العقل لا يمكنه تعرُّف كُنه الصفة وكيفيتها
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( [الخامسُ والعشرونَ]: (أنَّ العقلَ... [لا يُمْكِنُه] تَعرُّفُ كُنْهِ الصفةِ وكَيفيَّتِها. فإنَّهُ لا يَعْلَمُ كيفَ اللهُ إلاَّ اللهُ، وهذا معنى قولِ السلَفِ: "بِلا كَيْفٍ" أيْ: بلا كيفٍ يَعْقِلُهُ البَشَرُ. فإنَّ مَنْ لا تُعْلَمُ حَقيقةُ ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ، كيفَ تُعْرَفُ كَيفيَّةُ نُعوتِهِ وصِفاتِهِ؟! ولا يَقدَحُ ذلكَ في الإيمانِ بها، ومَعرِفَةِ مَعانِيهَا؛ فالكيفيَّةُ وراءَ ذلكَ، كما أنَّا نَعرِفُ مَعانِيَ ما أَخْبَرَ اللهُ بهِ مِنْ حقائقِ ما في اليومِ الآخرِ، ولا نَعْرِفُ حقيقةَ كيفيَّتِهِ، معَ قُرْبِ ما بينَ المخلوقِ والمخلوقِ. فعَجْزُنَا عنْ مَعرِفَةِ كيفيَّةِ الخالقِ وصفاتِهِ أَعظمُ وأَعظَمُ. فكيفَ يَطمَعُ العقلُ المخلوقُ المحصورُ المحدودُ في مَعرِفَةِ كيفيَّةِ مَنْ لهُ الكمالُ كلُّهُ، والجمالُ كلُّهُ، والعلْمُ كُلُّهُ، والقُدرةُ كلُّها والعظمةُ كلُّها، والكبرياءُ كلُّها؟ مَنْ لوْ كَشَفَ الْحِجابَ عنْ وَجْهِهِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ السماواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينَهما وما وراءَ ذلكَ؟ الذي يَقْبِضُ سماواتِهِ بيدِهِ، فتَغيبُ كما تَغيبُ الْخَردلةُ في كَفِّ أَحَدِنا؟ الذي نِسبةُ علومِ الخلائقِ كلِّها إلى عِلْمِهِ أقَلُّ مِنْ نِسبةِ نَقرةِ عُصفورٍ مِنْ بِحارِ العِلْمِ؟ الذي لوْ أنَّ البحرَ - يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سبعةُ أَبْحُرٍ – مِدادٌ، وأشجارَ الأرضِ - مِنْ حينَ خُلِقَت إلى قيامِ الساعةِ - أقلامٌ: لفَنِيَ الْمِدادُ وفَنِيَت الأقلامُ، ولَمْ تَنْفَدْ كَلماتُهُ؟ الذي لوْ أنَّ الخلْقَ مِنْ أَوَّلِ الدنيا إلى آخرِها - إنْسَهم وجِنَّهُم، وناطقَهم وأَعجمَهم- جُعِلوا صَفًّا واحداً: ما أَحاطُوا بهِ سُبحانَهُ؟ الذي يَضَعُ السماواتِ على إِصبعٍ مِنْ
أَصابعِهِ، والأرضَ على إِصْبَعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والأشجارَ على إصبعٍ. ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ. ثُمَّ يقولُ: أنا الْمَلِكُ؟
فقاتَلَ اللهُ الْجَهْمِيَّةَ والمُعَطِّلَةَ! أينَ التشبيهُ هاهنا؟ وأينَ التمثيلُ؟ لقد اضْمَحَلَّ هاهنا كلُّ موجودٍ سِواهُ. فَضْلاً عنْ أن يكونَ لهُ ما يُمَاثِلُهُ في ذلكَ الكمالِ، ويُشابِهُهُ فيهِ.
فسُبحانَ مَنْ حَجَبَ عُقولَ هؤلاءِ عنْ مَعرفتِهِ، ووَلاَّهَا ما تَوَلَّتْ مِنْ وُقوفِها معَ الألفاظِ التي لا حُرْمَةَ لها، والمعاني التي لا حقائقَ لها.
ولَمَّا فَهِمَتْ هذهِ الطائفةُ مِن الصِّفَاتِ الإلهيَّةِ ما تَفْهَمُهُ مِنْ صفاتِ المخلوقينَ فَرَّتْ إلى إنكارِ حقائقِها، وابتغاءِ تَحريفِها وسَمَّتْهُ تَأْوِيلاً. فشَبَّهَتْ أَوَّلاً، وعَطَّلَتْ ثانياً، وأَساءَت الظَّنَّ برَبِّها وبكتابِهِ وبِنَبِيِّهِ وبِأَتْبَاعِهِ.
- أمَّا إساءةُ الظنِّ بالرَّبِّ: فإنَّها عَطَّلَتْ صفاتِ كمالِهِ، ونسَبَتْهُ إلى أنَّهُ أَنْزَلَ كتاباً مُشْتَمِلاً على ما ظاهِرُهُ كفْرٌ وباطلٌ، وأنَّ ظاهِرَهُ وحقائقَهُ غيرُ مُرادِهِ.
- وأمَّا إساءةُ ظَنِّها بالرسولِ: فلأنَّهُ تَكَلَّمَ بذلكَ وقَرَّرَهُ وأَكَّدَهُ، ولم يُبَيِّنْ للأُمَّةِ أنَّ الحقَّ في خِلافِهِ وتأويلِهِ.
- وأمَّا إساءةُ ظَنِّها بأَتْبَاعِهِ: فبِنسبتِهم لهم إلى التشبيهِ والتمثيلِ، والجهْلِ والْحَشْوِ.
وهم عندَ أَتباعِهِ أَجْهَلُ مِنْ أن يُكَفِّروهم، إلاَّ مَنْ عانَدَ الرسولَ، وقَصَدَ نَفيَ ما جاءَ بهِ. والقومُ عندَهم في خَفَارةِ جَهْلِهم، قدْ حُجِبَتْ قلوبُهم عنْ مَعرفةِ اللهِ وإثباتِ حقائقِ أسمائِهِ وأوصافِ كمالِه)([61]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([61]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/ 335-336).