قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (قد مضى فى أول هذا البحث ما يتعلق بتعريف المصحف من الناحية اللغوية مما أغنى عن إعادته هنا , والمتتبع للآثار فى كتب السنة يدرك أن لفظة المصحف كانت معروفة فى الأمم السابقة , كاسم لنوع من الكتب الشرعية , لا يتبادر إلى الذهن عن إطلاق المصحف كتب غيرها .{112}
تسمية المصحف بالقرآن :
وقد وردت تسمية مكتوب القرآن بالمصحف مرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن عمر وحديث عثمان ابن أبى العاص رضى الله عنهما , فقد أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف من عدة طرق حديث ابن عمر فى هذا المعنى .
وفى بعض ألفاظه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو " . وأخرج ابن أبى داود والطبرانى من حديث عثمان بن أبى العاص قال : ( كان فيما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتمس المصحف وأنت غير طاهر ). وأخرجه الشوكانى أيضا فى السيل الجرار من طريق الطبرانى .
وقد ذكر بعض المصنفين فى الأوائل أن أول من سمى القرآن مصحفا , وأول من جمعه هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه . وحكى الشبلى فى محاسن الوسائل {113}
أن أول من سمى المصحف مصحفا عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود . رواه ابن وهب فى الجامع . وقال الزركشى فى البرهان : ( فائدة : ذكر المظفرى فى " تاريخه " : لما جمع أبو بكر القرآن قال : سموه , فقال بعضهم : سموه إنجيلا , فكرهوه . وقال بعضهم : سموه السفر , فكرهوه من يهود . فقال ابن مسعود : رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف , فسموه به ).
وحكاه أبو شامة فى المرشد الوجيز . وذكر السيوطى فى كتابه معترك الأقران فى إعجاز القرآن نحوا من عبارة الزركشى , ثم قال : لما جمعوا القرآن فكتبوه فى الورق , قال أبو بكر : التمسوا له اسما . فقال بعضهم : السفر , وقال بعضهم : المصحف , فإن الحبشة يسمونه المصحف , وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف ). ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة .
وقال السيوطى فى الإتقان : ( قلت : ومن الغريب ما ورد فى أول من جمعه , ما أخرجه ابن أشته فى كتاب المصاحف من طرق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من {114}
جمع القرآن فى مصحف سالم مولى أبى حذيفة , أقسم ألا يرتدى برداء حتى يجمعه فجمعه , ثم أئتمروا ما يسمونه . فقال بعضهم : سموه السفر , قال ذلك تسمية اليهود فكرهوه . فقال : رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف , فاجتمع رأيهم أن يسموه المصحف . إسناده منقطع أيضا , وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبى بكر ). وعزاه الكتانى فى التراتيب الإدارية إلى ابن أبى داود فى كتاب المصاحف ولم أقف عليه فيه حسب النسخة المتوفرة لدى
الفرق بين المصحف والصحف :
قال الحافظ فى الفتح: ( والفرق بين الصحف والمصحف , أن الصحف الأوراق المجردة التى جمع فيها القرآن فى عهد أبى بكر , وكانت سورا مفرقة , كل سورة مرتبة بآياتها على حدة , لكن لم يرتب بعضها إثر بعض , فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفا , وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة )
ماهية المصحف الذى تتعلق به الأحكام:
لاخلاف بين أهل العلم فى أن المصحف الكامل هو الذى تتعلق به الأحكام الخاصة بالمصحف , بيد أنهم اختلفوا فيما دون المصحف الكامل , فمنهم من علق الأحكام على ما كان منه جزءا له بال . {115}
ومنهم من أعطى مسمى المصحف للصحيفة فيها ثلاث آيات من القرآن فصاعدا , شريطة أن تتجرد قرآنية المكتوب فى تلك الصحيفة حتى تكون على هيئة المصحفية , بمعنى أن يقصد بإثبات القرآن فيها قراءته ودرسه , وأن يراد بكتابة القرآن فيها الثبات والدوام .
ومنهم من لم يعتبر إلا مجرد قصد القراءة بالكتابة , فأعطوا الألواح التى يتعلم بها الصبيان حكم المصاحف .
ومنهم من فرق بين ما كان معتادا من الألواح , وبين ما كبر منها جدا , كباب كبير مثلا , فجعل لأول حكم المصحف , وقصر الحكم فى الثانى على النقوش فحسب , حتى جوز بعضهم كأبى الوفاء بن عقيل فى فنونه الجلوس على بساط مكتوب على حواشيه قرآن , قال لعدم شمول اسم المصحف له . وقد نقله ابن مفلح نقل المستغرب له قائلا : ( كذا قال ) على أن ابن مفلح قد عبر عن القول بقصر حكم المصحف على النقوش دون الخالى منه بعبارة قيل إشارة إلى تضعيفه .{116}
وقد سوت طائفة من أهل العلم بين المصحف الكامل وبين أى قدر منه فى الحكم , وإن كان آية واحدة , بل ألحق بعضهم بحكم الآية الجملة من القرآن . وبالغ فريق منهم , فعدى الحكم إلى الحروف , وأثبت حكم المصحف لكل حرف من القرآن كتب مجردا عن غيره بقصد الدرس والتلاوة لا بقصد التبرك كالمكتوب فى التمائم والتعاويذ وطرز الثياب , والمنقوش على الدراهم مثلا . ولم يظهر لى وجه التفريق بين ذلك كله , نعم تخرج الآية والآيتان فى الرسائل والكتب لفعله صلى الله عليه وسلم فى مكاتباته لملوك الأرض على سبيل الدعوة , وتبليغ الشريعة .
وقد يأتى لهذه التفريعات مزيد بيان فى مظانها من هذا البحث , إن شاء الله تعالى). {117}