قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الحمد لله الذى تعهد لأمة الإسلام بحفظ كتابه , وألقى فى روع نبيه عليه الصلاة والسلام أن يمليه على الكتبة من أصحابه , ليشفع بالمسطور ما هو مستظهر {5} فى الصدور حتى إذا التحق عليه السلام بالرفيق الأعلى كان قد تم تدوين القرآن الكريم طرا, {6} بيد أن هذا التدوين لم يكن كهيئة مصحفنا , المعهود بين دفتين , ولا صحفا مجموعة بين لوحين , بل كان مرقوما على الرقاع ,{7} والأكتاف , مسطرا على العسب , والاقتاب , {8} واللخاف , تشق صيانته وتعسر رعايته , حتى ألهم الحق سبحانه الفروق فكرة جمعه فى المصحف , وشرح لذلك صدر الصديق الذى رأى الخير كل الخير فى تحقيق هذا الهدف {9} فانتدب لهذه المهمة زيدا , وكان من ذوى الحفظ والإتقان , وممن كتب بين يدى المصطفى ردحا من الزمان , فامتثل بهذه المسؤولية , مستشعرا خطرها واحتمل فى سبيلها صنوف المشاق محتسبا عن الله أجرها .
فأنشأ يستنسخ ما كان مسطرا على هاتيك الآلات , مراعيا التوقيف عند ترتيب السور والآيات , وجعل أهل الإيمان يتنافسون فى مساعدته , ويتبارون فى مؤازرته {10} ومساندته , وطفق الناس يأتونه بما عندهم من مكتوب القرآن , وجعل يتسلمه منهم بعد أن يشهد على صحته شاهدان , ولم يمض عليه عام بتمامه حتى صار القرآن مودعا فى الصحف بكامل هيئته ونظامه , فقرت بذلك عين الإسلام , وصارت تلك الصحف فيما بعد أساسا للمصحف الإمام .{11} والذى كان جمع الناس عليه من مناقب ذى النورين عثمان إذ أفزعه ما بلغه من اختلاف الناس فى القرآن , وأنه إن ترك الناس وشأنهم تفرقوا كما تفرق الذين {12} من قبلهم , فحرج على من عنده شئ من القرآن إلا أحضره , وعمد إلى ما عدا المصحف الإمام فأتلفه , وأمر بأن يستنسخ من المصحف الإمام جملة نسخ فتفرق على الأقطار{13}ويبعث بنسخة واحدة إلى كل مصر من الأمصار , فتدارك الله بهذا الصنيع أمة الإسلام من الاختلاف فى كتابها , وعصمها من الإنقسام فيما أوحاه إلى نبيها , وأضحى رسم المصحف الإمام عند أهل العلم سنة متبعة , وعدت مخالفته من الأمور المبتدعة. وظل المصحف الإمام مجردا عما سوى القرآن دهرا , حتى إذا اتسعت {14}
الفتوح ودخلت أفواج الأعاجم فى الإسلام تترا , وتفش اللحن فى القران على ألسنة الناس , وكثرت الأخطاء منهم , وتعددت أسباب الإلتباس , اتجهت همم كثير من أهل العناية بنقط المصاحف وشكلها وتحسينها وتجويدها , وعمدوا إلى تخميسها , وتعشيرها , وتحزيبها , {15}وتجزئتها , وعنونتها , وترقيمها , ووضع لأسماء السور , وذكر لعددآياتها , وابتكار لرموز الوقوف والمدود , وغير ذلك مما يساعد على صحة التلاوة فيها , ولم تمض بضعة قرون حتى صارت علوم القرآن فنا مستقلا بذاته , له قواعده وأصوله المودعة فى مصنفاته .
فقد ألف فى المصاحف جمع كابن أشته , وابن أبى داود , وابن الأنبارى , وصنف فيها وفى علوم القرآن ابن سلام , وابن قتيبة , وابن المرزبان , والحوفى , وأبو عمرو الدانى , {17} وابن جوزى , والقرطبى , والنووى , وابن القيم , {18} والسخاوى , والشاطبى , وابن الجزرى , والزركشى , {19} والسيوطى , وخلق كثير غيرهم لا يتسع مثل هذا المقام لذكرهم . إلا أنه مما ينبغى التنبيه عليه , وتجدر الإشارة إليه , مادرج عليه جماهير الفقهاء فى مصنافتهم وتعارفوه فى الغالب الأعم من مؤلفاتهم من ذكر لبعض أحكام المصحف فى ثنايا الأبواب , وفى مظان قد تخفى على الكثير من الطلاب .. لذا شعرت بدعاء الحاجة إلى جمع هذه الأحكام فى جزء مفرد , ينتظم ماتناثر من فرائدها وتبدد , مع التنبيه على مواطن الخلاف فيها , ولو على سبيل الإشارة , والتنويه عن المعتمد من كل مذهب من الأربعة بأوجز عبارة , وعزو كل قول إلى قائله , ونسبة أى نقل إلى ناقله , حتى يكون الناظر فيه على بينه من أمره , ويتسنى لطالب المزيد الرجوع إلى مصادره . ولقد استخرت الله فى العمل على تحقيق ذياك المرام , وسألته خلوص النية , والسلامة من الآثام , وأن يغفر لى زلات هذا الجمع وهناته , ويهب سيئاته لحسناته .{20}ولإن كان هذا الجزء قد قصر عن بلوغ درجة الاستقصاء والاستيعاب , فلا أقل من أن يكون كالتذكرة لى ولأمثالى فى هذا الباب .
ولما كانت عادة الأسلاف قد جرت بتسمية كل مصنف , فقد سميت هذا العمل ب( المتحف فى أحكام المصحف ) مرتبا رؤوس مسائله على حروف الهجاء ملتمسا بذلك التسهيل على القراء مهيبا بكل من نظر فيه أن يدعو بالمغفرة لجماعه وممليه فقمن أن تستجاب دعوة بظاهر الغيب من مسلم لأخيه).{21}