تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) )
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {يا أهل الكتاب}
- أخبرنا محمّد بن عليّ بن الحسن، قال: أبي، أخبرنا عن الحسين، عن يزيد، وأخبرنا محمّد بن عقيلٍ، أخبرنا عليّ بن الحسين، حدّثني أبي، حدّثني يزيد النّحويّ، حدّثني عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: " من كفر بالرّجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، وذلك قول الله تعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثيرٍ} [المائدة: 15] فكان ممّا أخفوا الرّجم "). [السنن الكبرى للنسائي: 10/79]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثيرٍ قد جاءكم من اللّه نورٌ وكتابٌ مبينٌ}
يقول عزّ ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنّصارى الّذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، قد جاءكم رسولنا، يعني محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم.
كما:.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا} وهو محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقوله: {يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون من الكتاب} يقول: يبيّن لكم محمّدٌ رسولنا كثيرًا ممّا كنتم تكتمونه النّاس ولا تبيّنونه لهم ممّا في كتابكم. وكان ممّا يخفونه من كتابهم فبيّنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للنّاس: رجم الزّانين المحصنين.
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في تبيين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للنّاس من إخفائهم ذلك من كتابهم.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: من كفر بالرّجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرًا ممّا كنتم تخفون من الكتاب} فكان الرّجم ممّا أخفوا.
- حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن شبّويه، أخبرنا عليّ بن الحسين، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، مثله.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الوهّاب الثّقفيّ، عن خالدٍ الحذّاء، عن عكرمة، في قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم} إلى قوله: {صراطٍ مستقيمٍ} [البقرة] قال: إنّ نبيّ اللّه أتاه اليهود يسألونه عن الرّجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال: سل عمّا شئت. قال: أنت أعلمهم؟ قال: إنّهم ليزعمون ذلك. قال: فناشده بالّذي أنزل التّوراة على موسى، والّذي رفع الطّور، وناشده بالمواثيق الّتي أخذت عليهم، حتّى أخذه أفكلٌ، فقال: إنّ نساءنا نساءٌ حسانٌ، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أخصورةً، فجلدنا مائةً، وحلقنا الرّءوس، وخالفنا بين الرّءوس إلى الدّوابّ، أحسبه قال: الإبل، قال: فحكم عليهم بالرّجم، فأنزل اللّه فيهم: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم} الآية، وهذه الآية: {وإذا خلا بعضهم إلى بعضٍ قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم}
قوله: {ويعفو عن كثيرٍ} يعني بقوله ويعفو: ويترك أخذكم بكثيرٍ ممّا كنتم تخفون من كتابكم الّذي أنزله اللّه إليكم، وهو التّوراة، فلا تعملون به حتّى يأمره اللّه بأخذكم به). [جامع البيان: 8/261-263]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قد جاءكم من اللّه نورٌ وكتابٌ مبينٌ}
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء الّذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التّوراة والإنجيل من اللّه نورٌ، يعني بالنّور محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، الّذي أنار اللّه به الحقّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشّرك فهو نورٌ لمن استنار به يبيّن الحقّ، ومن إنارته الحقّ تبيينه لليهود كثيرًا ممّا كانوا يخفون من الكتاب.
وقوله: {وكتابٌ مبينٌ} يقول جلّ ثناؤه: قد جاءكم من اللّه تعالى النّور الّذي أنار لكم به معالم الحقّ. {وكتابٌ مبينٌ} يعني: كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم من توحيد اللّه وحلاله وحرامه وشرائع دينه، وهو القرآن الّذي أنزله على نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، يبيّن للنّاس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ويوضّحه لهم، حتّى يعرفوا حقّه من باطله). [جامع البيان: 8/263-264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم * لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: لما أخبر الأعور سمويل بن صوريا الذي صدق النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الرجم أنه في كتابهم وقال: لكنا نخفيه فنزلت {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} وهو شاب أبيض طويل من أهل فدك.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم {يبين لكم كثيرا} يقول: يبين لكم محمد رسولنا كثيرا مما كنتم تكتمونه الناس: ولا تبينونه لهم مما في كتابكم وكان مما يخفونه من كتابهم فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: رجم الزانيين المحصنين.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال: أيكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق التي أخذت عليهم هل تجدون الرجم في كتابكم فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فانزل الله {يا أهل الكتاب} إلى قوله {صراط مستقيم}.
وأخرج ابن الضريس والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} قال: فكان الرجم مما أخفوا.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {ويعفو عن كثير} من ذنوب القوم جاء محمد بإقالة منها وتجاوز أن اتبعوه.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} قال: سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عمل إلا به لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية، والله تعالى أعلم). [الدر المنثور: 5/236-238]
تفسير قوله تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) )
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ (15) يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السّلام} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن عمرٍو، سمع عبيد بن عمير، يقرأ: {يهدي به اللّه}، قال سعيدٌ: لغةٌ). [سنن سعيد بن منصور: 4/1450]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ}
يعني عزّ ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الّذي جاء من اللّه جلّ جلاله، ويعني بقوله: {يهدي به اللّه} يرشد به اللّه ويسدّد به. والهاء في قوله به عائدةٌ على الكتاب {من اتّبع رضوانه} يقول: من اتّبع رضا اللّه.
واختلف في معنى الرّضا من اللّه جلّ وعزّ، فقال بعضهم: الرّضا منه بالشّيء: القبول له والمدح والثّناء. قالوا: فهو قابلٌ الإيمان ومزكٍّ له، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان، وواصفٌ الإيمان بأنّه نورٌ وهدًى وفصلٌ.
وقال آخرون: معنى الرّضا من اللّه جلّ وعزّ معنًى مفهومٌ، هو خلاف السّخط، وهو صفةٌ من صفاته على ما يعقل من معاني الرّضا، الّذي هو خلاف السّخط، وليس ذلك بالمدح، لأنّ المدح والثّناء قولٌ، وإنّما يثنى ويمدح ما قد رضي؛ قالوا: فالرّضا معنًى، والثّناء والمدح معنًى ليس به.
ويعني بقوله: {سبل السّلام} طرق السّلام، والسّلام هو اللّه عزّ ذكره.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {من اتّبع رضوانه سبل السّلام} سبيل اللّه الّذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الّذي لا يقبل من أحدٍ عملاً إلاّ به، لا اليهوديّة، ولا النّصرانيّة، ولا المجوسيّة). [جامع البيان: 8/264-265]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه}
يقول عزّ ذكره: يهدي اللّه بهذا الكتاب المبين من اتّبع رضوان اللّه إلى سبل السّلام، وشرائع دينه {ويخرجهم} يقول: ويخرج من اتّبع رضوانه، والهاء والميم في: {ويخرجهم} من ذكر {من الظّلمات} إلى النّور، يعني: من ظلمات الكفر والشّرك إلى نور الإسلام وضيائه بإذنه، يعني: بإذن اللّه جلّ وعزّ. وإذنه في هذا الموضع تحبيبه إيّاه الإيمان برفع طابع الكفر عن قلبه، وخاتم الشّرك عنه، وتوفيقه لإبصار سبل السّلام). [جامع البيان: 8/265]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ}
يعني عزّ ذكره بقوله: {ويهديهم} ويرشدهم ويسدّدهم {إلى صراطٍ مستقيمٍ} يقول: إلى طريقٍ مستقيمٍ، وهو دين اللّه القويم الّذي لا اعوجاج فيه). [جامع البيان: 8/266]