النحوي عن عكرمة قال: قال ابن عباس: (انطلق فأفتِ الناس وأنا لك عون)
قال قلت: لو كان مع الناس مثلهم أفتيتهم.
قال: (انطلق فأفتِ الناسَ فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنَّك تطرح عنك ثلثي مؤنة الناس). رواه ابن أبي حاتم في العلل وأبو نعيم في الحلية.
وكان ممن تكلّم في عكرمة: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، ثمّ تركه مسلم فلم يرو عنه في صحيحه إلا حديثاً واحداً مقروناً بسعيد بن جبير.
واحتجّ به جماعة من الأئمة، منهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والعجلي، وابن حبان، وغيرهم.
- قال أبو بكر المروذي: قلت لأحمد بن حنبل: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: (نعم، يحتج به).
- وقال البخاري: (ليس أحد من أصحابنا إلا احتجّ بعكرمة).
واتّهمه بعضهم بأنه يرى رأي الخوارج، وقد برَّأه جماعة من الأئمة من تلك النسبة.
- قال العجلي في شأن عكرمة : (مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية).
- وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة مولى ابن عباس: كيف هو؟ قال: ثقة. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: نعم إذا روى عنه الثقات. والذي أنكر عليه يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك فلسبب رأيه).
قال ابن رجب في شرح العلل: (يعني أنه نسب إلى رأي الخوارج).
- وقال ابن جرير فيما نقله المنذري: (وأمَّا ما نُسِبَ إليه عكرمة من مذهب الصُّفْريَّة، فإنَّه لو كان كل من ادُّعي عليه مذهبٌ من المذاهب الرديئة ونحلةٌ ثبت عليه ما ادُّعي عليه من ذلك ونُحِلَهُ -يجب علينا إسقاط عدالته وإبطال شهادته وترك الاحتجاج بروايته- لزمنا ترك الاحتجاج برواية كل من نُقل عنه أثَرٌ من مُحَدِّثي الأمصار كُلِّها؛ لأنه لا أحد منهم إلاَّ وقد نسبه ناسبون إلى ما يَرغب به عنه قوم ويرتضيه له آخرون).
وقال أيضاً: (أتعجَّب كلَّ العجب مِمَّن عَلِمَ حال عكرمة ومكانه من عبد الله بن عباس وطول مكثه معه وبين ظهرانَيْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثمَّ مَنْ بَعْدَ ذلك من خيار التابعين والخالفين وهم له مقرِّظون، وعليه مُثْنون، وله في العلم والدِّين مقدِّمون، وله بالصدق شاهدون؛ ثم يجيء بَعْدَ مُضيِّه لسبيله بدهرٍ وزمان نوابغُ يجادلون فيه من يَشْهَدُ له بما شهد له به مَنْ ذكرنا من خيار السلف وأئمة الخلف: من مُضيِّه على ستره وصلاحه وحاله من العدالة وجواز الشهادة في المسلمين؛ فإن كل ما ذكرنا من حاله عمن ذكرنا عنه لا حقيقة له، ولا صحة خبر أورِدَ عنهم: لا صحة له عن ابن عمر أنه قال لمملوكه: يا نافع لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس).
- وقال محمد بن نصر المروزي: (قد أَجْمَعَ عامَّةُ أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، ويحيى بن معين؛ ولقد سألتُ إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه؟ فقال لي: عكرمةُ عندنا إمام الدنيا، وتَعَجَّبَ من سؤالي إيَّاه) ذكره المنذري في جزء سمّاه "ذكر حال عكرمة مولى عبد الله بن عباس وما قيل فيه".
- وقال ابن منده: (وأما حال عكرمة مولى ابن عباس رحمه الله في نَفْسِهِ، فَقَدْ عَدَّلَهُ أئمةٌ من نُبلاء التابعين ومَنْ بَعْدَهم، وحَدَّثوا عنه، واحتجّوا بمفاريده في الصفات والسنن والأحكام.
روى عنه زُهاء ستمائة رجل من أئمة البلدان فيهم زيادة على سبعين رجلاً من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلةٌ لا تكاد توجد لكبير أحد من التابعين إلاَّ لعكرمة مولى ابن عباس رحمة الله عليه).
- وقال ابن حجر: (احتج به البخاري وأصحاب السنن وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقرونا بسعيد بن جبير وإنما تركه مسلم لكلام مالك فيه، وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك وصنفوا في الذبّ عن عكرمة منهم أبو جعفر ابن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو حاتم بن حبان، وأبو عمر بن عبد البر، وغيرهم).
وقد تتبع ابن حجر الطعون التي طعن بها على عكرمة وأرجعها إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ما روي عن بعض السلف في تكذيبه، وقد تبيّنت براءته من تهمة الكذب.
والأمر الثاني: اتّهامه برأي الخوارج وأنّه كان يرى السيف، وفي ثبوت ذلك عنه نظر، والأظهر أنّ ما روي عنه في ذلك فلتات من لسانه؛ فسيرته ليست سيرة الخوارج فكان مصافياً للأئمة غير منابذ لهم، مجتهداً في نشر العلم، داعياً إلى السنة، معظّماً للصحابة، يسافر في الغزوات في الثغور، وليس هذا شأن الخوارج.
وقد حمل ابن حجر سبب التهمة على توافق قوله في بعض المسائل مع بعض أقوال الخوارج مع أنّه لم يحفظ عنه شيء بنصّه من تلك الأقوال، والاتّهام بناء على التوافق في بعض الأقوال عرضة للخطأ.
وقد أشيع عنه في حياته ما نفّر بعض الأئمة عنه من أغاليط المسائل فلذلك كان قبولهم ما ينتقد به أسرع، مع أنّه لا يصحّ عنه كثير مما انتقد به عند التحقيق، ومنه ما أخطأ فيه وصرّح بالرجوع عنه؛ كفتواه في بيع التمر.
والأمر الثالث: قبوله جوائز الأمراء وأعطياتهم، وكان من السلف من ينفر ممن يقبل عطايا الأمراء ويتعرّض لسؤالهم، وهذا لا يقدح في روايته، ولا في عدالته عند التحقيق.
مراتب الرواة عن عكرمة في التفسير:
رواة التفسير عن عكرمة في كتب التفسير المسندة نحو ستين رجلاً، منهم المقلّ والمكثر، ومنهم الثقة والضعيف المعتبرة روايته، ومنهم المتروك، ولذلك فهم على مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الثقات المكثرين من الرواية عنه، ومنهم: عمرو بن دينار، وقتادة، وأيوب السختياني، وداود بن أبي هند، ويزيد بن أبي سعيد النحوي، والحكم بن أبان العدني، وخالد بن مهران الحذاء، والزبير بن الخريت، وسليمان بن أبي سليمان الشيباني.
وقد تُكلّم في رواية قتادة عن عكرمة، والصحيح أنّه سمع منه، فقد قدم عكرمة البصرة، واجتمع عليه الناس حتى أصعد على ظهر بيت يحدّثهم، وقد صرّح قتادة بالسماع منه في أحاديث.
قال المروذي للإمام أحمد: إنهم يقولون: إن قتادة لم يسمع من عكرمة!
قال: هذا لا يَدْري الذي قال، وغضب، وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث مما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث: "سمعت عكرمة".
قال المرّوذي: وقال أبو عبدالله: قد ذهب من يحسن هذا، وعجب من قومٍ يتكلمون بغير علمٍ، وعجب من قول من قال: لم يسمع !.
وقال: سبحان الله ! فهو قدِم إلى البصرة فاجتمع عليه الخلقُ).
والمرتبة الثانية: الثقات المقلّون من الرواية عنه، ومنهم: ابن أبي نجيح، وعبد الكريم بن مالك الجزري، وأبو سهل عثمان بن حكيم الأنصاري، وعبد الملك ابن جريج، وسعيد بن مسروق الثوري، ومحمد بن سوقة الغنوي، وعمرو بن قيس الملائي، وجعفر بن برقان الكلابي، وفضيل بن غزوان الضبي، وعمارة بن أبي حفصة، وشرقيّ البصري، ومسعود بن علي الشيباني.
والمرتبة الثالثة: مرتبة أبي المنيب عيسى بن عبيد الكندي، والنضر بن عربي الباهلي، ممن يترجح قبول روايتهم، وقد تُكلّم فيهما بما لا يتحقق به الجرح، والجمهور على أنهما لا بأس بهما.
المرتبة الرابعة: مرتبة محمد بن أبي محمد الخرشي مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول الحال، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، روى عنه ابن إسحاق، وله صحيفة في التفسير يرويها عن عكرمة وسعيد بن جبير من غير تمييز، فكان من يروي عنه يرويها على الشك بينهما.
والمرتبة الخامسة: الذين في روايتهم عن عكرمة ضعف واضطراب وهم من أهل الصدق والصلاح في أنفسهم، ومنهم: سماك بن حرب، وداوود بن الحصين، وعطاء بن السائب، وأبو المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكي، وخصيف بن عبد الرحمن الجزري، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وأبو جناب الكلبي، وعطاء الخراساني، وشبيب بن بشر.
وهؤلاء روايتهم عن عكرمة معتبرة في التفسير إذا سلمت من النكارة والمخالفة.
والمرتبة السادسة: الذين لم يسمعوا منه، فروايتهم عنه منقطعة، ومنهم: عنبسة بن سعيد الكلاعي، وسليمان التيمي، ومنصور بن المعتمر.
والمرتبة السابعة: المتروكون ومنهم: أبو المقدام إسماعيل بن شروس الصنعاني، وأبو بكر سلمى بن عبد الله الهذلي، وسعيد بن المرزبان المعروف بأبي سعد البقال، ومطر بن ميمون المحاربي.
وفاته:
قال الواقدي: (حدثتني ابنة عكرمة أن عكرمة توفي سنة خمس ومائة وهو ابن ثمانين سنة).
وقال مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري: (كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه بعض ولاة المدينة؛ فتغيب عند داود بن الحصين حتى مات عنده قالوا: وكان عكرمة كثير الحديث والعلم , بحرا من البحور , وليس يحتج بحديثه , ويتكلم الناس فيه).
وقال خالد بن القاسم البياضي: (مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد سنة خمس ومائة , فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر في موضع الجنائز؛ فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس). رواه ابن سعد.
قال يعقوب بن سفيان: حدثني إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بن أنس عن أبيه قال: (أُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس وكثيّر عزة بعد العصر فما علمت أنَّ أحداً من أهل المسجد حل حبوته إليهما).
وقال أبو داود سليمان بن معبد السنجي عن الأصمعي، عن ابن أبي الزناد: مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد.
قال: فأخبرني غير الأصمعي، قال: فشهد الناس جنازة كثير: وتركوا جنازة عكرمة.
قال الذهبي: (ما تركوا عكرمة - مع علمه - وشيعوا كثيرا إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له رضي الله عنه).
والخبر في تشييعه فيه اضطراب، وإن صحّ فلعلّ سببه أنّه مات وهو متخفٍّ عن السلطان مع ما كان أشيع عنه لدى أهل المدينة، فرحمه الله ورضي عنه.
وقد ذكر في سنة وفاته أقوال أخرى
- فقال علي بن المديني: مات سنة أربع ومائة.
- وقال أبو نعيم: مات سنة سبع ومائة.
- وقيل سنة خمسة عشرة ومائة، وهو خطأ بيّن.
قال الذهبي: (والأصح: سنة خمس).
مما روي عنه في التفسير:
1. قال يحيى بن واضح: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة أنَّ نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله جل وعز:{وما هم بخارجين منها}؛ فقال ابن عباس: (ويحك، اقرأ ما فوقها؛ هذه للكفّار). رواه ابن جرير، وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم نحوه من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة.
2. قال أبو مسلمة: حَدَّثَنا هارون النحوي عَن الزبير بْن الخرِّيت، عَن عِكرمَة قَالَ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} قَالَ: (التحريم أبداً، وأربعين سنة يتيهون فِي الأرض). رواه ابن عدي في الكامل، وابن جرير في تفسيره بلفظ مقارب، وروى نحوه أحمد بن منيع كما في المطالب العالية وإتحاف الخيرة من طريق حمّاد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عكرمة.
3. قال محمد بن العلاء: حدثنا يونس بن بكير، عن مطر بن ميمون، عن عكرمة، عن ابن عباس، [في قوله تعالى: {ويعلمه الكتاب}] (الكتاب: الخط بالقلم). رواه ابن أبي حاتم.
ومطر بن ميمون متروك الحديث.