العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > التفسير اللغوي > جمهرة التفسير اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 7 شعبان 1431هـ/18-07-2010م, 02:48 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي التفسير اللغوي لسورة البقرة


التفسير اللغوي لسورة البقرة



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 10:55 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي الآيات من 1 إلى 5]

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

تفسير قوله تعالى: {الم (1)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب...} الهجاء موقوف في كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزماً، إنما هو كلام جزمه نّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر، وإنما قرأت القرّاء :{الم * الله} في "آل عمران" ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل م الله " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزماً مستحقّاً للجزم لكسرت، كما في {قيل ادخل الجنة}، وقد قرأها رجل من النحويين، وهو: أبو جعفر الرؤاسيّ -وكان رجلاً صالحاً- : {الم الله} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة، قال الفراء: وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف.
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و"ن" و"ق" كان فيه وجهان في العربية؛ إن نويت به الهجاء: تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً للسورة أو في مذهب قسم: كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و"وقاف" وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون"، فقلت: "نون والقلم" و"صاد والقرآن" و"قاف"؛ لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا "رجلان"، فخفضوا النون من رجلان؛ لأن قبلها ألفاً، ونصبوا النون في "المسلمون والمسلمين" ؛ لأن قبلها ياء وواواً، وكذلك فافعل بـ "ياسين والقرآن"، فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها، وكذلك "حم" و"طس"، ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم"؛ لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل، ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل : "الم" و"المر" ونحوهما). [معاني القرآن: 1/9-10]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الم} سكّنت الألف واللام والميم؛ لأنه هجاء، ولا يدخل في حروف الهجاء إعراب، قال أبو النّجم العجليّ:


أقبلت من عند زياد كالخرف
=
أجرّ رجليّ بخٍطّ مخٌتلف
=
كأنمّا تكتّبان لام ألف
فجزمه؛ لأنه هجاء، ومعنى {الم}: افتتاح مبتدأ كلامٍ، شعار للسورة). [مجاز القرآن: 1/28]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الم} أما قوله: {الم} فإن هذه الحروف أسكنت؛ لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجاً لو عطف بحرف العطف، وذلك إن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "ألف باء تاء ثاء" ويقولون: "ألفٌ وباءٌ وتاءٌ وثاءٌ"، وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "واحد اثنان ثلاثه"، وبذلك على أنه ليس بمدرج قطع ألف "اثنين" وهي من الوصل، فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله، ومثل ذلك: {المص} و{الر} و{المر} و{كهيعص} و{طسم} و{يس} و{طه} و{حم} و{ق} و{ص} إلا أن قوماً قد نصبوا {يس} و{طه} و{حم} وهو كثير في كلام العرب، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية "هابيل" و"قابيل"، فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال: "اذكر حم وطس ويس"، أو جعلوها كالأسماء التي هي غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح "أين"، وكقول بعض الناس {الحمد للّه}، وقرأ بعضهم {ص} و{ن} و{ق} بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة، فصارت أسماء مؤنثة، ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكناً نحو "هند" و"جمل" و"دعد"، قال الشاعر:

وإني لأهوى بيت هندٍ وأهلها = على هنواتٍ قد ذكرن على هند
وهو يجوز في هذه اللغة، أو يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر وإذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف، فجعل {ص} وما أشبهها اسماً للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقال بعضهم "صاد والقرآن" فجعلها من "صاديت" ثم أمر كما تقول "رام"، كأنه قال: "صاد الحقّ بعملك" أي: تعمده، ثم قال: {والقرآن} فأقسم، ثم قال: {بل الّذين كفروا في عزّةٍ وشقاقٍ} فعلى هذا وقع القسم، وذلك أنهم زعموا أن "بل" هاهنا إنما هي "أن" ؛ فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: "إنما هي حروف يستفتح بها"، فإن قيل "هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى؟" فإن معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:

...... = بل وبلدةٍ ما الإنس من أهّالها
أو يقول

....... = بل ما هاج أحزاناً وشجواً قد شجا
فـ"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر، وقال قوم: إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتى بعض الناس علم ذلك؛ وذلك أن بعضهم كان يقول: "الر" و"حم" و"ن" هذا هو اسم "الرحمن" جل وعزّ، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا أن قوله: {كهيعص} كاف هاد عالم صادق، فاظهر من كل اسم منها حرفًا ليستدل به عليها، فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى؛ لأنه يريد معنى الحروف، ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن {الم} و{طسم} و{كهيعص} ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال: {الم * اللّه لا إله إلاّ هو} فالميم مفتوحة؛ لأنها لقيها حرف ساكن، فلم يكن من حركتها بد، فإن قيل: "فهلا حركت بالجر؟" فإن هذا لا يلزم فيها و إنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز، ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم: فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها، وقالوا: منَ الرجل؟، ففتحوا لاجتماع الساكنين، ويقولون: "هل الرجل" و"بل الرجل"، وليس بين هذين وبين "من الرجل" فرق إلا أنهم قد فتحوا "من الرجل" لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا {إذ الظّالمون} وقد اجتمعت كسرتان؛ لأن من أكثر استعمالاً في كلامهم من "إذ"، فأدخلوها الفتح ليخف عليهم، وإن شئت قلت "الم" حروف منفصل بعضها من بعض؛ لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضاً منفصلة مما بعدها، فالأصل فيه أن تقول:{الم ألله} فتقطع ألف {الله} إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت "واحد، اثنان" فقطعت، وكما قرأ القراء {ن والقلم} فبينوا النون لأنها منفصلة، ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة ألا ترى أنك تقول "خذه من زيد" و "خذه من عمرو"، فتبين النون في "عمرو" ولا تبين في "زيد"، فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح: جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف، وتحذف الألف في لغة من قال: "من أبوك" فلا تقططع، وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج فقالوا {نون والقلم} فأثبتوا النون ولم يبينوها، وقالوا: {يس والقرآن} فلم يبينوا أيضاً، وليست هذه النون ههنا بمنزلة قول {كهيعص} و{طس تلك} و{حم عسق} فهذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد؛ لأن النون قريبة من الصاد؛ لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان، وكذلك التاء والسين في {طس تلك} وفي {حم عسق}، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها، وتبينت النون في {يس} و{نون} لبعد النون من الواو؛ لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين). [معاني القرآن: 1/15]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الم} فما أشبهها من " قاف" و" صاد " فواتح للسور). [غريب القرآن وتفسيره: 63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({الم} قد ذكرت تأويله وتأويل غيره من الحروف المقطعة في كتاب: «المشكل»).
[تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله تبارك وتعالى: {الم}، زعم أبو عبيدة معمر بن المثنى أنّها -حروف الهجاء- افتتاح كلام، وكذلك: {المر} و {المص}، وزعم أبو الحسن الأخفش أنّها افتتاح كلام، ودليل ذلك أن الكلام الذي ذكر قبل السورة قد تم.
وزعم قطرب أن:{الم} و{المص} و{المر} و{كهيعص} و{ق} و{يس} و{نون} حروف المعجم ذكرت؛ لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث، فجاء بعضها مقطعاً وجاء تمامها مؤلفاً؛ ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال: للّه في كل كتاب سر، وسره في القرآن حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
ويروى عن ابن عباس ثلاثة أوجه في {الم} وما أشبهها، فوجه منها أنه قال: " أقسم اللّه بهذه الحروف أن هذا الكتاب الّذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: هو الكتاب الذي عنده، عزّ وجلّ لا شك فيه" ، والقول الثاني عنه أن: "{الر} و {حم} و {نون} اسم للرحمن عزّ وجلّ مقطع في اللفظ موصول في المعنى".
والثالث عنه أنّه قال: " {الم} معناه: أنا اللّه أعلم، و{الر} معناه: أنا الله أرى، و{المص} معناه: أنا الله أعلم وأفصل، و{المر} معناه: أنا الله أعلم وأرى".
فهذا جميع ما انتهى إلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى {الم}، وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب {الم} و {الر} و {كهيعص} وما أشبه هذه الحروف، هذا باب حروف التهجي، وهي: الألف والباء والتاء والثاء، وسائر ما في القرآن منها.
فإجماع النحويين أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب، ومعنى قولنا "مبنية على الوقف" أنك تقدر أن تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها: جمعك بين ساكنين في قولك: (لام) وفي قولك (ميم).
والدّليل على أن حروف الهجاء مبنيّة على السكت كما بني العدد على السكت: أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحد، اثنان، ثلاثه، أربعه، ولولا أنك تقدر السكت لقلت: (ثلاثة) بالتاء كما تقول: ثلاثاً يا هذا، فتصير الهاء تاء مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زعم سيبويه أنك أردت أن المعجم حروف يحكى بها ما في الأسماء المؤلفة من الحروف فجرى مجرى ما يحكى به نحو: «غاق» وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغراب.
والدليل أيضاً على أنها موقوفة قول الشاعر:

أقبلت من عند زياد كالخرف
=
تخطّ رجلاي بخط مختلف
=
تكتبان في الطريق لام ألف
كأنه قال: لام ألف، بسكون "لام" ولكنه ألقى حركة همزة " ألف" على الميم، ففتحها.
قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها: أنها ليست تجري مجرى الأسماء المتمكنة، والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب، وإنما هي تقطيع الاسم المؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه إلا مع كماله، فقولك "جعفر" لا يجب أن تعرب منه الجيم ولا العين ولا الفاء ولا الراء، دون تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وضعت على هذه الحروف، فإن أجريتها مجرى الأسماء وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسن.
وكذلك سائر حروف المعجم، فمن قال: هذه كاف أنث لمعنى الكلمة، ومن ذكر فلمعنى الحرف، والإعراب وقع فيها؛ لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر:

......... = كافا وميمين وسينا طاسما
وقال أيضاً:

.......... = كما بينت كاف تلوح وميمها
ذكر طاسماً؛ لأنه جعله صفة للسين، وجعل السين في معنى الحرف،
وقال: (تلوح)، فأنث الكاف، ذهب بها مذهب الكلمة، قال الشاعر -يهجو النحويين، وهو يزيد بن الحكم-:

إذا اجتمعوا على ألف وواو = وياء لاح بينهمو جدال
فأما إعراب (أبي جاد) و (هوز) و (حطي)، فزعم سيبويه أن هذه معروفات الاشتقاق في كلام العرب، وهي مصروفة، تقول: علمت أبا جاد وانتفعت بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانتفعت بـ(هوز)، وكذلك (حطي)، وهن مصروفات منوّنات.
فأما (كلمون) و (سعفص) و (قريشيات)، فأعجميات، تقول: هذه كلمون يا هذا، وتعلمت كلمون، وانتفعت بكلمون، وكذلك (سعفص)، فأما قريشيات؛ فاسم للجمع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هذه قريشيات يا هذا، وعجبت من قريشيات يا هذا.
ولقطرب قول آخر في {الم}: زعم أنه يجوز: لما لغا القوم في القرآن، فلم يتفهموه حين قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} أنزل ذكر هذه الحروف، فسكتوا لمّا سمعوا الحروف؛ طمعاً في الظفر بما يحبون؛ ليفهموا بعد الحروف القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق: والذي أختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله عزّ وجلّ {الم}: بعض ما يروى عن ابن عباس رحمة اللّه عليه.
وهو أن المعنى: {الم}: أنا اللّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره. والدليل على ذلك : أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها. قال الشاعر:

قلنا لها قفي قالت قاف = لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف
فنطق بقاف فقط، يريد قالت: أقف.
وقال الشاعر أيضاً:

نادوهمو أن الجموا ألا تا = قالوا جميعا كلهم ألا فا
تفسيره: نادوهموا أن الجموا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فاركبوا.
فإنما نطق بتاء وفاء كما نطق الأول بقاف.
وأنشد بعض أهل اللغة للقيم بن سعد بن مالك:

إن شئت أشرفنا كلانا فدعا = اللّه ربا جهده فاسمعا
بالخير خيرات وإن شرا فآي = ولا أريد الشر إلا أن تآء
وأنشد النحويون:

بالخير خيرات وإن شرا فا= ولا أريد الشر إلا إن تا
يريدون: إن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
أنشد جميع البصريين ذلك، فهذا الذي أختاره في هذه الحروف، واللّه أعلم بحقيقتها.
فأما {ص}؛ فقرأ الحسن: "صادِ والقرآن"، فكسر الدال، فقال أهل اللغة: معناه: صاد القرآن بعملك، أي: تعمّده، وسقطت الياء للأمر، ويجوز أن تكون كسرت الدال لالتقاء السّاكنين إذا نويت الوصل,، وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إسحاق: "صاد والقرآن"، وقرأ أيضا "قاف والقرآن المجيد".
فالكسر في مذهب بن أبي إسحاق لالتقاء السّاكنين.
وقرأ عيسى بن عمر: "صادَ والقرآن" بفتح الدّال، وكذلك قرأ "نون والقلم " و" قاف والقرآن " بالفتح أيضًا، لالتقاء السّاكنين.
قال سيبويه: إذا ناديت أسحار، والأسحارّ اسم نبت -مشدد الراء-، قلت في ترخيمه: يا أسحارَ أقبل، ففتحت لالتقاء الساكنين كما اخترت الفتح في قولك: عضَّ يا فتى، فإتباع الفتحة الفتحة كإتباع الألف الفتحة، ويجوز: يا أسحارِ أقبل، فتكسر لالتقاء الساكنين.
وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون "صاد" و"قاف" و"نون" أسماء للسور منصوبة إلا أنها لا تصرف كما لا تصرف جملة أسماء المؤنث.
والقول الأول أعني التقاء السّاكنين، والفتح والكسر من أجل التقائها أقيس؛ لأنه يزعم أنه ينصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صاد.
وكذلك يجيز في {حم} و{طس} النصب و{ياسين} أيضاً على أنها أسماء للسور، ولو كان قرئ بها؛ لكان وجهه الفتح لالتقاء السّاكنين.
فأما {كهيعص} فلا تبين فيها النون مع الصاد في القراءة، وكذلك {حم * عسق} لا تبين فيها النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبين النون؛ لقرب مخرجها من السين والصاد.
فأما {نون * والقلم} فالقراءة فيها تبيين النون مع الواو التي في {والقلم} وبترك التبيين، إن شئت بينت وإن شئت لم تبيّن، فقلت "نون والقلم"؛ لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزّ وجلّ {الم اللّه}: ففي فتح الميم قولان:
أحدهما لجماعة من النحويين: وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف، فيجب بعدها قطع ألف الوصل، فيكون الأصل: "أ. ل. م. اللّه لا إله إلا هو"، ثم طرحت فتحة الهمزة على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحد. اثنان، وإن شئت قلت: واحدِ. اثنان فألقيت كسرة "اثنين" على الدال.
وقال قوم من النحويين: لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن، فلا بد من فتحة الميم في: {الم اللّه} لالتقاء السّاكنين، يعني: الميم واللام والتي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
فأمّا من زعم أنه إنما ألقي حركة الهمزة فيجب أن يقرأ: {الم الله} وهذا لا أعلم أحداً قرأ به إلا ما ذكر عن الرؤاسي، فأما من رواه عن عاصم؛ فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين: لو كانت محركة لالتقاء السّاكنين لكانت مكسورة، وهذا غلط، لو فعلنا في التقاء السّاكنين إذا كان الأول منهما ياء لوجب أن تقول: "كيف زيد وابن زيد" وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح؛ لثقل الكسرة بعد الياء). [معاني القرآن: 1/55-66]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (من ذلك قوله تعالى: {الم} اختلف أهل التفسير وأهل اللغة في معنى {الم} وما أشبهها .
قال: فحدثنا عبد الله بن إبراهيم البغدادي بالرملة، قال: حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي أبو عمرو، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى {الم}، قال: "أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل".
وروى أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله.
وشرح هذا القول: أن الألف تؤدي عن معنى "أنا"، واللام تؤدي عن اسم الله جل وعز، والميم تؤدي عن معنى "أعلم".
ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ويقول: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى .
وحدثنا بكر بن سهل، قال: حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " {المص} و{طه} و{طس} و{طسم} و{يس} و{ص} و{حم عسق} و} و{ن والقلم} وأشباه هذا هو قسم أقسم الله به وهن من أسماء الله تعالى" .
وروى ابن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال: "{الم} قسم".
وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى {الم}، قال: "اسم من أسماء القرآن".
وروي عن مجاهد قولان:
قال أبو عبيد: حدثنا أبو مهدي، عن سفيان، عن خصيف أو غيره: هكذا، قال: عن مجاهد، قال -في كله- : "هي فواتح السور" .
والقول الآخر: حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري، قال: حدثني محمد بن بحر، قال: حدثنا موسى، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: " {الم} اسم من أسماء القرآن".
قال أبو العباس: وهو اختياره، روي عن بعض أهل السلف أنه قال: هي تنبيه. وقال أبو عبيده والأخفش: هي افتتاح كلام.
وقطرب يذهب إلى أنها جيء بها؛ لأنهم كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا {الم} و{المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له، أقبل عليهم بالقرآن المؤلف، ليثبت في أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم.
وقال الفراء: المعنى: هذه الحروف يا محمد: ذلك الكتاب.
وقال أبو إسحاق: ولو كان كما قال لوجب أن يكون بعده ابدأ ذلك الكتاب أو ما أشبهه.
وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض؛ لأنه يجوز أن تكون أسماء للسورة، وفيها معنى التنبيه.
فأما القسم فلا يجوز؛ لعلة أوجبت ذلك من العربية.
وأبين هذه الأقوال: قول مجاهد الأول: "أنها فواتح السور"، وكذلك قول من قال: "هي تنبيه"، وقول من قال: "هي افتتاح كلام"، ولم يشرحوا ذلك بأكثر من هذا؛ لأنه ليس من مذهب الأوائل، وإنما باقي الكلام عنهم مجملاً، ثم تأوله أهل النظر على ما يوجبه المعنى.
ومعنى "افتتاح كلام" و"تنبيه": أنها بمنزلة "ها" في التنبيه و"يا" في النداء، والله تعالى أعلم بما أراد.
وقد توقف بعض العلماء عن الكلام فيها وأشكالها، حتى قال الشعبي: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح السور.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله تعالى بها). [معاني القرآن: 1/73-78]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: وفواتح السور قد كثر الاختلاف في ذلك، فقيل: هي فواتح، وقيل: هي أحرف مأخوذة من أسماء الله تعالى، كالصاد من صادق، والعين من عليم ونحوه، وقيل: هي أقسام، وقيل: هي أسماء للسور، وقيل: هي مما لا يعلم تأويله إلا الله، وقيل: تنبيه، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "{الم} الألف الله، واللام جبريل، والميم محمد". روي ذلك عن عطاء والضحاك. وكل ما ذكرنا في تفسير أوائل السور عن ابن عباس؛ فهو مما رواه عنه عطاء والضحاك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 23-24]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: أنا الله أعلم). [العمدة في غريب القرآن: 69]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله تعالى: {ذلك الكتاب...} يصلح فيه "ذلك" من جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، والآخر أن يكون "ذلك" على معنى يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و"ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه، ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضي كالغائب، ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان "ذلك": "هذا"، و لا مكان "هذا": "ذلك"، وقد قال الله جل وعز: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق} إلى قوله: {وكلّ من الأخيار}، ثم قال: {هذا ذكرٌ}.
وقال جلّ وعزّ في موضع آخر: {وعندهم قاصرات الطّرف أترابٌ}، ثم قال: {هذا ما توعدون ليوم الحساب}،
وقال جلّ ذكره: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ}، ثم قال: {ذلك ما كنت منه تحيد}،
ولو قيل في مثله من الكلام في موضع "ذلك": "هذا"، أو في موضع "هذا": "ذلك" لكان صواباً، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: (هذا فذوقوه)، وفي قراءتنا: {ذلكم فذوقوه}.
فأما مالا يجوز فيه "هذا" في موضع "ذلك"، ولا "ذلك" في موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: من هذا الذي معك؟، ولا يجوز هاهنا: "من ذلك؟" ؛ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: {هدىً لّلمتّقين...}: فإنه رفع من وجهين، ونصب من وجهين:-
إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهدى في موضع رفع؛ لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه.
وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره، رفعت أيضاً {هدىً} تجعله تابعاً لموضع: {لا ريب فيه} كما قال الله عزّ وجلّ: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا.
وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء: {الم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدًى ورحمةٌ للمحسنين} بالرفع والنصب، وكقوله في حرف عبد الله: (ءألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخٌ) وهي في قراءتنا: {شيخاً}.
فأما النصب في أحد الوجهين: فأن تجعل "الكتاب" خبرًا لـ"ذلك" فتنصب "هدًى" على القطع؛ لأن "هدًى" نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة.
وإن شئت نصبت "هدىً" على القطع من الهاء التي في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هادياً.
واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها: أن ترى الاسم الذي بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع؛ كقولك: هذا الحمار فاره جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب.
والوجه الآخر: أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفاً؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلّها بالخوف.
والمعنى الثالث: أن يكون ما بعد "هذا" واحداً لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضاً منصوب، وإنما نصبت الفعل؛ لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريباً، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين.
وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّاً من أن يرفعوا "هذا" بـ"الأسد"، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته، ومثله:{والله غفور رحيم}، فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها، والخبر منتظر يتم به الكلام، فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضاً عن قولك "هذا" مستغنياً، ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب، فتحتاج أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتاً، ونصبت خبره للحاجة إليه). [معاني القرآن: 1/11-13]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ذلك الكتاب} معناه: هذا القرآن؛ وقد تخاطب العرب الشاهد فتظهر له مخاطبة الغائب.
قال خفاف بن ندبة السلمىّ، وهي أمه، كانت سوداء، حبشية، وكان من غربان العرب في الجاهلية:

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها= فعمداً على عين تيممّت مالكا
أقول له والرّمح يأطر متنه= تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
يعني: مالك بن حمّاد الشمخيّ، وصميم خيله: معاوية أخو خنساء، قتله دريد وهاشم ابنا حرمله المريّان.
{لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، وأنشدني أبو عمرو الهذليّ لساعدة بن جؤيّة الهذليّ:

فقالوا تركنا الحيّ قد حصروا به = فلا ريب أن قد كان ثمّ لحيم
أي: قتيل، يقال: فلان قد لحم، أي: قتل، وحصروا به: أي: أطافوا به، لا ريب: لا شكّ.
{هدىً للمّتقين} أي: بياناً للمتقين). [مجاز القرآن: 1/29]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}
قال: {لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}، وقال: {فلا إثم عليه} فنصبهما بغير تنوين، وذلك أن كل اسم منكور نفيته بـ"لا" وجعلت "لا" إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين، لأن "لا" مشبهة بالفعل، كما شبهت "أن" و"ما" بالفعل.
و{فيه} في موضع خبرها وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و(لا) بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه؛ لأنك جعلته و"لا" اسما واحدا، وكل شيئين جعلا اسماً لم يصرفا، والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها، وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد "لا" في موضع نصب عملت فيه "لا".
وأما قوله: {لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} فالوجه فيه الرفع؛ لأن المعطوف عليه لا يكون إلا رفعاً، ورفعته لتعطف الآخر عليه، وقد قرأها قوم نصباً، وجعلوا الآخر رفعاً على الابتداء.
وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ} فالوجه النصب؛ لأن هذا نفي؛ ولأنه كله نكرة؛ وقد قال قوم: {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحجّ} فرفعوه كله، وذلك أنه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعاً في بعض كلام العرب، قال الشاعر:
وما صرمتك حتى قلت معلنةً = لا ناقةٌ لي في هذا ولا جمل
وهذا جواب لقوله: «هل فيه رفثٌ أو فسوقٌ؟» فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبراً، فلذلك يكون جوابه رفعاً، وإذا قال: "لا شيء" فإنما هو جواب: «هل من شيءٍ أولى؟»؛ لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه "من" بالجر، وأضمر الخبر، والموضع مرفوع، مثل : "بحسبك أن تشتمني" فإنما هو "حسبك أن تشتمني" فالموضع مرفوع، والباء قد عملت.
وقد قال قوم (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال في الحجّ) فرفعوا الأول على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنه قال "فلا يكونن فيه رفثٌ ولا فسوقٌ" كما تقول: "سمعك إليّ" تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: "حسبك" و"كفاك"، وجعل الجدال نصباً على النفي. وقال الشاعر:

ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره = لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
فرفع أحدهما، ونصب الآخر.
وأما قوله: {لا فيها غولٌ} فرفع؛ لأن "لا" لا تقوى أن تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها بـ"فيها" فرفع على الابتداء، ولم تعمل "لا".
وقوله: {فيه هدًى لّلمتّقين} فـ"فيه" و"عليه" و"إليه"، وأشباه ذلك في القرآن كثير، وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو؛ لأن الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك؛
فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الياء: ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة، وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو: فإنه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو {فألقى موسى عصاه}، وقوله: {فكذّبوه}، وقوله: {فأنجيناه} وأشباه هذا في القرآن كثير.
ومن العرب من يتم؛ لأن ذلك من الأصل فيقول: (فكذّبوهو) (فأنجيناهو) (وألقى موسى عصاهو) و(لا ريب فيهو هدىً للمتقين)، وهي قراءة أهل المدينة، وقد قال قوم: {إني لكم مّنه نذيرٌ مّبينٌ} فألقوا الواو، وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف، وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده (منهو نذير) تلحق الواو وإن كانت لا تكتب، وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئاً.
ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور، وإنما يكسر بنو تميم، فأما أهل الحجاز؛ فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضاً، قال: {ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} وأهل الحجاز يقولون: (من بعدهو) فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضاً، وذلك قليل قبيح يقول: "مررت بِهِ قَبْلُ" و"بِهُ قَبْلُ" يكسرون ويضمون، ولا يلحقون واواً ولا ياء، فيقولون "رَأَيْتُهُ قَبْلُ" فلا يلحقون واواً، وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
قد قرأ بعض القراء {فيه هدى} فأدغم الهاء الأولى في هاء {هدى}؛ لأنهما التقتا وهما مثلان، وزعموا أن من العرب من يؤنث "الهدى"، ومنهم من يسكن هاء الإضمار للمذكر، قال الشاعر:

فظلت لدى البيت العتيق أخيله = ومطواي مشتاقان له أرقان
وهذه في لغة أسد السراة، زعمواكثير). [معاني القرآن: 1/15-18]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، {هدىً للمتّقين} أي: رشداً لهم إلى الحق).
[تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين (2)}
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه: هذا الكتاب، قال الشاعر:

أقول له والرمح يأطر متنه= تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا
قال: المعنى: إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إن معناه: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، وكذلك قوله: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون (146)}
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله: {الم * ذلك الكتاب}، فيقال " ذلك " للشيء الذي قد جرى ذكره، فإن شئت قلت فيه: "هذا" وإن شئت قلت فيه: "ذلك"، كقولك: "أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة" وإن شئت قلت: "هذا ستة".
أو كقوله عزّ وجلّ في قصة فرعون: {فحشر فنادى (23) فقال أنا ربّكم الأعلى (24) فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى (25)}، ثم قال بعد ذلك: {إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى (26)}، وقال في موضع آخر: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون (105)}، ثم قال:{إنّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106)}، وقال عزّ وجلّ: {المر تلك آيات الكتاب والّذي أنزل إليك من ربّك الحقّ}، فقال {ذلك}.
فجائز أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي: القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها -على ما وصفنا في شرح حروف الهجاء-.
وموضع {ذلك} رفع؛ لأنه خبر ابتداء على قول من قال: هذا القرآن، ذلك الكتاب.
و{الكتاب} رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك: هذا الرجل أخوك، فـ(الرجل) عطف البيان، أي: يبين من الذي أشرت إليه.
والاسم من ذلك "ذا" والكاف زيدت للمخاطبة ولا حظ لها في الإعراب، قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب؛ لقلت: " ذاك نفسه زيد"، وهذا خطأ لا يجوز إلا هذاك نفسه زيد.
ولذلك "ذانك" يشهد أن الكاف لا موضع لها؛ لو كان لها موضع لكان جراً بالإضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة.
واللام تزاد مع "ذلك" للتوكيد، أعني: توكيد الاسم؛ لأنها إذا زيدت أسقطت معها "ها" تقول: "ذلك الحق" و"ذاك الحق" و"ها ذاك الحق".
ويقبح "هذلك الحق"؛ لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة، وكسرت اللام للالتقاء السّاكنين، أعني الألف من "ذا" واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة، ولكنها كسرت لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن {الم}.
وقوله عزّ وجلّ: {لا ريب فيه}
معناه : لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبة فيه، وأرابني إذا أوهمني الريبة، قال الشاعر:
أخوك الذي إن ربته قال إنما = أربت وإن عاتبته لان جانبه
وموضع {لا ريب} نصب، قال سيبويه: "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب "إن" لما بعدها إلا أنها تنصبه بغير تنوين؛ وزعم أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فـ(من) غير منفصلة من (رجل)، فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكلون جواب: هل رجل في الدار؟
قيل: معنى "لا رجل في الدار" عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: "لا رجل في الدار".
فكذلك "هل من رجل في الدار؟" استفهام عن الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: "هل رجل في الدار؟" أو "لا رجل في الدار".
جاز أن يكون في الدار رجلان؛ لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجل في الدار؛ فهو نفي عام، وكذلك {لا ريب فيه}.
وفي قوله {فيه} أربعة أوجه: القراءة منها على وجه واحد ولا ينبغي أن يتجاوز إلى غيره، وهو {فيه هدى} بكسر الهاء، ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان قرئ به: (فيهي هدى) بإثبات الواو، و (فيهي هدي) بإثبات الياء، وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.
فأما قراءة {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، فهو ثقيل في اللفظ، وهو جائز في القياس؛ لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ؛ لأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين، وحكى الأخفش أنها قراءة.
وموضع {هدى} نصب، ومعناه: بيان، ونصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال من قولك: القرآن، ذلك الكتاب هدى، ويجوز أن يكون انتصب بقولك: {لا ريب فيه} في حال هدايته، فيكون حالًا من قولك: لا شك فيه هادياً.
ويجوز أن يكون موضعه رفعاً من جهات:
إحداها أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي: قد جمع أنه الكتاب الذي وعدوا به وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو حامض، تريد: أنه قد جمع الطعمين،
ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار "هو"، كأنه لما تم الكلام فقيل: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه}، قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} كأنك قلت: ذلك الكتاب حقّاً؛ لأن لا شك فيه بمعنى حق، ثم قال: بعد ذلك:{فيه هدى للمتقين}). [معاني القرآن: 1/67-70]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}
روى خالد الحذاء، عن عكرمة قال: "{ذلك الكتاب}: هذا الكتاب"، وكذا قول أبي عبيدة، وأنكره أبو العباس قال: لأن "ذلك" لما بعُد و"ذا" لما قرُب؛ فإن دخل واحد منهما على الآخر انقلب المعنى، قال: ولكن المعنى: هذا القرآن، ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقال الكسائي: كأن الإشارة إلى القرآن الذي في السماء، والقول من السماء، والكتاب والرسول في الأرض، فقال: ذلك الكتاب يا محمد. قال ابن كيسان: وهذا حسن .
قال الفراء: يكون كقولك للرجل وهو يحدثك "ذلك -والله- الحق"، فهو في اللفظ بمنزلة الغائب وليس بغائب، والمعنى عنده: ذلك الكتاب الذي سمعت به.
وقيل: كتاب لما جمع فيه، يقال: كتبت الشيء، أي: جمعته، والكتب: الخرز، وكتبت البغلة منه أيضاً، والكتيبة: لفرقة المجتمع بعضها إلى بعض.
ثم قال تعالى: {لا ريب فيه}، قال قتادة: "لا شك فيه"، وكذا هو عند أهل اللغة .
قال أبو العباس يقال: رابني الشيء: إذا تبينت فيه الريبة، وأرابني: إذا لم أتبينها منه .
وقال غيره: أراب في نفسه، وراب غيره، كما قال الشاعر:

وقد رابني قولها يا هنا = ه ويحك ألحقت شرا بشر
ومنه ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، ومنه: {ريب المنون} أي: حوادث الدهر، وما يستراب به .
وأخبر تعالى أنه لا ريب فيه، ثم قال بعد: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}
فالقول في هذا المعنى: وإن كنتم في قولكم في ريب وعلى زعمكم وإن كنا قد أتيناكم بما لا ريب فيه؛ لأنهم قالوا كما قال الذين من قبلهم {وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}). [معاني القرآن: 1/79-81]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {هدى للمتقين}، والهدى: البيان والبصيرة .
ثم قال تعالى: {للمتقين} أي: الذين يتقون ما نهوا عنه، والتقوى أصلها من التوقي وهو: التستر من أن يصيبه ما يهلك به). [معاني القرآن: 1/81]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت: 345هـ): (قال: الريب: الشك). [ياقوتة الصراط: 169]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لا ريب}: لا شك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، {هُدًى}: بيان). [العمدة في غريب القرآن: 69]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}
قوله: {وممّا رزقناهم ينفقون} ففيها لغتان، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو، وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلاّ أن يكون ما قبلها مكسوراً أو ياء ساكنة.
فإن كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو "عليهم" و"بهم" و"من بعدهم": فمن العرب من يقول: "عليهِمِي" فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُمُو" فيلحق الواو ويضم الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُم" و"عليهِم"، فيرفعون الهاء ويكسرونها ويقفون الميم، ومنهم من يقول: "عليهِمُو" فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو، ومنهم من يقول: "عليهُمِي" فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء. وكل هذا إذا وقفت عليه: فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء، وهذا في القرآن كثير.
ومنهم من يجعل "كم" في "عليكم" و"بكم" إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة "هم"، وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون: "عليكمي" و"بكمي"، وأنشد الأخفش قال سمعته من بكر بن وائل:

وإن قال مولاهم على جلّ حاجةٍ = من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن: حركت الميم بالضم إن كان بعدها واو، فإن كان بعدها واو حذفت الواو، وإن كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر، وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو: "مررت به اليوم" و"رأيته اليوم".
وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واواً في الشعر، وذا لا يكاد يعرف، وقال الشاعر:
تالله لولا شعبتي من الكرم = وشعبتي فيهم من خالٍ وعم).
[معاني القرآن: 1/18-19]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب} أي: يصدقون بإخبار اللّه عز وجل عن الجنة والنار، والحساب والقيامة، وأشباه ذلك.
{وممّا رزقناهم ينفقون} أي: يزكّون ويتصدقون). [تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
معناه: يصدقون، وكل مؤمن بشيء فهو مصدق به، فإذا ذكرت مؤمناً ولم تقل هو مؤمن بكذا وكذا: فهو الذي لا يصلح إلا في اللّه عزّ وجلّ، وموضع {الذين} جر تبعاً للمتقين، ويجوز أن يكون موضعهم رفعاً على المدح كأنّه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم؟ فقيل: {الّذين يؤمنون بالغيب}. ويجوز أن يكون موضع {الذين} نصباً على المدح أيضاً، كأنه قيل: اذكر الذين.
{والذين} لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر: أتاني الذين في الدار، ورأيت الذين في الدار، ومررت بالذين في الدار، وكذلك: الذي في الدار، وإنما منع الإعراب؛ لأن الإعراب إنما يكون في آخر الأسماء، و"الذي" و"الذين" مبهمان لا تتمان إلا بصلاتهما، فلذلك منعت الإعراب.
وأصل "الذي":لَذٍ على وزن عَمٍ فاعلم، كذلك قال الخليل وسيبويه والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل: فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار، ورأيت اللذَيْن في الدار، فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو "هذان" و"هذين"، وأنت لا تعرب "هذا" ولا "هؤلاء"؟
فالجواب في ذلك: أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاء لمعنى؛ لأن حروف المعاني لا تثنى.
فإن قال قائل: فلم منعته الإعراب في الجمع؟
قلت: لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا "هؤلاء يا فتى" فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك: "الذين" إنما هو اسم للجمع، كما أن قولك: "سنين يا فتى" اسم للجمع، فبنيته كما بنيت الواحد، ومن جمع "الذين" على حد التثنية قال: جاءني الذونَ في الدار، ورأيت الذين في الدار، وهذا لا ينبغي أن يقع؛ لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية، والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله {بالغيب}: ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب والنشور والقيامة، وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
وقوله عزّ وجلّ {ويقيمون الصّلاة} معناه: يتمّون الصلاة كما قال: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}.
وضمت الياء من {يؤمنون} و{يقيمون}؛ لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو: أكرم وأحسن وأقام وآمن، فمستقبله: يكرم، ويحسن، ويؤمن، ويقيم، وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بين ذوات الثلاثة نحو: ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو: دحرج. فما كان على ثلاثة: فهو ضرب يضرب أو تضرب أو نضرب، ففصل بالضمة بينهما.
فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟
قيل: الكسرة قد تدخل في نحو تعلم وتبيض؛ ولأن الضمة مع الياء مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياء. فمن قال: أنت تعلم، لم يقل: هو يعلم، فوجب أن يكون الفرق بينهما بالضمة لا غير.
والأصل في (يقيم): يؤقيم، والأصل في يكرم: يؤكرم، ولكن الهمزة حذفت؛ لأن الضم دليل على ذوات الأربعة، ولو ثبت لوجب أن تقول إذا أنبأت عن نفسك: أنا أؤقوم، وأنا أؤكرم، فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل، وتبع سائر الفعل باب الهمزة، فقلت: أنت تكرم، ونحن نكرم، وهي تكرم، كما أنّ باب "يعد" حذفت منه الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، الأصل فيه "يوعد" ثم حذفت في "تعد" و"نعد" و"أعد".
وقوله عزّ وجلّ: {وممّا رزقناهم ينفقون} معناه: يصدّقون، قال عزّ وجلّ: {وأنفقوا من ما رزقناكم} إلى قوله: {قريب فأصّدّق}). [معاني القرآن: 1/70-73]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}، أصل الإيمان: التصديق، ومنه قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا}، يقال: آمنت بكذا، أي: صدقت به. فإذا قلت "مؤمن" فمعناه: مصدق بالله تعالى لا غير .
ويجوز: أن يكون مأخوذاً من الأمان، أي: يؤمن نفسه بتصديقه وعمله، و"الله المؤمن" أي: يؤمن مطيعه من عذابه .
وروى شيبان، عن قتادة: "{الذين يؤمنون بالغيب} أي: آمنوا بالبعث والحساب والجنة والنار، فصدقوا بموعد الله تعالى".
قال أبو رزين في قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} يعني: القرآن .
قال ابن كيسان: وقيل: {يؤمنون بالغيب } أي: القدر .
والغيب في اللغة: ما اطمأن من الأرض ونزل عما حوله، يستتر فيه من دخله.
وقيل: كل شيء مستتر: غيب، وكذلك المصدر). [معاني القرآن: 1/81-83]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ويقيمون الصلاة} أي: يؤدون الصلاة المفروضة، تقول العرب: قامت السوق وأقمتها، أي: أدمتها ولم أعطلها، و"فلان يقوم بعمله" منه.
ومعنى إقامة الصلاة: إدامتها في أوقاتها، وترك التفريط في أداء ما فيها من الركوع والسجود.
وقيل: الصلاة: مشتقة من "الصلوين" وهما عرقان في الردف ينحيان في الصلاة .
وقيل: الصلاة: الدعاء فيها معروف قال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا = يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فا اغتمضي = نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
والصلاة من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الدعاء، ومن الناس تكون: الدعاء والصلاة المعروفة). [معاني القرآن: 1/83-84]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: يتصدقون ويزكون، كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}
قال الضحاك: كانت النفقة قرباناً يتقربون بها إلى الله تعالى على قدر جدتهم، حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في "براءة").
[معاني القرآن: 1/84-85]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الغيب": الله جل وعز، ومنه قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}، قال: بالله جل اسمه، و"الغيب": ما غاب عن العين، وكان محصلاً في القلوب، و"الغيب": المطمئن من الأرض، و"الغيب": شحم ثرب الشاة). [ياقوتة الصراط: 170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ومما رزقناهم ينفقون} أي: يزكون ويتصدقون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُؤْمِنُونَ}: يصدقون.{بِالْغَيْبِ}: ما غاب عنهم. {يُنفِقُونَ}: يزكون). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
وقوله عزّ وجلّ: {بما أنزل إليك} إن شئت خففت الهمزة في "أنزل" وكذلك في قوله "أُلئِك"، وهذه لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز: فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه: إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف؛ لأنها بعد مخرجها، ولأنها نبرة في الصدر، وهي أبعد الحروف مخرجاً.
وأمّا "إليك" و"إليهم" و"عليك" و"عليهم"، فالأصل في هذا "إلاك" و"علاك" و"إلاهم" و"علاهم"، كما تقول: "إلى زيد" و"على إخوتك"، إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء؛ ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنة وبين الألف التي في أواخر غير المتمكنة التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن "إلى" و"على" و"لدى" لا تنفرد من الإضافة، ولذلك قالت العرب في "كلا" في حال النصب والجر: "رأيت كليهما" و"كليكما" و"مررت بكليهما" و"كليكما"، ففصلت بين الإضافة إلى المظهر والمضمر، لما كان "كلا" لا ينفرد، ولا يكون "كلامًا إلا بالإضافة). [معاني القرآن: 1/73-74]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي: لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، كما فعله اليهود والنصارى). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} سميت "آخرة" لأنها بعد "أولى"، وقيل: لتأخرها من الناس، وجمعها "أواخر").[معاني القرآن: 1/85]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فهو مفلح، ومصدره: الفلاح وهو: البقاء، وكل خير، قال لبيد بن ربيعة:

نحلّ بلاداً كلها حلّ قبلنا= ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
الفلاح أي البقاء، وقال عبيد بن الأبرص:

أفلح بما شئت فقد يدرك= بالضعف وقد يخدع الأريب
والفلاح في موضع آخر: السّحور أيضاً، وفي الأذان: "حيّ على الفلاح" و"حيّ على الفلح" جميعاً، والفلاّح: الأكار، وإنما اشتّق من: يفلح الأرض أي: يشقّها ويثيرها، ومن ذلك قولهم:

.......... = إنّ الحديد بالحديد يفلح
أي: يفلق، والفلاح هو: المكاري في قول ابن أحمر أيضاً:

لها رطل تكيل الزيت فيه= وفلاّحٌ يسوق لها حمارا
فلاّح: مكارٍ، وقال لبيد:

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي= ولقد أفلح من كان عقل
أي: ظفر وأصاب خيراً). [مجاز القرآن: 1/29-31]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فقد أفلح، والفعل الفلاح هو أيضا من البقاء).[غريب القرآن وتفسيره: 64]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأولئك هم المفلحون}: من الفلاح، وأصله البقاء ومنه قول عبيد:

أفلح بما شئت فقد يبلغ = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس أو غفلة.
فكأنه قيل للمؤمنين "مفلحون" لفوزهم بالبقاء في النعيم المقيم، هذا هو الأصل.
ثم قيل ذلك لكل من عقل وحزم، وتكاملت فيه خلال الخير). [تفسير غريب القرآن: 39-40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
موضع {أولئك} رفع بالابتداء، والخبر: {على هدى من ربّهم} إلا أن {أولئك} لا يعرب؛ لأنه اسم للإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء السّاكنين.
وكذلك قوله: {وأولئك هم المفلحون} إلا أنّ (هم) دخلت فصلاً، وإن شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول: "زيد هو العالم"، فترفع "زيداًَ" بالابتداء، وترفع "هو" ابتداء ثانياً، وترفع "العالم" خبراً لـ"هو"، و"العالم" خبراً لـ"زيد".
فكذلك قوله: {أولئك هم المفلحون} وإن شئت جعلت (هو) فصلاً ، وترفع "زيداً" و"العالم" على الابتداء وخبره، والفصل: هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
وسيبويه يقول: إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم نحو: "كان زيد هو العالم"، و"ظننت زيدا هو العالم".
وقال سيبويه: دخل الفصل في قوله عزّ وجلّ: {.. تجدوه عند اللّه هو خيراً} وفي قوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} وفي قوله: {ويرى الّذين أوتوا العلم الّذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ} وفي قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} وما أشبه هذا مما ذكر الله عزّ وجلّ.
وكذلك لك في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك: كان زيد هو العالم، ذكر "هو" و"أنت" و"أنا" و"نحن"، دخلت إعلاماً بأن الخبر مضمون وأن الكلام لم يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن "هو" بمنزلة "ما" اللغو في قوله عزّ وجلّ: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} فإنما دخولها مؤكدة.
وقوله عزّ وجلّ: {المفلحون} يقال: لكل من أصاب خيراً مفلح، وقال عزّ وجل: {قد أفلح المؤمنون}، وقال: {قد أفلح من زكاها}، والفلاح: البقاء.
قال لبيد بن ربيعة:

نحل بلادا كلها حل قبلنا= ونرجو الفلاح بعد عاد وتبّعا
أي : نرجو البقاء.
وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: أصب خيراً بما شئت.
والفلاح: الأكار، والفلاحة صناعته، وإنما قيل له: الفلاح؛ لأنه يشق الأرض، ويقال: فلحت الحديد: إذا قطعته.
قال الشاعر:

قد علمت خيلك أني الصّحصح= إن الحديد بالحديد يفلح
ويقال للمكاري: الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيها بالأكار.
قال الشاعر:
لها رطل تكيل الزيت فيه= وفلاح يسوق لها حماراً).
[معاني القرآن: 1/75-76]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {أولئك على هدى من ربهم}
روى إبراهيم بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، قال: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم من عند الله). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
قال ابن إسحاق: أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا .
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء، وقيل للمؤمن: مفلح؛ لبقائه في الجنة .
وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك = بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس وحمق.
ثم اتسع في ذلك، حتى قيل لكل من نال شيئاً من الخير: مفلح). [معاني القرآن: 1/86]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : (و"الهدى": البيان، و"الهدى": إخراج شيء إلى شيء، و"الهدى": الورع والطاعة، و"الهدى": الهادي، قال: ومنه قوله تعالى: {أو أجد على النار هدى} أي: هادياً). [ياقوتة الصراط: 169-170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("المفلح": الباقي، و"المفلح": السعيد، من السعادة، والفلاح: البقاء.
والخداع وإظهار خلاف ما في النفس: مرض ونفاق). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون). [العمدة في غريب القرآن: 70]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:16 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 6 إلى 12]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أآنذرتهم أم لم تنذرهم}: هذا كلام هو إخبارٌ، خرج مخرج الاستفهام؛ وليس هذا إلا في ثلاثة مواضع، هذا أحدها، والثاني: ما أبالي أقبلت أم أدبرت، والثالث: ما أدري أولّيت أم جاء فلان).
[مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إن الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
فأما قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فإنما دخله حرف الاستفهام وليس باستفهام لذكره "السواء"؛ لأنه إذا قال في الاستفهام: "أزيد عندك أم عمرو؟" -وهو يسأل أيهما عندك- فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحق بالاستفهام من الآخر، فلما جاءت التسوية في قوله: {أأنذرتهم} أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية، ومثلها: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} ولكن {أستغفرت} ليست بممدودة؛ لأن الألف التي فيها ألف وصل؛ لأنها من (استغفر يَستغفر) فالياء مفتوحة من "يفعل"، وأما {أأنذرتهم} ففيها ألفان: ألف (أنذرت) وهي مقطوعة؛ لأنه يقول "يُنذر" فالياء مضمومة، ثم جعلت معها ألف الاستفهام، فلذلك مددت وخففت الآخرة منهما؛ لأنه لا يلتقي همزتان، وقال: {أفلا تبصرون}، {أم أنا خيرٌ مّن هذا الّذي هو مهينٌ}، وقال بعضهم إنه على قوله: {أفلا تبصرون}، وجعل قوله: {أم أنا خيرٌ مّن هذا الّذي هو مهينٌ} بدلاً من {تبصرون}؛ لأن ذلك عنده بصراً منهم أن يكون عندهم هكذا، وهذه "أم" التي تكون في معنى "أيهما"، وقد قال قوم: "إنها يمانية"، وذلك أن أهل اليمن يزيدون "أم" في جميع الكلام. وأما ما سمعنا من اليمن فيجعلون "أم" مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون "رأيت امرجل" و"قام امرجل" يريدون "الرجل"، ولا يشبه أن تكون (أم أنا خيرٌ) على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد أنه سمع أعرابياً فصيحاً ينشدهم:


يا دهر أم كان مشيي رقصا = بل قد تكون مشيتي ترقّصا
فسأله فقال: معناه: ما كان مشيي رقصا، فـ"أم" ههنا زائدة، وهذا لا يعرف، وقال علقمة بن عبدة:

وما القلب أم ما ذكره ربعيّةً = يخطّ لها من ثرمداء قليب
يريد "ما ذكره ربيعةً " يجعله بدلاً من "القلب".
وقال بعض الفقهاء: "إن معناه: أنه قال فرعون: {أفلا تبصرون} أم أنتم بصراء"، وقال الشاعر:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم
يريد: "أأنت أحسن أم أمّ سالم" فأضمر "أحسن".
يريد: "أليس أنا خيراً من هذا الذي هو مهين"، ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام؛ كأنك تميل إلى أوله، قال: {لاريب فيه من رّبّ العالمين}، {أم يقولون افتراه} وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب: "إنها لإبل"، ثم يقولون "أم شاءٌ"، وقولهم"لقد كان كذا وكذا أم حدّثت نفسي"، ومثل قول الشاعر:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ = غلس الظلام من الرّباب خيالا
وليس قوله: {أم يقولون افتراه}؛ لأنه شك، ولكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم كما تقول: "ألست الفاعل كذا وكذا" ليس تستفهم إنما توبخّه، ثم قال: {بل هو الحقّ من رّبّك}، ومثل هذا في القرآن كثير، قال: {فذكّر فما أنت بنعمة ربّك بكاهنٍ ولا مجنونٍ}، ثم قال: {أم يقولون شاعرٌ نّتربّص به} و {أم عندهم خزائن ربّك} كل هذا على استفهام الاستئناف، وليس لـ"أم" غير هذين الموضعين؛ لأنه أراد أن ينبه، ثم ذكر ما قالوا عليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل "ألخير أحبّ إليك أم الشرّ"؟، وأنت تعلم أنه يقول "الخير"، ولكن أردت أن تقبح عنده ما صنع، وأما قوله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}، فقد نهاه عن الآثم والكفور جميعاً، وقد قال بعض الفقهاء: إن "أو" تكون بمنزلة الواو، وقال:

يهينون من حقروا شأيه = وإن كان فيهم يفي أو يبرّ
يقول: "يفي ويبرّ"، وكذلك هي عندهم ههنا، وإنما هي بمنزلة "كل اللحم أو التمر" إذا رخصت له في هذا النحو، فلو أكل كله أو واحداً منه لم يعص، فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى، فيكون إن ركب الكل أو واحداً قد عصى، كما كان في الأمر إن صنع واحداً أطاع، وقال: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}، ومعناه "ويزيدون"، ومخرجها في العربية إنك تقول: "لا تجالس زيداً أو عمراً أو خالداً"، فإن أتى واحداً منهم أو كلّهم كان عاصياً، كما أنك إذا قلت: "اجلس إلى فلان أو فلان أو فلان" فجلس إلى واحد منهم أو كلهّم كان مطيعاً، فهذا مخرجه من العربية.
وأرى الذين قالوا: إنما "أو" بمنزلة (الواو) إنما قالوها؛ لأنهم رأوها في معناها، وأما {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}، فإنما يقول {أرسلناه إلى مائة ألفٍ} عند الناس، ثم قال: {أو يزيدون} عند الناس؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ، وقد قال قوم: إنما "أو" ههنا بمنزلة "بل"، وقد يقول الرجل "لأذهبنّ إلى كذا وكذا"، ثم يبدو له بعد فيقول "أو أقعد"، فقال ههنا: {أرسلناه إلى مائة ألفٍ} عند الناس، ثم قال: {أو يزيدون} عند الناس، أي: أن الناس لا يشكون أنهم قد زادوا، والوجه الآخر "هكذا" أي: "فكذا حال الناس فيهم " أي: أن الناس يشكون فيهم، وكذا حال "أم" المنقطعة إن شئت جعلتها على "بل" فهو مذهب حسن، وقال متمّم بن نويرة:

فلو كان البكاء يردّ شيئاً = بكيت على جبيرٍ أو عفاقٍ
على المرأين إذ هلكا جميعا = بشأنهما وحزنٍ واشتياق
وقال ابن أحمر:

فقلت البثي شهرين أو نصف ثالثٍ = إلى ذاك ما قد غيّبتني غيابيا
وأما قوله: {أإنا لمبعوثون}، {أو آباؤنا الأوّلون} فإن هذه الواو واو عطف؛ كأنهم قالوا: {أأنا لمبعوثون} فقيل لهم: "نعم وآباؤكم الأوّلون"، فقالوا: {أو آباؤنا}، وقوله: {أولم ير الإنسان}، {أولم يهد لهم}، وأشباه هذا في القرآن كثير، فالواو مثل الفاء في قوله: {أفلم يهد لهم}، وقوله: {أفلم يدّبّروا القول}، وإن شئت جعلت هذه الفاءات زائدة، وإن شئت جعلتها جواباً لشيء، كنحو ما يقولون: "قد جاءني فلان" فيقول: "أفلم أقض حاجته؟" فجعل هذه الفاء معلقة بما قبلها). [معاني القرآن: 1/20-24]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)}
(إنّ) تنصب (الذين)، وهي تنصب الأسماء وترفع الأخبار، ومعناها في الكلام التوكيد، وهي آلة من آلات القسم، وإنّما نصبت ورفعت؛ لأنها تشبه بالفعل، وشبهها به أنها لا تلي الأفعال ولا تعمل فيها، وإنما يذكر بعدها الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل: الفاعل والمفعول، إلا أنه قدم المفعول به فيها؛ ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظ الفعل، وبين ما يشبه به وليس لفظه لفظ الفعل، وخبرها ههنا جملة الكلام، أعني قوله:{سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}.
وترفع {سواء} بالابتداء، وتقوم {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مقام الخبر، كأنه بمنزلة قولك "سواء عليهم الإنذار وتركه".
و{سواء} موضوع موضع (مستو) لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماء الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.
فأما دخول ألف الاستفهام، ودخول "أم" التي للاستفهام والكلام خبر؛ فإنّما وقع ذلك لمعنى التسوية، والتسوية آلتها ألف الاستفهام و"أم"، تقول: أزيد في الدار أم عمرو؟، فإنما دخلت الألف وأم؛ لأن علمك قد استوى في زيد وعمرو.
وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي علمت ويخلص لك علمه من غيره، فلهذا تقول: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو؟، وإنما تريد أن تسوّي عند من تخبره العلم الذي قد خلص عندك. وكذلك {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} دخلت الألف و"أم" للتسوية.
فأما {أأنذرتهم} فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة، ولا يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين، فأما أهل الحجاز فلا يحققون واحدة منهما، وأما بعض القراء - ابن أبي إسحاق وغيره - فيجمعون في القراءة بينهما، فيقرؤون (أأنذرتهم) وكثير من القراء يخفّف إحداهما.
وزعم سيبويه أن الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول: (أانذرتهم) فيجعل الثانية بين الهمزة والألف، ولا يجعلها ألفا خالصة، ومن جعلها ألفاً خالصة فقد أخطأ من جهتين:
إحداهما: أنه جمع بين ساكنين، والأخرى: إنّه أبدل من همزة متحركة قبلها حركة ألفاً والحركة الفتح، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما قبلها: أن تجعل بين بين، أعني: بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فتقول في سأل: "سال"، وفي رؤوف: "رووف"، وفي بئس: "بيس"، بين بين، وهذا في الحكم واحد وإنما تحكمه المشافهة.
وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} تخفيف الأولى.
وزعم سيبويه: أن جماعة من العرب يقرؤون: {فقد جاء أشراطها} يحققون الثانية ويخففون الأولى، وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول: {فقد جاء أشراطها}.
قال الخليل: وإنّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك: آدم، وآخر؛ لأن الأصل في آدم: "أادم"، وفي آخر: "أاخر"، وقول الخليل أقيس، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.
قال أبو إسحاق: الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة، ولا يمكن تخفيف الهمزة المبتدأة، ولكن إن ألقي همزة ألف الاستفهام على سكون الميم من عليهم فقلت: "عليهم أنذرتهم" جاز. ولكن لم يقرأ به أحد، والهمزتان في قوله: {فقد جاء أشراطها} همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف الأولى.
فأما من خفف الهمزة الأولى قوله: {أأنذرتهم} فإنه طرحها ألبتّة وألقى حركتها على الميم، ولا أعلم أحداً قرأ بها، والواجب على لغة أهل الحجاز أن يكون "عليهمَ أنذرتهم" فيفتح الميم، ويجعل الهمزة الثانيةبين بين، وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.
ويجوز أن يكون {لا يؤمنون} خبر "إنّ"، كأنه قيل: "إنّ الذين كفروا لا يؤمنون، سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم".
هؤلاء قوم أنبأ اللّه -تبارك وتعالى- النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يؤمنون كما قال عزّ وجلّ: {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
فأما الهمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزّ وجلّ: {على البغاء إن أردن تحصّناً} وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله: {أولياء أولئك} فإن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول: "على البغا إن أردن" ، "وأوليا أولئك " فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء ويكسرها، ويجعل الهمزة في قولك "أولياء أولئك" الأولى بين الواو والهمزة ويضمها.
وحكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في "البغاء إن" وضمة في "أولياء أولئك".
أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع؛ لأنه الثقة المأمون عند العلماء، إلا إنّه لا يضبط مثل هذا الموضع؛ لأن الذي قاله محال، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة -على ما وصف-: بقيت الحركتان في غير حرف، وهذا محال؛ لأن الحركة لا تكون في غير محرّك.
قال أبو إسحاق: والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه، عن أبي عمرو، وهو اضبط لهذا.
وأما قوله: {السفهاء ألا}، وقوله: {وإليه النشور * أأمنتم من في السماء أن} فإن الهمزتين إذا اختلفتا: حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من الثانية فتحة، وهذا خلاف ما حكاه سيبويه، والقول فيه أيضاً محال؛ لأن الفتحة لا تقوم بذاتها، إنما تقوم على حرف.
وجملة ما يقول النحويون في المسالة الأولى في مثل قوله: {على البغاء إن} أو {أولياء أولئك} ثلاثة أقوال على لغة غير أهل الحجاز:-
فأحد هذه الثلاثة: وهو مذهب سيبويه والخليل: أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بين، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة، فقال: "أولياء أولئك"، وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياء والهمزة، فقال: "على البغاءين"، وأمّا أبو عمرو فقرأ على ما ذكرناه، وأمّا ابن أبي إسحاق ومذهبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين، فيقرأ (أولياء أولئك) و (على البغاء إن أردن) بتحقيق الهمزتين.
وأمّا اختلاف الهمزتين نحو (السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن أبي إسحاق، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه، ويخفف
الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة، فيقول: (السفهاء ألا) بين بين.
ويقول: (من في السماي أن) فيحقق الثانية، وأما سيبويه والخليل فيقولان: (السفهاء ولا) فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة، وفي قوله: (من السماءين) ياء خالصة مفتوحة فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت همزتان طرحت إحداهما، وهذا ليس بثبت؛ لأن القياس لا يوجبه.
وأبو عبيد لم يحقق في روايته؛ لأنه قال: رواه بعضهم، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.
فإن كان هذا صحيحاً عنه فهو يجوّزه في نحو: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، وفي مثل قوله: {آلذّكرين حرّم أم الأنثيين} فيطرح همزة الاستفهام؛ لأن "أم" تدل عليها.
قال الشاعر:

لعمرك ما أدري إن كنت داريا= شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
وقال عمر بن أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا= بسبع رمين الجمر أم بثمان
البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه، والبيت الثاني صحيح أيضًا). [معاني القرآن: 1/78-82]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
هم الكفار الذين ثبت في علم الله تعالى أنهم كفار، وهو لفظ عام يراد به الخاص، كما قال تعالى: {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون}، ثم قال جل وعز: {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
وقال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}). [معاني القرآن: 1/86-87]


تفسير قوله تعالى:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ...}
انقطع معنى "الختم" عند قوله: {وعلى سمعهم} ورفعت "الغشاوة" بـ"على"، ولو نصبتها بإضمار "وجعل" لكان صواباً، وزعم المفضّل أن عاصم بن أبى النّجود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: {أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً} ومعناهما واحد؛ والله أعلم.
وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدلّ أوّله على آخره؛ كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار؛ فحسن الإضمار لمّا عرف، ومثله في سورة الواقعة: {يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون * بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ}، ثم قال: {وفاكهةٍ ممّا يتخيّرون * ولحم طيرٍ ممّا يشتهون * وحورٍ عينٍ}، فخفض بعض القراء ورفع بعضهم الحور العين، قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ؛ فرفعوا على معنى قولهم: "وعندهم حورٌ عينٌ"، أو "مع ذلك حور عينٌ"؛ فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما، إنما يطاف بالخمر وحدها -والله أعلم- ثم أتبع آخر الكلام أوّله، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:

علفتها تبناً وماءً بارداً = حتى شتت همّالةً عيناها
والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر.
وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتمّاعه، فقولك: قد أعتقت مباركاً أمس وآخر اليوم يا هذا؛ وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم؛ لأن هذا مختلف، لا يعرف أنك أردت ابتعت، ولا يجوز أن تقول: ضربت فلاناً وفلانًا؛ وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلاناً؛ لأنه ليس هاهنا دليل، ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله). [معاني القرآن: 1/12-14]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم}: ثم انقطع النصب، فصار خبراً فارتفعت فصار {غشاوة}؛ كأنها في التمثيل، قال: {وعلى أبصارهم غشاوة} أي: غطاء، قال الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة:

تبعتك إذ عينى عليها غشاوة= فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها
). [مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ}
أما قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} فإن الختم ليس يقع على الأبصار، إنما قال: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} ثم قال: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ} مستأنفاً.
وقوله: {ختم اللّه}؛ لأن ذلك كان لعصيانهم الله فجاز ذلك اللفظ، كما تقول: "أهلكته فلانة" إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا؛ لأنه هلك في اتباعها، أو يكون "ختم" حكم بها أنها مختوم عليها). [معاني القرآن: 1/24]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({غشاوة}: غطاء).[غريب القرآن وتفسيره: 64]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والخاتم بمنزلة الطّابع، وإنما أراد: أنه أقفل عليها وأغلقها، فليست تعي خيراً ولا تسمعه، وأصل هذا: أن كلّ شيء ختمته، فقد سددته وربطته.
ثم قال عز وجل: وعلى {أبصارهم غشاوةٌ} ابتداء، وتمام الكلام الأول عند قوله: {وعلى سمعهم}.
والغشاوة: الغطاء، ومنه يقال: غشّه بثوب، أي: غطّه. ومنه قيل: غاشية السّرج، لأنها غطاء له، ومثله قوله: {لهم من جهنّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ}). [تفسير غريب القرآن: 40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)}
معنى ختم في اللغة وطبع معنى واحد، وهو: التغطية على الشيء، والاستيثاق من ألا يدخله شيء، كما قال عزّ وجلّ: {أم على قلوب أقفالها}
وقال جلّ ذكره: {كلا بل ران على قلوبهم} معناه : غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون. وكذلك: {طبع عليها بكفرهم} وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون، ولكنهم لم يستعملوا هذه الحواس استعمالاً يجزي عنهم، فصاروا كمن لا يسمع ولا يبصر. قال الشاعر:

....... = أصم عما ساءه سميع
وكذلك قوله جلّ وعزّ {وعلى أبصارهم غشاوة}: هي الغطاء، فأما قوله: {وعلى سمعهم} وهو يريد: "وعلى أسماعهم"، ففيه ثلاثة أوجه:
فوجه منها: أن السمع في معنى المصدر فوحّد، كما تقول: يعجبني حديثكم ويعجبني ضربكم فوحّد؛ لأنه مصدر.
ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى "أسماعهم". قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأمّا عظامها= فبيض وأمّا جلدها فصليب
وقال الشاعر أيضاً:

لا تنكري القتل وقد سبينا= في حلقكم عظم وقد شجينا
معناه : في حلوقكم، وقال:

كأنه وجه تركيين قد غضبا= مستهدف لطعان غير تذييب
أما {غشاوة} فكل ما كان مشتملاً على الشيء: فهو في كلام العرب مبني على "فعالة "، نحو: الغشاوة والعمامة والقلادة والعصابة، وكذلك أسماء الصناعات؛ لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها، نحو: الخياطة والقصارة، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفعالة، نحو: الحلاقة والإمارة.
والرفع في {غشاوة} هو الباب، وعليه مذهب القرّاء.
والنصب جائز في النحو على أن المعنى: {وجعل على أبصارهم غشاوة} كما قال اللّه عز وجل في موضع آخر: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} ومثيله من الشعر مما حمل على معناه، قوله:

يا ليت بعلك قد غدا= متقلدا سيفا ورمحا
معناه : متقلداً سيفاً، وحاملاً رمحاً.
ويروي: "غشوة"، والوجه ما ذكرناه. وإنما "غشوة" رد إلى الأصل؛ لأن المصادر كلها ترد إلى "فعلة"، والرفع والنصب في "غشوة" مثله في "غشاوة"). [معاني القرآن: 1/83-84]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}
أي: طبع الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وغطى عليها، على جهة الجزاء بكفرهم وصدهم الناس عن دين الله.
وهؤلاء الكفار: هم الذين سبق في علمه من أنهم لا يؤمنون، ويكون مثل قولهم "أهلكه المال"، "وهب المال بعقله" أي: هلك فيه وبسبه، فهو كقوله: {فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى} فإن ذلك من الله عن فعلهم في أمره). [معاني القرآن: 1/87-88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}
قال سيبويه: غشاوة أي: غطاء). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والختم: منع القلب من الإيمان). [ياقوتة الصراط: 170]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ختم الله}: طبع الله). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({غِشَاوَةٌ}: غطاء). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}
ثم قال: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر} فجعل اللفظ واحداً، ثم قال: {وما هم بمؤمنين} فجعل اللفظ جميعاً، وذلك أن (من)اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعاً في المعنى، ويكون اثنين، فإن لفظت بفعله على معناه: فهو صحيح، وإن جعلت فعله على لفظه واحداً: فهو صحيح، و مما جاء من ذلك قوله: {بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربه و لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} وقال: {ومنهم مّن يستمعون إليك} وقال: {ومنهم مّن ينظر إليك} وقال: {ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين} فقال: {يقنت} فجعله على اللفظ؛ لأن اللفظ في {من} مذكر، وجعل {تعمل} و{نؤتها} على المعنى،
وقد قال بعضهم: (ويعمل) فجعله على اللفظ؛ لأن لفظ (من) مذكر، وقد قال بعضهم: (ومن تقنت) فجعله على المعنى؛ لأنه يعني: امرأة.
وهي حجة على من قال: لا يكون اللفظ في (من) على المعنى إلا أن تكون (من) في معنى (الذي)، فأما في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في (من) على المعنى.
وقولهم هذا خطأ؛ لأن هذا الموضع الذي فيه (ومن تقنت) مجازاة، وقد قالت العرب: "ما جاءت حاجتك" فأنثوا "جاءت"؛ لأنها لـ"ما"، وإنما أنثوا؛ لأن معنى "ما" هو الحاجة، وقد قالت العرب أو بعضهم: "من كانت أمّك" فنصب، وقال الشاعر:

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني = نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
ويروى "تعال فإن" وقد جعل "من" بمنزلة رجل، قال الشاعر:

ربّ من انضجت غيظاً صدره = قد تمنّى لي شرّاً لم يطع
فلولا أنها نكرة بمنزلة "رجل" لم تقع عليها "ربّ"، وكذلك (ما) نكرة إلا أنها بمنزلة "شيء"، ويقال: أن قوله: {هذا ما لديّ عتيدٌ} على هذا، جعل (ما) بمنزلة "شيء" ولم يجعلها بمنزلة "الذي"، فقال: "ذا شيءٌ لديّ عتيد"، وقال الشاعر:

ربّ ما تكره النفوس من الأمر = له فرجةٌ كحل العقال
فلولا إنها نكرة بمنزلة "من" لم تقع عليها "ربّ"، وقد يكون {هذا ما لديّ عتيدٌ} على وجه آخر، أخبر عنهما خبراً واحداً كما تقول: "هذا أحمر أخضر"، وذلك أن قوماً من العرب يقولون: "هذا عبد اللّه مقبلٌ"، وفي قراءة ابن مسعود: {وهذا بعلي شيخٌ} كأنه أخبر عنهما خبراً واحداً، أو يكون كأنه رفعه على التفسير كأنه إذا قال: {هذا ما لديّ}، قيل: ما هو؟، أو علم أنه يراد ذلك منه فقال: {عتيد} أي: ما عندي عتيد، وكذلك {وهذا بعلي شيخٌ}، وقال الراجز:

من يك ذا بتٍّ فهذا بتّى = مقيّظٌ مصيّف مشتّى
وقال: {إن اللّه نعمّا يعظكم به}، فـ"ما" ههنا اسم ليست له صلة؛ لأنك إن جعلت {يعظكم به} صلة لـ(ما) صار كقولك: "إن الله نعم الشيء" أو "نعم شيئاً " فهذا ليس بكلام، ولكن تجعل (ما) اسماً وحدها كما تقول: "غسلته غسلاً نعمّا"، تريد به: "نعم غسلاً"، فإن قيل: كيف تكون (ما) اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها؟
قلت: "هي بمنزلة "يا أيّها الرجل"؛ لأن "أيّا" ههنا اسم، ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار (ما) مثل الموصوف ههنا، لأنك إذا قلت "غسلته غسلاً نعمّا" فإنما تريد المبالغة والجودة، فاستغني بهذا حتى تكلم به وحده، ومثل "ما أحسن زيدا" (ما) ههنا وحدها اسم، وقوله "إني مما أن أصنع كذا وكذا" (ما) ههنا وحدها اسم كأنه قال: "إني من الأمر" أو "من أمري صنيعي كذا وكذا"،
ومما جاء على المعنى قوله: {كمثل الذي استوقد ناراً أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} لأن "الذي" يكون للجميع، كما قال: {والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون}). [معاني القرآن: 1/25-27]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)}
عنى بذلك: المنافقين، وإعراب (من) الوقف إلا أنها فتحت لالتقاء السّاكنين: سكون النون من قولك (من)، وسكون النون الأولى من (الناس)، وكان الأصل أن يكسر لالتقاء السّاكنين، ولكنها فتحت لثقل اجتماع كسرتين لو كان: (مِنِ النّاسِ) لثقل ذلك.
فأما عن (الناس) فلا يجوز فيه إلا الكسر؛ لأن أول "عن" مفتوح، و(من) إعرابها الوقف؛ لأنها لا تكون اسما تاما في الخبر إلا بصلة، فلا يكون الإعراب في بعض الاسم.
فأما الإدغام في الياء في (من يقول) فلا يكون غيره، تقول: "من يقوّم" فتدغم بغنة وبغير غنة.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بمؤمنين} دخلت الباء مؤكدة لمعنى النفي؛ لأنك إذا قلت: "ما زيد أخوك" فلم يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإذا قلت: "ما زيد بأخيك" و{ما هم بمؤمنين} علم السامع أنك تنفي، وكذلك جميع ما في كتاب الله عزّ وجلّ). [معاني القرآن: 1/83-85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}
روى إسماعيل السدي، عن ابن عباس قال: "هم المنافقون".
قال أهل اللغة: النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جُحْرٌ يخرج منه اليربوع إذا أخذ عليه الجُحْر الذي يدخل فيه، فقيل: منافق؛ لأنه يدخل الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} فنفى عنهم الإيمان؛ لأنهم لا اعتقاد لهم ولا عمل). [معاني القرآن: 1/89]

تفسير قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يخادعون} في معنى: يخدعون، ومعناها: يظهرون غير ما في أنفسهم، ولا يكاد يجئ يفاعل إلاّ من اثنين، إلا في حروف هذا أحدهما؛ قوله: {قاتلهم الله} معناها: قتلهم الله). [مجاز القرآن: 1/31]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}
أما قوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا} ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين، فإنه إنمّا يقول: {يخادعون اللّه} عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم، ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
{وما يخدعون إلاّ أنفسهم} وقال بعضهم: (يخادعون)، يقول: يخدعون أنفسهم بالمخادعة لها، وبها نقرأ.
وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول: "باعدته مباعدةً" و"جاوزته مجاوزةً" في أشياء كثيرة، وقد قال: {وهو خادعهم} فذا على الجواب، يقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به "أنا الذي خدعتك" ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، وكذلك {ومكروا ومكر اللّه} و{اللّه يستهزئ بهم} على الجواب، والله لا يكون منه المكر والهزء، والمعنى: أن المكر حاق بهم والهزء صار بهم).
[معاني القرآن: 1/26-28]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم} يريد: إنهم يخادعون المؤمنين باللّه فإذا خادعوا المؤمنين: فكأنهم خادعوا الله، وخداعهم إيّاهم: قولهم لهم إذا لقولهم: {قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم} أي: مردتهم، قالوا: {إنّا معكم، إنّما نحن مستهزؤن}.
وما يُخَادِعون إلّا أنفسهم لأن وبال هذه الخديعة وعاقبتها راجعة عليهم، وهم لا يشعرون). [تفسير غريب القرآن: 40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون (9)}
يعني به: المنافقين أيضاً.
ومعنى {يخادعون}: يظهرون غير ما في نفوسهم، والتقية تسمّى -أيضاً- خداعاً، فكأنهم لمّا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً، وجاء بـ"فاعل" لغير اثنين؛ لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو "عاقبت اللص" و"طارقت النعل".
وقوله عزّ وجلّ: {وما يخدعون إلّا أنفسهم} تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعذاب والعقاب، {وما يشعرون} أي: وما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب، يقال: "ما شعرت به" أي: ما علمت به، و"ليت شعري ما صنعت" معناه: ليت علمي). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا}
المخادعة في اللغة: إظهار خلاف الاعتقاد، وتسمى التقية خداعاً، وهو يكون من واحد.
قال ابن كيسان: لأن فيه معنى راوغت كأنه قابل شيئاً بشيء). [معاني القرآن: 1/89]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم} أي أن عقوبة ذلك ترجع عليهم،
وفرق أهل اللغة بين "خادع" و"خدع"، فقالوا: "خادع" أي: قصد الخدع وإن لم يكن خدع، و"خدع" معناه: بلغ مراده.
والاختيار عندهم "يخادعون" في الأولى؛ لأنه غير واقع، والاختيار في الثاني "يخدعون"؛ لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم لما يطلع عليه من أخبارهم، فعاد ما ستروه وأظهروا غيره وبالاً عليهم .
وقال محمد بن يزيد: يجوز في الثاني: (وما يخادعون) أي: بتلك المخادعة بعينها إنما يخادعون أنفسهم بها؛ لأن وبالها يرجع عليهم.
ثم قال تعالى: {وما يشعرون} أي: وما يشعرون بذلك، والمعنى: ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم). [معاني القرآن: 1/89-90]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والخدع: منع الحق). [ياقوتة الصراط: 170]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُخَادِعُونَ}: ينافقون). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في قلوبهم مرضٌ} أي: شكّ ونفاق.
{عذابٌ أليمٌ} أي: موجع من الألم، وهو في موضع "مفعل"، قال ذو الرمة:

ونرفع في صدور شمردلاتٍ= يصكّ وجوهها وهجٌ أليم
الشّمردلة: الطويلة من كل شيء). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({في قلوبهم مّرضٌ فزادهم اللّه مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون}
أما قوله: {فزادهم اللّه مرضاً}؛ فمن فخم: نصب الزاي، فقال: (زَادَهم)، ومن أمال: كسر الزاي، فقال: (زِادَهم)؛ لأنها من "زِدْت" أولها مكسور.
فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو -وهم بعض أهل الحجاز- ويقولون أيضاً: {ولمن خاف مقام ربّه} و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء} و{وقد خاب} ولا يقولون (قِالَ) ولا (زِار)؛ لأنه يقول (قُلت) و(زُرت) فأوله مضموم، فإنما يفعلون هذا في ما كان أوله من "فعلت" مكسوراً، إلاّ أنهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله: {وسقاهم ربّهم} و {قد أفلح من زكّاها} ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم.
وما كان من نحو هذا من بنات الواو وكان ثالثاً نحو: {والقمر إذا تلاها} ونحو: {والأرض وما طحاها} فإن كثيراً من العرب يفخمه ولا يميله؛ لأنها ليست بياء فتميل إليها؛ لأنها من "طحوت" و"تلوت".
فإذا كانت رابعة فصاعداً؛ أمالوا وكانت الإمالة هي الوجه؛ لأنها حينئذ قد انقلبت إلى الياء، ألا ترى أنك تقول: "غزوت" و"أغزيت"، ومثل ذلك: {واللّيل إذا يغشاها} و{قد أفلح من تزكّى} و{والنّهار إذا تجلّى} أمالها؛ لأنها رابعة، و"تجلّى" فعلت منها بالواو؛ لأنها من "جلوت"، و"زكا" من "زكوت يزكو" و{واللّيل إذا يغشاها} من "الغشاوة".
وقد يميل ما كان منه بالواو نحو: {تلاها} و{طحاها} ناسٌ كثير؛ لأن الواو تنقلب إلى الياء كثيراً مثل قولهم في حور:حير، وفي مشوب: مشيب، وقالوا "أرضٌ مسنيّة" إذا كان يسنوها المطر، فأمالوها إلى الياء؛ لأنها تنقلب إليها، وأمالوا كل ما كان نحو: "فَعْلَى" و"فُعْلَى"، نحو: بشرى ومرضى وسكرى؛ لأن هذا لو ثنّي كان بالياء، فمالوا إليها.
وأما قوله: {بما كانوا يكذبون} فـ{يكذّبون}: يجحدون، وهو الكفر، وقال بعضهم: {يكذّبون} خفيفة، وبها نقرأ، يعني "يكذبون على الله وعلى الرسل" جعل "ما" والفعل اسماً للمصدر، كما جعل "أن" والفعل اسما للمصدر في قوله "أحبّ أن تأتيني".
وأما المعنى فإنما هو "بكذبهم" و"تكذيبهم", وأدخل "كان"؛ ليخبر أنه كان فيما مضى، كما تقول: "ما أحسن ما كان عبد الله" فأنت تَعْجَبُ من" عبد الله لا من "كونه"، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه، وقال: {فاصدع بما تؤمر} وليس هذا في معنى "فاصدع بالذي تؤمر به"، لو كان هذا المعنى: لم يكن كلاماً حتى تجيء بـ"به"، ولكن "اصدع بالأمر" جعل "ما تؤمر" اسماً واحداً، وقال: {ولا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا} يقول: بالإتيان، يجعل "ما" و"أتوا" اسماً للمصدر، وإن شئت قلت: "أتوا" ههنا "جاءوا" كأنه يقول: "بما جاءوا" يريد "جاءوه" كما تقول "يفرحون بما صنعوا" أي: "بما صنعوه"، ومثل هذا في القرآن كثير، وتقديره "بكونهم يكذبون" فـ"يكذبون" مفعول لـ"كان" كما تقول: "سرني زيد بكونه يعقل" أي: بكونه عاقلاً). [معاني القرآن: 1/28-30]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يخادعون} يظهرون خلاف ما في نفوسهم.
{في قلوبهم مرض}: أي شك ونفاق.
{أليم}: موجع، في معنى "مؤلم"). [غريب القرآن وتفسيره: 65]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({في قلوبهم مرضٌ} أي: شك ونفاق، ومنه يقال: فلان يمرّض في الوعد وفي القول، إذا كان لا يصححه ولا يؤكده). [تفسير غريب القرآن: 41]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {في قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)} معناه: نفاق، وقد يقال: السّقم والمرض في البدن وفي الدّين جميعاً، كما يقال: الصحة في البدن والدّين جميعاً.
فمعنى قوله: {مرض} قال أبو عبيدة: معناه: شك ونفاق، والمرض في القلب: يصلح لكل ما خرج به الإنسان عن الصحة في الدين.
وقوله: {فزادهم اللّه مرضاً} فيه جوابان:
قال بعضهم: زادهم الله بكفرهم. كما قال عزّ وجلّ: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}.
وقال بعض أهل اللغة: فزادهم اللّه بما أنزل عليهم من القرآن، فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله. قال: والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذا ما أنزلت سورة} إلى قوله: {فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} وهذا قول بين واضح، واللّه أعلم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم عذاب أليم} معناه موجع يصل وجعه إلى قلوبهم. وتأويل {أليم} في اللغة: مؤلم.
قال الشاعر- وهو عمرو بن معد يكرب الزبيدي- :

أمن ريحانة الداعي السميع= يؤرقني وأصحابي هجوع
معنى {السميع}: المسمع.
وقوله عزّ وجلّ: {بما كانوا يكذبون} ويقرأ: (يكذّبون).
فمن قرأ (يكذبون) بالتخفيف: فإن كذبهم قولهم: أنهم مؤمنون، قال الله عزّ وجلّ: {وما هم بمؤمنين}. وأما (يكذّبون) بالتثقيل، فمعناه: بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم). [معاني القرآن: 1/86-87]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}
روى السدي، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس قال: "يقول: في قلوبهم شك".
وقال غيره: المرض: النفاق والرياء، والمرض: في الجسد، كما أن العمى: في القلب، ويقال: مرض فلان: أصابته علة في بدنه .
فإن قيل: بم أصابهم المرض؟
قيل: فعل هذا بهم عقوبة. وقيل: بإنزال القرآن أصابهم المرض كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}.
ثم قال تعالى: {ولهم عذاب أليم} يقال: آلم إذا أوجع، وهو مؤلم وأليم، والألم: الوجع، وجمع أليم: آلام كأشراف، والأليم: الشديد الوجع.
ثم قال تعالى: {بما كانوا يكذبون}
قال أبو حاتم: أي: بتكذيبهم الرسل، وردهم على الله، وتكذيبهم بآياته، قال: ومن خفف فالمعنى عنده: بكذبهم وقولهم آمنا ولم يؤمنوا فذلك كذب). [معاني القرآن: 1/90-92]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والمرض: الكفر، ومنه قوله عز وجل: {في قلوبهم مرض}). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والأليم: المؤلم). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَّرَضٌ}: نفاق. {أَلِيمٌ}: مؤلم). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}
أما قوله: {وإذا قيل لهم} فمنهم من يضم أوله؛ لأنه في معنى "فعل" فيريد أن يترك أوله مضموماً ليدل على معناه.
ومنهم من يكسره؛ لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم، والكسر القياس.
ومنهم من يقول في الكلام: "قد قُولَ لَهُ" و"قد بوع المتاع" إذا أراد "قد بيع" و"قيل"، جعلها واواً حين ضم ما قبلها، لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم.
ومنهم من يروم الضم في "قيل" مثل رومهم الكسر في "ردّ"، لغةٌ لبعض العرب أن يقولوا "ردّ" فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين.
وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمها الكسر كما يروم في "قيل" الضم، وقال الفرزدق:

وما حلّ من جهل حبا حلمائنا = ولا قائل المعروف فينا يعنّف
سمعناه ممن ينشده من العرب هكذا). [معاني القرآن: 1/30-31]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون (11)} معناه: لا تصدوا عن دين اللّه، فيحتمل {إنّما نحن مصلحون} ضربين من الجواب:
أحدهما: أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني: أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عندنا إصلاح.
فأما إعراب {قيل}: فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماضٍ مبني على الفتح، والأصل في قيل: "قول" ولكن الكسرة نقلت إلى القاف؛ لأن العين من الفعل في قولك: "قال" نقلت من حركة إلى سكون، فيجب أن تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبعضهم يروم الضمة في "قيل"، وقد يجوز في غير القرآن: "قد قول ذاك "، وأفصح اللغات "قيل" و"غيض".
{وسيق الّذين اتقوا ربّهم}: إن شئت قلت: "قيل"، و"غيض"، و"سيق" تروم في سائر أوائل ما لم يسم فاعله الضم في هذا الباب).
[معاني القرآن: 1/87]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} فيه قولان:
أحدهما: أنهم قالوا: نحن مصلحون، فليس من عادتنا الإفساد.
والآخر: أنهم قالوا هذا الذي تسمونه فسادا ًهو عندنا صلاح). [معاني القرآن: 1/92]

تفسير قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} معنى ذلك:
"ألا" التنبيه، كما قال الشاعر:

ألا إن الدهر يوم وليلة = وليس على شيء قويم بمستمر
وقوله تعالى: {ولكن لا يشعرون}
قال ابن كيسان: يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم.
قال: ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم كانوا يعملون الفساد ويظهرون الصلاح، وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أن يكون فسادهم عندهم صلاحاً وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه).
[معاني القرآن: 1/93]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:22 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 13 إلى 20]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهم هم السّفهاء ولكن لاّ يعلمون}
أما قوله: {أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنهّم هم السّفهاء} فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعاً، وقالوا: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم} و {ولا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله} وقالوا (أئذا) ، (أئنا) كل هذا يهمزون فيه همزتين، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذاً، ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء: فإن إحداهما تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة، وذلك أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبداً، فجعلوها:
إن كان ما قبلها مفتوحاً: ألفاً ساكنة نحو: "آدم" و"آخر" و"آمن".
وإن كان ما قبلها مضموماً: جعلت واواً نحو: "أوزُزْ" إذا أمرته أن يؤز.
وإن كان ما قبلها مكسوراً: جعلت ياء نحو: "إيت".
وكذلك إن كانت الآخرة متحركة -بأي حركة كانت- والأولى مضمومة أو مكسورة؛ فالآخرة تتبع الأولى نحو: "أنا أُفْعِلُ" من "آب"، فتقول "أووب"، ونحو: "جاء" في الرفع والنصب والجر.
فأما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة؛ لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها، ولكن تكون على موضعها، فإن كانت مكسورة جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واواً، وإن كانت مفتوحة جعلت أيضاً واواً؛ لأن الفتحة تشبه الألف، وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واواً ما لم يكن لها أصل في الياء معروف، فهذه الفتحة ليس لها أصل في الياء، فجعلت الغالب عليها الواو نحو: "آدم" و"أوادم"، فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة إحداهما، ولم يبلغ من استثقالهما ما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة؛ ولأن اللتين في كلمة واحدة لا تفارق إحداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين؛ لأن ما في الكلمتين كلّ واحدة على حيالها، فتخفيف الآخرة أقيس، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الأولى.
فمن خفف الآخرة في قوله: {كما آمن السّفهاء ألا} قال: (السفهاء ولا) فجعل الألف في (ألا) واواً، ومن خفف الأولى جعل الألف التي في (السفهاء) كالواو وهمز ألف (ألاّ).
وأما {أأنذرتهم} فإن الأولى لا تخفف؛ لأنها أول الكلام، والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف؛ لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدأ بها، وقد قال بعض العرب (آإذا) و(آانذرتهم) و(آانا قلت لك كذا وكذا) فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان، كل ذا قد قيل، وكل ذا قد قرأه الناس.
وإذا كانت الهمزة ساكنة؛ فهي في لغة هؤلاء الذين يخففون إن كان ما قبلها مكسوراً: ياء، نحو: (أنبيهم بأسمايهم) ونحو: (نبّينا)، وإن كان مضموماً: جعلوها واواً نحو: "جونه"، وإن كان ما قبلها مفتوحاً: جعلوه ألفاً نحو: "راس" و"فاس"، وإن كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده وأذهبوا الهمزة، يقولون في: {في الأرض}: (فلرض)، وفي: {ما لكم مّن إله}: (منلاهٍ)، يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة -أي حركة كانت- ويحذفون الهمزة.
وإذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى مكسورة والآخرة مكسورة؛ فأردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو "هؤلاء يماء الله"، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة.
وإن كانت الآخرة مفتوحة نحو: "هؤلاء أخواتك"، أو مضمومة نحو: "هؤلاء أمّهاتك" لم تجعل بين بين، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها؛ لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا أردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأول مهموزاً أو غير مهموز فهو سواء إذا أردت تخفيف الآخرة، من ذلك قولهم : "مئين" و"مئير" في قول من خفف.
وإن كان الحرف مفتوحاً بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين؛ لأن المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة، نحو : "البيع"، والواو الساكنة نحو: "القول"، وهذا مثل {يتفيّؤ ظلاله} و{ويمسك السّماء أن تقع على الأرض} و(آاذا) و(آانا) إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين، والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان، إلا أنا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء. وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعاً قراءة أهل الكوفة، وبعض أهل البصرة.
ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول: "هذا قاروٌ" و"هؤلاء قاروون" و(يستهزوون)، وليس هذا كلام من خفف من العرب، إنما يقولون: (يستهزئون) و(قارئون).
وإذا كان ما قبل الهمزة مضموماً وهي: جعلتها بين بين، وإن كانت مكسورة أو مفتوحة: لم تكن بين بين وما قبلها مضموم؛ لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة، والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة، وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واواً خالصة؛ لأنهما يتبعان ما قبلهما، نحو: "مررت بأكموٍ" و"رأيت أكمواً" و"هذا غلاموبيك" تجعلها واواً إذا أردت التخفيف، إلا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب إلى الياء مع "هذا" و"ذلك"، نحو: "هذا غلاميخوانك" و"ولا يحيق المكر السّيّئ يلا".
وإذا كانتا في معنى "فعل" والهمزة في موضع العين: جعلت بين بين؛ لأن الياء الساكنة تكون بعد الضمة، ففي "قيل" يقولون: "قيل"، ومثل ذلك "سيل" و"ريس" فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموماً.
وأما "روس" فليست "فعل"، وإنما هي "فعل" فصارت واوا ً؛ لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة). [معاني القرآن: 1/32-35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس} يعني: المسلمين، {قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء}؟! أي: الجهلة، ومنه يقال: سفه فلان رأيه؛ إذا جهله، ومنه قيل للبذاء سفه؛ لأنه جهل). [تفسير غريب القرآن: 41]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون (13)}
أصل السفه في اللغة: خفة الحلم، وكذلك يقال : ثوب سفيه إذا كان رقيقاً باليا.
وقوله عزّ وجلّ: {ألا إنّهم هم السّفهاء} معنى (ألا) استفتاح وتنبيه، وقوله: {هم السفهاء} يجوز أن يكون خبر "إنّ" و "هم" فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون: العماد. ويجوز أن يكون "هم" ابتداء، و"السفهاء" خبر الابتداء، و"هم السفهاء" خبر إن). [معاني القرآن: 1/88]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}
قال ابن عباس: "(الناس) ههنا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".
{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} قال أبو إسحاق: أصل السفه في اللغة: رقة الحلم، يقال ثوب سفيه، أي: بال رقيق). [معاني القرآن: 1/93-94]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أي: لا يعلمون أن وبال ذلك يرجع عليهم، ويقال: إذا وصفوا بالسفه فلم لا يكون ذلك عذراً لهم؟
فالجواب: أنه إنما لحقهم ذلك إذ عابوا الحق فأنزلوا أنفسهم تلك المنزلة، كما قال تعالى: {إن هم إلا كالأنعام} لصدهم وإعراضهم، إذ بعده {بل هم أضل سبيلاً}؛ لأن الأنعام قد يصرفها راعيها كيف شاء وهؤلاء لا يهتدون بالإنذار والعظة، وأيضاً؛ فإذا سفهوا المؤمنين فهم في تلك الحال مستحقون لهذا الاسم .
وقوله تعالى: {ولكن لا يعلمون} الجواب عنه كالجواب عن: {ولكن لا يشعرون}). [معاني القرآن: 1/94-95]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آمَنَ النَّاسُ}: المسلمون. {السُّفَهَاء}: الجهال). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الشّياطين}: كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب فهو شيطان). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}
قوله: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا} فأذهب الواو؛ لأنه كان حرفاً ساكناً لقي اللام وهي ساكنة، فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته؛ لأن فيما بقي دليلاً على الجمع، وكذلك كل «واو» كان ما قبلها مضموماً من هذا النحو.
فإذا كان ما قبلها مفتوحاً لم يكن بد من حركة الواو؛ لأنك لو ألقيتها لم تستدل على المعنى، نحو: {اشتروا الضّلالة} وحركت الواو بالضم؛ لأنك لو قلت "اشترا الضلالة" فألقيت الواو لم تعرف إنه جمع، وإنما حركتها بالضم؛ لأن الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه، وقد قرأ قوم -وهي لغة لبعض العرب- : (اشْتَرَوِا الضّلالة) لما وجدوا حرفاً ساكناً قد لقي ساكناً كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأما قوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} فإنك تقول "خلوت إلى فلان في حاجة" كما تقول: "خلوت بفلان"، إلاّ إن "خلوت بفلان" له معنيان: أحدهما هذا، والآخر سخرت به.
وتكون "إلى" في موضع "مع"؛ نحو: {من أنصاري إلى اللّه}، كما كانت "من" في معنى "على" في قوله: {ونصرناه من القوم} أي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى "على" في قوله: "مررت به" و"مررت عليه" وفي كتاب الله عز وجل: {مّن أن تأمنه بدينارٍ} يقول: "على دينار"، وكما كانت "في" في معنى "على" نحو: {في جذوع النّخل} يقول "على جذوع النخل".
وزعم يونس أن العرب تقول: "نزلت في أبيك" تريد "عليه"، وتقول: "ظفرت عليه" أي: "به"، و"رضيت عليه" أي: "عنه"، قال الشاعر:


إذا رضيت عليّ بنو قشير = لعمر اللّه أعجبني رضاها
). [معاني القرآن: 1/35-36]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون (14)} أنبأ الله المؤمنين بما يسره المنافقون من الكفر، ومعنى "شياطينهم" في اللغة: مردتهم، وعتاتهم في الكفر.
ويقال: "خلوت إليه" و"معه"، ويقال: "خلوت به"، وهو على ضربين:
أحدهما: جعلت خلوتي معه، كما قال: "خلوت إليه"، أي: جعلت خلوتي معه، وكذلك يقال: خلوت إليه.
ويصلح أن يكون: "خلوت به": سخرت منه.
ونصب {معكم} كنصب الظروف، تقول: "إنا معكم" و"إنا خلفكم" معناه: إنا مستقرون معكم، ومستقرون خلفكم، والقراءة المجمع عليها فتح العين، وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها. ويجوز "إنّا معكم" للشاعر إذا اضطر، قال الشاعر:

قريشي منكمو وهواي معكم= وإن كانت زيارتكم لماما
وفي قوله عزّ وجلّ: {خلوا إلى} وجهان:
إن شئت أسكنت الواو وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوا إلى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: (خلو لي) وكذلك يقرأ أهل الحجاز، وهو جيد بالغ.
و"إنا" الأصل فيه "إننا"، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّني معكما}، ولكن النون حذفت؛ لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إن؛ لأن في "إن" نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
وقوله عزّ وجلّ: {إنما نحن مستهزئون}: "نحن" مبنية على الضم؛ لأن "نحن" يدل على الجماعة، وجماعة المضمرين يدل عليهم إذا ثنيت الواحد من لفظه الميم والواو، نحو: "فعلوا" و"أنتم"، فالواو من جنس الضمة، فلم يكن بد من حركة "نحن" فحركت بالضم؛ لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو الجماعة إذا حركت؛ لالتقاء السّاكنين ضمت، نحو: {اشتروُا الضلالة}، وقد حركها بعضهم إلى الكسر، فقال: (اشتروِا الضلالة)؛ لأن اجتماع السّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: {اشتروُا الضلالة} بالضم، وقد رويت: (اشتروَا الضلالة) بالفتح، وهو شاذ جدّاً.
و{مستهزئون}: القراءة الجيدة فيه: تحقيق الهمزة، فإذا خففت الهمزة جعلت الهمزة بين الواو والهمزة، فقلت: (مستهزؤون). فهذا الاختيار بعد التحقيق.
ويجوز أن تبدل من الهمزة ياء، فتقول: (مستهزيون)، فأما (مستهزون) فضعيف لا وجه له إلا شاذّاً، على لغة من أبدل الهمزة ياء، فقال في استهزأت: (استهزيت)، فيجب على لغة (استهزيت) أن يقال: (مستهزون) ). [معاني القرآن: 89/-90]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم}
روى أسباط، عن السدي: أما شياطينهم: فهم رؤساؤهم في الكفر.
ويبين ما قاله قوله جل وعز: {شياطين الإنس والجن}، و"شيطان" مشتق من الشطن: وهو الحبل. أي: هو ممدود في الشر، ومنه بئر شطون).
[معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} فأخبر سبحانه بما يكتمون). [معاني القرآن: 1/96]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُسْتَهْزِؤُونَ}: نسخر منهم). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في طغيانهم يعمهون} أي: بغيهم وكفرهم، يقال: رجل عمهٌ وعامه، أي: جائر عن الحق، قال رؤبة:

ومهمهٍ أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [مجاز القرآن: 1/32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
أما قوله: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} فهو في معنى "ويمدّ لهم"، كما قالت العرب: "الغلام يلعب الكعاب" تريد: "يلعب بالكعاب"، وذلك أنهم يقولون "قد مددت له"، و"أمددته" في غير هذا المعنى، وهو قوله جل ثناؤه: {وأمددناهم بفاكهةٍ} وقال: {ولو جئنا بمثله مدداً} وقال بعضهم:(مداداً) و (مدّاً) من "أمددناهم"، وتقول "مدّ النهر فهو مادّ" و"أمدّ الجرح فهو ممدّ"، وقال يونس: ما كان من الشرّ فهو: "مددت"، وما كان من الخير فهو: "أمددت"، فتقول كما فسرت له فإذا أردت أنك تركته قلت: "مددت له" وإذا أردت أنك أعطيته قلت: "أمددته").
[معاني القرآن: 1/36-37]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يمدهم}: يتركهم ويملى لهم.
{في طغيانهم}: في عتوهم وكفرهم.
{يعمهون}: يتحيرون ويترددون. يقال رجل عمة وعامة). [غريب القرآن وتفسيره: 65]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({اللّه يستهزئ بهم} أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل». ومثله قوله: {نسوا اللّه فنسيهم} أي: جازاهم جزاء النسيان، وقد ذكرت هذا وأمثاله في كتاب «المشكل».
{ويمدّهم} أي: يتمادى بهم، ويطيل لهم.
{في طغيانهم} أي: في عتوّهم وتكبّرهم، ومنه قوله: {إنّا لمّا طغى الماء} أي: علا.
{يعمهون}: يركبون رؤوسهم فلا يبصرون، ومثله قوله: {أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويًّا على صراطٍ مستقيمٍ}، يقال: رجل عمه وعامه، أي: جائر عن الطريق، وأنشد أبو عبيدة:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [تفسير غريب القرآن: 41-42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15)} فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللّه بهم: أن أظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا من الإسلام خلاف ما أسرّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤه بهم: أخذه إياهم من حيث لا يعلمون، كما قال عزّ وجلّ: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
ويجوز - واللّه أعلم، وهو الوجه المختار عند أهل اللغة- أن يكون معنى (يستهزئ بهم): يجازيهم على هزئهم بالعذاب، فسمّى جزاء الذنب باسمه كما قال عزّ وجلّ: {وجزاء سيّئة سيّئة مثلها}، فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه جيء في اللغة باسم الذنب؛ ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، فهذه ثلاثة أوجه واللّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه وهو خادعهم}، {ويمكرون ويمكر الله}.
وقوله عزّ وجلّ: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
معنى {ويمدّهم}: يمهلهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و{في طغيانهم} معناه: في غلوّهم وكفرهم، ومعنى {يعمهون} في اللغة: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير، قال الراجز:

ومهمه أطرافه في مهمه= أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
). [معاني القرآن: 1/90-91]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {الله يستهزئ بهم} فيه أجوبه:
أصحها: أن معناه: يجازيهم على استهزائهم، فسمي جزاء الذنب باسمه لازدواج الكلام، وليعلم أنه عقاب عليه وجزاء به، كما قال عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
وقيل: هو ما روي في الحديث أن المؤمنين يعطون نوراً فيحال بينهم وبينه.
وقيل: هو أن الله أظهر لهم من أحكامه خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا للمسلمين خلاف ما أسروا. واستشهد صاحب هذا القول بأن بعده: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وقيل: هو مثل {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} وهذه الأقوال ترجع إلى الأول؛ لأنها مجازة أيضاً.
ومن أحسن ما قيل فيه: أن معنى {يستهزئ بهم}: يصيبهم، كما قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم}). [معاني القرآن: 1/96-97]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} أي: يمدهم في تجاوزهم متحيرين، قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية}.
وقال مجاهد: "{يعمهون}: يترددون"، والمعنى على قوله: يترددون في ضلالتهم.
وحكى أهل اللغة: عمه يعمه عموها وعمها وعمهاناً فهو عمه وعامه، إذا حار). [معاني القرآن: 1/98]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يستهزئ بهم}: أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء. {ويمدهم}: يملي لهم. و{طغيانهم}: بغيهم.
و{يعمهون}: يتحيرون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: يجازيهم بأعمالهم. {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فما ربحت تّجارتهم...}
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟
وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم، ومثله من كتاب الله: {فإذا عزم الأمر} وإنما العزيمة للرجال.
ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا، فلو قال قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارةً يربح فيه أو يوضع؛ لأنه قد يكون العبد تاجراً فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوراً فيه، فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزّك ورقيقك؛ كان جائزاً؛ لدلالة بعضه على بعض). [معاني القرآن: 1/14-15]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تّجارتهم وما كانوا مهتدين}
قوله: {فما ربحت تّجارتهم} فهذا على قول العرب: "خاب سعيك" وإنما هو الذي خاب، وإنما يريد "فما ربحوا في تجارتهم"، ومثله {بل مكر اللّيل والنّهار} و{ولكنّ البرّ من آمن باللّه} إنما هو "ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله"، وقال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
وقال الشاعر:

وشرّ المنايا ميّتٌ وسط أهله = كهلك الفتاة أسلم الحيّ حاضره
إنما يريد: "وشر المنايا منية ميّت وسط أهله"، ومثله: "أكثر شربي الماء" و"أكثر أكلي الخبر" وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء، ولكن تريد: أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء، قال: {وسأل القرية} يريد: "أهل القرية". {والعير} أي: "واسأل أصحاب العير"، وقال: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} فإنما هو - والله أعلم - "مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به" فحذف هذا الكلام، ودل ما بقي على معناه، ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد قال بعضهم: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق} يقول "مثلهم في دعائهم الآلهة كمثل الذي ينعق بالغنم" ؛ لأن آلهتهم لا تسمع ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل). [معاني القرآن: 1/38]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} أي: استبدلوا. وأصل هذا: أن من اشترى شيئاً بشيء، فقد استبدل منه.
{فما ربحت تجارتهم} والتجارة لا تربح وإنما يربح فيها، وهذا على المجاز. ومثله: {فإذا عزم الأمر} وإنما يعزم عليه، وقد ذكرت هذا وأشباهه في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)}
{أولئك} موضعه رفع بالابتداء، وخبره {الّذين اشتروا الضّلالة}، وقد فسّرنا واو (اشتروا) وكسرتها؛ فأمّا من يبدل من الضمة همزة فيقول: (اشترؤ الضلالة) فغالط؛ لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إنّما يفعل بها ذلك إذا لزمت صفتها نحو قوله عزّ وجلّ: {وإذا الرّسل أقتت} إنّما الأصل: وقتت، وكذلك: "أدؤر"، إنما أصلها: أَدور.
وضمة الواو في قوله: {اشتروا الضلالة} إنما هي لالتقاء السّاكنين، ومثله: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم} لا ينبغي أن تهمز الواو فيه.
ومعنى الكلام: أن كل من ترك شيئاً وتمسك بغيره، فالعرب تقول للذي تمسك به قد اشتراه، وليس ثم شراء ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه. قال الشاعر:

أخذت بالجمّة رأسا أزعرا= وبالثنايا الواضحات الدّردرا
وبالطويل العمر عمرا أقصرا= كما اشترى الكافر إذ تنصّرا
وقوله عزّ وجلّ: {فما ربحت تجارتهم} معناه: فما ربحوا في تجارتهم؛ لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ويوضع فيها، والعرب تقول: قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام، قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، وقال اللّه عزّ وجلّ: {بل مكر اللّيل والنّهار} والليل والنهار لا يمكران، إنما معناه: بل مكرهم في الليل والنهار).
[معاني القرآن: 1/91-93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}
قال مجاهد: "آمنوا ثم كفروا" .
ويقال: كيف قال {اشتروا} وإنما يقال: اشتريت كذا بكذا إذا دفعت شيئا أخذت غيره؟
والجواب عن قول مجاهد: إنهم كفروا بعد الإيمان، فصار الكفر لهم بدلاً من الإيمان، وصاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء.
وقيل: لما أعطوا بألسنتهم الإيمان وأبوه بقلوبهم، فباعوا هذا الذي ظهر بألسنتهم بالذي في قلوبهم، والذي في قلوبهم هو الحاصل لهم، فهو بمنزلة العوض أخرج من أيديهم.
وقيل: لما سمعوا التذكرة والهدى ردوها واختاروا الضلالة، فكانوا بمنزلة من دفع إليه شيء فاشترى به غيره.
قال ابن كيسان: قيل هو مثل قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فلما كان خلقهم للعبادة، صار ما خلفها مبدلاً عنها بصدهم عما خلقوا له.
وأصل الضلالة: الحيرة، وسمي النسيان "ضلالة": لما فيه من الحيرة، كما قال جل وعز: {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} أي: الناسين، ويسمى الهلاك "ضلالة"، كما قال عز وجل: {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد}). [معاني القرآن: 1/98-100]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} فأنزلوا منزلة من اتجر؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة. والمعنى : فما ربحوا في تجارتهم، ومثله قول العرب: خسر بيعه؛ لأنه قد عرف المعنى).
[معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وما كانوا مهتدين} أي: بفعلهم الذي فعلوه من إيثار الضلالة على الهدى، ويجوز: وما كانوا مهتدين في علم الله عز وجل). [معاني القرآن: 1/101]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اشْتَرُوُاْ}: استبدلوا). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...} فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ولم يقل: "الذين استوقدوا"، وهو كما قال الله {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة.
ولو كان التشبيه للرجال؛ لكان مجموعاً كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} أراد: القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} فكان مجموعاً إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا، وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّداً في شعر فأجزه، وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعاً في شعر فهو أيضاً يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم}؛ لأن المعنى ذهب إلى المنافقين، فجمع لذلك، ولو وحّد لكان صواباً كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم * طعام الأثيم * كالمهل تغلي في البطون} و"يغلي"؛ فمن أنّث: ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر: ذهب إلى المهل، ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى": للنعاس). [معاني القرآن: 1/15-16]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف: {صمّ بكمٌ}،
قال النابغة:

توهّمت آياتٍ لها فعرفها= لستّة أعوامٍ وذا العام سابع
ثم استأنف فرفع، فقال:

رمادٌ ككحل العين لأيا أبينه= ونؤىٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
). [مجاز القرآن: 1/32-33]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قوله: {كمثل الّذي استوقد ناراً} فهو في معنى "أوقد"، مثل قوله: "فلم يستجبه" أي: "فلم يجبه"، وقال الشاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: "فلم يجبه".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون} فجعل "الذي" جميعاً، فقال: {وتركهم}؛ لأن "الذي" في معنى الجميع، كما يكون "الإنسان" في معنى "الناس".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} فرفع على قوله: "هم صمٌّ بكمٌ عميٌ" رفعه على الابتداء، ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسناً.
وأما {حوله} فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب، والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر:

هذا النهار بدا لها من همّها = ما بالها بالليل زال زوالها
نصب "النهار" على الظرف، وإن شاء رفعه وأضمر فيه وأما "زوالها"، فإنه كأنه قال: "أزال اللّه الليل زوالها"). [معاني القرآن: 1/38-39]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{الّذي استوقد ناراً} أي: أوقدها). [تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه - جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/93]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال ابن كيسان: {استوقد} بمعنى: أوقد، ويجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره.
قال الأخفش: هو سعيد الذي في معنى جمع.
قال ابن كيسان: لو كان كذلك؛ لأعاد عليه ضمير الجمع كما قال الشاعر:

وإن الذي حانت يفلج دماؤهم = هم القوم كل القوم يا أم خالد
قال : ولكنه واحد شبه به جماعة؛ لأن القصد كان إلى الفعل ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} فالمعنى إلا كبعث نفس واحدة، وكإيقاد الذي استوقد ناراً). [معاني القرآن: 1/101-102]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}
ويجوز أن يكون "ما" بمعنى "الذي"، وأن تكون زائدة، وأن تكون نكرة، والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله). [معاني القرآن: 1/102-103]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...} رفعن، وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ} في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز -أيضاً- الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً * ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن}، "الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية.
فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفاً فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم} ثم قال -جل وجهه- : {التّائبون العابدون الحامدون} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود: (التائبين العابدين الحامدين)، وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربّكم} يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك، وفي قراءة عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) بالنصب، ونصبه على جهتين:
إن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكماً عمياً، وإن شئت: اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف (صمّاً) بالذمّ لهم، والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه معنى الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً، وسقياً، ورعياً). [معاني القرآن: 1/16]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم: أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه "فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ" و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان"). [معاني القرآن: 1/94]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أو كصيّبٍ مّن السّماء...} مردود على قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً}.
{أو كصيّبٍ}: أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر {الّذي استوقد ناراً} فطرح ما كان ينبغي أن يكون مع "الصيّب" من الأسماء، ودلّ عليه المعنى؛ لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌٌ} فشبّه "الظلمات" بكفرهم، و"البرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه" بإيمانهم، والرعد -ما أتى في القرآن- من التخويف، وقد قيل فيه وجه آخر؛
قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلاً لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه، ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} أي: يظنّون أنهم أبداً مغلوبون.
ثم قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم مّن الصّواعق حذر الموت} فنصب "حذر" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد (يجعلونها حذراً)، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفاً وفرقاً، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يدعوننا رغباً ورهباً} وكقوله: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً}، والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من"، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم). [معاني القرآن: 1/17]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({كصيّبٍ من السّماء} معناه: كمطر، وتقديره تقدير سَيِّد من صاب يصوب، معناه: ينزل المطر، قال علقمة بن عبدة:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
فلا تعدلي بيني وبين مغمّرٍ= سقتك روايا المزن حيث تصوب
وقال رجل من عبد القيس -جاهليّ- يمدح بعض الملوك:

ولست لانسيّ ولكن لملأكٍ= تنزّل من جوّ السماء يصوب
). [مجاز القرآن: 1/33]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أو كصيب من السماء}: أي كمطر من السماء، من: صاب يصوب).
[غريب القرآن وتفسيره: 65]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والصيب: المطر، «فيعل» من «صاب يصوب»: إذا نزل من السماء).
[تفسير غريب القرآن: 42]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيط بالكافرين (19)}
الصيّب في اللغة: المطر، وكل نازل من علو إلى أسفل، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:

كأنهم صابت عليهم سحابة= صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللّه عزّ وجلّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل "دين الإسلام" لهم مثلاًَ فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل "ما يستضيئون به من البرق" مثلاً لما يستضيئون به من الإسلام، و"ما ينالهم من الخوف في البرق" بمنزلة ما يخافونه من القتل، الدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {يحسبون كل صيحة عليهم}). [معاني القرآن: 1/94]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصيب: المطر). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كصيب}: كمطر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّيِّبُ}: المطر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم...}، والقّراء تقرأ: (يخطّف أبصارهم) بنصب الياء والخاء والتشديد، وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء، فيقول: "يَخَطِّفُ"، وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد، فيقول: "يِخِطِّفُ"، وبعضٌ من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء، فيجمع بين ساكنين، فيقول: "يَخْطِّف".
فأما من قال: "يَخَطِّف": فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة، وأما من كسر الخاء: فإنه طلب كسرة الألف التي في "اختطف" و"الاختطاف"؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام، وليس الذي قالوا بشيء؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا: لقالت العرب في يَمُدّ: "يَمِدّ"؛ لأن الميم كانت ساكنة وسكنت الأولى من الدالين، ولقالوا في يَعَضّ: "يَعِض".
وأما من خفض الياء والخاء: فإنه -أيضاً- من طلبه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة.
وأما من جمع بين الساكنين: فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفي، وفي قوله: {أم مّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى} وفي قوله: {تأخذهم وهم يخصّمون} مثل ذلك التفسير، إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: (تأخذهم وهم يخْصمون) بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك .
وقوله: {كلّما أضاء لهم مّشوا فيه...} فيه لغتان: يقال: "أضاء القمر"، و"ضاء القمر"؛ فمن قال: "ضاء القمر" قال: "يضوء ضوءاً"،
والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وإذا أظلم عليهم} فيه لغتان: "أظلم الليل" و"ظلم".
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب...} المعنى -والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت"، وقد قرأ بعض القرّاء: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) بضمّ الياء والباء في الكلام، وقرأ بعضهم: {وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن} فترى - والله أعلم - أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: "خذ بالخطام"، و"خذ الخطام"، و"تعلّقت بزيدٍ"، و"تعلّقت زيداً" فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتنا غداءنا} المعنى -والله أعلم-: ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفاً في "فعلت"، ومنه قوله عزّ وجلّ: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} المعنى -فيما جاء-: ايتونى بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة} المعنى -والله أعلم-: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة). [معاني القرآن: 1/18-19]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مّشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إن اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
أما {يكاد البرق يخطف أبصارهم} فمنهم من قرأ (يَخْطِفُ) من "خَطَفَ"، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف، وقد رواها يونس (يَخِطِّفُ) بكسر الخاء لاجتماع الساكنين ومنهم من قرأ (يَخْطَفُ) على "خَطِفَ يَخْطِف"، وهي الجيدة، وهما لغتان، وقال بعضهم (يَخِطِّفُ) وهو قول يونس من "يختطف" فأدغم التاء في الطاء؛ لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء، وقال بعضهم: (يَخَطِّفُ) فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر: كسر لاجتماع الساكنين فقال: (يَخِطِّف)، ومنهم من قال: (يِخِطِّف) كسر الخاء لاجتماع الساكنين، ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة، وهي قبلها، كما أتبعها في كلام العرب كثيراً، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون "قِتِلُوا" و"فِتِحُوا" يريدون: "اقتلوا"و "افتحوا"، قال أبو النجم :

.......... = تدافع الشيب ولم تقتّل
وسمعناه من العرب مكسوراً كله، فهذا مثل (يِخِطِّفُ) إذا كسرت ياؤها؛ لكسرة خائها، وهي بعدها، فأتبع الآخر الأول.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى؛ لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك، فيقول (لذهب بِسَمْعِهِم) وجعل "السمع" في لفظ واحد وهو جماعة؛ لأن "السمع" قد يكون جماعة، وقد يكون واحداً، ومثله قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم}، ومثله قوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم}، وقوله: {فإن طبن لكم عن شيءٍ مّنه نفساً}، ومثله: {ويولّون الدّبر}). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يخطف أبصارهم}: يذهب بها، وأصل الاختطاف: الاستلاب، يقال: اختطف الذئب الشاة من الغنم، ومنه يقال: لما يخرج به الدّلو "خطّاف"؛ لأنه يختطف ما علق به، قال النابعة:

خطاطيف حجن في حبال متينة= تمدّ بها أيد إليك نوازع
والحجن: المتعقّفة.
وهذا مثل ضربه اللّه للمنافقين، وقد ذكرته في كتاب «المشكل» وبينته). [تفسير غريب القرآن: 42-43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيء قدير (20)}
{يخطف أبصارهم} فيه لغتان: يقال: خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِفُ، واللغة العالية التي عليها القراءة: خَطِفَ يخطَفُ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى عن الحسن: (يَخَطِّف أبصارهم) بفتح الياء والخاء وكسر الطاء، ويروى أيضاً (يِخِطِّف) بكسر الياء والخاء والطاء، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ؛ لصعوبتها، وهي إسكان الخاء والطاء، وقد روى سيبويه مثل هذا، رده عليه أصحابه، وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ، وأن الشعر لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:

.......... = ومسحه مرّ عقاب كاسر
يبدل من الهاء حاء، ويدغم الحاء الأولى في الثانية، والسين ساكنة؛ فيجمع بين ساكنين، فأما بعد (يَخْطَف) فالجيّد: "يَخَطِّف" و"يخطِّف"، فمن قال "يَخَطِّف" فالأصل (يختطف) فأدغمت التاء في الطاء وألقيت على الحاء فتحة التاء، ومن قال: (يخِطِّف) كسر الخاء؛ لسكونها وسكون الطاء، وزعم بعض النحويين أنّ الكسر لالتقاء الساكنين ههنا خطأ؛ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في يَعَضُّ: "يَعِضُّ" وفي يَمُدُّ: "يَمِدُّ". وهذا خلط غير لازم، لأنه لو كسرها ههنا؛ لالتبس ما أصله "يفعَل" و"يفعُل" بما أصله "يَفْعِل"، ويخطف ليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتَعِل) ومرة على (يفتَعَلُ) فكسر لالتقاء السّاكنين في موضع غير ملبس، وامتنع في الملبس من الكسر لالتقاء السّاكنين، وألزم حركة الحرف الذي أدغمه؛ لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته: أخذته بسرعة.
وقوله عزّ وجلّ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقال: "ضاء الشيء يضوء"، و"أضاء يضيء"، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال: "أظلم" و"ظلم"، و"أظلم" المختار.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال: "أذهبته" و"ذهبت به". ويروى أذهبت به، وهو لغة قليلة.
فأما ذكر "أو" في قوله: {مثلهم كمثل الّذي} إلى {أو كصيب}، فـ"أو" دخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "واو الإباحة" فتقول: جالس القراء أو الفقهاء أو أصحاب الحديث أو أصحاب النحو، فالمعنى: أن التمثيل مباح لكم في المنافقين؛ إن مثلتموهم بالذي استوقد ناراً فذاك مثلهم، وإن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعاً فهما مثلاهم -كما أنك إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فكلاهما أهل أن يجالس- إن جالست الحسن فأنت مطيع، وإن جمعتهما فأنت مطيع.
وقوله عزّ وجلّ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} ويروى أيضاً: (حذار الموت)، والذي عليه قرّاؤنا: {حذر الموت}، وإنما نصت: {حذر الموت}؛ لأنه مفعول له، والمعنى: يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام، وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه قال: "يحذرون حذراً"؛ لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وقال الشاعر:

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره= وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
والمعنى: لادخاره، وقوله: "وأغفر عوراء الكريم" معناه: وأدخر الكريم). [معاني القرآن: 1/95-96]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَخْطَفُ}: يأخذ بسرعة). [العمدة في غريب القرآن: 71]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:33 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 21 إلى 33]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الّذي خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (21)} معناه: أن الله احتجّ على العرب بأنه خالقهم وخالق من قبلهم؛ لأنّهم كانوا مقرين بذلك، والدليل على ذلك قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله}، قيل لهم: إن كنتم مقرين بأنه خالقكم؛ فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام.
وقوله {لعلكم تتقون} معناه: تتقون الحرمات بينكم، وتكفون عما تأتون مما حرمه اللّه، فأما "لعل" وفيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما: معناها: كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه ترج لهم، كما قال في قصة فرعون: {لعلّه يتذكّر أو يخشى} كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، واللّه عزّ وجلّ من وراء ذلك وعالم بما يؤول إليه أمر فرعون.
وأما إعراب {يا أيّها}: فـ"أي" اسم مبهم مبني على الضم؛ لأنه منادى مفرد، و"الناس" صفة لـ"أي" لازمة، تقول: (يا أيها الرجل أقبل)، ولا يجوز: (يا لرجل)؛ لأن "يا" تنبيه بمنزلة التّعريف في الرجل، فلا يجمع بين "يا" وبين الألف واللام فتصل إلى الألف واللام بـ"أي"، و"ها" لازمة لـ"أي" للتّنبيه، وهي عوض من الإضافة في "أي"؛ لأن أصل "أي": أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر.
وزعم سيبويه، عن الخليل: أن المنادى المفرد مبني، وصفته مرفوعة رفعا ًصحيحاً؛ لأن النداء يطرد في كل اسم مفرد، فلما كانت البنية مطردة في المفرد خاصة؛ شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في (يا أيها الرجل) النصب في "الرجل"، ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره، وهو قياس؛ لأن موضع المفرد المنادى نصب، فحملت صفته على موضعه، وهذا في غير: (يا أيها الرجل) جائز عند جميع النحويين نحو قولك: (يا زيدُ الظريفُ) و(الظريفَ)، والنحويون لا يقولون إلا (يا أيها الرجل)، (يا أيها الناس)، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في الحقيقة "الرجل"، ولكن "أيّ" صلة إليه، وقال أبو الحسن الأخفش: إن "الرجل" أن يكون صلة لـ"أي" أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول). [معاني القرآن: 1/96-99]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً} أي: مهاداً ذللّها لكم فصارت مهاداً.
{فلا تجعلوا لله أنداداً}: واحدها ندٌّ، معناها: أضداد، قال حسّان:


أتهجوه ولست له بنٍدّ= فشرّكما لخيركما الفداء).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذي جعل لكم الأرض فراشاً والسّماء بناءً وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثّمرات رزقاً لّكم فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون}
قوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً} فقطع الألف؛ لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير، فإذا صغرت قلت: "أنيداداً".
وواحد "الأنداد": ندٌّ. و"الندّ": المثل). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أندادا}: واحدهم ند، ويقال نديد وهو شبيه). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({أنداداً}: أي: شركاء أمثالا. يقال: هذا ندّ هذا ونديده، {وأنتم تعلمون} أي: تعقلون). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذي جعل لكم الأرض فراشا والسّماء بناء وأنزل من السّماء ماء فأخرج به من الثّمرات رزقا لكم فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} معناه: وطاء، لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها.
وقوله: {والسماء بناء}: كل ما علا على الأرض فاسمه "بناء"، ومعناه: إنه جعلها سقفاً، كما قال عزّ وجلّ: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}.
ويجوز في قوله: {جعل لكم الأرض} وجهان: الإدغام والإظهار، تقول: "جعلَ لكم" و"جعلْ لكم الأرض"، فمن أدغم: فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر -وهو الوجه وعليه أكثر القراء-: فلأنهما منفصلان من كلمتين.
وقوله عزّ وجلّ: {فلا تجعلوا للّه أندادا وأنتم تعلمون} هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأنه الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالاً، وأنتم تعلمون أنهم لا يخلقون واللّه الخالق. وفي اللغة: فلان ندّ فلان ونديد فلان، قال جرير:

أتيما تجعلون إليّ ندّا= وما تيم لذي حسب نديد
فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللّه عزّ وجلّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}). [معاني القرآن: 1/99-100]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الفراش": المهد). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الند": المِثْل، ومنه قوله عز وجل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} أي: أمثالاً).
[ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَندَاداً}: أشباهاً). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فأتوا بسورةٍ مّن مّثله...}: الهاء كناية عن القرآن؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن.
{وادعوا شهداءكم} يريد: آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم؛ وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدوّ خالياً فادع المسلمين، ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين). [معاني القرآن: 1/19]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فأتوا بسورةٍ من مثله} أي: من مثل القرآن.
وإنما سمّيت سورة؛ لأنها مقطوعة من الأخرى، وسمّى القرآن قرآناً؛ لجماعة السور). [مجاز القرآن: 1/34]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: ادعوهم؛ ليعاونوكم على سورة مثله.
ومعنى الدعاء هاهنا: الاستغاثة، ومنه دعاء الجاهلية ودعوى الجاهلية، وهو قولهم: يا آل فلان، إنما هو استغاثتهم.
وشهداؤهم من دون اللّه: آلهتهم، سموا بذلك؛ لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين (23)}
{في ريب} معناه: في شك.
وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} للعلماء فيه قولان:
أحدهما: قال بعضهم: {من مثله} من مثل القرآن، كما قال عزّ وجلّ: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
وقال بعضهم: {من مثله} من بشر مثله.
وقوله عزّ وجلّ: {وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين} أي: ادعوا من استدعيتم طاعته، ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من مثله). [معاني القرآن: 1/100]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وادعوا شهداءكم} أي: استعينوا بهم، و"الشهداء" هنا: الآلهة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة...}
الناس وقودها، والحجارة وقودها، وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت، ثم قال: {أعدّت للكافرين} يعني: النار).
[معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقودها النّاس والحجارة}:حطبها الناس، و"الوُقود" مضموم الأول: التلهب).
[مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فإن لّم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين}
قوله: {الّتي وقودها النّاس والحجارة} فـ"الوَقُود": الحطب، و"الوُقُود": الاتقاد، وهو الفعل، يقرأ: (الوَقُود) و(الوُقُود) ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل.
ومثل ذلك "الوَضُوء" وهو: الماء، و"الوُضُوء" وهو الفعل، وزعموا إنهما لغتان في معنى واحد). [معاني القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وقودها}: حطبها. "الوُقود" بالضم هو: اللهب). [غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس} أي: حطبها، و"الوَقود": الحطب بفتح الواو، و"الوُقود" بضمها: توقدها.
{والحجارة} قال المفسرون: حجارة الكبريت). [تفسير غريب القرآن: 43]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين (24)}
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوا بالعذاب إن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم {لم تفعلوا}؛ لأن "لم" أحدثت في الفعل المستقبل معنى المضي فجزمته، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى: فله فيه من الإعراب على قسط معناه: فإن كان ذلك الحرف "أن" وأخواتها نحو "لن تفعلوا" و {يريدون أن يطفئوا} فهو نصب؛ لأن "أن" وما بعده بمنزلة الاسم، فقد ضارعت "أن" الخفيفة "أنّ" المشدّدة وما بعدها؛ لأنّك إذا قلت: ظننت أنك قائم، فمعناه: ظننت قيامك، وإذا قلت: أرجو أن تقوم، فمعناه: أرجو قيامك، فمعنى "أن" وما عملت فيه كمعنى "أنّ" المشددة وما عملت فيه، فلذلك نصبت "أن" وجزمت "لم"؛ لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم.
وقوله عزّ وجلّ: {التي وقودها النّاس والحجارة} عرفوا عذاب اللّه عزّ وجلّ بأشد الأشياء التي يعرفونها؛ لأنه لا شيء في الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم: إن عذاب اللّه من أشد الأجناس التي يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال: إن "الحجارة" هنا تفسيرها: حجارة الكبريت.
وقوله {وقودها} الوقود هو: الحطب، وكل ما أوقد به فهو: وقود، ويقال: هذا وقودك، ويقال: قد وقدت النار وقُوداً، فالمصدر مضموم ويجوز فيه الفتح. وقد روي: وقدت النار وَقوداً، وقبلت الشيء قَبُولاً، فقد جاء في المصدر (فَعُول) والباب الضم). [معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وقودها} بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقد. {والحجارة} قيل: حجارة الكبريت).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الوَقُودُ": الحطب. "الوُقُودُ": المصدر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأتوا به متشابهاً} اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله). [معاني القرآن: 1/20]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، وليس من الاشتباه عليك، ولا مما يشكل عليك.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: واحدها "زوج"، الذكر والأنثى فيه سواء، {وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنّة}). [مجاز القرآن: 1/34]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رّزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مّطهّرةٌ وهم فيها خالدون}
قوله: {أن لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} فجرّ "جناتٍ" وقد وقعت عليها "أن" لأن كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ، ألا ترى أنك تقول: "جنّه" فتذهب التاء، وقال: {خلق السّماوات والأرض} و"السماوات" جرّ، و"الأرض" نصب لأن التاء زائدة، ألا ترى أنك تقول: "سماء"، و{قالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا}؛ لأن هذه ليست تاء، إنما هي هاء صارت تاءً بالاتصال، وإنما تكون تلك في السكوت، ألا ترى أنك تقول: "رأيت ساده" فلا يكون فيها تاء، ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) جرّ لأنك إذا قلت: "ساده" ذهبت التاء، وتكون في السكت فيها تاء، تقول: "رأيت ساداتٍ"، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحداً، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: "مسلمين و"صالحين" نصبه وجره بالياء. وقوله: {بيوتاً غير بيوتكم} و{لا ترفعوا أصواتكم} فإن التاء من أصل الكلمة، تقول: "صوت" و"صويت" فلا تذهب التاء، و"بيت" و "بويت" فلا تذهب التاء، وتقول: "رأيت بويتات العرب" فتجرّ، لأن التاء الآخرة زائدة لأنك تقول: "بيوت" فتسقط التاء الآخرة، وتقول: "رأيت ذوات مال" لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت: "ذاه" ولكنها وصلت بالمال، فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف إليه.
وقوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}؛ لأنه في معنى "جيئوا به" وليس في معنى "أعطوه".
فأما قوله: {متشابهاً} فليس أنه أشبه بعضه بعضاً، ولكنه متشابه في الفضل، أي: كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.
قوله: {إن اللّه لا يستحيي أن} فـ"يستحيي" لغة أهل الحجاز بياءين، وبنو تميم يقولون "يستحي" بياء واحدة، والأولى هي الأصل لأن ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه، ألا ترى أنهم قالوا: "حييت" و"حويت" فلم تُعَلَّ العين، ويقولون: "قلت" و"بعت" فيعلّون العين لما لم تعتلّ اللام، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا "لم يك" و"لم يكن" و"لا أدر" و"لا أدري".
وقال: {مثلاً مّا بعوضةً} لأن "ما" زائدة في الكلام، وإنما هو: "إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضةً مثلاً". وناس من بني تميم يقولون (مثلاً مّا بعوضةً) يجعلون (ما) بمنزلة "الذي" ويضمرون "هو"، كأنهم قالوا: "لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي هو بعوضةٌ"، يقول: "لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةٌ مثلاً".
وقوله: {فما فوقها} قال بعضهم: "أعظم منها"، وقال بعضهم: كما تقول: "فلان صغير" فيقول: "وفوق ذلك"، يريد: "وأصغر من ذلك".
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} فيكون "ذا" بمنزلة "الذي". ويكون "ماذا" اسما واحدا إن شئت بمنزلة "ما" كما قال: {ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً} فلو كانت "ذا" بمنزلة "الذي" لقالوا "خيرٌ" ولكان الرفع وجه الكلام، وقد يجوز فيه النصب؛ لأنه لو قال "ما الذي قلت"؟ فقلت: "خيراً"، أي: "قلت خيراً" لجاز، ولو قلت: "ما قلت؟" فقلت: "خيرٌ"، أي: "الذي قلت خيرٌ" لجاز، غير أنه ليس على اللفظ الأول، كما يقول بعض العرب إذا قيل له: "كيف أصبحت؟" قال: "صالحٌ" أي: "أنا صالحٌ"، ويدلك على أن "ماذا" اسم واحد قول الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتّقيه = ولكن بالمغيّب نبّئيني
فلو كانت "ذا" ههنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاماً). [معاني القرآن: 1/41-43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({مشابها}: يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم.
{أزواج مطهرة}: واحدها "زوج". الذكر والأنثى فيه سواء). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({جنّاتٍ}: بساتين.
{تجري من تحتها الأنهار} ذهب إلى شجرها، لا إلى أرضها؛ لأن الأنهار تجري تحت الشجر.
{كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل} أي: كأنّه ذلك، لشبهه به.
{وأتوا به متشابهاً} أي: يشبه بعضه بعضاً، في المناظر دون الطعوم.
{ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ}: من الحيض والغائط والبول وأقذار بني آدم). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون (25)}
ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاء لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم جزاء الكافرين، وموضع (أنّ) نصب معناه: بشرهم بأن لهم جنات. فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى " أن " فنصبت،
وقد قال بعض النحويين: إنه يجوز أن يكون موضع مثل هذا خفضًا، وإن سقطت الباء من (أن)، و(جنات) في موضع نصب بأنّ، إلا أن التاء تاء جماعة المؤنث هي في الخفض والنصب على صورة واحدة، كما أن ياء الجمع في النصب والخفض على صورة واحدة، تقول: رأيت الزيدين، ومررت بالزيدين، ورأيت الهندات، ورغبت في الهندات.
و"الجنة" في لغة العرب: البستان، والجنات: البساتين، وهي التي وعد الله بها المتقين، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
قوله عزّ وجلّ: {كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً}
قال أهل اللغة: معنى (متشابه) يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحسن.
وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة: {متشابهاً} يشبه بعضه بعضا في الصورة ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله: {هذا الّذي رزقنا من قبل}؛ لأن صورته الصورة الأولى، ولكن اختلاف الطعوم على اتفاق الصورة أبلغ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحا فيه طعم كل الفاكهة لكان غاية في العجب والدلالة على الحكمة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم فيها أزواج مطهّرة}
أي: أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساء أهل الدنيا من الأكل والشرب ولا يحضن، ولا يحتجن إلى ما يتطهر منه، وهن على هذا طاهرات طهارة الأخلاق والعفة، فـ"مطهرة" تجمع الطهارة كلها؛ لأن "مطهرة" أبلغ في الكلام من "طاهرة"، ولأن "مطهرة" إنما يكون للكثير.
وإعراب {أزواج} الرفع بـ {ولهم} وإن شئت بالابتداء.
ويجوز في {أزواج} أن يكون واحدتهن زوجاً وزوجة، قال الله تبارك وتعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنّة}، وقال الشاعر:

فبكى بناتي شجوهن وزوجتي= والطامعون إليّ ثم تصدّعوا).
[معاني القرآن: 1/101-103]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وأتوا به متشابها} أي: يشبه بعضه بعضًا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه فاكهة الدنيا في المناظر دون الطعوم، وقيل: يشبه بعضه بعضًا في الفضل والحسن، ليس فيه رذل.
{أزواج} واحدها زوج، والمذكر والأنثى سواء.
{مطهرة} أي: من البول والغائط والحيض وأقذار بني آدم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مُتَشَابِهاً}: في اللون والطعم). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها...}
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟
فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: {مثل الّذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً} قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟، وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يأيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً} إلى قوله {ضعف الطّالب والمطلوب} لذكر الذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله: {إنّ اللّه لا يستحى أن يضرب مثلاً مّا بعوضةً فما فوقها}.
فالذي "فوقها" يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب، ولو جعلت في مثله من الكلام "فما فوقها" تريد أصغر منها لجاز ذلك، ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحبّ إليّ أن أجعل "ما فوقها" أكبر منها. ألا ترى أنك تقول: "يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها، والدرهم فما فوقه" فيضيق الكلام أن تقول: "فوقه" فيهما أو "دونه" فيهما.
وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك؛ يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك؛ فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: "إنه لبخيلٌ، وفوق ذاك"، تريد: فوق البخل، "وفوق ذاك": وفوق الشّرف.
وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال القرّاء: وأما نصبهم "بعوضة" فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن توقع الضّرب على البعوضة، وتجعل "ما" صلةً؛ كقوله: {عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين} يريد: "عن قليل".
المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلاً.
والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسماً، و"البعوضة" صلةً فتعرّبها بتعريب "ما"، وذلك جائز في "من" و"ما"؛ لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال؛ كما قال حسّان بن ثابت:

فكفى بنا فضلاً على من غَيْرِنا = حبّ النّبيء محمّدٍ إيّانا
قال الفراء: ويروى:
... على من غَيْرُنا
والرفع في "بعوضة" ها هنا جائز، لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.
وأما الوجه الثالث -وهو أحبها إليّ- : فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والعرب إذا ألقت "بين" من كلام -تصلح "إلى" في آخره- نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى"، فيقولون: "مطرنا ما زبالة فالثّعلبية"، و"له عشرون ما ناقةً فجملاً"، و"هي أحسن الناس ما قرناً فقدما"، يراد به: "ما بين قرنها إلى قدمها"، ويجوز أن تجعل "القرن" و"القدم" معرفة، فتقول: "هي حسنةٌ ما قرنها فقدمها".
فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام لم يجز سقوط "بين"؛ من ذلك أن تقول: "دارى ما بين الكوفة والمدينة"، فلا يجوز أن تقول: "دارى ما الكوفة فالمدينة"؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثّعلبية.
ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه "إلى"؛ كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة؛ محالٌ، وجلست بين عبد الله فزيد، محالٌ، إلا أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما.
وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، "وإلى" تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عينٍ، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في "إلى" لأنك تقول: أخذ المطر أوّله فكذا وكذا إلى آخره، فلمّا كان الفعل كثيراً شيئاً بعد شيء في المعنى، كان فيه تأويلٌ من الجزاء، ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسنٌ، ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن؛ فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء، ولم تصلح الواو.
قال الكسائيّ: سمعت أعرابيّاً ورأى الهلال، فقال: "الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك"، يريد: ما بين إهلالك إلى سرارك؛ فجعلوا النصب الذي كان يكون في "بين" فيما بعده إذا سقطت؛ ليعلم أنّ معنى "بين" مرادٌ.
وحكى الكسائيّ عن بعض العرب: "الشّنق: ما خمسًا إلى خمس وعشرين"، يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين، والشّنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل، والأوقاص في البقر.
وقوله: {ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً...} كأنه قال -والله أعلم-: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا ويهدى به هذا، قال الله: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين}). [معاني القرآن: 1/20-23]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً} معناها: أن يضرب مثلا ًبعوضة،
(ما) توكيد للكلام من حروف الزوائد، قال النابغة الذبياني:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
أي: حسب، و(ما) هاهنا: حشو.
قال: وسأل يونس رؤبة عن قول الله تعالى {ما بعوضة} فرفعها، وبنو تميم يعملون آخر الفعلين والأداتين في الاسم، وأنشد رؤبة بيت النابغة مرفوعاً:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا= إلى حمامتنا ونصفه فقد
{فما فوقها}: فما دونها في الصغر). [مجاز القرآن: 1/35]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فما فوقها}: أي فما دونها في الصغر). [غريب القرآن وتفسيره: 66]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} لما ضرب اللّه المثل بالعنكبوت في سورة العنكبوت، وبالذباب في سورة الحج، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق باللّه عز وجل؟! فأنزل اللّه: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها} من الذباب والعنكبوت.
وكان أبو عبيدة - رحمه اللّه- يذهب إلى أن "فوق" هاهنا بمعنى: "دون" على ما بينا في كتاب «المشكل».
فقالت اليهود: ما أراد اللّه بمثل ينكره الناس فيضلّ به فريق ويهتدي به فريق؟ قال اللّه: {وما يضلّ به إلّا الفاسقين}). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلّا الفاسقين}
إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة وما أعد للكافرين؟
قيل: يتصل هذا بقوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً}؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً}.
وقال: {مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً}، فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذّباب والعنكبوت، فقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}أي: لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون اللّه، لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.
فأما إعراب {بعوضة} فالنصب من جهتين في قولنا، وذكر بعض النحويين جهة ثالثة:
فأما أجود هذه الجهات؛ فأن تكون (ما) زائدة مؤكدة، كأنه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً، ومثلاً بعوضة، و(ما) زائدة مؤكدة نحو قوله: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} المعنى: فبرحمة من الله حقاً، فـ(ما) في التوكيد بمنزلة (حق) إلا أنه لا إعراب لها، والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها، فمعناها التوكيد، ومثلها في التوكيد (لا) في قوله: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} معناه: لأن يعلم أهل الكتاب.
ويجوز أن يكون "ما" نكرة، فيكون المعنى: "إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب شيئا مثلا"؛ وكأن "بعوضة" في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً شيئاً من الأشياء، بعوضة فما فوقها.
وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماء. والاختيار عند جمع البصريين أن يكون (ما) لغواً.
والرفع في {بعوضة} جائز في الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به، ولا أعلم هل قرأ به أحد أم لا؟ فالرفع على إضمار "هو"، كأنه قال: مثلاً الذي هو بعوضة، وهذا عند سيبويه ضعيف، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ: {تماماً على الذي أحسن} وقد قرئ به، جاز أن يقرأ: {مثلاً ما بعوضة} ولكنه في {الذي أحسن} أقوى لأن "الذي" أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء.
وقالوا في معنى قوله: {فما فوقها} قالوا في ذلك قولين:
قالوا: {فما فوقها} أكبر منها، وقالوا: {فما فوقها} في الصغر.
وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن "البعوضة" كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل، والقول الثاني مختار أيضاً، لأن المطلوب هنا والغرض الصغر وتقليل المثل بالأنداد.
قوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا} يعني: صدقوا، {فيعلمون} أن هذا المثل حق، {وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} أي: ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً، فقال اللّه عزّ وجلّ: {يضل به كثيراً} أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعاً، فيكذب به الكفار فيضلون، {وما يضلّ به إلّا الفاسقين} يدل على أنهم المضلون به.
{ويهدى به كثيراً} يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقاً فقد ازدادوا هداية، والفاء دخلت في جواب "أمّا" في قوله: {فيعلمون}؛ لأن "أما" تأتي بمعنى الشرط والجزاء، كأنّه إذا قال: "أما زيد فقد آمن، وأمّا عمرو فقد كفر" فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد، ومهما يكن من شيء فقد كفر عمرو.
وقوله {ماذا}: يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما نصباً، المعنى: أي شيء أراد اللّه بهذا مثلاً؟
ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة "الذي" فيكون المعنى: ما الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟، أو أي شيء الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟ ويكون (ما) هنا رفًعا بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خبر الابتداء.
وإعراب {الفاسقين} نصب؛ كأنّ المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين). [معاني القرآن: 1/103-105]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فما فوقها} أي: دونها في الصغر، وقيل: أكبر منها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَعُوضَةً}: بقة، {فَمَا فَوْقَهَا}: دونها). [العمدة في غريب القرآن: 71-72]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
أما قوله: {عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل} فـ{أن يوصل} بدل من الهاء في "به"، كقولك "مررت بالقوم بعضهم"، وأما {ميثاقه} فصار مكان "التوثّق" كما قال: {أنبتكم مّن الأرض نباتاً} والأصل "إنباتاً"، وكما قال" العطاء" في مكان "الإعطاء"). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} يريد أن اللّه سبحانه أمرهم بأمور فقبلوها عنه، وذلك أخذ الميثاق عليهم والعهد إليهم، ونقضهم ذلك: نبذهم إياه بعد القبول وتركهم العمل به). [تفسير غريب القرآن: 44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}
"عهد الله" هنا -واللّه أعلم-: ما أخذ اللّه على النبيين ومن اتبعهم، ألا يكفروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، دليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا} فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياء عليهم السلام: أن يؤمنوا بالرسول المصدق لما معهم، و {إصري} مثل: عهدي.
ويجوز أن يكون عهد اللّه الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حين قال: {....وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا}.
وقال قوم أن عهد الله عز وجل الاستدلال على توحيده، وأنّ كل ذي تمييز يعلم أن اللّه خالق، فعليه الإيمان به، والقولان الأولان في القرآن ما يصدق تفسيرهما.
فأمّا إعراب {الّذين} فالنصب على الصفة للفاسقين.
وموضع قوله: {أن يوصل} خفض على البدل من الهاء، والمعنى: ما أمر الله بأن يوصل.
وموضع {أولئك} رفع بالابتداء، و{الخاسرون} خبر الابتداء، و{هم} بمعنى الفصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون {أولئك} رفًعا بالابتداء، و{هم} ابتداء ثان، و{الخاسرون} خبر لـ{هم}، و{هم الخاسرون} خبر عن {أولئك}).
[معاني القرآن: 1/106]

تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً...} على وجه التعجّب والتوبيخ؛ لا على الاستفهام المحض؛ أي: ويحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فأين تذهبون}، وقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً}، المعنى -والله أعلم-: وقد كنتم، ولولا إضمار "قد" لم يجز مثله في الكلام، ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف: {إن كان قميصه قدّ من دبرٍ فكذبت} المعنى -والله أعلم-: فقد كذبت، وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلاّ وأنت تريد: قد كثر مالك؛ لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحال لا تكون إلا بإضمار "قد" أو بإظهارها؛ ومثله في كتاب الله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} يريد -والله أعلم-: جاءوكم قد حصرت صدورهم، وقد قرأ بعض القرّاء -وهو الحسن البصري-: (حصرةً صدورهم) كأنه لم يعرف الوجه في: "أصبح عبد الله قام" أو "أقبل أخذ شاة"، كأنّه يريد: فقد أخذ شاة.
وإذا كان الأوّل لم يمض؛ لم يجز الثاني بـ"قد"، ولا بغير "قد"، مثل قولك: "كاد قام" ولا "أراد قام"؛ لانّ الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: "عسى قام"؛ لأن "عسى" وإن كان لفظها على فعل فإنها لمستقبل، فلا يجوز "عسى قد قام"؛ ولا "عسى قام"، ولا "كاد قد قام"؛ ولا "كاد قام"؛ لأن ما بعدهما لا يكون ماضيًا؛ فإن جئت بـ"يكون" مع "عسى" و"كاد"؛ صلح ذلك، فقلت: "عسى أن يكون قد ذهب"، كما قال الله: {قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون}.
وقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} يعني: نطفاً، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نطفة فهو: ميتة، والله أعلم.
يقول: {فأحياكم} من النّطف، {ثم يميتكم} بعد الحياة، {ثم يحييكم} للبعث). [معاني القرآن: 1/23-25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم} فإنما يقول: كنتم تراباً ونطفاً، فذلك ميّت، وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: "قد كان هذا قطنا" و"كان هذا الرّطب بسرًا"، ومثل ذلك قولك للرجل: "اعمل هذا الثوب" وإنما معك غزل). [معاني القرآن: 1/43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً} يعني: نطفاً في الأرحام، وكلّ شيء فارق الجسد من شعر أو ظفر أو نطفة فهو: ميتة. {فأحياكم}: في الأرحام، وفي الدنيا. {ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم}: في البعث.
ومثله قوله حكاية عنهم: {ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فالميتة الأولى: إخراج النطفة وهي حية من الرجل، فإذا صارت في الرحم فهي ميتة، فتلك الإماتة الأولى. ثم يحييها في الرحم وفي الدنيا، ثم يميتها، ثم يحييها يوم القيامة). [تفسير غريب القرآن: 44-45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}
فكونهم أمواتا أولاً: أنّهم كانوا نطفاً، ثم جعلوا حيواناً، ثم أميتوا، ثم أحيوا، ثم يرجعون إلى اللّه عزّ وجلّ بعد البعث، كما قال: {مهطعين إلى الدّاع} أي: مسرعين.
وقوله عزّ وجلّ: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} والأجداث: القبور، وتأويل {كيف} أنها استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء، كيف يكفرون وقد ثبتت حجة اللّه عليهم؟!
ومعنى {وكنتم} وقد كنتم، وهذه الواو للحال، وإضمار "قد" جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم}، {وإن كان قميصه قدّ من دبر}). [معاني القرآن: 1/107]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وكنتم أمواتا} أي: نطفاً في الأرحام، {فأحياكم} أي: أخرجكم أحياء إلى الدنيا، {ثم يميتكم}: في الدنيا، {ثم يحييكم}: يوم القيامة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَمْوَاتاً}: نطفاً، {فَأَحْيَاكُمْ}: أنشأ خلقكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}: بعد الحياة، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: يبعثكم بعد الموت). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ ...}
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوي الرجل و ينتهي شبابه، أو يستوي عن اعوجاج، فهذان وجهان،
ووجه ثالث أن تقول: "كان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني" و"إليّ" سواءٌ، على معنى: أقبل إلي وعليّ؛ فهذا معنى قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء} والله أعلم.
وقال ابن عباس: "{ثم استوى إلى السماء }: صعد"، وهذا كقولك للرجل: "كان قائماً فاستوى قاعداً" و"كان قاعداً فاستوى قائما"، وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} فإن "السماء" في معنى جمع، فقال {فسوّاهنّ} للمعنى المعروف أنهنّ سبع سموات، وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدةٌ- الجمع، ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: {ربّ السّموات والأرض} ثم قال: {وما بينهما} ولم يقل "بينهن"، فهذا دليل على ما قلت لك). [معاني القرآن: 1/25]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({هو الّذي خلق لكم مّا في الأرض جميعاً ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ}: هذا باب من المجاز.
أما قوله: {ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ} وهو إنما ذكر سماء واحدة، فهذا لأن ذكر "السماء" قد دل عليهن كلّهن، وقد زعم بعض المفسرين أن "السماء" جميع مثل "اللبن"، فما كان لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجماعة جاز أن يجمع، فقال: {سوّاهنّ} فزعم بعضهم أن قوله: {السّماء منفطرٌ به} جمع مذكر كـ"اللّبن"، ولم نسمع هذا من العرب، والتفسير الأول جيد، و قال يونس: {السّماء منفطرٌ به} ذكر كما يذكر بعض المؤنث كما قال الشاعر:

فلا مزنةٌ ودقت ودقها = ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:

فإمّا تري لمّتى بدّلت = فإن الحوادث أودى بها
وقد تكون "السماء" يريد به الجماعة كما تقول: "هلك الشاة والبعير"، يعني: كل بعير وكل شاة، وكما قال: {خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهنّ} أي: من الأرضين.
وأما قوله: {استوى إلى السماء} فإن ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحول، ولكنه يعني: فعله، كما تقول: "كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل إلى أهل الشام"، إنما تريد تحول فعله). [معاني القرآن: 1/44]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({استوى إلى السماء}: عمد وقصد).[غريب القرآن وتفسيره: 66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({ثمّ استوى إلى السّماء} عمد لها، وكلّ من كان يعمل عملاً فتركه بفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره: فقد استوى له واستوى إليه.
وقوله: {فسوّاهنّ} ذهب إلى السماوات السبع). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماوات وهو بكلّ شيء عليم}
موضع "ما" مفعول به، وتأويله: أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم، فهو لكم، وفيه قول آخر: أن ذلكم دليل على توحيد اللّه عزّ وجلّ.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ استوى إلى السّماء} فيه قولان:
قال بعضهم: {استوى إلى السّماء}: عمد وقصد إلى السماء. كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه.
وقد قيل أيضاً: "استوى" أي: صعد أمره إلى السماء، وهذا قول ابن عباس.
و"السماء" لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، والدليل على ذلك قوله: {فسوّاهنّ سبع سماوات}. ويجوز أن يكون "السماء" جمعاً كما أن السّماوات جمع؛ كأن واحده سماة وسماوة وسماء للجميع، وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماء جائز أن يكون واحداً يراد به الجمع كما تقول "كثر الدّرهم والدينار في أيدي الناس"،
و"السماء" في اللغة: السقف، ويقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب؛ لأنها عالية).
[معاني القرآن: 1/107-108]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ثم استوى} أي: عمد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اسْتَوَى}: عمد). [العمدة في غريب القرآن: 72]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة} الهمزة فيها مجتلبة، لأن واحدها "ملك" بغير همزة، قال الشاعر فهمز:

ولست لإنسيٍّ ولكن لملأك= تنزّل من جوّ السماء يصوب
{أتجعل فيها من يفسد فيها} جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربّها، وقد قال تبارك وتعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل. وقال جرير: فأوجب، ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير.
{نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير.
{ونسبّح}: نصليّ، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي). [مجاز القرآن: 1/35-36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}
أما قول الملائكة:{أتجعل فيها من يفسد فيها} فلم يكن ذلك إنكاراً منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبّحون ويقدّسون، أو قالوا ذلك؛ لأنهم كرهوا أن يُعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله: {نسبّح بحمدك ونقدّس لك}، وقال: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم}، وقال: {فسبّح بحمد ربّك واستغفره} فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة، تقول: "قضيت سبحتي من الذكر والصلاة"، فقال: سبّح بالحمد، أي: لتكن سبحتك بالحمد لله.
و قوله {أتجعل فيها}: جاء على وجه الإقرار، كما قال الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا = وأندى العالمين بطون راح
أي: أنتم كذلك). [معاني القرآن: 1/44-45]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يسفك الدماء}: يصبها، سفك دمه أي: صبه.
{نسبح}: نصلي، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي.
{ونقدس لك}: نطهر لك. والتقديس التطهير. وقالوا: {نقدس لك} نكبرك ونعظمك). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (وقوله {وإذ قال ربّك للملائكة} أراد: وقال ربك للملائكة، و«إذ» تزاد، والمعنى: إلقاؤها، على ما بينت في كتاب «المشكل».
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قال أبو عبيدة: "إذ" ههنا زائدة، وهذا إقدام من أبي عبيدة؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، و(إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنّه قال: (ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة}).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ خبر آدم وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا من علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
روي: أن خلقا يقال لهم "الجان" كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث اللّه ملائكته فأجلتهم من الأرض.
وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد "الجان"، فقالوا: "يا رب، {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}".
وتأويل استخبارهم هذا: على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرّفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى فيه غير هذا، وهو: أن الله عزّ وجلّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليفة فرقة تسفك الدماء، وهي فرقة من بني آدم، وأذن اللّه عزّ وجلّ للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت في نفوسهم أنّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون الدماء ويعصونك؛ وإنّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
وقوله عزّ وجلّ {إني أعلم ما لا تعلمون}: أي: أبتلي من تظنون أنّه يطيع فيهديه الابتلاء، فالألف ههنا إنّما هي على إيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا= وأندى العالمين بطون راح
ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.
ومعنى {نسبح بحمدك}: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه: فقد سبح، يقال: فرغت من تسبيحي، أي: من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء، وقال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه ومن فخره، ومعنى {نقدّس لك} أي: نطهر أنفسنا لك، وكذلك من أطاعك نقدسه، أي: نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي: البيت المطهر، أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب). [معاني القرآن: 1/108-110]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({ويسفك الدماء} أي: يصب الدماء بغير حق، ويسفك أيضاً: يصب الدماء بحق). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نسبح} أي: ننزه، وقيل: نصلي، {ونقدس} أي: نطهر، وقيل: نعظمك ونكبرك).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَيَسْفِكُ}: يصب، {نُقَدِّسُ}: نتطهّر، {نُسَبِّحُ}: نصلي). [العمدة في غريب القرآن: 72-73]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة...}
فكان {عرضهم} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها"، وهي في حرف عبد الله: (ثم عرضهنّ)، وفي حرف أبيّ: (ثم عرضها) فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص، وللشخوص دون الأسماء).
[معاني القرآن: 1/26]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها}: أسماء الخلق، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض الخلق).
[مجاز القرآن: 1/36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قوله {الأسماء كلّها ثمّ عرضهم} فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلك على ذلك قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} فلم يكن ذلك أن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله، فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، كما يقول الرجل للرجل: "أنبئني بهذا إن كنت تعلم" وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد: أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك فقالوا: {سبحانك لا علم لنا} بالغيب على ذلك، ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب، إخباراً عن أنفسهم بنحو ما خبَّر الله عنهم، وقوله: {سبحانك لا علم لنا} فنصب "سبحانك"؛ لأنه أراد "نسبّحك" جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: "نسبّحك بسبحانك" ولكن "سبحان" مصدر لا ينصرف.
و"سبحان" في التفسير: براءة وتنزيه، قال الشاعر:

أقول لمّا جاءني فخره = سبحان من علقمة الفاخر
يقول: براءة منه). [معاني القرآن: 1/45-46]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها} يريد: أسماء ما خلق في الأرض، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض أعيان الخلق عليهم {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قال أهل اللغة: علم آدم أسماء الأجناس، وعرض أصحاب الأسماء من الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: {ثم عرضهم}؛ لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم: (هم)، و(هم) يقال للناس، ويقال للملائكة، ويقال للجن، ويقال للجان، ويقال للشياطين، فكل مميز في الإضمار (هم)، هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الإتيان بالأسماء أبلغ منها هي الفائدة بأسماء معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت، فقيل: ما اسم هذه؟ قيل: خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تنبئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال: هذه تصلح لكذا، فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئت، والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماء واللّه أعلم). [معاني القرآن: 1/110-111]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب، وتبرؤٌ، قال الأعشى -تبرءاً وتكذيباً لفخر علقمة-:

أقول لمّا جاءني فخره= سبحان من علقمة الفاخر).
[مجاز القرآن: 1/36]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب جل ثناؤه، وتبرؤ). [غريب القرآن وتفسيره: 67]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم...}
إن همزت قلت: (أنبئهم) ولم يجز كسر الهاء والميم؛ لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل "عليهم".
وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفع "هم" وكسرها، على ما وصفت لك في "عليهم" و"عليهم"). [معاني القرآن: 1/26]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:49 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 34 إلى 43]

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا} معناه: وقلنا للملائكة، و"إذ" من حروف الزوائد، وقال الأسود بن يغفر:


فإذا وذلك لا مهاه لذكره= والدهر يعقب صالحاً بفساد
ومعناها: وذلك لا مهاه لذكره، لا طعم ولا فضل؛ وقال عبد مناف بن ربع الهذليّ وهو آخر قصيدة:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ= شلاّ كما تطرد الجمّالة الشردا
معناه: حتى أسلكوهم.
{فسجدوا إلاّ إبليس} نصب "إبليس" على استثناء قليل من كثير، ولم يصرف إبليس؛ لأنه أعجمي). [مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} هذا باب الاستثناء.
قوله: {فسجدوا إلاّ إبليس} فانتصب؛ لأنك شغلت الفعل بهم عنه فأخرجته من الفعل من بينهم، كما تقول: "جاء القوم إلاّ زيداً"؛ لأنك لما جعلت لهم الفعل وشغلته بهم، وجاء بعدهم غيرهم شبهته بالمفعول به بعد الفاعل وقد شغلت به الفعل.
وقوله: {أبى واستكبر وكان} ففتحت {استكبر}؛ لأن كل "فعل" أو "فعل" فهو يفتح نحو: {قال رجلان}، ونحو {الّذي اؤتمن أمانته}، ونحو {ذهب اللّه بنورهم}، ونحو {وكان من الكافرين}؛ لأن هذا كله "فعل" و"فعل"). [معاني القرآن: 1/46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)}
قرأت القراء {للملائكة اسجدوا} بالكسر، وقرأ أبو جعفر المدني وحده (للملائكة اسجدوا) بالضم. وأبو جعفر من جلّة أهل المدينة وأهل الثّبت في القراءة، إلا أنه غلط في هذا الحرف؛ لأن "الملائكة" في موضع خفض، فلا يجوز أن يرفع المخفوض، ولكنه شبّه تاء التأنيث بكسر ألف الوصل، لأنك إذا ابتدأت قلت: اسجدوا، وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غير الصواب.
و{إذ} في موضع نصب عطف على {إذ} التي قبلها.
و{الملائكة} واحدهم: ملك، والأصل فيه "ملأك"، أنشد سيبويه:

فلست لأنسي ولكن لملأك= تنزّل من جوّ السّماء يصوب
ومعناه: صاحب رسالة، ويقال: مأْلُكة ومأْلَكَة، ومألك جمع مألكة، قال الشاعر:

أبلغ النعمان عني مالكًا= أنه قد طال حبسي وانتظاري
وقوله: {لآدم}؛ "آدم" في موضع جر إلا أنه لا ينصرف؛ لأنّه على وزن "أفعل"، يقول أهل اللغة: إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب، فإذا قلت: مررت بآدم وآدم آخر، فإن النحويين يختلفون في "أفعل" الذي يسمى به وأصله الصفة، فسيبويه والخليل ومن قال بقولهما يقولون: إنه ينصرف في النكرة؛ لأنك إذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها ينصرف.
وقال أبو الحسن الأخفش: إذا سمّيت به رجلاً، فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه، فتقول: مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.
ومعنى "السجود لآدم": عبادة الله عزّ وجلّ لا عبادة آدم، لأن الله عزّ وجلّ إنما خلق ما يعقل؛ لعبادته.
فإذا ابتدأت قلت: اسجدوا، فضممت الألف، والألف لا حظ لها في الحركة، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها، وإنّما أدخلت للساكن الذي بعدها لأنه لا يبتدئ بساكن، فكان حقها الكسر لأن بعدها ساكناً وتقديرها السكون، فيجب أن تكسر لالتقاء السّاكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر، وكذلك كل ما كان ثالثه مضموماً في الفعل المستقبل نحو قوله: {انظر كيف يفترون على اللّه الكذب}، ونحو: {اقتلوا يوسف}؛ لأنه من "نَظَر ينظر" و"قتل يقتل"، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة؛ لأنها لا تقع في كلام العرب -لثقلها- بعدها، فليس في الكلام مثل "فعل" ولا مثل "إفعل".
وقوله عزّ وجلّ: {فسجدوا إلا إبليس أبى}
قال قوم: إن إبليس كان من الملائكة، فاستثني منهم في السجود.
وقال قوم من أهل اللغة: لم يكن إبليس من الملائكة، والدليل على ذلك قوله: {إلّا إبليس كان من الجنّ}.
فقيل لهؤلاء: فكيف جاز أن يستثنى منهم؟
فقالوا: إن الملائكة -وإياه- أمروا بالسجود، قالوا: ودليلنا على أنه أمر معهم قوله: {إلا إبليس أبى} فلم يأب إلا وهو مأمور.
وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزّ وجلّ.
والقول الآخر غير ممتنع، ويكون {كان من الجن} أي: كان ضالاً كما أن الجن كانوا ضالين، فجعل منهم كما قال في قصته {وكان من الكافرين}، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضهم، كما قال عزّ وجل: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}.
وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي قبلها والتي تليها؛ لأنه إخبار بما ليس من علم العرب، ولا يعلمه إلا أهل الكتاب، أو نبي أوحي إليه.
و"إبليس" لم يصرف؛ لأنه اسم أعجمي، اجتمع فيه العجمة والمعرفة، فمنع من الصرف). [معاني القرآن: 1/113-114]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا...}
إن شئت جعلت {فتكونا} جواباً نصباً، وإن شئت عطفته على أوّل الكلام فكان جزماً، مثل قول امرئ القيس:

فقلت له صوّب ولا تجهدنّه = فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
فجزم، ومعنى الجزم كأنّه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد، ومعنى الجواب والنّصب: لا تفعل هذا فيفعل بك مجازاةً، فلمّا عطف حرف على غير ما يشاكله -وكان في أوّله حادثٌ لا يصلح في الثاني- نصب، ومثله قوله: {ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي} و{لا تفتروا على اللّه كذباً فيسحتكم بعذابٍ} و{لا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة} وما كان من نفى ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف؛ بخلاف المعنيين؛ كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركب إليك؛ تريد: لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين؛ لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:

ألم تسأل الّربع القديم فينطق = وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبى سلمى المزنيّ:

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم = بلى وغيّرها الأرواح والدّيم
فأكذب نفسه.
وأمّا قوله: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي} فإنّ جوابه قوله: {فتكون من الظّالمين}، والفاء التي في قوله: {فتطردهم} جواب لقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء}، ففي قوله: {فتكون من الظّالمين} الجزم والنصب على ما فسّرت لك، وليس في قوله: {فتطردهم} إلا النصب، لأنّ الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: {ما عليك من حسابهم}، و{عليك} لا تشاكل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلاّ مثل قوله: "عندك وعليك وخلفك"، أو كان فعلا ماضيا مثل: " قام وقعد" لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
لأن الذي قبل الفاء "يفعل" والذي بعدها "يفعل"، وهذا مشاكل بعضه لبعض؛ لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على آخره ما يقع على أوّله، وعلى أوّله ما يقع على آخره؛ لأنه فعل مستقبل). [معاني القرآن: 1/27-28]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقلنا يا آدم} هذا شيء تكلمت به العرب، تتكلم بالواحد على لفظ الجميع.
{فكلا منها رغداً} الرغد: الكثير الذي لا يعنّيك من ماء أو عيش أو كلأ أو مال، يقال: قد أرغد فلان، أي: أصاب عيشًا واسعاَ، قال الأعشى:

زبداً بمصرٍ يوم يسقى أهلها=رغداً تفجّره النبيط خلالها
). [مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين}
باب الدعاء:
قوله: {يا آدم اسكن} و{يا آدم أنبئهم} و{يا فرعون إني رسولٌ} فكل هذا إنما ارتفع لأنه اسم مفرد، والاسم المفرد مضموم في الدعاء، وهو في موضع نصب، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكنة.
فإذا كان مضافا انتصب؛ لأنه الأصل، وإنما يريد "أعني فلاناً" و"أدعو"، وذلك مثل قوله: {يا أبانا ما لك لا تأمنّا} و{ربّنا ظلمنا أنفسنا} إنما يريد: "يا ربّنا ظلمنا أنفسنا"، وقوله: {ربّنا تقبّل منّا} هذا باب الفاء.
قوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين} فهذا الذي يسميه النحويون "جواب الفاء"، وهو ما كان جواباً للأمر والنهي والاستفهام والتمني والنفي والجحود، ونصب ذلك كله على ضمير "أن"، وكذلك الواو وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء.
وإنما نصب هذا؛ لأن الفاء والواو من حروف العطف، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما ًحتى كأنه قال "لا يكن منكما قرب الشجرة"، ثم أراد أن يعطف الفعل على الاسم فأضمر مع الفعل "أن"؛ لأن "أن" مع الفعل تكون اسماَ فيعطف اسماً على اسم، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء، ومثل ذلك قوله: {لا تفتروا على اللّه كذباً فيسحتكم بعذابٍ} هذا جواب النهي، و{لا يقضى عليهم فيموتوا} جواب النفي، والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز إذا حسن أن تجري الآخر على الأول أن تجعله مثله نحو قوله: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} أي: "ودّوا لو يدهنون"، ونحو قوله: {ودّ الّذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون} جعل الأول فعلا ولم ينو به الاسم، فعطف الفعل على الفعل وهو التمني، كأنه قال: "ودّوا لو تغفلون ولو يميلون"، وقال: {لا يؤذن لهم فيعتذرون} أي: "لا يؤذن لهم ولا يعتذرون" وما كان بعد هذا جواب المجازاة بالفاء والواو، فإن شئت أيضاً نصبته على ضمير "أن" إذا نويت بالأول أن تجعله اسماً، كما قال: {إن يشأ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظهره}، {أو يوبقهنّ بما كسبوا ويعف عن كثيرٍ * ويعلم الّذين} فنصب، ولو جزمه على العطف كان جائزاً، ولو رفعه على الابتداء جاز أيضاً، وقال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء} فتجزم {فيغفر} إذا أردت العطف، وتنصب إذا أضمرت "إن" ونويت أن يكون الأول اسماً، وترفع على الابتداء، وكل ذلك من كلام العرب، وقال: {قاتلوهم يعذّبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} ثم قال: {ويتوب اللّه على من يشاء} فرفع {ويتوب}؛ لأنه كلام مستأنف ليس على معنى الأول، ولا يريد: قاتلوهم يتب الله عليهم، ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت، وقال الشاعر:

فإن يهلك أبو قابوس يهلك = ربيع الناس والشهر الحرام
ونمسك بعده بذناب عيشٍ = أجبّ الظهر ليس له سنام
فنصب "ونمسك" على ضمير "أن"، ونرى أن يجعل الأول اسماً، ويكون فيه الجزم -أيضاً- على العطف، والرفع على الابتداء، قال الشاعر:

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى = مصارع مظلومٍ مجرّا ومسحبا
ومن يغترب عن قومه لا يجد له = على من له رهطٌ حواليه مغضبا
وتدفن منه المحسنات وإن يسئ = يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
فـ"تدفن" يجوز فيه الوجوه كلها، قال الشاعر:

فإن يرجع النعمان نفرح ونبتهج = ويأت معدّاً ملكها وربيعها
وإن يهلك النعمان تعر مطيّةٌ = وتخبأ في جوف العياب قطوعها
وقال تبارك وتعالى: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} فهذا لا يكون إلا رفعا لأنه الجواب الذي لا يستغنى عنه، والفاء إذا كانت جواب المجازاة كان ما بعدها أبداً مبتدأ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف، ألا ترى أنك تقول: "إن تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ"، فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكوت حتى تجيء لما بعد "إن" بجواب، ومثلها: {ومن كفر فأمتّعه قليلاً} وقال بعضهم: (فأمتّعه ثمّ أضطرّه) فـ(أضطرّه) إذا وصل الألف جعله أمراً، وهذا الوجه إذا أراد به الأمر يجوز فيه الضم والفتح، غير أن الألف ألف وصل وإنما قطعتها "ثمّ" في الوجه الآخر، لأنه كل ما يكون معناه "أفعل" فإنه مقطوع، من الوصل كان أو من القطع، قال: {أنا آتيك به} وهو من "أتى يأتي"، وقال: {آتّخذ من دونه آلهةً} فترك الألف التي بعد ألف الاستفهام؛ لأنها ألف "أفعل"، وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكى عن الكفار: {لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن مّن الصّالحين}فقوله: {فأصّدّق} جواب للاستفهام، لأنّ {لولا} ههنا بمنزلة "هلا"، وعطف {وأكن} على موضع {فأصّدّق}؛ لأنّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم -وقد قرأ بعضهم (فأصّدّق وأكون)- عطفها على ما بعد الفاء وذلك خلاف الكتاب، وقد قرئ: (من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم) فجزم (يذرهم) على أنه عطف على موضع الفاء؛ لأن موضعها يجزم إذا كانت جواب المجازاة، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء، فهو أجود، وهي قراءة، وقال: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لّكم ويكفّر عنكم} جزم، ورفع على ما فسرت، وقد يجوز في هذا وفي الحرف الذي قبله النصب؛ لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة مثل: {ويعلم الّذين يجادلون في آياتنا} و{ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين} فانتصب الآخر؛ لأن الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم وفي الثاني الواو وإن شئت جزمت على العطف، كأنك قلت: {ولمّا يعلم الصابرين} فإن قال قائل: {ولما يعلم الله الصابرين}، {ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم} فهو لم يعلمهم؟
قلت: بل قد علم، ولكنّ هذا فيما يذكر أهل التأويل ليبين للناس، كأنه قال: "ليعلمه الناس"، كما قال: {لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً} وهو قد علم؛ ولكن ليبين ذلك، وقد قرأ أقوام أشباه هذا في القرآن: (ليعلم أيّ الحزبين) ولا أراهم قرأوه إلاّ لجهلهم بالوجه الآخر.
ومما جاء بالواو: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ}؛ إن شئت جعلت {وتكتموا الحقّ} نصباً إذا نويت أن تجعل الأول اسماً فتضمر مع {تكتموا} "أن" حتى تكون اسماً، وإن شئت عطفتها فجعلتها جزماً على الفعل الذي قبلها، قال: {ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لّكما} فعطف القول على الفعل المجزوم فجزمه، وزعموا أنه في قراءة ابن مسعود: (وأقول لّكما) على ضمير "أن"، ونوى أن يجعل الأوّل اسماً، وقال الشاعر:

لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته = تقضّي لباناتٍ ويسأم سائم
"ثواءٌ" و"ثواءً" أو "ثواءٍ" رفع ونصب وخفض، فنصب على ضمير "أن"؛ لأن التقضي اسم، ومن قال: "فتقضى" رفع: "ويسأم"؛ لأنه قد عطف على فعل، وهذا واجبٌ، وقال الشاعر:

فإن لم أصدّق ظنّكم بتيقّنٍ = فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنّني = أنا الفارس الحامي الذمار المذاود
وقال الشاعر:

فإن يقدر عليك أبو قبيسٍ = نمطّ بك المنيّة في هوان
وتخضب لحيةٌ غدرت وخانت = بأحمر من نجيع الجوف آن
فنصب هذا كله؛ لأنه نوى أن يكون الأوّل اسماً، فأضمر بعد الواو "أن" حتى يكون اسماً مثل الأول فتعطفه عليه، وأما قوله: {لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم} و{فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين} فهذا على جواب التمني، لأنّ معناه "ليت لنّا كرّةً". وقال الشاعر:

فلست بمدركٍ ما فات مني = بـ"لهف" ولا بـ"ليت" ولا "لواني"
فأنزل "لواني" بمنزلة "ليت"؛ لأن الرجل إذا قال: "لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا "، فإنما تريد: "وددت لو كنت فعلت"، وإنّما جاز ضمير "أن" في غير الواجب، لأن غير الواجب يجيء ما بعده على خلاف ما قبله ناقضاً له. فلما حدث فيه خلاف لأوله جاز هذا الضمير، والواجب يكون آخره على أوله نحو قول الله عز وجل: {ألم تر أنّ اللّه أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرّةً} فالمعنى: "اسمعوا أنزل اللّه من السماء ماءً" فهذا خبر واجب، و{ألم تر} تنبيه، وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر:

سأترك منزلي لبني تميمٍ = وألحق بالحجاز فأستريحا
وهذا لا يكاد يعرف، وهو في الشعر جائز، وقال طرفة:

لها هضبةٌ لا يدخل الذلّ وسطها = ويأوي إليها المستجير فيعصما
واعلم أن إظهار ضمير "أن" في كل موضع أضمر فيه من الفاء لا يجوز، ألا ترى أنك إذا قلت: "لا تأته فيضربك" لم يجز أن تقول: "لا تأته فأن يضربك"، وإنما نصبته على "أن" فلا يحسن إظهاره، كما لا يجوز في قولك: "عسى أن تفعل": "عسى الفعل"، ولا في قولك: "ما كان ليفعل": "ما كان لأن يفعل"، ولا إظهار الاسم الذي في قولك "نعم رجلاً"، فرب ضمير لا يظهر؛ لأن الكلام إنما وضع على أن يضمر، فإذا ظهر كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ، فيدخله اللبس). [معاني القرآن: 1/47-53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فكلا منها رغدا}: الرغد: الكثير الذي لا يعينك من ماء أو عيش أو كلأ. يقال: "قد ارغد فلان" أي: أصاب عيشا واسعا). [غريب القرآن وتفسيره: 68]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({وكلا منها رغداً} أي: رزقاً واسعاً كثيراً، يقال: أرغد فلان إذا صار في خصب وسعة). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35)}
الرغد: الكثير الذي لا يعنيك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين} أي: إن عملتما بأعمال الظالمين صرتما منهم، ومعنى {لا تقربا} ههنا: لا تأكلا، ودليل ذلك قوله: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشّجرة} أي: لا تقرباها في الأكل، {ولا تقربا} جزم بالنفي.
وقوله عزّ وجلّ: {فتكونا من الظالمين} نصب، لأن جواب النهي بالفاء نصب، ونصبه عند سيبويه والخليل بإضمار أن، والمعنى: لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين، ويجوز أن يكون {فتكونا} جزم على العطف، على قوله: ولا تقربا فتكونا). [معاني القرآن: 1/114]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({رغدًا}: واسعًا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({رَغَداً}: كثيرا). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ...}
فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم وإبليس، وقال: "اهبطوا" يعنيه ويعني ذرّيته، فكأنه خاطبهم، وهو كقوله: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} المعنى -والله أعلم-: أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ومثله قول إبراهيم: {ربّنا واجعلنا مسلمين لك} ثم قال: {وأرنا مناسكناً} وفي قراءة عبد الله: (وأرهم مناسكهم) فجمع قبل أن تكون ذرّيته، فهذا ومثله في الكلام مما تتبيّن به المعنى، أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم وعززتم). [معاني القرآن: 1/31]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فأزلّهما الّشيطان} أي: استزلهما. {ومتاعٌ إلى حينٍ}: إلى غاية ووقت).
[مجاز القرآن: 1/38]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ}
أما قوله: {فأزلّهما الشّيطان عنها} فإنما يعني "الزلل"، تقول: "زلّ فلان" و"أزللته" و"زال فلان" و"أزاله فلان"، والتضعيف القراءة الجيدة، وبها نقرأ، وقال بعضهم: (فأزالهما) أخذها من "زال يزول"، تقول: "زال الرجل" و"أزاله فلان".
وقال: {اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} فإنما قال: {اهبطوا} -والله أعلم- لأنّ إبليس كان ثالثهم، فلذلك جمع). [معاني القرآن: 1/53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فأزلهما الشيطان}: أي استزلهما).[غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فأزلّهما} من "الزلل"، بمعنى استزلّهما، تقول: زلّ فلان وأزللته، ومن قرأ: (فأزالهما) أراد نحّاهما، من قولك: أزلتك عن موضع كذا، أو أزلتك عن رأيك إلى غيره.
{بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} يعني: الإنسان وإبليس، ويقال: والحيّة.
{ولكم في الأرض مستقرٌّ}: موضع استقرار. {ومتاعٌ} أي: متعة. {إلى حينٍ} يريد إلى أجل). [تفسير غريب القرآن: 46]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين (36)} معناه: أنهما أزلّا بإغواء الشيطان إياهما، فصار كأنّه أزلّهما، كما تقول -للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها-: أنت أزللتني عن هذا، أي: قبولي منك أزلني، فصرت أنت المزيل لي.
ومعنى "الشيطان" في اللغة: الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس، والشطن في لغة العرب: الخبل، والأرض الشطون: البعيدة، وإنما الشيطان "فيعال" من هذا.
وقد قرئ: (فَأَزالهُمَا الشيطان) من زلت وأزالني غيري، و"أزلهما" من زللت وأزلني غيري، ولـ"زللت" ههنا وجهان:
يصلح أن يكون {فأزلهما الشيطان}: أكسبهما الزلة والخطيئة، ويصلح أن يكون {فأزلهما}: نحّاهما، كلا القراءتين صواب حسن.
وقوله عزّ وجلّ {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ}: جمع الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- قصة هبوطهم، وإنما كان إبليس أُهبِطَ أولاً، والدليل على ذلك قوله عزّ وجل: {اخرج منها فإنّك رجيم}، وأهبط آدم وحواء بعد، فجمع الخبر للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط، وإن كانت أوقاتهم متفرقة فيه.
وقوله {بعضكم لبعض عدوّ}: إبليس عدو للمؤمنين من ولد آدم، وعداوته لهم: كفر، والمؤمنون أعداء إبليس، وعداوتهم له: إيمان.
وقوله عزّ وجلّ {ولكم في الأرض مستقرّ} أي: مقام وثبوت.
وقوله {إلى حين} قال قوم: معنى الحين ههنا: إلى يوم القيامة، وقال قوم: إلى فناء الآجال، أي: كل مستقر إلى فناء أجله، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة، وبعض الناس يجعل الحين -في غير هذا الموضع-: ستة أشهر، دليله قوله: {تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها}، وإنما {كل حين} ههنا جعل لمدة معلومة، والحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه -في الاستعمال- في الكثير منها أكثر، يقال: ما رأيتك منذ حين، تريد منذ حين طويل، والأصل على ما أخبرنا به). [معاني القرآن: 1/115-116]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("فأزالهما" بالألف من الزوال، أي: نحاهما، وبغير ألف من الزلل، أي: استزلهما).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَأَزَلَّهُمَا}: حملهما على الخطأ. (فَأَزَلََهُمَا): عدل بهما. {مُسْتَقَرّ}: ثبات. {وَمَتَاعٌ}: منافع. {إِلَى حِينٍ}: إلى أجل ومدة). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ...}
فـ {آدم} مرفوع، و"الكلمات" في موضع نصب، وقد قرأ بعض القرّاء: "فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ" فجعل الفعل للكلمات، والمعنى -والله أعلم- واحد؛ لأن ما لقيك فقد لقيتَه، وما نالك فقد نلته، وفي قراءتنا: {لا ينال عهدي الظّالمين} وفي حرف عبد الله: (لا ينال عهدي الظّالمون) ). [معاني القرآن: 1/28]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فتلقى آدم من ربّه كلماتٍ}: أي: قبلها وأخذها عنه.
قال أبو مهدي، وتلا علينا آية، فقال: تلقيتها من عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة، تلقّاها عن النبي عليه السلام.
{إنّه هو التّواب} أي: يتوب على العباد، والتوّاب من الناس: الذي يتوب من الذنب). [مجاز القرآن: 1/39]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم}
قوله: {فتلقّى آدم من رّبّه كلماتٍ} فجعل "آدم" المتلقي، وقد قرأ بعضهم (آدمَ) نصبًا، ورفع "الكلمات" جعلهن المتلّقيات). [معاني القرآن: 1/53]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فتلقى آدم من ربه كلمات} أي: قبلها، أخذها عنه).[غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} أي: قبلها وأخذها، كأن اللّه أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم {فتاب عليه} وفي الحديث: أن رسول اللّه -صلّى اللّه عليه سلم وعلى آله- كان يتلقى الوحي من جبريل، أي: يتقبّله ويأخذه). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنه هو التّوّاب الرّحيم (37)}
"الكلمات" -واللّه أعلم-: اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب؛ لأنهما قالا: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (23)} اعترفا بذنبهما وتابا، وفي هذه الآية موعظة لولدهما، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنصّل من الذنوب، وأنه لا ينفع إلا الاعتراف والتوبة، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللّه -عزّ وجلّ- حرام وكفر باللّه، فلا بد من الاعتراف مع التوبة، فينبغي أن يفهم هذا المعنى، فإنه من أعظم ما يحتاج إليه من الفوائد.
وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ من ربّه كلمات)، والاختيار ما عليه الإجماع، وهو في العربية أقوى، لأن آدم تعلم هذه الكلمات، فقيل: تلقّى هذه الكلمات، والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان، المعنى: فهمي قبله من لفظه). [معاني القرآن : 1/116-117]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فتلقى آدم من ربه كلمات} أي: قبلها وأخذ بها، ومن رفع (الكلمات) ونصب (آدم) فمعناه: أنقذته والحيّة من الخطيئة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَتَلَقَّى}: قبل). [العمدة في غريب القرآن: 73]

تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم مّنّي هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}
قال: {فإمّا يأتينّكم مّنّي هدًى فمن تبع هداي}، وذلك أن "إمّا" في موضع المجازاة، وهي "إما" لا تكون "أما"، وهي "إن" زيدت معها "ما" وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون.
وإنّما حسنت فيه النون لما دخلته "ما"؛ لأنّ "ما" نفي وهو ما ليس بواجب، وهي من الحروف التي تنفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: "بعينٍ مّا أرينّك" حين أدخلت فيها "ما" حسنت النون، ومثل "إمّا" ههنا قوله: {فإمّا ترينّ من البشر أحداً} وقوله: {قل رّبّ إمّا ترينّي ما يوعدون ربّ فلا تجعلني زفي القوم الظّالمين} فالجواب في قوله: {فلا تجعلني}، وأشباه هذا في القرآن والكلام كثير.
وأما "إمّا" في غير هذا الموضع الذي يكون للمجازاة؛ فلا تستغني حتى ترد "إمّا" مرتين، نحو قوله: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}، ونحو قوله: {حتّى إذا رأوا ما يوعدون إمّا العذاب وإمّا السّاعة} وإنما نصب لأنّ "إمّا" هي بمنزلة "أو" ولا تعمل شيئاً، كأنه قال: "هديناه السبيل شاكراً أو كفورا" فنصبه على الحال، و"حتى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة" فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد "إمّا" في كل شيء يجوز فيه الابتداء، ولو قلت: "مررت برجل إمّا قاعدٍ وإمّا قائمٍ" جاز، وهذا الذي في القرآن جائز أيضاً، ويكون رفًعا إلا أنه لم يقرأ.
وأما التي تستغني عن التثنية فتلك تكون مفتوحة الألف أبدًا، نحو قولك "أمّا عبد الله فمنطلق"، وقوله: {فأمّا اليتيم فلا تقهر (9) وأمّا السّائل فلا تنهر}، و{وأمّا ثمود فهديناهم}، فكلّ ما لم يحتج فيه إلى تثنية "أمّا" فألفها مفتوحة إلا تلك التي في المجازاة، و"أمّا" أيضاً لا تعمل شيئا ألا ترى أنك تقول: {وأمّا السّائل فلا تنهر} فتنصبه بـ"تنهر" ولم تغيّر "أمّا" شيئاً منه.
باب الإضافة:
أما قوله: {فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم} فانفتحت هذه الياء على كل حال؛ لأن الحرف الذي قبلها ساكن، وهي الألف التي في "هدى"، فلما احتجت إلى حركة الياء حركتها بالفتحة؛ لأنها لا تحرك إلا بالفتح، ومثل ذلك قوله: {عصاي أتوكّأ عليها}، ولغة للعرب يقولون: "عصيّ يا فتى"، و(هديّ فلا خوفٌ عليهم)، لما كان قبلها حرف ساكن وكان ألفاً، قلبته إلى الياء حتى تدغمه في الحرف الذي بعده، فيجرونها مجرى واحداً وهو أخف عليهم.
وأما قوله: {هذا ما لديّ عتيدٌ} و{هذا صراطٌ عليّ مستقيمٌ} و{ثمّ إليّ مرجعكم} فإنما حركت بالإضافة لسكون ما قبلها، وجعل الحرف الذي قبلها ياء، ولم يقل: "علاي" ولا "لداي" كما تقول: "على زيد" و"لدى زيد" ليفرقوا بينه وبين الأسماء، لأن هذه ليست بأسماء. و"عصاي" و"هداي" و"قفاي" أسماء. وكذلك {أفتوني في رؤياي} و(يا بشرايا هذا غلامٌ) لأنّ آخر "بشرى" ساكن، وقال بعضهم: (يا بشراي هذا غلام) لا يريد الإضافة، كما تقول "يا بشارة".
فإذا لم يكن الحرف ساكناً؛ كنت في الياء بالخيار، إن شئت أسكنتها، وإن شئت فتحتها، نحو: {إنّي أنا اللّه} و(إنّيَ أنا اللّه)، و{ولمن دخل بيتي مؤمناً} و(بيتيَ)، و{فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً} و(دعائيَ إلاّ).
وكذلك إذا لقيتها ألف ولام زائدتان؛ فإن شئت حذفت الياء لاجتماع الساكنينن وإن شئت فتحتها كيلا يجتمع حرفان ساكنان، إلا أن أحسن ذلك الفتح، نحو قول الله تبارك وتعالى: {جاءني البيّنات من رّبّي} و{نعمتي الّتي} وأشباه ذا، وبها نقرأ.
وإن لقيته أيضاً ألف وصل بغير لام؛ فأنت فيه أيضاً بالخيار، إلاّ أن أحسنه في هذا الحذف، وبها نقرأ، {إنّي اصطفيتك على النّاس} و{هارون أخي اشدد به أزري} فإذا كان شيء من هذا في الدعاء، حذفت منه الياء نحو: {يا عباد فاتّقون} و{ربّ قد آتيتني من الملك} و{رّبّ إمّا ترينّي ما يوعدون}.
ومن العرب من يحذف هذه الياءات في الدعاء وغيره من كل شيء. وذلك قبيح قليل إلا ما في رؤوس الآي، فإنه يحذف في الوقف. كما تحذف العرب في أشعارها من القوافي نحو قوله:

أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا = حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقوله:

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا = ولا تبقي خمور الأندرين
إذا وقفوا، فإذا وصلوا قالوا: "من بعضي" و"الأندرينا"، وذلك في رؤوس الآي كثير نحو قوله: {بل لّمّا يذوقوا عذاب} و{وإيّاي فاتّقون}، فإذا وصلوا أثبتوا الياء، وقد حذف قوم الياء في السكوت والوصل، وجعلوه على تلك اللغة القليلة، وهي قراءة العامة، وبها نقرأ؛ لأن الكتاب عليها، وقد سكت قوم بالياء ووصلوا بالياء، وذلك على خلاف الكتاب؛ لأن الكتاب ليست فيه ياء، وهي اللغة الجيدة، وقد سمعنا عربياً فصيحاً ينشد:

فما وجد النّهدي وجداً وجدته = ولا وجد العذريّ قبل جميل
يريد "قبلي" فحذف الياء، وقد أعمل بعضهم "قبل" إعمال ما ليس فيه ياء، فقال: "قبل جميل"، وهو يريد: "قبلي"، كما قال بعض العرب: "يا ربّ اغفر لي" فرفع، وهو يريد "يا ربّي".
وأما قوله: {وتظنّون باللّه الظّنونا} و{أضلّونا السّبيلا} فتثبت فيه الألف؛ لأنهما رأس آية؛ لأن قوماً من العرب يجعلون أواخر القوافي إذا سكتوا عليها على مثل حالها إذا وصلوها، وهم أهل الحجاز، وجميع العرب إذا ترنموا في القوافي: أثبتوا في أواخرها الياء والواو والألف، وأما قوله: {يا أبت إنّي أخاف} فأنث هذا الاسم بالهاء كقولك "رجلٌ ربعةٌ" و"غلامٌ يفعةٌ"، أو يكون أدخلها لما نقص من الاسم عوضا، وقد فتح قوم كأنهم أرادوا "يا أبتا" فحذفوا الألف كما يحذفون الياء، كما قال الشاعر:

ولست بمدرك ما فات مني = "لهف" ولا بـ"ليت" ولا لوآني"
يريد: "لهفاه". ومما يدلك على أن هذا الاسم أنث بالهاء قول الشاعر:

تقول ابنتي لما رأتني شاحباً = كأنّك فينا يا أبات غريب
فرد الألف وزاد عليها الهاء، كما أنث في قوله "يا أمتاه" فهذه ثلاثة أحرف، ومن العرب من يقول: "يا أمّ لا تفعلي" رخّم كما قال: "يا صاح"، ومنهم من يقول: "يا أميّ" و"يا أبي" على لغة الذين قالوا: "يا غلامي"، ومنهم من يقول: "يا أب" و"يا أمّ"، وهي الجيدة في القياس).
[معاني القرآن: 1/53-57]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({قلنا اهبطوا منها} قال ابن عباس -في رواية أبي صالح عنه-: "كما يقال: هبط فلان أرض كذا"). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)}
الفائدة في ذكر الآية: أنه عزّ وجلّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه يجازيهم بالجنة عليها وبالنّار على تركها، وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط على الأرض.
وإعراب (إمّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاء، إلا أن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها "ما"، ومعنى لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد، والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.
وفتح ما قبل النون في قوله: {يأتينّكم} لسكون الياء وسكون النون الأولى، وجواب الشرط في الفاء مع الشر ط الثاني وجوابه، وهو {فمن تبع هداي}، وجواب {فمن تبع هداي} قوله: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
و{هداي}: الأكثر في القراءة والرواية عن العرب {هداي فلا خوف} فالياء في {هداي} فتحت؛ لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح، فالأصل أن تقول: هذا غلاميَ قد جاء -بفتح الياء-؛ لأنها حرف في موضع اسم مضمر منع الإعراب، فألزم الحركة كما ألزمت "هو" وحذف الحركة جائز؛ لأن الياء من حروف المد واللين، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من تحريكها، فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح، ومن العرب من يقولون: "هدي" و"عصى"، فمن قرأ بهذه القراءة: فإنما قلبت الألف إلى الياء، للياء التي بعدها، إلا أن شأنّ ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها، فجعل بدل كسر ما قبلها -إذ كانت الألف لا يكسر ما قبلها، لا يكسر هي- قلبها ياء، وطيء تقول في: "هدى" و"عصا" و"أفعى" وما أشبه هذا -في الوقف-: "هُدَيْ" و"عَصَيْ" و"أفعى" بغير إضافة.
وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين:

تبشري بالرفه والماء الروى= وفرج منك قريب قد أتى
وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف -في الأصل- مجراه في الوقف وليس هذا الوجه الجيد، وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف الياء؛ أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها، وحكى أيضاً أن قوما يقولون في الوقف "حبلو" و"أفعو".
وإنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجيّد، فالباب في هذه الأشياء أن تنطق بها في الوصل والوقف بألف، فليس إليك أن تقلب الشيء لعلة ثم تنطق به على أصله والعلة لم تزل، فالقراءة التي ينبغي أن تلزم هي: {هداي فلا خوف} إلا أن تثبت برواية صحيحة "هديّ" فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمّا قوله: {هذا صراط عليّ مستقيم} وقوله: {إليّ مرجعكم} فلا يجوز أن يقرأ "هذا صراط علاي"، ولا "ثمّ إلاي مرجعكم"، لأن الوصل كان في هذا: "إلاي" و "عَلاَي" ولكن الألف أبدلت منها مع المضمرات الياء، ليفصل بين ما آخره مما يجب أن نعرب ويتمكن، وما آخره مما لا يجب أن يعرب، فقلبت هذه الألف ياء لهذه العلة). [معاني القرآن: 1/117-119]

تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

تفسير قوله تعالى: ({يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم...}
المعنى: لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذكر، وكذلك كل ما جاء من ذكر النعمة فإن معناه -والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا تنسوا. وفي حرف عبد الله: "ادّكروا". وفي موضع آخر: "وتذكّروا ما فيه"، ومثله في الكلام أن تقول: "اذكر مكاني من أبيك".
وأمّا نصب الياء من "نعمتي"؛ فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسّكون، والفتح، فإذا لقيتها ألفٌ ولام، اختارت العرب اللغة التي حرّكت فيها الياء وكرهوا الأخرى؛ لان اللاّم ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي التي)، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما.
وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام؛ وقد قال الله: {يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم} فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمّا قوله: {فبشّر عباد * الّذين يستمعون القول} فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة؛ وعلى هذا يقاس كل ما في القرآن منه، وقوله: {فما آتاني اللّه خيرٌ ممّا آتاكم} زعم الكسائيّ أن العرب تستحبّ نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل قوله: {إن أجري إلاّ على اللّه} و{إنّي أخاف اللّه} ولم أر ذلك عند العرب؛ رأيتهم يرسلون الياء فيقولون: "عندي أبوك"، ولا يقولون: "عنديَ أبوك" بتحريك الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة في الياء في هذا ومثله. وأما قولهم: "لي ألفان"، و"بي أخواك كفيلان"، فإنهم ينصبون في هذين لقلتهما، فيقولون: "ليَ أخواك"، و"لي ألفان"، لقلتهما، والقياس فيهما وفيما قبلهما واحد). [معاني القرآن: 1/29-30]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون}
أما قوله: {يا بني إسرائيل} فمن العرب من يهمز ومنهم من لا يهمز، ومنهم من يقول: (إسرائل)، يحذف الياء التي بعد الهمزة ويفتح الهمزة ويكسرها.
باب المجازاة:
فأما قوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} فإنما جزم الآخر؛ لأنه جواب الأمر، وجواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة، كأنه تفسير "إن تفعلوا أوف بعهدكم"، وقال في موضع آخر: {ذرونا نتّبعكم} وقال: {فذرهم في خوضهم يلعبون} فلم يجعله جواباً، ولكنه كأنهم كانوا يلعبون فقال: "ذرهم في حال لعبهم"، وقال: {ذرهم يأكلوا ويتمتّعوا ويلههم الأمل} وليس من أجل الترك يكون ذلك، ولكن قد علم الله أنه يكون وجرى على الإعراب، كأنه قال: "إن تركتهم ألهاهم الأمل"، وهم كذلك تركهم أو لم يتركهم، كما أن بعض الكلام يعرف لفظه، والمعنى على خلاف ذلك، وكما أن بعضهم يقول: "كذب عليكم الحجّ". فـ"الحجّ" مرفوع وإنما يريدون أن يأمروا بالحج، قال الشاعر:

كذب العتيق وماء شنٍّ باردٍ = إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
وقال:

وذبيانيةٌٍ توصي بنيها = ألا كذب القراطف والقروف
قال أبو عبد الله: "القراطف"، واحدها "قرطفٌ" وهو: كل ما له خملٌ من الثياب، و"القروف" واحدها "قرفٌ" وهو: وعاءٌ من جلود الإبل كانوا يغلون اللحم ويحملونه فيه في أسفارهم.
ويقولون: "هذا جحر ضبٍّ خربٍ" والخرب هو: الجحر، ويقولون: "هذا حبّ رمّاني"، فيضيف الرمّان إليه وإنما له الحبّ، وهذا في الكلام كثير.
وقوله: {قل لّلّذين آمنوا يغفروا للّذين لا يرجون أيّام اللّه} و{وقل لّعبادي يقولوا الّتي هي أحسن} فأجراه على اللفظ حتى صار جواباً للأمر، وقد زعم قوم: إن هذا إنما هو على "فليغفروا" و"قل لعبادي فليقولوا"، وهذا لا يضمر كله -يعني: الفاء واللام- ولو جاز هذا لجاز قول الرجل: "يقم زيدٌ"، وهو يريد "ليقم زيدٌ"، وهذه الكلمة أيضاً أمثل؛ لأنك لم تضمر فيها الفاء مع اللام.
وقد زعموا أن اللام قد جاءت مضمرة، قال الشاعر:

محمّد تفد نفسك كلّ نفسٍ = إذا ما خفت من شيءٍ تبالا
يريد: "لتفد"، وهذا قبيح.
وقال: "تق اللّه امرؤٌ فعل كذا وكذا" ومعناه: "ليتّق اللّه". فاللفظ يجيء كثيرا مخالفاً للمعنى. وهذا يدل عليه. قال الشاعر في ضمير اللام:

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي = لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى
يريد "ليبك من بكى" فحذف، وسمعت من العرب من ينشد هذا البيت بغير لام:

فيبك على المنجاب أضياف قفرةٍ = سروا وأسارى لم تفكّ قيودها
يريد: "فليبك"، فحذف اللام.
باب تفسير أنا وأنت وهو:
وأما قوله: {وإيّاي فارهبون} و{وإيّاي فاتّقون} فقال: {وإيّاي} وقد شغلت الفعل بالاسم المضمر الذي بعده الفعل؛ لأن كل ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو فهو منصوب نحو قولك: "زيداً فاضرب أخاه"؛ لأن الأمر والنهي مما يضمران كثيراً، ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضاً جائز على أن لا يضمر. قال الشاعر:

وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم = وأكرومة الحيّين خلّو كما هيا
وأما قوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحدٍ مّنهما} و{والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} فزعموا -والله أعلم- أن هذا على الوحي، كأنه يقول "وممّا أقصّ عليكم الزانية والزاني، والسارقة والسارق" ثم جاء بالفعل من بعد ما أوجب الرفع على الأول على الابتداء وهذا على المجاز؛ كأنه قال "أمر السارق والسارقة وشأنهما مما نقصّ عليكم"، ومثله قوله: {مّثل الجنّة الّتي وعد المتّقون} ثم قال: {فيها أنهارٌ مّن مّاءٍ}، كأنه قال: "وممّا أقصّ عليكم مثل الجنة" ثم أقبل يذكر ما فيها بعد أن أوجب الرفع في الأول على الابتداء. وقد قرأها قوم نصباً إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول، وهو في الأمر والنهي، وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام نحو قوله: {أبشراً منّا واحداً نتّبعه}، وإنما فعل هذا في حروف الاستفهام؛ أنه إذا كان بعده اسم وفعل كان أحسن أن يبتدئ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم أضمرت له فعلا حتى تحسن الكلام به، وإظهار ذلك الفعل قبيح.
وما كان من هذا في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي؛ فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير، وهذا الحرف قد قرئ نصباً ورفعا ً {وأمّا ثمود فهديناهم}.
وأما قوله: {إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ} فهو يجوز فيه الرفع، وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب، وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره؛ لأن قولك: "إنّا عبد اللّه ضربناه" مثل قولك: "عبد اللّه ضربناه"؛ لأن معناهما في الابتداء سواء، قال الشاعر:

فأمّا تميمٌ تميمُ بن مرٍّ = فألفاهم القوم روبى نياما
وقال:

إذا ابن أبي موسى بلالٌ بلغته = فقام بفأسٍ بين وصليك جازر
ويكون فيهما النصب؛ فمن نصب {وأما ثمود} نصب على هذا.
وأما قوله: {يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم}، وقوله: {أأنتم أشدّ خلقاً أم السّماء بناها} ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها}، وقال: {الرحمن (1) علّم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علّمه البيان} ثم قال: {والسّماء رفعها ووضع الميزان}، وقال: {وكلاًّ ضربنا له الأمثال وكلاًّ تبّرنا تتبيراً} فهذا إنما ينصب، وقد سقط الفعل على الاسم بعده؛ لأن الاسم الذي قبله قد عمل فيه، فأضمرت فعلاً فأعملته فيه حتى يكون العمل من وجه واحد، وكان ذلك أحسن، قال الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيئاً = ونرخصه إذا نضج القدور
يريد "نغالي باللحم"، فإن قلت: {يدخل من يشاء} ليس بنصب في اللفظ، فهو في موضع نصب قد عمل فيه فعل، كما قلت: "مررت بزيدٍ وعمراً ضربته"، كأنك قلت: "مررت زيداً"، وقد يقول هذا بعض الناس، قال الشاعر:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا = أَمْلِك رأس البعير إن نفرا
والذيب أخشاه إن مررت به = وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وكلّ هذا يجوز فيه الرفع على الابتداء، والنصب أجود وأكثر.
وأما قوله: {يغشى طائفةً مّنكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم} فإنما هو على قوله "يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ في هذه الحال"، و هذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: "ضربت عبد اللّه وزيدٌ قائم". وقد قرئت نصبا لأنها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنه قد يسقط الفعل على شيء من سببها وقبلها منصوب بفعل، فعطفتها عليه وأضمرت لها فعلها فنصبتها به، وما ذكرنا في هذا الباب من قوله: {والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا} ليس في قوله: {فاقطعوا} و{فاجلدوا} خبر مبتدأ؛ لأن خبر المبتدأ هكذا لا يكون بالفاء، فلو قلت "عبد اللّه فينطلق" لم يحسن، وإنما الخبر هو المضمر الذي فسرت لك من قوله: (ومما نقص عليكم)، وهو مثل قوله:

وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم = وأكرومة الحيّين خلوٌ كما هيا
كأنه قال: "هؤلاء خولان"، كما تقول: "الهلال فانظر إليه"، كأنك قلت: "هذا الهلال فانظر إليه" فأضمر الاسم.
فأما قوله: {واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما} فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ، لأن "الذي" إذا كان صلته فعل جاز أن يكون خبره بالفاء نحو قول الله عز وجل: {إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ثم قال: {فأولئك مأواهم جهنّم}). [معاني القرآن: 1/57-62]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأوفوا بعهدي} أي: أوفوا لي بما قبلتموه من أمري ونهيي.
{أوف بعهدكم} أي: أوف لكم بما وعدتكم على ذلك من الجزاء). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون (40)}
نصب {بني إسرائيل} لأنه نداء مضاف، وأصل النداء النصب لأن معناه معنى "ناديت" و "دعوت". و"إسرائيل" في موضع خفض إلا إنّه فتح آخره لأنه لا ينصرف، وفيه شيئان يوجبان منع الصرف، وهما أنّه أعجمي وهو معرفة، وإذا كان الاسم كذلك لم ينصرف، إذا جاوز ثلاثة أحرف عند النحويين، وفي قوله: {نعمتي الّتي أنعمت عليكم} وجهان، أجودهما فتح الياء؛ لأنّ الذي بعدها ساكن -وهو لام المعرفة- فاستعمالها كثير في الكلام فاختير فتح الياء معها لالتقاء السّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أقوى في اللغة، ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء السّاكنين فتقرأ: (نعمت التي)أنعمت بحذف الياء، والاختيار: إثبات الياء وفتحها؛ لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب؛ لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤه من كتاب اللّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته أوجه في اللغة، فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزّ وجلّ: {هارون أخي (30) اشدد به أزري (31)}؛ فلم يكثر القراء فتح هذه الياء، وقال أكثرهم بفتحها مع الألف واللام.
ولعمري إن اللام المعرفة أكثر في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار "أخيَ اشدد" بفتح الياء لالتقاء السّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد، وإن حذفت فالحذف جائز حسن، إلا أن الأحسن ما وصفنا.
وأمّا معنى الآية في التذكير بالنعمة، فإنهم ذكروا بما أنعم به على آبائهم من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً} فالذين صادفهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أنبياء، وإنّما ذكّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها، يفاخر الرجل الرجل فيقول: "هزمناكم يوم ذي قار"، ويقول: "قتلناكم يوم كذا"، معناه: قتل آباؤنا آباءكم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} معناه -واللّه أعلم- قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه} فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنّا ما يدل على ذكر العهد قبل هذا، وفيه كفاية.
وقوله عزّ وجلّ: {وإيّاي فارهبون} نصب بالأمر كأنه في المعنى "أرهبوني" ويكون الثاني تفسير هذا الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: "وأنا فارهبون"، ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وإيّاي فارهبون) حذفت الياء وأصله "فارهبوني"؛ لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية؛ ليكون النظم على لفظ متسق، ويسمّي أهل اللغة رؤوس الآي: الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال: "وفيت له بالعهد فأنا واف به"، و"أوفيت له بالعهد فأنا موف به". والاختيار: أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقال: {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} وقال: {فأوفوا الكيل والميزان}، وكل ما في القرآن بالألف، وقال الشاعر في "أوفيت" و"وفيت"، فجمع بين اللغتين في بيت واحد:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته= كما وفى بقلاص النجم حاديها
). [معاني القرآن: 1/119-122]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَوْفُواْ بِعَهْدِي}: بأمري. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: بوعدكم). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً...} وكل ما كان في القرآن من هذا قد نصب فيه الثّمن، وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين، لا يكونان ثمناً معلوماً مثل "الدنانير" و"الدراهم"؛ فمن ذلك: اشتريت ثوباً بكساء؛ أيّهما شئت تجعله ثمناً لصاحبه؛ لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل: الرقيق والدّور وجميع العروض فهو على هذا، فإن جئت إلى "الدراهم" و"الدنانير" وضعت الباء في الثّمن، كما قال في سورة يوسف: {وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ}؛ لأن "الدراهم" ثمنٌ أبداً، والباء إنما تدخل في الأثمان، فذلك قوله: {اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً}، {اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة}، {اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة}، فأدخل الباء في أي هذين شئت حتى تصير إلى "الدنانير" و"الدراهم"، فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، فإذا اشتريت أحدهما -يعني: "الدنانير" و"الدراهم"- بصاحبه أدخلت الباء على أيّهما شئت؛ لأن كل واحد منهما في هذا الموضع بيعٌ وثمنٌ، فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العروض وبين "الدراهم"، فإنك تعلم أن من اشترى عبداً بألف درهم معلومة، ثم وجد به عيبا فردّه لم يكن له على البائع أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو اشترى عبدا بجارية ثم وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى مثلها، فذلك دليل على أن العروض ليست بأثمان). [معاني القرآن: 1/30]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تكونوا أوّل كافرٍ به...}
فوحّد "الكافر" وقبله جمعٌ، وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ في الاسم إذا كان مشتقّاً من فعل، مثل الفاعل والمفعول؛ يراد به: "ولا تكونوا أوّل من يكفر" فتحذف "من" ويقوم الفعل مقامها، فيؤدّي الفعل عن مثل ما أدّت "من" عنه من التأنيث والجمع وهو في لفظ توحيد، ولا يجوز في مثله من الكلام أن تقول: أنتم أفضل رجلٍ؛ ولا أنتما خير رجل؛ لأن الرجل يثنّى ويجمع ويفرد، فيعرف واحده من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولـ(من) فيؤدّى عنهما وهو موحّد؛ ألا ترى أنك قد تقول: الجيش مقبلٌ والجند منهزمٌ، فتوحّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ؛ ففي هذا تبيان؛ وقد قال الشاعر:

وإذا هم طعموا فألأم طاعم = وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ). [معاني القرآن: 1/32-33]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإيّاي فاتّقون (41)}
يعني: القرآن، ويكون أيضاً {ولا تكونوا أوّل كافر}: بكتابكم وبالقرآن، إن شئت عادت الهاء على قوله: {لما معكم}، وإنما قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}، لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}.
فإن قال قائل: كيف تكون الهاء لكتابهم؟
قيل له: إنهم إذا كتموا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم، فقد كفروا به، كما إنّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به.
ومعنى {ولا تكونوا أوّل كافر به} -إذا كان بالقرآن-: لا مؤنة فيه؛ لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن، ومعنى {أوّل كافر}: أول الكافرين.
قال بعض البصريين في هذا قولين:
قال الأخفش: معناه: أول من كفر به، وقال البصريون أيضا: معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به، أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض النحويين: إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول، تقول: الجيش منهزم، والجيش مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول أبين، لأنك إذا قلت: الجيش منهزم، فقد علم أنك تريد هذا الجيش، فنقطت في لفظه بفاعل؛ لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو "فعال" و"مفعول" يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت: الجيش رجل، فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله، فأمّا إذا عرف معناه، فهو سائغ جيد.
تقول: جيشهم إنّما هو فرس ورجل، أي: ليس بكثير الأتباع، فيدل المعنى على أنك تريد: الجيش خيل ورجال، وهذا في "فاعل" و"مفعول" أبين كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ {أوّل كافر به} اللغة العليا والقدمى: الفتح في الكاف، وهي لغة أهل الحجاز، والإمالة في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة؛ لأن فاعلا ً إذا سلم من حروف الإطباق وحروف المستعلية: كانت الإمالة فيه سائغة إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة بني تميم، وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جار على لفظ الإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد، فيكسرون ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك: فلان ظالم، "ظالم" ممال، ولا في: طالب، "طالب" ممال، ولا في: صابر، "صابر" ممال، ولا في: ضابط، "ضابط" ممال، وكذلك حروف الاستعلاء وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في: غافل، "غافل" ممال، ولا في: خادم، "خادم" ممال، ولا في: قاهر، "قاهر" ممال، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا -في هذا الموضع- هو المقصود وقدر الحاجة).
[معاني القرآن: 1/122-124]

تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون...}
إن شئت جعلت {وتكتموا} في موضع جزم؛ تريد به: ولا تلبسوا الحقّ بالباطل ولا تكتموا الحقّ، فتلقى "لا" لمجيئها في أوّل الكلام، وفي قراءة أبيّ: (ولا تكونوا أوّل كافرٍ به وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً)، فهذا دليلٌ على أنّ الجزم في قوله: {وتكتموا الحقّ} مستقيمٌ صوابٌ، ومثله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام}، وكذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وإن شئت جعلت هذه الأحرف المعطوفة بالواو نصباً على ما يقول النحويّون من الصّرف؛ فإن قلت: وما الصّرف؟
قلت: أن تأتى بالواو معطوفةً على كلامٍ في أوّله حادثةٌ لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها، فإذا كان كذلك فهو الصّرف؛ كقول الشاعر:

لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله = عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة "لا" في "تأتى مثله"؛ فلذلك سمّى صرفاً إذ كان معطوفاً ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله، ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب، وهي معطوفة على مرفوع قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، ولو خلّيت ورأيك لضللت، لمّا لم يحسن في الثاني أن تقول: لو تركت وترك رأيك لضللت؛ تهّيبوا أن يعطفوا حرفاً لا يستقيم فيه ما حدث في الذي قبله.
قال: فإنّ العرب تجيز الرّفع؛ لو ترك عبد الله والأسد لأكله، فهل يجوز في الأفاعيل التي نصبت بالواو على الصّرف أن تكون مردودة على ما قبلها وفيها معنى الصّرف؟
قلت: نعم؛ العرب تقول: لست لأبي إن لم أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لأضربنّك أو تسبقنّي في الأرض، فهذا مردودٌ على أوّل الكلام، ومعناه : الصّرف؛ لأنهّ لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بـ(لم)، ولا إعادة اليمين على: والله لتسبقنّي، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام، والصّرف في غير "لا" كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه). [معاني القرآن: 1/32-33]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون (42)}
يقال: لبست عليهم الأمر أَلبِسُه، إذا أعمّيته عليهم، ولبست الثوب ألبسه، ومعنى الآية: {لا تلبسوا الحق} و"الحق" ههنا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به من كتاب الله -عزّ وجلّ-، وقوله {بالباطل} أي: بما يحرفون.
وقوله عزّ وجلّ: {وأنتم تعلمون} أي: تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرة.
وإعراب {ولا تلبسوا} الجزم بالنهي، وعلامة الجزم سقوط النون، أصله: "تلبسون" و"تكتمون"، يصلح أن يكون جزماً على معنى {ولا تكتموا الحق}، ويصلح أن يكون نصباً، وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو.
ومذهب الخليل وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين: أن جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار "أن"، كأنك قلت: لا يكن منكم إلباس الحق وكتمانه، كأنّه قال: وإن تكتموه، ودلّ "تلبسوا" على لبس، كما تقول: من كذب كان شرّا، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفته).
[معاني القرآن: 1/124-125]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 11:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 44 إلى 59]

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}

تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} أي: وتتركون أنفسكم، كما قال: {نسوا اللّه فنسيهم} أي: تركوا اللّه فتركهم). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)}
فالألف: ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، كأنه قيل لهم: أنتم على هذه الطريقة، ومعنى هذا الكلام -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به؛ لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: هو تركهم التمسك به.
ويجوز -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون ببذل الصدقة وكانوا يضنون بها، لأنهم وصفوا بأنهم قست قلوبهم وأكلوا الربا والسّحت، وكانوا قد نهوا عن الربا فمنع الصدقة داخل في هذا الباب). [معاني القرآن: 1/125]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وتنسون أنفسكم} أي: تتركونها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]

تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنها لكبيرةٌ إلاّ على الخاشعين}
العرب تقتصر على أحد هذين الاسمين، فأكثره الذي يلى الفعل، قال عمرو بن امرئ القيس -من الخزرج-:


نحن بما عندنا وأنت بما= عندك راضٍ والرأي مختلف
الخبر للآخر؛ وفي القرآن مما جعل معناه على الأول قوله: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها}.
"الخاشعون": المخبتون المتواضعون). [مجاز القرآن: 1/39]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلاّعلى الخاشعين}
باب الواو:
أما قوله: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ} فلأنه حمل الكلام على "الصلاة"، وهذا كلام منه ما يحمل على الأول ومنه ما يحمل على الآخر، وقال: {واللّه ورسوله أحقّ أن يرضوه} فهذا يجوز على الأول والآخر، وأقيس هذا -إذا ما كان بالواو -أن يحمل عليهما جميعاً، تقول: "زيد وعمرو ذاهبان" وليس هذا مثل "أو"، لأن "أو" إنما يخبر فيه عن أحد الشيئين، وأنت في "أو" بالخيار إن شئت جعلت الكلام على الأول وإن شئت على الآخر، وأن تحمله على الآخر أقيس؛ لأنك إن تجعل الخبر على الاسم الذي يليه فهو أمثل من أن تجاوزه إلى اسم بعيد منه، قال: {وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها} فحمله على الأول، وقال في موضع آخر: {ومن رّحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه}، وقال: {ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً} فحمله على الآخر، قال الشاعر:

أمّا الوسامة أو حسن النساء فقد = أوتيت منه لو أنّ العقل محتنك
وقال ابن أحمر:

رماني بداءٍ كنت منه ووالدي = بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
وقال الآخر:

نحن بما عندنا وأنت بما = عندك راضٍ والرأي مختلف
وهذا مثل قول البرجمي:

من يك أمسى بالمدينة داره = فإنّي وقيّاراً بها لغريب
وأما قوله: {باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم} فانتصب {العجل}؛ لأنه مفعول به، تقول: "عجبت من ضربك زيداً"، وقوله: {بارئكم} مهموز لأنه من "برأ اللّه الخلق يبرأ برءاً"، وقد قرأ بعضهم هذه الهمزة بالتخفيف فجعلها بين الهمزة وبين الياء، وقد زعم قوم أنها تُجزم، ولا أرى ذلك إلا غلطاً منهم، سمعوا التخفيف فظنوا أنه مجزوم، والتخفيف لا يفهم إلا بمشافهة ولا يعرف في الكتاب، ولا يجوز الإسكان، إلا أن يكون أسكن وجعلها نحو: "علم" و"قد ضرب" و"قد سمع" ونحو ذلك.
سمعت من العرب من يقول: (جاءت رسلنا) جزم اللام، وذلك لكثرة الحركة، قال الشاعر:

وأنت لو باكرت مشمولةً = صهباء مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك ما فيهما = وقد بداهنك من المئزر
وقال امرؤ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقبٍ = إثماً من اللّه ولا واغل
وقال آخر:

..... = إنّ بني ثمرة فؤادي
وقال آخر:

يا علقمة يا علقمة يا علقمة = خير تميمٍ كلّها وأكرمه
وقال:

إذا اعوججن صاحب قوّم = بالدّوّ أمثال السفين العوّم
ويكون "رسلنا" على الإدغام، يدغم اللام في النون ويجعل فيها غنة.
والإسكان في {بارئكم} على البدل، لغة الذين قالوا: "أخطيت"، وهذا لا يعرف). [معاني القرآن: 1/62-64]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الخاشعون}: المخبتون المتواضعون). [غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واستعينوا بالصّبر} أي: بالصوم، في قول مجاهد رحمه اللّه.
ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر، وللصائم صابر، وإنما سمّي الصائم صابراً؛ لأنه حبس نفسه عن الأكل والشرب، وكلّ من حبس شيئاً فقد صبره، ومنه "المصبورة" التي نهي عنها، وهي: البهيمة تجعل غرضًا وترمى حتى تقتل.
وإنما قيل للصابر على المصيبة صابر؛ لأنه حبس نفسه عن الجزع). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين (45)}
إن قال قائل: لم قيل لهم "استعينوا بالصبر" وما الفائدة فيها ؟
فإن هذا الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم، فقيل لهم: استعينوا على ما يذهب عنكم شهوة الرياسة بالصلاة؛ لأن الصلاة يتلى فيها ما يرغب فيما عند اللّه، ويزهد في جميع أمر الدنيا، ودليل ذلك قوله: {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} المعنى: إن الصلاة التي معها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم كبيرة؛ تكبر على الكفار وتعظم عليهم مع الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخاشع: المتواضع المطيع المجيب؛ لأن المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفر إذا انتقل إلى الإيمان). [معاني القرآن: 1/125-126]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({واستعينوا بالصبر} أي: الصوم، والصائم صابر، بحبسه نفسه عن الأكل والشرب، والصبر أصله: الحبس عن الشيء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 26-27]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّبْرِ}: الصوم. {الْخَاشِعِ}: المتواضع). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} معناها: يوقنون، فالظن على وجهين: يقين، وشك؛ قال دريد بن الصّمّة:

فقلت لهم ظنّوا بألفى مدجّج= سراتهم في الفارسيّ المسرّد
"ظنّوا" أي: أيقنوا.

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى= غوايتهم وأنني غير مهتد
أي: حيث تابعتهم؛ وجعله يقيناً). [مجاز القرآن: 1/39-40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم مّلاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون}
باب اسم الفاعل:
قال: {الّذين يظنّون أنّهم مّلاقو ربّهم} فأضاف قوله: {مّلاقو ربّهم} ولم يقع الفعل، وإنما يضاف إذا كان قد وقع الفعل تقول: "هم ضاربوا أبيك" إذا كانوا قد ضربوه، وإذا كانوا في حال الضرب أو لم يضربوا قلت: "هم ضاربون أخاك"، إلا أن العرب قد تستثقل النون فتحذفها في معنى إثباتها وهو نحو {مّلاقو ربّهم} مثل {كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت} ولم تذق بعد. وقد قال بعضهم: (ذائقةٌ الموت) على ما فسرت لك.
وقال الله -جل ثناؤه-: {إنّا مرسلو النّاقة} وهذا قبل الإرسال، ولكن حذفت النون استثقالا. وقال: {وكلبهم باسطٌ ذراعيه} فأثبت التنوين لأنه كان في الحال. وقال: {إنّا كاشفو العذاب قليلاً} على ذلك أيضاً. وزعموا أن هذا البيت ينشد هكذا:

هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا = أو عبد ربٍّ أخا عمرو بن مخراق
فأضاف ولم يقع الفعل ونصب الثاني على المعنى لأن الأول فيه نية التنوين، كقول الله جل وعزّ {وجعل اللّيل سكناً والشّمس والقمر حسباناً}، ولو جررت "الشمس" و"القمر" و"عبد رب أخا عمرو" على ما جررت عليه الأول جاز وكان جيدا.
وقال: {إنّا منجّوك وأهلك إلاّ امرأتك} فالنصب وجه الكلام لأنك لا تجرى الظاهر على المضمر، والكاف في موضع جرّ لذهاب النون. وذلك لأن هذا إذا سقط على اسم مضمر ذهب منه التنوين والنون إن كان في الحال وإن لم يفعل، تقول: "هو ضاربك الساعة أو غداً" و"هم ضاربوك"، وإذا أدخلت الألف واللام قلت: "هو الضارب زيداً" ولا يكون أن تَجُرّ "زيداً" لأن التنوين كأنه باق في "الضارب" إذا كان فيه الألف واللام، لأن الألف واللام تعاقبان التنوين. وتقول: "هما الضاربان زيداً" و"هما الضاربا زيدٍ" لأن الألف واللام لا تعاقبان التنوين في الاثنين والجمع. فإذا أخرجت النون من الاثنين، والجمع من أسماء الفاعلين، أضفت وإن كان فيه الألف واللام، لأن النون تعاقب الإضافة، وطرح النون ههنا كطرح النون في قولك: "هما ضاربا زيد" ولم يفعلا، لأن الأصل في قولك: "الضاربان" إثبات النون لأن معناه وإعماله مثل معنى "الذي فعل" وإعماله. قال الشاعر:

الحافظو عورة العشير لا = يأتيهم من ورائنا نطف
وفي كتاب الله {والمقيمي الصّلاةِ}، وقد نصب بعضهم فقال: (والمقيمي الصّلاةَ)،
و"الحافظو عورة" استثقالاً للإضافة كما حذفت نون "اللذين" و"الذين". قال الشاعر:

أبني كليبٍ إنّ عمّيّ اللذا = قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
وقال:

فإنّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهم = هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
فألقى النون. وزعموا أن عيسى بن عمر كان يجيز:

فألفيته غير مستعتبٍ = ولا ذاكر اللّه إلا قليلا
كأنه إنما طرح التنوين لغير معاقبة إضافة، وهو قبيح إلا في كل ما كان معناه "اللذين" و"الذين" فحينئذ يطرح منه ما طرح من ذلك. ولو جاز هذا البيت لقلت: "هم ضاربو زيدا" وهذا لا يحسن. وزعموا أن بعض العرب قال: {واعلموا أنّكم غير معجزي اللّه} وهو أبو السمّال وكان فصيحا. وقد قرئ هذا الحرف {إنّكم لذائقو العذاب الأليم} وهو في البيت أمثل لأنه أسقط التنوين لاجتماع الساكنين. وإذا ألحقت النون نصبت لأن الإضافة قد ذهبت، قال: {والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} [و] قال: {والذّاكرين اللّه كثيراً} قال الشاعر:

النازلون بكلّ معترك = والطيبون معاقد الأزر
). [معاني القرآن: 1/65-67]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}: يوقنون). [غريب القرآن وتفسيره: 68]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} أي: يعلمون.
و"الظن" بمعنيين: شك ويقين، على ما بينا في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 47]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون (46)}
"الظن" ههنا في معنى: اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك، ولو كانوا شاكين كانوا ضلالا كافرين، و"الظن" بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مقاتل = سراتهم في الفارسيّ المسرّد
ومعناه: أيقنوا.
وقد قال بعض أهل العلم من المتقدمين: إن "الظن" يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإن كان قام في نفسك حقيقته وهذا مذهب، إلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.
قال أبو إسحاق: وهذا سمعته من إسماعيل بن إسحاق القاضي -رحمه اللّه-، رواه عن زيد بن أسلم.
وقوله {أنّهم} ههنا لا يصلح في موضعها (إنهم) -بالكسر- لأن الظن واقع فلا بد من أن تكون تليه "أنّ"، إلا أن يكون في الخبر لام.
ويصلح في {أنّهم إليه راجعون} الفتح والكسر، إلا أن الفتح هو الوجه الذي عليه القراءة، فإذا قلت: (وإنهّم إليه راجعون) -في الكلام– حملت الكلام على المعنى كأنه "وهم إليه راجعون" ودخلت أن مؤكدة، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت: ظننت إنك لعالم.
ومعنى {ملاقو ربّهم}: ملاقون ربهم، لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون تحذف استخفافا، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن أتباع المصحف أصل أتباع السنة). [معاني القرآن: 1/126-127]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({الذين يظنون}: يتيقنون، و"يظنون" في مكان آخر: يشكون).
[ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الذين يظنون أنهم} أي: يعلمون ويوقنون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَظُنُّونَ}: يوقنون). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأنّي فضّلتكم على العالمين} أي: على عالمي زمانهم. وهو من العام الذي أريد به الخاصّ). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47)}
أذكرهم الله عزّ وجلّ نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون} والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله.
ولكنه عزّ وجلّ ذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إنعام عليهم، والدليل على ذلك: أن العرب وسائر الناس يقولون: أكرمتك بإكرامي أخاك، وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه، والعرب خاصة تجعل ما كان لآبائها فخرا لها، وما كان فيه ذم يعدونه عارا عليها، وإن كان فيما قدم من آبائها وأسلافها). [معاني القرآن: 1/127-128]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({على العالمين} خاص، أريد بهم على عالم زمانهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً...} فإنه قد يعود على اليوم والليلة، ذكرهما مرّة بالهاء وحدها ومرة بالصّفة فيجوز ذلك؛ كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئا وتضمر الصفة، ثم تظهرها فتقول: لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا.
وكان الكسائيّ لا يجيز إضمار الصفة في الصلات ويقول: لو أجزت إضمار الصفة ها هنا لأجزت: أنت الذي تكلمت، وأنا أريد: الذي تكلمت فيه. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء ولا تكون، وإنما يضمر في مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني بعض العرب:

يا ربّ يوم لو تنزّاه حول = ألفيتنى ذا عنزٍ وذا طول
وأنشدني آخر:

قد صبّحت صبّحها السّلام
=
بكبدٍ خالطها سنام
=
في ساعة يحبّها الطّعام
ولم يقل: يحبّ فيها.
وليس يدخل على الكسائيّ ما أدخل على نفسه؛ لأن الصفة في هذا الموضع والهاء متّفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتك، كان غير: كلّمت فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان "في"، ولا إضمار "في" مكان الهاء). [معاني القرآن: 1/31-32]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً ولا يقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم ينصرون}
باب إضافة الزمان إلى الفعل:
قال: {واتّقوا يوماً لاّ تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً} فنوّن "اليوم" لأنه جعل "فيه" مضمرا، وجعله من صفة "اليوم"، كأنه قال "يوماً لا تجزى نفسٌ عن نفسٍ فيه شيئاً". وإنما جاز إضمار "فيه" كما جاز إضافته إلى الفعل تقول: "هذا يوم يفعل زيد". وليس من الأسماء شيء يضاف إلى الفعل غير أسماء الزمان، ولذلك جاز إضمار "فيه".
وقال قوم: إنّما أضمر الهاء أراد "لا تجزيه" وجعل هذه الهاء اسما لليوم مفعولا، كما تقول: "رأيت رجلاً يحبّ زيدٌ" تريد: "يحبّه زيد". وهو في الكلام يكون مضافا، تقول: "اذكر يوم لا ينفعك شيء" أي: "يوم لا منفعة"، وذلك أن أسماء الحين قد تضاف إلى الفعل قال: {هذا يوم لا ينطقون} أي: "يوم لا نطق"، وقد يجوز فيه "هذا يوم لا ينطقون" إذا أضمرت "فيه" وجعلته من صفة "يوم" لأنّ "يوما" نكرة وقد جعلت الفعل لشيء من سببه وقدمت الفعل. فالفعل يكون كله من صفة النكرة كأنك أجريته على اليوم صفة له إذا كان ساقطا على سببه، وقد قال بعضهم {هذا يوم لا ينطقون} وكذلك {هذا يوم الفصل} وكل ما أشبه هذا فهو مثله. ولا يضاف إلى الفعل شيء إلا الحين، إلا أنهم قد قالوا:

بآية تقدمون الخيل زورا = كأنّ على سنابكها مداما
[وقالوا]:

ألا من مبلغٌ عنّي تميماً = بآية ما تحبّون الطّعاما
فأضاف "آية" إلى الفعل. وقالوا: "اذهب بذي تسلم" و"بذي تسلمان" فقوله: "ذي" مضاف إلى "تسلم" كأنه قال: "اذهب بذي سلامتك" وليس يضاف إلى الفعل غير هذا.
ولو قلت في الكلام: "واتقوا يوم لا تجزى نفسٌ فيه" فلم تنون اليوم جاز، كأنك أضفت وأنت لا تريد أن تجيء بـ"فيه" ثم بدا لك بعد فجئت به، كما تقول: "اليوم آتيك فيه" فنصبت "اليوم" لأنك جئت بـ"فيه" بعد ما أوجبت النصب.
وقال قوم: "لا يجوز إضمار "فيه"، ألا ترى أنك لا تقول: "هذا رجلٌ قصدت" وأنت تريد: "إليه"، ولا "رأيت رجلاً أرغب" وأنت تريد: "فيه"، والفرق بينهما أن أسماء الزمان يكون فيها ما لا يكون في غيرها، وإن شئت حملتها على المفعول في السعة، كأنك قلت: "واتقوا يوما لا تجزيه نفسٌ" ثم ألقيت الهاء كما تقول: "رأيت رجلاً أحبّ" وأنت تريد "أحبه".
باب من التأنيث والتذكير:
أما قوله: {تجزي نفسٌ عن نّفسٍ شيئاً} فهو مثل قولك: "لا تجزي عنك شاة" و"يجزى عنك درهم" و"جزى عنك درهمٌ" و"وجزت عنك شاةٌ". فهذه لغة أهل الحجاز لا يهمزون. وبنو تميم يقولون في هذا المعنى: "أجزأت عنه وتجزئ عنه شاة".
وقوله {شيئا} كأنه قال: "لا تجزئ الشاة مجزى ولا تغني غناءٌ".
وقوله: {عن نّفسٍ} يقول: "منها" أي: لا تكون مكانها.
وأما قوله: {ولا يقبل منها شفاعةٌ} فإنما ذكر الاسم المؤنث لأن كل مؤنث فرقت بينه وبين فعله حسن أن تذكر فعله، إلاّ أنّ ذلك يقبح في الإنس وما أشبههم مما يعقل، لأنّ الذي يعقل أشد استحقاقا للفعل. وذلك أن هذا إنما يؤنث ويذكر ليفصل بين معنيين، والموات كـ"الأرض" و"الجدار" ليس بينهما معنى كنحو ما بين الرجل والمرأة. فكل ما لا يعقل يشبه بالموات، وما يعقل يشبه بالمرأة والرجل نحو قوله: {رأيتهم لي ساجدين} لما أطاعوا صاروا كمن يعقل، قال: {ولو كان بهم خصاصةٌ} فذكر الفعل حين فرّق بينه وبين الاسم، وقال: {لا يؤخذ منكم فديةٌ} وتقرأ {تؤخذ}. وقد يقال أيضاً ذاك في الإنس، زعموا أنهم يقولون "حضر القاضي امرأةٌ". فأما فعل الجميع فقد يذكّر ويؤنث لأن تأنيث الجميع ليس بتأنيث الفصل ألا ترى أنك تؤنث جماعة المذكرّ فتقول: "هي الرّجال" و"هي القوم"، وتسمي رجلا بـ"بعال" فتصرفه لأن هذا تأنيثٌ مثل التذكير، وليس بفصل. ولو سميته بـ"عناق" لم تصرفه، لأن هذا تأنيث لا يكون للذكر، وهو فصل مابين المذكر والمؤنث تقول: "ذهب الرجل" و"ذهبت المرأة" فتفصل بينهما. وتقول: "ذهب النساء" و"ذهبت النساء" و"ذهب الرجال" و"ذهبت الرجال". وفي كتاب الله: {كذّبت قوم نوحٍ المرسلين} و{وكذّب به قومك}. قال الشاعر:

فما تركت قومي لقومك حيّةً = تقلّب في بحرٍ ولا بلدٍ قفر
وقال: {جاءهم البيّنات} [و] {وقال نسوةٌ في المدينة}. [و] قال الشاعر أشد من ذا وقد أخر الفعل، قال:

فإمّا تري لمّتى بدّلّت = فإنّ الحوادث أوداى بها
أراد "أودت بها" مثل فعل المرأة الواحدة يجوز أن يذكر [فـ] ذكر هذا.
وهذا التذكير في الموات أقبح وهو في الإنس أحسن، وذلك أن كل جماعة من غير الإنس فهي مؤنثة تقول: "هي الحمير" ولا تقول "هم". إلا أنهم قد قالوا: "أولئك الحمير"، وذلك أن "أولئك" قد تكون للمؤنث والمذكر تقول: "رأيت أولئك النساء". قال الشاعر:

ذمّى المنازل بعد منزلة اللّوى = والعيش بعد أولئك الأيّام
). [معاني القرآن: 1/67-71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} أي: لا تقضي عنها ولا تغني. يقال: جزى عني فلان -بلا همز- أي: ناب عني. وأجزأني كذا -بالألف في أوله والهمز- أي: كفاني.
{ولا يؤخذ منها عدلٌ} أي: فدية، قال: {وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها} أي: إن تفتد بكل شيء لا يؤخذ منها.
وإنما قيل للفداء: عَدل لأنه مثل للشيء، يقال: هذا عدل هذا وعديله. فأمّا العِدل -بكسر العين- فهو ما على الظهر). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)} يعني به: يوم القيامة، وكانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لها عند الله فأيئسهم اللّه من ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يؤخذ منها عدل} العدل ههنا الفدية.
ومعنى: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} أي: لا تجزي فيه، وقيل: لا تجزيه، وحذف (فيه) ههنا سائغ، لأن (في) مع الظرف محذوفة، تقول: أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم، فإذا أضمرت قلت: أتيتك فيه، ويجوز أن تقول: أتيتكه، قال الشاعر:

ويوما شهدناه سليما وعامرا = قليلا سوى الطّعن النهال نوافله
أراد: شهدنا فيه،
وقال بعض النحويين: إن المحذوف هنا الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها، وهذا قول الكسائي والبصريون وجماعة من الكوفيين يقولون: إن المحذوف "فيه".
وفصّل النحويون في الظروف، وفي الأسماء غير الظروف فقالوا: إن الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره، فكذلك الحذف في مضمره، لو قلت: الذي سرت اليوم، تريد: الذي سرت فيه، جائز، لأنك تقول: سرت اليوم وسرت فيه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد، لم يجز: الذي تكلمت زيد، لأنك تقول: تكلمت اليوم وتكلمت فيه، ولا يجوز في قولك: تكلمت في زيد "تكلمت زيدا".
وقوله عزّ وجلّ: {تقبل منها شفاعة} مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، والاسم إذا لم يسم من فعل به رفع، لأن الفعل يصير حديثا عنه كما يصير حديثا عن الفاعل، وتقول: "لا يقبل منها شفاعة"، و"لا تقبل"، لأن معنى تأنيث ما لا ينتج غير حقيقة، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث، تقول: قبل منك الشفاعة، وقد قبلت منك الشفاعة، وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ، وشفاعة وشفع واحد.
فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظ والمعنى.
وأمّا ما يعقل ويكون منه النسل والولادة نحو "امرأة" و"رجل" و"ناقة" و"جمل"؛ فيصح في مؤنثة لفظ التذكير، ولو قلت: قام جارتك، ونحر ناقتك، كان قبيحا وهو جائز على قبحه، لأن "الناقة" و"الجارة" تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئ بلفظهما عن تأنيث الفعل، فأمّا الأسماء التي تقع للمذكرين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من علم التأنيث لأن الكلام للفائدة، والقصد به الإبانة، فلو سمّيت امرأة بـ"قاسم" لم يجز أن يقال: جاءني قاسم، فلا يعلم أمذكرا عنيت أم مؤنثا، وليس إلى حذف هذه التاء -إذا كانت فارقة بين معنيين- سبيل، كما إنّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام، ولا يجوز إلا أن تقول: قاما، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا). [معاني القرآن: 1/128-130]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لا تجزي نفس} أي: لا تغني. {عدل} فدية. والعدل: وزن الشيء، والعدل: قيمته).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عَدْلٌ}: فدية). [العمدة في غريب القرآن: 74]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يسومونكم سوء العذاب (49)}: يولونكم أشدّ العذاب.
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم (49)} أي: ما ابتليتم من شدة، وفي موضع آخر: البلاء الابتلا، يقال: الثناء بعد البلاء، أي: الاختبار، من بلوته، ويقال: له عندي بلاء عظيم، أي: نعمة ويد، وهذا من: ابتليته خيراً). [مجاز القرآن: 1/40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ مّن رّبّكم عظيمٌ}
أما قوله: {وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون} و{وإذ فرقنا بكم البحر} وأمكنة كثيرة، فإنما هي على ما قبلها، إنما يقول: "اذكروا نعمتي" و"اذكروا إذ نجّيناكم" و"اذكروا إذ فرقنا بكم البحر" و"اذكروا إذ قلتم يا موسى لن نصبر".
وقال بعضهم: "فرّقنا".
باب أهل وآل:
وقوله: {مّن آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} وقد قال: {وإذ نجّيناكم مّن آل فرعون} فإنما حدث عما كانوا يلقون منهم.
و{يسومونكم} في موضع رفع، وإن شئت جعلته في موضع نصب على الحال، كأنه يقول "وإذ نجّيناكم من آل فرعون سائمين لكم"، والرفع على الابتداء.
وأما "آل" فإنها تحسن إذا أضيفت إلى اسم خاص نحو: "أتيت آل زيد" و"أهل زيد"، و"أهل مكة" و"آل مكة" و"أهل المدينة" و"آل المدينة". ولو قلت: "أتيت آل الرجل" و"آل المرأة" لم يحسن، ولكن: "أتيت آل اللّه" وهم زعموا: أهل مكة. وليس "آل" بالكثير في أسماء الأرضين وقد سمعنا من يقول ذلك، وإنما هي همزة أبدلت مكان الهاء، مثل "هيهات" و"أيهات"). [معاني القرآن: 1/71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({آل فرعون}: قومه وأهل دينه. {يسومونكم سوء العذاب}: يولونكم.
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}: أي نعمة عظيمة، ويقال: لي عنده بلاء عظيم، أي: نعمة ويد، والبلاء -في موضع آخر-: الاختبار، من قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}). [غريب القرآن وتفسيره: 69]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يسومونكم سوء العذاب} قال أبو عبيدة: يولونكم أشد العذاب. يقال: فلان يسومك خسفا، أي: يوليك إذلالا واستخفافا.
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيمٌ} أي: في إنجاء اللّه إياكم من آل فرعون نعمة عظيمة. و"البلاء" يتصرف على وجوه قد بينتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم (49)}
موضع {إذ} نصب، كأنه قال: "واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون".
و"آل فرعون": أتباعه ومن كان على دينه، وكذلك "آل الأنبياء" -صلوات اللّه عليهم-: من كان على دينهم، وكذلك قولنا: "صلى اللّه على محمد وآله" معنى "آله": من اتبعه من أهل بيته وغيرهم، ومعنى خطابهم ههنا: تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلافهم كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {يسومونكم سوء العذاب} معنى {يسومونكم} في اللغة: يولونكم، ومعنى {سوء العذاب}: شديد العذاب، وإن كان العذاب كله سوءًا، فإنما نكر في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مرعيّ، فلذلك قيل: {سوء العذاب}، أي: ما يبلغ في الإساءة ما لا غاية بعده.
وفسره بقوله: {يذبّحون أبناءكم} والقراءة المجمع عليها {يذبّحون} -بالتشديد-، ورواية شاذة (يذبحون أبناءكم)، والقراءة المجمع عليها أبلغ، لأن {يذبّحون} للتكثير، و(يذبحون) يصلح أن يكون للقليل وللكثير، فمعنى التكثير ههنا أبلغ.
و{أبناءكم} جمع: ابن، والأصل كأنه إنما جمع "بني" و"بنو"، ويقال: ابن بيّن البنوة، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و "فِعْل" كأنه أصله "بناية"، والذين قالوا: "بنون" كأنّهم جمعوا "بَنا" وبنون، فأبناء جمع "فعَل" و"فِعْل".
و "بنت" يدل على أنه يستقيم أن يكون فعلا، ويجوز أن يكون "فعل" نقلت إلى "فعل" كما نقلت "أخت" من "فَعَل" إلى "فُعْل"، فأمّا "بنات" فهو ليس بجمع "بنت" على لفظها، إنما ردت إلى أصلها فجمعت "بنات" على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنّها مما حذفت لامه،
والأخفش يختار أن يكون المحذوف من "ابن" الواو، قال: لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها. والياء تحذف أيضا للثقل.
قال أبو إسحاق: والدليل على ذلك أن "يدا" قد أجمعوا على أن المحذوف منه الياء، ولهم دليل قاطع على الإجماع قال: يديت إليه يدا، و"دم" محذوف منه الياء، يقال: "دم" و"دميان".
قال الشاعر:

فلو أنّا على حجر ذبحنا = جرى الدّميان بالخبر اليقين
والبنوة ليست بشاهد قاطع في الواو، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في التثنية، قال عزّ وجلّ: {ودخل معه السجن فتيان}.
فـ"ابن" يجوز أن يكون المحذوف منه الواو أو الياء. وهما عندي متساويان.
وقوله عزّ وجل: {وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم} يعني: في النجاة من آل فرعون، والبلاء ههنا: النعمة، يروي عن الأحنف أنه قال: "البلاء ثم الثناء"، أي الأنعام ثمّ الشكر.
قال زهير:

جزى اللّه بالإحسان ما فعلا بنا = وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وقال الله عزّ وجلّ: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}). [معاني القرآن: 1/130-132]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({يستحيون} أي: يستبقون). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يسومونكم} أي: يولونكم بلا نقمة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آلِ فِرْعَوْنَ}: قومه.{يَسُومُونَكُمْ}: يولونكم.{سُوَءَ الْعَذَابِ}: أشده.{بَلاءٌ}: نقمة).
[العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({آل فرعون (50)} قومه وأهل دينه، ومثلها: {أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب}
[غافر: 46]). [مجاز القرآن: 1/40]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}
{وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم} يقول: فرقنا بين الماءين حين مررتم فيه). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و"آل فرعون": أهل بيته وأتباعه وأشياعه. و"آل محمد": أهل بيته وأتباعه وأشياعه. قال اللّه عز وجل: {أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب} [غافر: 46]). [تفسير غريب القرآن: 48]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50)}
موضع {إذ} نصب كالتي قبلها.
ومعنى {فرقنا بكم البحر}: جاء تفسيره في آية أخرى، وهو قوله عزّ وجلّ: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلّ فرق كالطّود العظيم (63)} أي: فانفرق البحر فصار كالجبال العظام، وصاروا في قراره، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77)} معناه: طريقا ذا يبس.
وقوله: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} فيه قولان:
قالوا: وأنتم ترونهم يغرقون. ويجوز أن يكون: {وأنتم تنظرون} أي: وأنتم مشاهدون تعلمون ذلك، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل، يقال من ذلك: دور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان، أي: هي بإزائها والدّور يعلم أنها لا تبصر شيئا). [معاني القرآن: 1/132-133]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً...}
ثم قال في موضع آخر: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً}، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين وأتمّها بالعشر، والأربعون قد تكمل بعشرين وعشرين، أو خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟
قيل: كان ذلك -والله أعلم- أنّ الثّلاثين كانت عدد شهر، فذكرت الثلاثون منفصلة لمكان الشّهر، وأنّها ذو القعدة، {وأتممناها بعشر} من ذي الحجة، كذلك قال المفسّرون. ولهذه القصّة خصّت العشر والثلاثون بالانفصال). [معاني القرآن: 1/36]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}
قال: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً} أي: واعدناه انقضاء أربعين ليلة، أي: رأس الأربعين، كما قال: {وسأل القرية}، وهذا مثل قولهم: "اليوم أربعون يوماً منذ خرج" و"اليوم يومان" أي: "اليوم تمام الأربعين" و"تمام يومين"). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51)}
ويقرأ: (وإذ وعدنا موسى)، وكلاهما جائز حسن، واختار جماعة من أهل اللغة (وإذ وعدنا) بغير ألف، وقالوا: إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين، فاختاروا (وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزّ وجلّ {إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ} وما أشبه هذا، وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا و{واعدنا} هنا جيد بالغ، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من اللّه عزّ وجلّ: وعد، ومن موسى: قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام، وأعلمهم أن كفرهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهم.
وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب، وإنما هي من علوم أهل الكتاب، فأنبأهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما في كتبهم، وقد علموا أنه من العرب الذين لم يقرأوا كتبهم، فعلموا أنّه لم يعلم هذه الأقاصيص إلا من جهة الوحي، ففي هذه الآيات إذكارهم بالنعمة عليهم في أسلافهم، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا). [معاني القرآن: 1/133-134]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون} ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون أراد {وإذ آتينا موسى الكتاب} يعني: التوراة، ومحمدا صلى الله عليه وسلم {الفرقان}، {لعلّكم تهتدون}. وقوله: {وإذ آتينا موسى الكتاب} كأنّه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم موسى ومحمد عليهما السلام {لعلكم تهتدون}؛ لأن التوراة أنزلت جملةً ولم تنزل مفرّقة كما فرّق القرآن؛ فهذا وجه.
والوجه الآخر: أن تجعل التوراة هدىً والفرقان كمثله، فيكون: ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا -صلى الله عليه وسلم- الهدى. وكلّ ما جاءت به الأنبياء فهو هدىً ونورٌ. وإنّ العرب لتجمع بين الحرفين وإنّهما لواحدٌ إّذا اختلف لفظاهما؛ كما قال عدي بن زيد:

وقدّمت الأديم لراهشيه = وألفى قولها كذباً ومينا
وقولهم: "بعداً وسحقاً"، و"البعد" و"السّحق" واحدٌ، فهذا وجهٌ آخر.
وقال بعض المفسّرين: {الكتاب}: التّوراة، {والفرقان}: انفراق البحر لبنى إسرائيل.
وقال بعضهم: {الفرقان}: الحلال والحرام الذي في التّوراة). [معاني القرآن: 1/36-37]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({آتينا موسى الكتاب (53)} أي: التوراة. {والفرقان (53)}: ما فرّق بين الحق والباطل). [مجاز القرآن: 1/40]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الفرقان}: ما فرق بين الحق والباطل). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون (53)}
{آتينا} بمعنى: أعطينا، و{الكتاب} مفعول به، و{الفرقان} عطف عليه. ويجوز أن يكون {الفرقان}: الكتاب بعينه إلا إنّه أعيد ذكره، وعنى به: أنه يفرق بين الحق والباطل.
وقد قال بعض النحويين -وهو قطرب-: المعنى: وآتينا محمدا الفرقان، ودليله قوله عزّ وجلّ {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} يعني به: القرآن.
والقول الأول هو القول؛ لأن "الفرقان" قد ذكر لموسى في غير هذا الموضع، قال الله عزّ وجلّ: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتّقين (48)}.
وقوله عزّ وجلّ: {لعلّكم تهتدون} "لعل" إنما ذكرت هنا -واللّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون- على ما يفعل العباد ويتخاطبون به، أي إن هذا يرجى به الهداية، فخوطبوا على رجائهم. ومثله قوله: {لعلّه يتذكّر أو يخشى}، إنما المعنى: اذهبا على رجائكما، واللّه عزّ وجلّ عالم بما يكون وهو من ورائه). [معاني القرآن: 1/134]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({والفرقان}: ما فرق بين الحق والباطل،
وقيل: هو القرآن، على إضمار اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَالْفُرْقَانَ}: بين الحق والباطل). [العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وإذ قال موسى لقومه (54)} معناها: وقال موسى لقومه.
{بارئكم (54)}: خالقكم، من "برأت"). [مجاز القرآن: 1/41]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بارئكم}: خالقكم يقال: برأ الله الخلق). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فتوبوا إلى بارئكم} أي: خالقكم، {فاقتلوا أنفسكم} أي: ليقتل بعضكم بعضا، على ما بينت في كتاب «المشكل».
وقوله: {فتاب عليكم} أي: ففعلتم فتاب عليكم، مختصر). [تفسير غريب القرآن: 49]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التّوّاب الرّحيم (54)}
والقراءة {يا قومِ} بكسر الميم، وهو نداء مضاف، والاختيار فيه: حذف الياء، لأن الياء حرف واحد، والنداء باب حذف، وهي في آخر الاسم، كما أنّ التنوين في آخره، فحذفت الياء، وبقيت الكسرة تدل عليها، ويجوز في الكلام أربعة أوجه.
فأمّا في القرآن فالكسر وحذف الياء لأنه أجود الأوجه، وهو إجماع القراء، فالذي يجوز في الكلام:
أن تقول: "يَا قَوْمِ إنكم" كما قرئ في القرآن، ويجوز: "يا قومِي" بإثبات الياء وسكونها، ويجوز: "يا قوْمِيَ" بتحريك الياء، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة، ويجوز: "يا قومُ" بضم الميم على معنى: يا أيها القوم.
ومعنى قوله {ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل} يقال لكل من فعل فعلا يعود عليه بمكروه: إنما أسأت إلى نفسك وظلمت نفسك، وأصل "الظلم" في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، والعرب تقول: (ومن أشبه أباه فما ظلم)، معناه: لم يقع له الشبه غير موقعه، ويقال: "ظلم الرجل سقاءه من اللبن"، إذا شرب منه وسقي منه قبل إدراكه، و"أرض مظلومة" إذا حفر فيها ولم يكن حفر فيها قبل، أو جاء المطر بقربها وتخطاها.
قال النابغة:

إلاّ أواريّ لأيا ما أبيّنها = والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ومعنى قوله {باتخاذكم العجل} أي: اتخذتموه إلها.
ومعنى قوله {فتوبوا إلى بارئكم} أي: إلى خالقكم، يقال: برأ اللّه الخلق، فالبارئ: الخالق، والبريّة والخلق: المخلوقون، إلا أن البريّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة وأصلها {أولئك هم خير البريّة} وأكثر القراء والكلام "البريّة" بغير همز.
وقد قرأ قوم (البريئة) بالهمز، والاختيار ما عليه الجمهور، وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ (إلى بارئْكم) بإسكان الهمز، وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسرة، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روى عن أبي عمرو، والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف الكسرة في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار من الشعر، أنشد سيبويه -وزعم أنّه مما يجوز في الشعر خاصة-:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
بإسكان الباء، وأنشد أيضا:

فاليوم أشرب غير مستحقب = إثما من اللّه ولا واغل
فالكلام الصحيح أن تقول "يا صاحبُ أقبل"، أو "يا صاحب أقبل" ولا وجه للإسكان، وكذلك "فاليوم أشرب" يا هذا، وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر، رووا هذا البيت على ضربين:
رووا: فاليوم فاشرب غير مستحقب.
ورووا أيضا: فاليوم أسقى غير مستحقب.
ورووا أيضا: إذا اعوججن قلت صاح قوم.
ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاء اللّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي روى.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا {إلى بارئِكم} بالكسر، وكذلك {عند بارئِكم}.
ومعنى {فاقتلوا أنفسكم} امتحنهم اللّه عزّ وجلّ بأن جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، فيقال: إنهم صفوا صفين يقتل بعضهم بعضا، فمن قتل كان شهيدا؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه، ويقال: إن السبعين الذين اختارهم موسى -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا ممن عبد العجل، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزّ وجلّ {فاقتلوا أنفسكم} يدل على أنها توبة عبدة العجل، وإنما امتحنهم الله عزّ وجلّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام). [معاني القرآن:1/134-137]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَارِئِكُمْ}: خالقكم). [العمدة في غريب القرآن: 75]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلتم يا موسى لن نّؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون}
باب الفعل:
أما قوله: {حتّى نرى اللّه جهرةً} فيقول: "جهاراً"، أي: عيانا يكشف ما بيننا وبينه، كما تقول: "جهرت الركيّة"، إذا كان ماؤها قد غطاه الطين فَنُقّي ذلك حتى يظهر الماء [و] يصفو). [معاني القرآن: 1/72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({نرى اللّه جهرةً} أي: علانية ظاهرا، لا في نوم ولا في غيره.
{فأخذتكم الصّاعقة} أي: الموت. يدلك على ذلك قوله: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم} [البقرة: 56]. و"الصاعقة" تتصرف على وجوه قد ذكرتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 49]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون (55)}
معنى {جهرة}: غير مستتر عنّا بشيء، يقال: فلان يجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس منها بشيء.
وقوله: {فأخذتكم الصاعقة} معنى الصاعقة: ما يصعقون منه، أي: يموتون، فأخذتهم الصاعقة: فماتوا.
الدليل على أنهم ماتوا قوله عزّ وجلّ: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56)} وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.
مثل قوله تعالى: {فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه}، ومثل قوله عزّ وجلّ: {فقال لهم اللّه موتوا ثم أحياهم} وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لم يكونوا موقنين بالبعث، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأخبار عمن بعث بعد الموت في الدنيا مما توافقه عليه اليهود والنصارى، وأرباب الكتب فاحتج -صلى الله عليه وسلم- بحجة اللّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهل الكتب.
وقوله {لعلّكم تشكرون} أي: في أن بعثكم بعد الموت، وأعلمكم أن قدرته عليكم هذه القدرة، وأن الإقالة بعد الموت لا شيء بعدها، وهي كالمضطرة إلى عبادة اللّه). [معاني القرآن: 1/137-138]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصاعقة}: الموت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 27]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({جَهْرَةً}: ظاهرا. {الصَّاعِقَةُ}: الموت). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}

تفسير قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {المنّ والسّلوى...}
بلغنا أن "المنّ" هذا الذي يسقط على الثّمام والعشر، وهو حلو كالعسل؛ وكان بعض المفسّرين يسمّيه الّترنجبين الذي نعرف. وبلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين)). وأما "السّلوى" فطائر كان يسقط عليهم لما أجموا "المنّ" شبيهٌ بهذه "السّماني"، ولا واحد للسّلوى). [معاني القرآن: 1/37-38]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({المنّ (57)}: شيءٌ كان يسقط في السّحر على شجرهم فيجتنونه حلواً يأكلونه.
{والسّلوى (57)}: طائر بعينه، وهو الذي سمّاه المولّدون "سماني"). [مجاز القرآن: 1/41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
أما قوله: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى} فـ"الغمام" واحدته "غمامةٌ"، مثل "السّحاب" واحدته "سحابة". وأما "السّلوى" فهو طائر لم يسمع له بواحد، وهو شبيه أن يكون واحده "سلوى" مثل جماعته، كما قالوا: "دفلى" للواحد والجماعة، و"سلامى" للواحد والجماعة. وقد قالوا "سلاميات". وقالوا "حبارى" للواحد، وقالوا للجماعة: "حباريات"، وقال بعضهم للجماعة "حبارى". قال الشاعر:

وأشلاء لحمٍ من حبارى يصيدها = إذا نحن شئنا صاحبٌ متألّف
وقالوا: "شكاعى" للواحد والجماعة، وقال بعضهم للواحد: "شكاعاة"). [معاني القرآن: 1/72-73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المن}: صمغة كانت تسقط فيجتنبوها. {والسلوى}: طائر بعينه).
[غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الغمام}: السحاب. سمّي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يسترها. وكلّ شيء غطيته فقد غممته. ويقال: جاءنا بإناء مغموم. أي مغطى الرأس. وقيل له "سحاب" بمسيره، لأنه كأنه ينسحب إذا سار.
{المنّ} يقال: هو الطّرنجبين. {والسّلوى}: طائر يشبه السّماني لا واحد له. {وما ظلمونا} أي: ما نقصونا. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي: ينقصون.
والظلم يتصرّف على وجوه قد بينتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 49-50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)}
سخر اللّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة. وأنزل عليهم المنّ والسلوى. و جملة المن: ما يمن اللّه به مما لا تعب فيه ولا نصب، وأهل التفسير يقولون: إن "المنّ" شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.
ويقال إنّه "التَّرَنْجِين"، ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين))، ومعنى "المنّ" على ما وصفنا في اللغة: ما يمن اللّه به من غير تعب ولا نصب، و"السلوى": طائر كالسماني، وذكر إنّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتهم.
وقوله: {كلوا من طيّبات ما رزقناكم}
قالوا: إن معناه: من هذه الطيبات، وقالوا -أيضا-: مما هو حلال لكم). [معاني القرآن: 1/138-139]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{المن}: العسل. و{السلوى} طائر، و"السلوى" -في غير القرآن-: العسل). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الغمام}: السحاب. {المن}: الترنجبين. و{السلوى} طائر، لا واحد له).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمَنَّ}: صمغة. {السَّلْوَى}: طائر). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وقولوا حطّةٌ...} يقول -والله أعلم- قولوا ما أمرتم به؛ أي: هي حطة، فخالفوا إلى كلام بالنّبطية، فذلك قوله: {فبدّل الّذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}.
وبلغني أنّ ابن عباس قال: "أمروا أن يقولوا: نستغفر الله"؛ فإن يك كذلك فينبغي أن تكون "حطّة" منصوبة في القراءة؛ لأنك تقول: قلت لا إله إلا الله، فيقول القائل: قلت كلمةً صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمار ما يرفع أو يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول، كقولك: مررت بزيد، ثم تجعل هذه كلمةً فتقول: قلت كلاما حسنا، ثم تقول: قلت: زيدٌ قائمٌ، فيقول: قلت كلاما. وتقول: قد ضربت عمرا، فيقول أيضا: قلت كلمةً صالحة.
فأما قول الله تبارك وتعالى: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم} إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفعٌ لأن قبله ضمير أسمائهم؛ سيقولون: هم ثلاثة، إلى آخر الآية. وقوله: {ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيراً لكم} رفع؛ أي: قولوا: الله واحدٌ، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: {قالوا معذرةً إلى ربّكم} ففيها وجهان:
إن أردت: ذلك الذي قلنا معذرةٌ إلى ربكم، رفعت، وهو الوجه.
وإن أردت: قلنا ما قلنا معذرةً إلى الله؛ فهذا وجه نصب.
وأما قوله: {ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا} فإن العرب لا تقوله إلاّ رفعا؛ وذلك أنّ القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم: سمعٌ وطاعةٌ، أي: قد دخلنا أوّل هذا الدّين على أن نسمع ونطيع فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثم يخرجون فيخالفون، كما قال عز وجل: {فإذا برزوا من عندك[بيّت طائفةٌ منهم غير الذي تقول]} [أي]: فإذا خرجوا من عندك بدّلوا. ولو أردت -في مثله من الكلام- أي: نطيع، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جاز النصب، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعل ويفعل جاز نصبه، كما قال الله تبارك وتعالى: {معاذ الله أن نأخذ} [معناه -والله أعلم-: نعوذ بالله أن نأخذ]. ومثله في النور: {قل لا تقسموا طاعّةٌ معروفةٌ} الرفع على: ليكن منكم ما يقوله أهل السّمع والطاعة. وأما قوله في النحل: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين} فهذا قول أهل الجحد؛ لأنهم قالوا لم ينزل شيئا، إنما هذا أساطير الأوّلين، وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا: أنزل ربّنا خيراً، ولو رفع "خيرٌ" على: الذي أنزله خيرٌ لكان صوابا، فيكون بمنزلة قوله: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} و(قل العفو) النّصب على الفعل: ينفقون العفو، والرفع على: الذي ينفقون عفو الأموال. وقوله: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} فأما السلام فقولٌ يقال، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنّك قلت: قلت كلاماً. وأما قوله: {قال سلامٌ} فإنه جاء فيه نحن"سلامٌ" وأنتم "قومٌ منكرون". وبعض المفسرين يقول: {قالوا سلاماً قال سلامٌ} يريد سلّموا عليه فردّ عليهم، فيقول القائل: ألا كان السّلام رفعاً كلّه أو نصباً كلّه؟ قلت: السّلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه "عليكم" رفعته.
فإن شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته في أحدهما، وإن شئت رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلامٌ: سلامٌ، على معنى قالوا السلام عليكم فرّد عليهم الآخرون. والنصب يجوز في إحدى القراءتين "قالوا سلاماً قال سلاماً". وأنشدني بعض بني عقيل:

فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها = فما كان إلاّ ومؤها بالحواجب
فرفع "السّلام"؛ لأنه أراد سلّمنا عليها فاتّقت أن تردّ علينا. ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك: قلنا الكلام، قلنا السلام، ومثله: قرأت "الحمدَ" وقرأت "الحمدُ"، إذا قلت قرأت "الحمدَ" أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأت "الحمدُ لله"). [معاني القرآن: 1/38-40]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقولوا حطّةٌ (58)} رفع، وهي مصدر من: حطّ عنا ذنوبنا؛ تقديره "مدّة" من: مددت، حكاية؛ أي: قولوا: هذا الكلام، فلذلك رفع). [مجاز القرآن: 1/41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطّةٌ نّغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
قوله: {وقولوا حطّةٌ} أي: قولوا: لتكن منك حطّةٌ لذنوبنا، كما تقول للرجل: سمعك إليّ. كأنهم قيل لهم: قولوا: يا رب لتكن منك حطّةٌ لذنوبنا. وقد قرئت نصبا على أنه بدل من اللفظ بالفعل. وكل ما كان بدلا من اللفظ بالفعل فهو نصب بذلك الفعل، كأنه قال: أحطط عنّا حطّةً، فصارت بدلا من "حطّ" وهو شبيه بقولهم: سمعٌ وطاعةٌ، فمنهم من يقول: سمعاً وطاعة، إذا جعله بدل: أسمع سمعا وأطيع طاعةً. وإذا رفع فكأنه قال: أمري سمعٌ وطاعةٌ. قال الشاعر:

أناخوا بأيدي عصبةٍ وسيوفهم = على أمّهات الهام ضرباً شآميا
وقال الآخر:

تركنا الخيل وهي عليه نوحاً = مقلّدةً أعنّتها صفونا
وقال بعضهم: "وهي عليه نوحٌ"، جعلها في التشبيه هي النوح لكثرة ما كان ذلك منها، كما تقول: إنّما أنت شرٌّ وإنّما هو حمارٌ، في الشبه، أو تجعل الرفع كأنه قال: "وهي عليه صاحبة نوحٍ"، فألقى الصاحبة وأقام النوح مقامها. ومثل ذلك قول الخنساء:

ترتع ما رتعت حتّى إذا ذكرت = فإنّما هي إقبالٌ وإدبار
ومثله {قالوا معذرةً إلى ربّكم} كأنهم قالوا: موعظتنا إياهم معذرةٌ، وقد نصب على: نعتذر معذرةً، وقال: {فأولى لهم * طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ} على قوله: {إذا جاءتهم ذكراهم} {فأولى لهم * طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ} جعل «الطاعة» مبتدأ فقال: طاعةٌ وقولٌ مّعروفٌ خير من هذا، أو جعل الطاعة مبتدأ فقال: طاعةٌ وقولٌ معروف خيرٌ من هذا. وزعم يونس أنه قيل لهم "قولوا حطةٌ" أي: تكلموا بهذا الكلام. كأنه فرض عليهم أن يقولوا هذه الكلمة مرفوعة). [معاني القرآن: 1/73-74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): (وقوله {حطة}: أي حط عنا ذنوبنا). [غريب القرآن وتفسيره: 70]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله {وقولوا حطّةٌ} رفع على الحكاية. وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من "حططت"، أي: حطّ عنّا ذنوبنا). [تفسير غريب القرآن: 50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58)} الرغد: الواسع الذي لا يعنّي.
وقوله: {وادخلوا الباب سجّدا} أمروا بأن يدخلوا ساجدين.
{وقولوا حطّة} معناه: وقولوا مسألتنا حطة، أي: حط ذنوبنا عنا، وكذلك القراءة، ولو قرئ "حطةً" كان وجهها في العربية، كأنهم قيل لهم قولوا احطط عنّا ذنوبنا حطة. فحرّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي أمروا بها، وجملة ما قالوا أنه أمر عظيم سماهم الله به فاسقين.
وقوله: {نغفر لكم} جزم جواب الأمر، المعنى: أن تقولوا ما أمرتم به نغفر لكم خطاياكم، وقرأ بعضهم "نغفر لكم خطيئاتكم" والقراءة الأولى أكثر، فمن قال "خطيئاتكم"، فهو جمع خطيئة بالألف والتاء، نحو: سفينة وسفينات، وصحيفة وصحيفات، والقراءة كما وصفنا {نغفر لكم خطاياكم}، والأصل في خطايا "خطائئ" فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير "خطائي"، فأعلّ مثل: حظاعي، ثم يجب أن تقلب الياء والكسرة إلى الفتحة والألف فتصير "خطاء"، مثل: حظاعا، فيجب بأن تبدل الهمزة ياء، لوقوعها بين ألفين، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه .
ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل، وهو أنه زعم أن "خطايا" أصلها "فعائل"، فقلبت إلى "فعالى" فكان الأصل عنده "خطائى" مثل: خطائع -فاعلم- ثم قدمت الهمزة فصارت "خطائي" مثل: خطاعي، ثم قلبت بعد ذلك على المذهب الأول.
وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه واحدة، واللفظ يؤول في اللفظين "خطايا"). [معاني القرآن: 1/139-140]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حطة} أي: لا إله إلا الله، وقيل: معناه: حط عنا ذنوبنا).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حِطَّةٌ}: حط ذنوبنا). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الرّجز (59)}: العذاب). [مجاز القرآن: 1/41]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فبدّل الّذين ظلموا قولاً غير الّذي قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزاً مّن السّماء بما كانوا يفسقون}
قال: {فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزاً من السّماء} وقال: {والرُّجز فاهجر} وقال بعضهم: (والرِّجْزَ). وذكروا أن "الرجز": صنم كانوا يعبدونه فأما "الرجز" فهو: الرجس. [والرجس: النجس] وقال: {إنّما المشركون نجسٌ} و"النجس": القذر). [معاني القرآن: 1/74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الرجز}: العذاب، والرجز والرجس واحد). [غريب القرآن وتفسيره: 70]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فبدّل الّذين ظلموا قولًا غير الّذي قيل لهم} أي: قيل لهم: قولوا: حطّة، فقالوا: حطّا سمقاتا، يعني: حنطة حمراء. و{الرّجز}: العذاب). [تفسير غريب القرآن: 50]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فبدّل الّذين ظلموا قولا غير الّذي قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزا من السّماء بما كانوا يفسقون (59)} العذاب، وكذلك الرّجس، قال الشاعر:

كم رامنا من ذي عديد مبزى = حتى وقمنا كيده بالرجز
وقوله عزّ وجلّ: {بما كانوا يفسقون} أي: تبديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة. ويقال: فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء، ومعنى الفسق: الخروج عن القصد والحق، وكل ما خرج عن شيء فقد فسق، إلا أنّه خص من خرج عن أمر اللّه بأن قيل: فاسق، ولم يحتج إلى أن يقال: فسق عن كذا، كما أنه يقال لكل من صدق بشيء: هو مؤمن بكذا، ويقال للمصدق بأمر اللّه: مؤمن فيكفي، والعرب تقول: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها). [معاني القرآن: 1/140]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الرجز}: العذاب). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الرِّجْزُ}: العذاب). [العمدة في غريب القرآن: 76]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:14 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 60 إلى 66]

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً...} معناه -والله أعلم-: فضرب فانفجرت، فعرف بقوله: {فانفجرت} أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب؛ لأنه قد أدّى عن المعنى، فكذلك قوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} ومثله في الكلام أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى: فتجرت فاكتسبت.
وأما قوله: {قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم...}
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم، ونحن نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمنّ من الله والتّفضل على عباده، ولم يقل {قد علم كل أناسٍ مشربهم} لغيرهم؟
وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنّه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط لكل سبطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم عاد الحجر كما كان وذهبت العيون، فإذا احتاجوا انفجرت العيون من تلك المواضع، فأتّى كل سبطٍ عينهم التي كانوا يشربون منها).
[معاني القرآن: 1/40-41]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلّ أناسٍ مّشربهم كلوا واشربوا من رّزق اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
قال: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً} يكسر الشين بنو تميم، وأما أهل الحجاز فيسكنون {اثنتا عشرة عيناً}.
وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} من "عثي" "يعثى"، وقال بعضهم: "يعثو" من "عثوت" فـ"أنا أعثو" مثل: "غزوت" فـ"أنا أغزو").
[معاني القرآن: 1/74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({لا تعثوا}: لا تفسدوا، من "عثا يعثا عثوا"، وهو أشد الفساد. ويقال: "عاث يعيث" مثله). [غريب القرآن وتفسيره: 71]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا تعثوا} من "عثى"، ويقال -أيضا- من "عثا"، وفيه لغة أخرى "عاث يعيث"، وهو أشد الفساد.
وكان بعض الرواة ينشد بيت ابن الرّقاع:


لولا الحياء وأنّ رأسي قد عنا= فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
وينكر على من يرويه: «عسا». وقال: كيف يعسو الشيب وهو إلى أن يرقّ في كبر الرجل ويلين، أقرب منه إلى أن يغلظ ويعسو أو يصلب؟
واحتج بقول الآخر:
وأنبتت هامته المرعزى
يريد أنه لما شاخ رقّ شعره ولان، فكأنه مرعزى، [والمرعزى: نبت أبيض]). [تفسير غريب القرآن:50-51]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كلّ أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)}
موضع (إذ) نصب على ما تقدمه، كأنّه قيل: واذكر إذ استسقى موسى لقومه، إلا أن (إذ) لا يظهر فيها الإعراب؛ لأنّها لا تتم إلا بأن توصل، وجميع ما لا يتم من هذه المهمة إلا بصلة لا يعرب، لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم التام، ولكن إذ كُسِرَت لالتقاء الساكنين، ومعنى "استسقى": استدعى أن يسقى قومه، وكذلك استنصرت: استدعيت النصرة.
وقوله عزّ وجلّ: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}
أكثر القراء {اثنتا عشْرة} بإسكان الشين، ولغة أخرى (اثنتا عشِرة عينا) -بكسر الشين- وقد قرأ بعض القراء: (عشِرة) على هذه اللغة، وكلاهما جيد بالغ.
و{عينا} نصب على التمييز، وجمع ما نصب على التمييز في العدد على معنى دخول التنوين، وإن لم يذكر في "عشرة"، لأن التنوين حذف ههنا مع الإعراب، ومعنى قول الناس: عندي عشرون درهما، معناه: عندي عشرون من الدراهم، فحذف لفظ الجمع، و "من" هذه التي خلص بها جنس من جنس وعبر الواحد عن معنى الجمع، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.
وفي التفسير: أنهم فجّر اللّه لهم من حجر اثنتي عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين يشربون منها، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحملوا الحجر غير متفجر منه ماء.
وقوله عزّ وجلّ: {قد علم كلّ أناس مشربهم} كان يتفجر لهم الماء من اثني عشر موضعا لا يختلف في كل منزل فيعلم كل أناس مشربهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} يقال: عثا يعثا عثوا وعثوّا، والعثو أشد الفساد). [معاني القرآن: 1/140-142]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ولا تعثوا}: تفسدوا، وهو أشد الفساد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({تَعْثَوْاْ}: تفسدوا). [العمدة في غريب القرآن: 76]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وأما قوله: {وفومها وعدسها وبصلها...}
فإن "الفوم" -فيما ذكر- لغةٌ قديمة، وهى: الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوّموا لنا، بالتشديد لا غير، يريدون اختبزوا، وهي في قراءة عبد الله "وثومها" بالثاء، فكأنّه أشبه المعنيين بالصّواب؛ لأنّه مع ما يشاكله: من العدس والبصل وشبهه. والعرب تبدل الفاء بالثّاء فيقولون: جدثٌ وجدفٌ، ووقعوا في: عاثور شرٍّ وعافور شرٍّ، والأثاثيّ والأثافيّ. وسمعت كثيرا من بنى أسد يسمّي المغافير: "المغاثير"). [معاني القرآن: 1/41]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ...} أي: الذي هو أقرب، من الدّنوّ، ويقال: من الدّناءة. والعرب تقول: إنه لدنيّ [ولا يهمزون] يدنّي في الأمور، أي: يتّبع خسيسها وأصاغرها. وقد كان زهير الفرقبى يهمز: "أتستبدلون الذي هو أدنأ بالّذي هو خيرٌ"، ولم نر العرب تهمز "أدنى" إذا كان من الخسّة، وهم في ذلك يقولون إنه لدانئٌ خبيثٌ [إذا كان ماجنا] فيهمزون. وأنشدني بعض بنى كلاب:

باسلة الوقع سرابيلها = بيضٌ إلى دانئها الظّاهر
يعني: الدروع على خاصتها -يعني الكتيبة- إلى الخسيس منها، فقال: "دانئها" يريد: الخسيس.
وقد كنا نسمع المشيخة يقولون: ما كنت دانئاً ولقد دَناتَ، والعرب تترك الهمزة. ولا أراهم رووه إلاّ وقد سمعوه). [معاني القرآن: 1/42]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {اهبطوا مصراً...} كتبت بالألف، وأسماء البلدان لا تنصرف خفّت أو ثقلت، وأسماء النساء إذا خفّ منها شيءٌ جرى إذا كان على ثلاثة أحرفٍ وأوسطها ساكنٌ مثل دعدٍ وهند وجمل. وإنما انصرفت إذا سمّى بها النّساء؛ لأنها تردّد وتكثر بها التّس‍مية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود.
فإن شئت جعلت الألف التي في "مصرا" ألفا يوقف عليها، فإذا وصلت لم تنوّن، كما كتبوا "سلاسلاً" و"قواريراً" بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت "مصر" غير المصر التي تعرف، يريد: اهبطوا مصراً من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا في القرى والأمصار.
والوجه الأوّل أحبّ إليّ؛ لأنها في قراءة عبد الله "اهبطوا مصر" بغير ألف، وفي قراءة أبيّ: "اهبطوا فإنّ لكم ما سألتم واسكنوا مصر" وتصديق ذلك أنها في سورة يوسف بغير ألف: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}. وقال الأعمش -وسئل عنها- فقال: هي مصر التي عليها صالح بن عليّ).
[معاني القرآن: 1/42-43]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وفومها} الفوم: الحنطة، وقالوا: هو الخبز.
{اهبطوا مصراً} من الأمصار لأنهم كانوا في تيه. قالوا: اثني عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ يتيهون متحيرين لا يجاوزون ذلك إلاّ أن الله ظلّل عليهم بالغمام، وآتاهم رزقهم هذا المنّ والسّلوى، وفجّر لهم الماء من هذه الحجارة، وكان مع كل سبط حجر غير عظيم يحملونه على حمار، فإذا نزلوا وضعوا الحجر فبجس الله لهم منه الماء. وبعض حدود التيه بلاد أرض بيت المقدس إلى قنّسرين.
{الذّلّة}: الصّغار.
{والمسكنة}: مصدر المسكين، يقال: ما في بني فلان أسكن من فلان أي أفقر منه.
{باؤوا بغضبٍ}: أي احتملوه). [مجاز القرآن: 1/41-42]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قلتم يا موسى لن نّصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصراً فإنّ لكم مّا سألتم وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضبٍ مّن اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وّكانوا يعتدون}
باب زيادة "من":
أما قوله: {يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها} فدخلت فيه (من) كنحو ما تقول في الكلام: "أهل البصرة يأكلون من البرّ والشعير"، وتقول: "ذهبت فأصبت من الطّعام"، تريد: "شيئا" ولم تذكر الشيء. وكذلك {يخرج لنا ممّا تنبت الأرض} شيئا، ولم يذكر الشيء، وإن شئت جعلته على قولك: "ما رأيت من أحدٍ"، تريد: "ما رأيت أحداً"، و"هل جاءك من رجلٍ" تريد: هل جاءك رجلٌ.
فإن قلت: "إنما يكون هذا في النفي والاستفهام" فقد جاء في غير ذلك، قال: {ويكفّر عنكم مّن سيّئاتكم} فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول: "زيد من أفضلها" تريد: هو أفضلها، وتقول العرب: "قد كان من حديثٍ فخلّ عنّي حتّى أذهب" يريدون: قد كان حديثٌ. ونظيره قولهم: "هل لك في كذا وكذا" ولا يقولون: حاجة، و"لا عليك" يريدون: لا بأس عليك.
وأما قوله: {اهبطوا مصراً} وقال: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه} فزعم بعض الناس أنه يعني فيهما جميعا "مصر" بعينها، ولكن ما كان من اسم مؤنث على هذا النحو "هند" و"جمل" فمن العرب من يصرفه ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم: أما التي في "يوسف" فيعني بها "مصر" بعينها، والتي في "البقرة" يعني بها مصراً من الأمصار.
وأما قوله: {وباءوا بغضبٍ مّن اللّه} يقول: "رجعوا به" أي: صار عليهم، وتقول "باء بذنبه يبوء بوءاً". وقال: {إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} مثله.
باب من تفسير الهمز:
أما قوله: {ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ} [و] {ويقتلون الأنبياء} كل ذلك جماعة العرب تقوله.
ومنهم من يقول (النّباء) أولئك الذين يهمزون "النبيء" فيجعلونه مثل "عريف" و"عرفاء". والذين لم يهمزوه جعلوه مثل بنات الياء، فصار مثل: "وصيّ" و"أوصياء" ويقولون أيضاً: "هم وصيّون". وذلك أن العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتى يصير كبنات الياء، يجتمعون على ترك همزة نحو: "المنسأة"، ولا يكاد أحد يهمزها إلا في القرآن فإن أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ، وهي من "نسأت".
وجاء ما كان من "رأيت" على"يفعل" أو"تفعل" أو"نفعل" أو"أفعل" غير مهموز، وذلك أن الحرف الذي كان قبل الهمزة ساكن، فحذفت الهمزة وحرك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول: "من أبوك". قال: {أفتمارونه على ما يرى}، وقال: {لترونّ الجحيم}، وقال: {إنّي أرى ما لا ترون}، وقال: {إنّا لنراك في ضلالٍ مّبينٍ}.
وأما قوله: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين} و{أرأيت إن كان على الهدى} وما كان من "أرأيت" في هذا المعنى ففيه لغتان، منهم من يهمز ومنهم من يقول "أريت". وإنما يفعل هذا في "أرأيت" هذه التي وضعت للاستفهام لكثرتها. فأما "أرأيت زيداً" إذا أردت: "أبصرت زيداً" فلا يتكلم بها إلاّ مهموزة أو مخففة. ولا يكاد يقال: "أريت" لأنّ تلك كثرت في الكلام فحذفت كما حذفت في "[أمانه] ظريف" يريدون: "أما إنّه ظريفٌ" [فـ] يحذفون ويقولون -أيضاً-: "لهنّك لظريفٌ" يريدون: "[لـ] إنّك لظريفٌ". ولكن الهمزة حذفت كما حذفوا في قولهم:

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسبٍ = عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
وقال الشاعر:
أرأيت إن أهلكت مالي كلّه = وتركت ما لك فيم أنت تلوم
[فهمز]، وقال الآخر:

أريت امرءاً كنت لم أبله = أتاني وقال اتّخذني خليلا
فلم يهمز. وقال:

يا خاتم النّباء إنّك مرسلٌ = بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا
وأما قوله: {بما عصوا} [فـ] جعله اسما هنا كالعصيان يريد: بعصيانهم، فجعل "ما" و"عصوا" اسما). [معاني القرآن: 1/75-78]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ("الفوم":
قال المفسرون: هو الخبو والحنطة، ويجلى عن أهل اللغة أنهم يقولون: فوموا لنا، أي: اخبزوا. وقالوا: الفوم: الحبوب. وقال آخرون: الفوم هو الثوم بعينه إلا أن العرب تبدل مكان الثاء، كما قالوا: "جدف" و"جدث".
{الذلة}: الصغار. {والمسكنة}: الحاجة.
{وباؤا بغضب من الله}: أي رجعوا، وقال الله {وباؤا بغضب} أي استحقوا الغضب من الله). [غريب القرآن وتفسيره:71-72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و"الفوم" فيه أقاويل:
يقال: هو الحنطة والخبز جميعا. قال الفراء: هي لغة قديمة يقول أهلها: فوّموا، أي: اختبزوا. ويقال: الفوم: الحبوب. ويقال: هو الثوم، والعرب تبدل الثاء بالفاء فيقولون "جدث" و"جدف" و"المغاثير" و"المغافير". وهذا أعجب الأقاويل إليّ، لأنها في مصحف عبد اللّه: «وثومها».
{وباؤوا بغضبٍ} أي: رجعوا، يقال: بؤت بكذا فأنا أبوء به، ولا يقال: باء بالشيء). [تفسير غريب القرآن: 51]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}
{فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض}
{يخرج} مجزوم وفيه غير قول:
قال بعض النحويين: المعنى: سله وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو، وقال في قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، قالوا: المعنى: قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.
وقال قوم: معنى {يخرج لنا} معنى الدعاء كأنّه قال: أخرج لنا. وكذلك {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} المعنى: قل لعبادي أقيموا، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل) فجعل بمنزلة جواب الأمر.
وكلا القولين مذهب، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من لفظ الأمر الذي، ليس معه جازم مرفوع قال اللّه -عزّ وجلّ-: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّه} ثم جاء بعد تمام الآية {يغفر لكم}، المعنى: آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا يغفر لكم.
وقوله عزّ وجلّ: {من بقلها وقثّائها وفومها}
في "القثاء" لغتان، يقال القُثَّاء والقِثَّاء يا هذا، و قد قرأ بعضهم (قُثائها) بالضم، والأجود الأكثر {وقِثائها} بالكسر.
{وفومها} الفوم: الحنطة، ويقال: الحبوب، وقال بعض النحويين: إنه يجوز عنده الفوم ههنا الثوم، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم، وههنا ما يقطع هذا. محال أن يطلب القوم طعاما لا برّ فيه، والبرّ أصل الغذاء كله، ويقال: فوّموا لنا، أي: اخبزوا لنا. ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.
وقوله عزّ وجلّ: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير} يعني أن المنّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم، و {أدنى} القراءة فيه بغير الهمز، وقد قرأ بعضهم "أدنأ بالذي هو خير"، وكلاهما له وجه في اللغة إلا أن ترك الهمزة أولى بالاتباع.
أما (أدنى) غير مهموز، فمعناه: الذي هو أقرب وأقل قيمة، كما تقول: هذا ثوب مقارب، فأما الخسيس فاللغة فيه أنه مهموز، يقال: دنوء، دناءة، وهو دنيء، بالهمزة، ويقال: هذا أدنا منه بالهمزة.
وقوله عزّ وجلّ: {اهبطوا مصرا} الأكثر في القراءة إثبات الألف، وقد قرأ بعضهم "اهبطوا مصر فإن لكم" بغير ألف، فمن قرأ {مصرا} بالألف فله وجهان:
جائز أن يراد بها مصرا من الأمصار لأنهم كانوا في تيه، وجائز أن يكون أراد "مصر" بعينها، فجعل (مصرا) اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي مذكرا.
وجائز أن يكون (مصر) بغير ألف على أنه يريد مصرا، كما قال عزّ وجلّ: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}، وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو مذكر سمي به مؤنث.
وقوله عزّ وجلّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة}
{الذّلّة}: الصغار، {المسكنة}: الخضوع، واشتقاقه من السكون، إنما يقال: "مسكين" للذي أسكنه الفقر، أي: قلل حركته.
وقوله جلّ وعزّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه} يقال: بؤت بكذا وكذا، أي: احتملته.
وقوله جلّ وعزّ: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه} معنى ذلك -واللّه أعلم-: الغضب حل بهم بكفرهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ} القراءة المجمع عليها في "النبيين" و"الأنبياءِ" و"البريَّة" طرح الهمزة، وجماعة من أهل المدينة يهمزون جميع ما في القرآن من هذا فيقرأون (النبيئين بغير حق) و(الأنبياء)، واشتقاقه من "نبّأ" و"أنبأ"، أي: أخبر.
والأجود ترك الهمزة، لأن الاستعمال يوجب أن ما كان مهموزا من "فعيل" فجمعه "فعلاء"، مثل: ظريف وظرفاء، ونبيء ونبآء. فإذا كان من ذوات الياء فجمعه "أفعلاء"، نحو: غني وأغنياء، ونبي وأنبياء.
وقد جاء "أفعلاء" في الصحيح، وهو قليل، قالوا: خميس وأخمساء وأخمس، ونصيب وأنصباء، فيجوز أن يكون "نبي" من "أنبأت" مما ترك همزه لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون من "نبأ ينبوء" إذا ارتفع، فيكون "فعيلا" من الرفعة). [معاني القرآن: 1/142-145]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الفوم": الثوم، و"الفوم" -أيضا-: الحنطة). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وباءوا}: رجعوا.
و"الفوم": قيل: هو الخبز، وقيل: الحنطة، وقيل: الثوم، وهو بالثاء في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 28]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الفُومِ}: الحنط، الحبوب، الثوم. {الذِّلَّةُ}: الذل. {الْمَسْكَنَةُ}: الحاجة. {وَبَاؤُوْاْ}: احتملوا ورجعوا). [العمدة في غريب القرآن:76-77]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الذّين هادوا (62)} أي: الذين تابوا ممن تهوّد أي: هدنا إلى ربنا.
{والصّابئين (62)} يقال: صبأت من دينك إلى دين آخر، إذا خرجت، كما تصبأ النجوم تخرج من مطالعها، ويقال: صبأت ثنيةً إذا طلعتها).
[مجاز القرآن: 1/42-43]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الصابئين}: ملة من اليهود والنصارى والمجوس لهم دين. يقال: صبأت من دينك إلى دين آخر، إذا خرجت منه، ومن ذلك: صبأت ثنيته، إذا طلعت). [غريب القرآن وتفسيره: 72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين هادوا} هم: اليهود. {والصّابئين} قال قتادة: "هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون [إلى] القبلة، ويقرؤون الزّبور".
وأصل الحرف من صبأت: إذا خرجت من شيء إلى شيء ومن دين إلى دين. ولذلك كانت قريش تقول في الرجل إذا أسلم واتبع النبي -صلى اللّه عليه وعلى آله-: قد صبأ فلان -بالهمز-، أي: خرج عن ديننا إلى دينه). [تفسير غريب القرآن:51-52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجل: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)} لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ودليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه أضلّ أعمالهم * والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وآمنوا بما نزّل على محمّد وهو الحقّ من ربّهم كفّر عنهم سيّئاتهم}، فتأويله: من آمن باللّه واليوم الآخر وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلهم أجرهم.
وجاز أن يقال: {فلهم} لأن من لفظها لفظ الواحد وتقع على الواحد والاثنين والجمع والتأنيث والتذكير، فيحمل الكلام على لفظها فيُوحّد ويذكر، ويحمل على معناها فيثنّى ويجمع ويؤنث.
قال الشاعر:

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني = نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
و"هادوا" أصله في اللغة: تابوا، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {إنّا هدنا إليك} أي: تبنا إليك.
وواحد "النصارى" قيل فيه قولان:
قالوا يجوز أن يكون واحدهم "نصران" كما ترى، فيكون: نصران ونصارى، على وزن: ندمان وندامى، قال الشاعر:

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها = كما أسجدت نصرانة لم تحنّف
فـ"نصرانة" تأنيث "نصران".
ويجوز أن يكون النصارى واحدهم "نصرى"، مثل: بعير مهري وإبل مهارى.
ومعنى "الصابئين": الخارجين من دين إلى دين، يقال: صبأ فلان إذا خرج من دينه يصبأ يا هذا، ويقال: صبأت النجوم، إذا ظهرت، وصبأ نابه، إذا خرج.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} القراءة الجيدة: الرفع، وكذلك إدا كررت (لا) في الكلام، قلت: لا رجل عندي ولا زيد، و{لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47)}.
وإن قرئ (فلا خوفَ عليهم) فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به). [معاني القرآن: 1/145-147]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({والصابئين} الخارجون، من: صبأت النجوم، إذا ظهرت وخرجت.
وهم قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون للقبلة). [تفسير المشكل من غريب القرآن:28-29]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({هَادُواْ}: تابوا. "الصَّابِئِ": الخارج من دينه). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ...} يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فيه). [معاني القرآن: 1/43]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الطّور} جبل كان رفع عليهم حيث قيل لهم: {قولوا حطّة (58)}).
[مجاز القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واذكروا ما فيه لعلّكم تتّقون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فهذا على الكلام الأول. يقول: "اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا" يقول: "فقلنا لكم: خذوا". كما تقول: "أوحيت إليه: قم"، كأنه يقول: "أوحيت إليه فقلت له: قم" وكان في قولك: "أوحيت إليه" دليل على أنّك قد قلت له). [معاني القرآن: 1/78]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الطور}: جبل). [غريب القرآن وتفسيره: 72]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ):{الطّور}: الجبل. ورفعه فوقهم مبين في سورة الأعراف). [تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّة واذكروا ما فيه لعلّكم تتّقون (63)} المعنى: اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم. و"الطور" ههنا: الجبل.
ومعنى {أخذنا ميثاقكم}: يجوز أن يكون ما أخذه اللّه عزّ وجلّ حين أخرج الناس كالذر. ودليل هذا قوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلّة} ثم قال من بعد تمام الآية: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم} فهذه الآية كالآية التي في البقرة. وهو أحسن المذاهب فيها.
وقد قيل: أن أخذ الميثاق هو: ما أخذ الله من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم. ودليله قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه} فالأخذ على النبيين -صلى الله عليهم وسلم- الميثاق يدخل فيه من اتبعهم.
{ورفعنا فوقكم الطّور} أي: جئناكم بآية عظيمة، وهي أن الطور -وهو الجبل- رفع فوقهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم، فأخبر اللّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق، وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلا في ذلك، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال: {ثمّ تولّيتم من بعد ذلك} "ذلك" أي: من بعد الآيات العظام.
{فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته} أي: لولا أن منّ اللّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات {لكنتم من الخاسرين}.
وقوله عزّ وجلّ: {خذوا ما آتيناكم بقوّة} موضع "ما" نصب، و {ما آتيناكم}: الكتاب الذي هو التوراة، ومعنى "خذوه بقوة" أي: خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بان لكم من عظيم الآيات.
وقوله عزّ وجلّ: {واذكروا ما فيه} معناه: ادرسوا ما فيه، وجاز في اللغة أن تقول: "خذ" و"خذا"، وأصله "أوخذ" وكذلك "كل" أصله "أوكل"، ولكن "خذ" و"كل" اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة، فحذفت فاء الفعل وهي الهمزة التي كانت في "أَخذ" و"آكل" فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون). [معاني القرآن: 1/148-149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الطُّورَ}: جبل). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({خاسئين}: مبعدين، يقال: خسأته عني، وخسأت الكلب: باعدته، وخسأ الرجل، إذا تباعد). [مجاز القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}
أما قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت} يقول: "ولقد عرفتم"، كما تقول: "لقد علمت زيداً ولم أكن أعلمه". وقال: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} يقول: "يعرفهم". وقال: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} أي: لا تعرفهم نحن نعرفهم. وإذا أردت العلم الآخر قلت: "قد علمت زيداً ظريفاً" لأنك تحدث عن ظرفه. فلو قلت: "قد علمت زيداً" لم يكن كلاما.
وأما قوله: {كونوا قردةً خاسئين} فلأنك تقول: خسأته فخسئ يخسأ خسأً شديدا، فهو خاسئٌ وهم خاسئون). [معاني القرآن: 1/78-79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({خاسئين}: مبعدين، يقال خسأته عني، وخسأت الكلب أي: باعدته، وقال المفسرون: "صاغرين" في معنى: "مبعدين"). [غريب القرآن وتفسيره: 72]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({اعتدوا منكم في السّبت} أي: ظلموا وتعدّوا ما أمروا به من ترك الصيد في يوم السبت.
{فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} أي: مبعدين. يقال: خسأت فلانا عني، وخسأت الكلب أي: باعدته، ومنه يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد).
[تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)}
معنى {علمتم} هنا: عرفتم، ومثله قوله عز وجل {لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} ومعناه: لا تعرفونهم اللّه يعرفهم.
ومعنى {اعتدوا}: ظلموا وجاوزوا ما حدّ لهم، كانوا أمروا ألا يصيدوا في السبت، وكانت الحيتان تجتمع لأمنها في السبت، فحبسوها في السبت وأخذوها في الأحد، فعدوا في السبت لأن صيدهم منعها من التصرف، فجعل الله جزاءهم في الدنيا بعدما أراهم من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين، معنى {خاسئين}: مبعدين، يقال: خسأت الكلب أخسؤه خسئا، أي: باعدته وطردته). [معاني القرآن: 1/149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اعتدوا منكم} أي: تعدوا. {خاسئين}: مبعدين من رحمة الله).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خَاسِئِينَ}: مباعدين). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فجعلناها نكالاً لّما بين يديها وما خلفها وموعظةً لّلمتّقين...} يعني: المسخة التي مسخوها، جعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها، ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مسخوا فيمسخوا). [معاني القرآن: 1/43]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({فجعلناها نكالاً لّما بين يديها وما خلفها وموعظةً لّلمتّقين}
أما قوله: {فجعلناها نكالاً} فتكون على القردة، وتكون على العقوبة التي نزلت بهم فلذلك أنّثت.
{وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزواً قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}
أما قوله: {أتتّخذنا هزواً} فمن العرب والقراء من يثقله، ومنهم من يخففه، وزعم عيسى بن عمر أنّ كل اسمٍ على ثلاثة أحرف أوّله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو: "اليُسُرِ"، و"العُسُرِ"، و"الرُّحُمِ".
وقال بعضهم (عذراً) خفيفة (أو نذراً) مثقلة، وهي كثيرة وبها نقرأ.
وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر تحرك أيضاً ثانية بالضم). [معاني القرآن: 1/79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فجعلناها نكالًا} أي: قرية أصحاب السبت.
{نكالا}: أي عبرة، {لما بين يديها}: من القرى، {وما خلفها}: ليتعظوا بها.
ويقال: {لما بين يديها}: من ذنوبهم، {وما خلفها}: من صيدهم الحيتان في السبت، وهو قول قتادة. والأول أعجب إليّ). [تفسير غريب القرآن: 52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتّقين (66)}
(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت، ويجوز أن يكون للفعلة.
ومعنى {لما بين يديها} يحتمل شيئين من التفسير:
يحتمل أن يكون {لما بين يديها}: لما أسلفت من ذنوبها، ويحتمل أن يكون {لما بين يديها}: للأمم التي تراها.
{وما خلفها} ما يكون بعدها.
ومعنى قولك: "نكّلت به"، أي: جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله، فيناله مثل الذي ناله.
وقوله عزّ وجلّ: {وموعظة للمتقين} أي: يتعظ بها أهل التقوى فيلزمون ما هم عليه). [معاني القرآن: 1/149]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نكالا} أي: عبرة. والهاء في {جعلناها} تعود على المسخة، وقيل: على الحيتان).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:25 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 67 إلى 74]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أتتّخذنا هزواً قال...} وهذا في القرآن كثيرٌ بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أوّله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا؛ فكأنّ حسن السّكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه في رءوس الآيات -لأنها فصولٌ- حسناً؛ من ذلك: {قال فما خطبكم أيّها المرسلون * قالوا إنّا أرسلنا}، والفاء حسنة مثل قوله: {فقال الملأ الّذين كفروا} ولو كان على كلمة واحدة لم تسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قمت ففعلت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا: قلت قال، حتى يقولوا: قلت فقال، وقمت فقام؛ لأنها نسقٌ وليست باستفهام يوقف عليه؛ ألا ترى أنه {قال}: فرعون {لمن حوله ألا تستمعون * قال رب‍ّكم وربّ آبائكم الأوّلين} فيما لا أحصيه.
ومثله من غير الفعل كثيرٌ في كتاب الله بالواو وبغير الواو؛ فأما الذي بالواو فقوله: {قل أؤنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم} ثم قال بعد ذلك: {الصّابرين والصّادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار}. وقال في موضع آخر: {التّائبون العابدون الحامدون} وقال في غير هذا: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} ثم قال في الآية بعدها: {إنّ الّذين آمنوا} ولم يقل: وإنّ.
فاعرف بما جرى تفسير ما بقى، فإنّه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعض العرب:


لمّا رأيت نبطاً أنصارا
=
شمّرت عن ركبتي الإزارا
=
كنت لها من النّصارى جارا
). [معاني القرآن: 1/43-44]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجل: {وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}
المعنى: واذكروا إذ قال موسى لقومه، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فيمن قتله فلم يعلم قاتله، فأمر اللّه عزّ وجلّ بضرب المقتول بعضو من أعضاء البقرة.
وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى أو الذنب، وأحب الله تعالى أن يريهم كيف إحياء الموتى،
وفي هذه الآية احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلا من قرأ الكتب أو أوحى إليه، وقد علم المشركون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون -وهم يخالفونه- أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.
{قالوا أتتّخذنا هزوا} فانتفى موسى من الهزؤ، لأن الهازئ جاهل لاعب فقال: {أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} فلما وضح لهم أنه من عند الله {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي} وإنّما سألوا ما هي؟ لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت). [معاني القرآن: 1/149-150]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك...}
و"العوان" ليست بنعتٍ للـ"بكر"؛ لأنها ليست بهرمة ولا شابّة؛ انقطع الكلام عند قوله: {ولا بكرٌ} ثم استأنف فقال: {عوانٌ بين ذلك} و"العوان" يقال منه: قد عوّنت.
و"الفارض": قد فَرَضَت، وبعضهم: قد فَرُضَت.
وأما "البكر" فلم نسمع فيها بفعل؛ والبكر يكسر أوّلها إذا كانت بكرا من النّساء، والبكر مفتوح أوّله من بكارة الإبل.
ثم قال {بين ذلك} و"بين" لا تصلح إلاّ مع اسمين فما زاد، وإنمّا صلحت مع "ذلك" وحده؛ لأنّه في مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان بـ"ذلك" و"ذاك"؛ ألا ترى أنّك تقول: أظنّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بدّ لـ"كان" من شيئين، ولا بدّ لـ"أظن" من شيئين، ثم يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنّ ذلك.
وإنما المعنى في الاسمين اللذين ضمّهما "ذلك": بين الهرم والشّباب.
ولو قال في الكلام: بين هاتين، أو بين تينك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما لم يظهر إلا بتثنية؛ لأنهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول في الأفعال فتوحّد فعلهما بعدها. فتقول: إقبالك وإدبارك يشقّ عليّ، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورني.
ومما يجوز أن يقع عليه "بين" وهو واحدٌ في اللّفظ مما يؤدّى عن الاثنين فما زاد قوله: {لا نفرّق بين أحدٍ منهم} ولا يجوز: لا نفرق بين رجل منهم؛ لأنّ "أحدا" لا يثنّى كما يثنى الرجل ويجمع، فإن شئت جعلت "أحدا" في تأويل اثنين، وإن شئت في تأويل أكثر؛ من ذلك قول الله عزّ وجلّ: {فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين} وتقول: بين أيّهم المال؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى "من" و"أيّ" مجرى أحد، لأنّهما قد يكونان لواحد ولجمع). [معاني القرآن: 1/44-45]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ}
{لا فارض}: مسنّة، {ولا بكر}: صغيرة. {بين ذلك}: والعرب تقول: لا كذا ولا كذا ولكن بين ذلك؛ فمجاز هذه الآية: بين هذا الوصف، ولذلك قال: {بين ذلك}، وقال رؤبة:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلق
فـ"الخطوط" مؤنثة و"السواد" و"البلق" اثنان، ثم قال:
كأنه في الجلد توليع البهق
قال أبو عبيدة: فقلت لرؤبة: إن كانت خطوط فقل: كأنها، وإن كان سواد وبلق فقل: كأنهما، فقال: كأنّ ذاك ويلك توليع البهق، ثم رجع إلى السواد والبلق والخطوط فقال:
يحسبن شاماً أو رقاعاً من بنق
جماعة "شأمة"). [مجاز القرآن: 1/43-44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون}
أما قوله: {إنّها بقرةٌ لاّ فارضٌ ولا بكرٌ عوان} فارتفع ولم يصر نصبا كما ينتصب النفي، لأن هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها، إنما هو اسم مبتدأ وخبره مضمر، وهذا مثل قولك: "عبد اللّه لا قائمٌ ولا قاعدٌ" أدخلت "لا" للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه "لا"). [معاني القرآن: 1/79]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({إنها بقرة لا فارض}: لا مسنة، كما يقال: فرضت تفرض، إذا أسنت.
{ولا بكر} أي: لا صغيرة). [غريب القرآن وتفسيره:72-73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا فارضٌ} أي: لا مسنّة، يقال: فرضت البقرة فهي فارض، إذا أسنّت. قال الشاعر:

يا ربّ ذي ضغن وضب فارض= له قروء كقروء الحائض
أي: ضغن قديم.
{ولا بكرٌ} أي: ولا صغيرة لم تلد، ولكنها {عوانٌ بين} تينك.
ومنه يقال في المثل: «العوان لا تعلّم الخمرة» يراد أنها ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر). [تفسير غريب القرآن:52-53]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({قال إنه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر}
ارتفع {فارض} بإضمار هي، ومعنى {لا فارض}: لا كبيرة، {ولا بكر}: لا صغيرة، أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة.
{عوان} العوان: دون المسنة وفوق الصغيرة.
ويقال من الفارض: فرضت تفرض فروضا، ومن العوان: قد عوّنت تعوّن، ويقال: حرب عوان، إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية. قال زهير:

إذا لقحت حرب عوان مضرّة = ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل
ومعنى {بين ذلك} بين البكر والفارض، وبين الصغيرة والكبيرة وإنما جاز {بين ذلك} و "بين" لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر، لأن ذلك ينوب عن الخمل، فتقول: ظننت زيدا قائما، فيقول القائل: "ظننت ذلك"). [معاني القرآن: 1/150]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (وكل عوان فهو بعد شيء، يقال: حرب عوان، إذا كانت قبلها حرب، هذا أصل العوان، والعوان -في غير هذا من الحيوان-: الشيء بين الشيئين، لا كبير ولا صغير). [ياقوتة الصراط: 174]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا فارض} لا مسنة، {ولا بكر} صغيرة، {عوان} أي: بين صغيرة وكبيرة).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الفَارِض": المسنة. "البِكْر": الصغيرة). [العمدة في غريب القرآن: 77]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما لونها...}
"الّلون" مرفوعٌ؛ لأنك لم ترد أن تجعل "ما" صلةً فتقول: (بيّن لنا ما لونها)، ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد -والله أعلم-: ادع لنا ربك يبيّن لنا أي شيء لونها، ولم يصلح للفعل الوقوع على "أيّ"؛ لأن أصل "أيّ" تفرّق جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداء هي أم صفراء؟ فلما لم يصلح للتّبيّن أن يقع على الاستفهام في تفرّقه لم يقع على أيّ؛ لأنها جمع ذلك المتفرّق، وكذلك ما كان في القرآن مثله، فأعمل في "ما" "وأيّ" الفعل الذي بعدهما، ولا تعمل الذي قبلهما إذا كان مشتقّاً من العلم؛ كقولك: ما أعلم أيّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أيّهم قال ذاك، وما أدري أيّهم ضربت، فهو في العلم والإخبار والإنباء وما أشبهها على ما وصفت لك.
منه قول الله تبارك وتعالى: {وما أدراك ما هيه}، {وما أدراك ما يوم الدّين} "ما" الثانية رفعٌ، فرفعتها بـ"يوم"؛ كقولك: ما أدراك أي شيء يوم الدّين، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} رفعته بـ"أحصى"، وتقول -إذا كان الفعل واقعا على "أيّ"-: ما أدرى أيّهم ضربت.
وإنما امتنعت من أن توقع على "أي" الفعل الذي قبلها من العلم وأشباهه؛ لأنك تجد الفعل غير واقع على "أي" في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيّهما قام، أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الذي أعلمك، كما أنك تقول: سل أيّهم قام، والمعنى: سل الناس أيّهم قام. ولو أوقعت الفعل على "أيّ" فقلت: اسأل أيّهم قام، لكنت كأنك تضمر أيّاً مرّة أخرى؛ لأنك تقول: سل زيدا أيّهم قام، فإذا أوقعت الفعل على زيد فقد جاءت "أيّ" بعده. فكذلك "أيّ" إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك إن أردته جائز، تقول: لأضربنّ أيّهم يقول ذاك؛ لأنّ الضرب لا يقع على [اسم ثم يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على] اثنين، وأنت تقول في المسألة: سل عبد الله عن كذا، كأنك قلت: سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عبد الله كذا وكذا، إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا.
وقول الله: {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً} من نصب (أيّاً) أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثم لنستخرجن العاتي الذي هو أشد. وفيها وجهان من الرفع:
أحدهما: أن تجعل الفعل مكتفيا بـ"من" في الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا من كل طعام، ثم تستأنف أيّاً فترفعها بالذي بعدها، كما قال جلّ وعزّ: {يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب} أي ينظرون أيّهم أقرب. ومثله {يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم}.
وأما الوجه الآخر: فإن في قوله تعالى: {ثم لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشدّ وأخبث، وأيهم أشدّ على الرحمن عتيّاً، والشيعة ويتشايعون سواء في المعنى.
وفيه وجه ثالث من الرفع: أن تجعل {ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعةٍ} بالنداء؛ أي: لننادين أيّهم أشدّ على الرّحمن عتيّاً، وليس هذا الوجه يريدون.
ومثله مما تعرفه به قوله: {أفلم ييأس الّذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى النّاس جميعاً}، فقال بعض المفسرين: {أفلم ييأس الّذين آمنوا}: ألم يعلم، والمعنى -والله أعلم-: أفلم ييأسوا علما بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا. وكذلك {لننزعنّ} يقول: يريد ننزعهم بالنداء).
[معاني القرآن: 1/46-48]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بقرةٌ صفراء} إن شئت صفراء، وإن شئت سوداء، كقوله: {جمالاتٌ صفر} أي: سود. {فاقعٌ لونها} أي: ناصع). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لّونها تسرّ النّاظرين}
أما قوله: {بقرةٌ صفراء فاقعٌ} فـ"الفاقع": الشديد الصفرة. ويقال: "أبيض يققٌ": أي: شديد البياض، و"لهاقٌ" و"لهقٌ" و"لهاقٌ"، و"أخضر ناضرٌ" و"أحمر قانئٌ" و"ناصعٌ" و"فاقمٌ". ويقال: "قد قنأت لحيته فهي تقنأ قنوءا" أي: احمّرت. قال الشاعر:

............. = كما قنأت أنامل صاحب الكرم
و "قاطف الكرم". وقال آخر:

من خمرّ ذي نطفٍ أغنّ كأنّما = قنأت أنامله من الفرصاد
). [معاني القرآن: 1/79-80]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({بقرة صفراء} قالوا: سوداء. كقوله {جمالات صفر} أي: سود. {فاقع لونها}: أي ناصع). [غريب القرآن وتفسيره: 73]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({صفراء فاقعٌ لونها} أي: ناصع صاف.
وقد ذهب قوم إلى أن الصفراء: السوداء، وهذا غلط في نعوت البقر. وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل؛ يقال: بعير أصفر، أي أسود، وذلك أن السّود من الإبل يشوب سوادها صفرة. قال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي= هنّ صفر أولادها كالزّبيب
أي: سود.
ومما يدلك على أنه أراد الصفرة بعينها قوله {فاقع لونها}، والعرب لا تقول: أسود فاقع -فيما أعلم-، إنما تقول: أسود حالك، وأحمر قاني وأصفر فاقع). [تفسير غريب القرآن:53-54]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين}
موضع (ما) رفع بالابتداء، لأن تأويله الاستفهام، كقولك: ادع لنا ربك يبين لنا أيّ شيء لونها، ومثله {فلينظر أيّها أزكى طعاما}.
ولا يجوز في القراءة {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها} على أن يجعل (ما) لغوا، ولا يقرأ القرآن إلا كما قرأت القرّاء المجمع عليهم في الأخذ عنهم.
{قال إنه يقول إنها} ما بعد القول من باب "إن" مكسور أبدا، كأنك تذكر القول في صدر كلامك، وإنما وقعت "قلت" في كلام العرب أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ، تقول: قلت زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك: إن زيدا منطلق، لا اختلاف بين النحويين في ذلك، إلا أن قوما من العرب -وهم بنو سليم- يجعلون باب "قلت" أجمع كباب "ظننت"، فيقولون: قلت زيدا منطلقا، فهذه لغة لا يجوز أن يوجد شيء منها في كتاب الله عزّ وجلّ، ولا يجوز (قال أنه يقول إنها)، لا يجوز إلا الكسر.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: {صفراء فاقع لونها}
{فاقع} نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قان، قال الشاعر:

يسقي بها ذو تومتين كأنما = قنأت أنامله من الفرصاد
أي: احمرت حمرة شديدة، ويقال: أحمر قاتم وأبيض يقق، ولهق ولهاق، وأسود حالك وحلوك وحلوكي ودجوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قالوا: إن {صفراء} ههنا: سوداء.
ومعنى {تسر الناظرين} أي: تعجب الناظرين). [معاني القرآن: 1/150-152]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت 437هـ): ({صفراء}: سوداء، وقيل: هي صفراء وليست سوداء. {فاقع} أي: ناصع).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({صَفْرَاء}: سوداء، وقيل: صفراء حتى قرنها وظلفها. {فَاقِعٌ}: ناصع).
[العمدة في غريب القرآن:77-78]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لّنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون}
أما قوله: {إنّ البقر تشابه علينا} [فـ] جعل "البقر" مذكرا مثل "التمر" و"البسر"، كما تقول: إنّ زيداً تكلم يا فتى.
وإن شئت قلت (يشّابه) وهي قراءة مجاهد.
ذكّر "البقر" يريد {يتشابه} ثم أدغم التاء في الشين. ومن أنّث "البقر" قال: {تشّابه} فادغم، وإن شاء حذف التاء الآخرة ورفع كما تقول "إنّ هذه تكلّم يا فتى" لأنها في "تتشابه" إحداهما تاء "تفعل" والأخرى التي في "تشابهت" فهو في التأنيث معناه "تفعل". وفي التذكير معناه "فعل" و"فعل" أبدا مفتوح كما ذكرت لك والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث لأنك تريد "تشابهت فهي تتشابه" وكذلك كل [ما كان] من نحو "البقر" ليس بين الواحد والجماعة [فيه] إلا الهاء، فمن العرب من يذكره ومنهم من يؤنثه، ومنهم من يقول: "هي البرّ والشعير" وقال: {والنّخل باسقاتٍ لّها طلعٌ نّضيدٌ} فأنث على تلك اللغة وقال: {باسقات} فجمع لأن المعنى جماعة.
وقال الله -جل ثناؤه-: {ألم تر أنّ اللّه يزجي سحاباً ثمّ يؤلّف بينه} فذكر في لغة من يذكر، وقال: {وينشئ السّحاب الثّقال} فجمع على المعنى لأن المعنى معنى سحابات، وقال: {ومنهم مّن ينظر إليك}، وقال: {ومنهم مّن يستمعون إليك} على المعنى واللفظ.
وقد قال بعضهم: (إنّ الباقر) مثل "الجامل"، يعني: "البقر" و"الجمال" قال الشاعر:

مالي رأيتك بعد أهلك موحشا = خلقاً كحوض الباقر المتهدّم
وقال:
[فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ فإنّهم] = ذوو جاملٍ لا يهدأ اللّيل سامره
وأما قوله: {إنّها بقرةٌ لاّ ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ}
{مسلمة} على "إنّها بقرةٌ مسلّمةٌ"). [معاني القرآن: 1/80-82]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {مسلّمةٌ لا شية فيها...} غير مهموز؛ يقول: ليس فيها لونٌ غير الصّفرة.
وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران). [معاني القرآن: 1/48]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلّمةٌ لاشية فيها} أي: لون سوى لون جميع جلدها). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قالوا الآن جئت بالحقّ} أي: الآن تبّينا ذلك، ولم تزل جائياً بالحق). [مجاز القرآن: 1/44]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لاّ ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لاّ شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون}
{لاّ شية فيها} يقول: "لا وشي فيها" من "وشيت شيةً" كما تقول: "وديته ديةً" و"وعدته عدةً".
وإذا استأنفت (ألآن) قطعت الألفين جميعا، لأن الألف الأولى مثل ألف "الرّجل" وتلك تقطع إذا استؤنفت، والأخرى همزة ثابتة تقول "ألآن" فتقطع ألف الوصل، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في {قالوا} لأنه إنّما كان يذهبها لسكون اللام، واللام قد تحرّكت لأنه قد حوّل عليها حركة الهمزة). [معاني القرآن: 1/82]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({لا شية فيها}: لا لون فيها سوى لون جلدها.
وقال بعضهم: هي صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا ذلولٌ} يقال في الدّواب: دابّة ذلول بيّنة الذل -بكسر الذال-، وفي الناس: رجل ذليل بيّن الذّل -بضم الذال-.
{تثير الأرض} أي تقلّبها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة.
{ولا تسقي الحرث} أي لا يسنى عليها فيستقي بها الماء لسقي الزرع.
{مسلّمةٌ} من العمل.
{لا شية فيها} أي: لا لون فيها يخالف معظم لونها، كالقرحة والرثمة والتحجيل، وأشباه ذلك.
و"الشّية": مأخوذة من وشيت الثوب فأنا أشيه، وهي من المنقوص أصلها "وشية" مثل: "زنة" و"عدة"). [تفسير غريب القرآن: 54]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قال إنه يقول إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون} معناه: ليست بذلول ولا مثيرة.
وقوله: {ولا تسقي الحرث} يقال: سقيته إذا ناولته فشرب، وأسقيته جعلت له سقيا، فيصح ههنا (ولا تُسقي) بالضم.
وقوله: {لا شية فيها} أي: ليس فيها لون يفارق لونها، و"الوشي" في اللغة: خلط لون بلون وكذلك في الكلام، يقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشيا، كقولك: وديت فلانا أديه دية، ونصب {لا شية} فيه على النّفي، ولو قرئ (لَا شيةٌ) فيها لجاز، ولكن القراءة بالنصب.
وقوله: {الآن جئت بالحقّ} فيه أربعة أوجه حكى بعضها الأخفش:
فأجودها: (قالوا الآن) بإسكان اللام وحذف الواو من اللفظ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول: (قالوا ألآن جئت بالحقّ) وهذه رواية، وليس له وجه في القياس ولا هي عندي جائز، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين -وهما جيدان في العربية-:
يجوز: (قالوا لآن) على إلقاء الهمزة، وفتح اللام من الآن، وترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين، ولا يعتد بفتحة اللام.
ويجوز: (قالوا لان جيت بالحق) ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا يقرأن بحرف لم يقرأ به وإن كان ثابتا في العربية.
والذين أظهروا الواو: أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسكونها، فلما تحركت ردوها.
والأجود في العربية حذفها؛ لأن قرأ (ب تقول "الأحمر"، ويلقون الهمزة فيقولون "لحمر" فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون، وبعضهم يقول "لحمر" ولا يقرّ ألف الوصل يريد: الأحمر.
فأمّا نصب {الآن} فهي حركة لالتقاء السّاكنين، ألا ترى أنك تقول: أنا الأن أكرمك، وفي الآن فعلت كذا وكذا، وإنما كان في الأصل مبنيا وحرك لالتقاء السّاكنين.
وبنى {الآن} وفيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم. إنما تقول: الغلام فعل كذا، إذا عهدته أنت ومخاطبتك، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الإشارة. المعنى أنت إلى هذا الوقت تفعل، فلم يعرب {الآن} كما لا يعرب هذا). [معاني القرآن: 1/152-153]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"الشية": لون مخالف لسائر الجلد). [ياقوتة الصراط: 174]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا شية} أي: لا لون فيها سوى لون جلدها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الشِيَةَ": اختلاط الألوان.
{لاَّ ذَلُولٌ}: لا تمتهن بالعمل. {تُثِيرُ}: تقلع. {الْحَرْثَ}: الزرع.{مُسَلَّمَةٌ}: مسلمة من كل عمل). [العمدة في غريب القرآن: 78]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها...}، وقوله: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً}، {وإذ فرقنا بكم البحر} يقول القائل: وأين جواب "إذ" وعلام عطفت؟ ومثلها في القرآن كثيرٌ بالواو ولا جواب معها ظاهرٌ؟
والمعنى -والله أعلم- على إضمار "واذكروا إذ أنتم" أو "إذ كنتم" فاجتزئ بقوله: "اذكروا" في أوّل الكلام، ثم جاءت "إذ" بالواو مردودةً على ذلك.
ومثله من غير "إذ" قول الله: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} وليس قبله شيء تراه ناصباً لـ"صالح"؛ فعلم بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمرسل إليه أنّ فيه إضمار "أرسلنا"، ومثله قوله: {ونوحاً إذ نادى من قبل}، {وذا النّون إذ ذهب مغاضباً}، {وإبراهيم إذ قال لقومه} يجرى هذا على مثل ما قال في "ص": {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق} ثم ذكر الأنبياء الذين من بعدهم بغير "واذكر" لأنّ معناهم متّفق معروفٌ، فجاز ذلك. ويستدل على أنّ "واذكروا" مضمرة مع "إذ" أنه قال: {واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض}، {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم} فلو لم تكن ها هنا "واذكروا" لاستدللت على أنّها تراد؛ لأنّها قد ذكرت قبل ذلك.
ولا يجوز مثل ذلك في الكلام بسقوط الواو إلاّ أن يكون معه جوابه متقدّما أو متأخّرا؛ كقولك: ذكرتك إذ احتجت إليك أو إذ احتجت ذكرتك). [معاني القرآن: 1/35]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فادّارأتم فيها}: اختلفتم فيها، من التدارئ والدرء). [مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ مّا كنتم تكتمون}
أما قوله: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} فإنما هي "فتدارأتم"، ولكن التاء تدغم -أحياناً- كذا في الدال لأن مخرجها من مخرجها، فلما أدغمت فيها حوّلت فجعلت دالا مثلها، وسكنّت فجعلوا ألفاً قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها كما قالوا: "اضرب" فألحقوا الألف حين سكنت الضاد.
ألا ترى أنك إذا استأنفت قلت "ادّارأتم" ومثلها {يذّكّرون} و{تذّكّرون} [و] {أفلم يدّبّروا القول} ومثله في القرآن كثير، وإنما هو "يتدبّرون" فأدغمت التاء في الدال، لأن التاء قريبة المخرج من الدال، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين، ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكل ما قرب مخرجه فافعل به هذا، ولا تقل في "يتنزّلون": "ينّزّلون" لأن النون ليست من حروف الثنايا كالتاء). [معاني القرآن: 1/82]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({فادارأتم فيها} أي: اختلفتم فيها). [غريب القرآن وتفسيره: 74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فادّارأتم فيها}: اختلفتم، والأصل: تدارأتم، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت الألف ليسلم السكون للدال الأولى، يقال: كان بينهم تدارؤا في كذا، أي: اختلاف.
ومنه قول القائل في رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم-: «كان شريكي فكان خير شريك؛ لا يماري ولا يداري» أي: لا يخالف).
[تفسير غريب القرآن:54-55]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها واللّه مخرج ما كنتم تكتمون} معناه: فتدارأتم فيها، أي: تدافعتم، أي: ألقى بعضكم على بعض، يقال: "درأت فلانا" إذا دافعته، و"داريته" إذا لاينته، و"درّيته" إذا ختلته، ولكن التاء أدغمت في الدال لأنها من مخرج واحد، فلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل، فتقول: "ادارأ القوم" أي: تدافع القوم.
وقوله عزّ وجلّ: {مخرج ما كنتم تكتمون} الأجود في {مخرجٌ} التنوين؛ لأنه إنما هو لما يستقبل أو للحال، ويجوز حذف التنوين استخفافا فيقرأ(مخرجُ ما كنتم تكتمون)، فإن كان قرئ به وإلا فلا يخالف القرآن كما شرحنا.
وقوله عزّ وجلّ: {إن البقر تشابه علينا} القراءة في هذا على أوجه،
فأجودها والأكثر {تشابه علينا} على فتح الهاء والتخفيف، ويجوز "تشّابه علينا"، و"يشّابه علينا" بالتاء والياء.
وقد قرئ "إن الباقر يشّابه علينا" والعرب تقول في جمع "البقر والجمال": "الباقر والجامل"، يجعلونه اسما للجنس، قال طرفة بن العبد:

وجامل خوّع من نيبه=زجر المعلّى أصلا والسفيح
ويروي "مني به" وهو أكثر الرواية، وليس بشيء، وقال الشاعر:

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا = خلقا كحوض الباقر المتهدم
وما كان مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وسحابة وسحاب، فإن العرب تذكره وتؤنثه، فتقول: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل.
فمن ذكّر؛ فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه، فيقال: فتقول هذا جمع، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة، فتقول: هذه جماعة وهذه فرقة، قال اللّه عزّ وجلّ: {ألم تر أنّ اللّه يزجي سحابا ثمّ يؤلّف بينه} فذكر، وواحدته "سحابة"، وقال: {والنخل باسقات} فجمع على معنى جماعة، ولفظها واحد.
فمن قرأ (إن البقر تشابه علينا) فمعناه أن (جماعة البقر تتشابه علينا)، فأدغمت التاء في الشين لقرب مخرج التاء من الشين، ومن قرأ (تشّابه علينا)أراد (تتشابه)، فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين كما قرئ {لعلكم تذكرون}، ومن قرأ (يشّابه علينا) -بالياء- أراد جنس البقر -أيضا-، والأصل (يتشابه علينا)، فأدغم التاء في الشين). [معاني القرآن: 1/153-155]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({فادرأتم}: اختلفتم وتدافعتم. و"الدرء": الدفع). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 29]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({فََادَّارَأْتُمْ}: اختلفتم). [العمدة في غريب القرآن: 78]

تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فقلنا اضربوه ببعضها...} يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضرب بالذّنب.
ثم قال الله عزّ وجلّ: {كذلك يحيي اللّه الموتى} معناه -والله أعلم-: {اضربوه ببعضها} فيحيا {كذلك يحيي اللّه الموتى}، أي: اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر "فيحيا"، كما قال: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} والمعنى -والله أعلم-: فضرب البحر فانفلق).
[معاني القرآن: 1/48-49]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فقلنا اضربوه ببعضها} أي: اضربوا القتيل ببعضها، ببعض البقرة.
{ويريكم آياته} أي: عجائبه، ويقال: فلان آية من الآيات، أي: عجب من العجب، ويقال: اجعل بيني وبينك آية، أي: علامة، وآيات بينات، أي: علامات وحجج، و"الآية" من القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه). [مجاز القرآن: 1/45]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({ويريكم آياته}: أي عجائبه، يقال: اجعل بيني وبينك آية، أي: علامة، و"الآية" من القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فقلنا اضربوه ببعضها} أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة.
قال بعض المفسرين: فضربوه بالذّنب. وقال بعضهم: بالفخذ، فحيي). [تفسير غريب القرآن: 55]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بِبَعْضِهَا} قيل: بالذنب، وقيل: بالفخذ. {آيَاتِهِ}: علاماته). [العمدة في غريب القرآن: 78-79]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار...} تذكير {منه} على وجهين:
إن شئت ذهبت به -يعني "منه"- إلى أن البعض حجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا في المعنى فذكّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضكنّ.
وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: {ومن يقنت منكنّ للّه} "ومن تقنت" بالياء والتاء، على المعنى، وهي في قراءة أبيّ: "وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منها الأنهار"). [معاني القرآن: 1/49]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قست قلوبكم} أي: جفت، والقاسي: الجافي اليابس). [مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ قست قلوبكم مّن بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً}، وليس قوله: {أو أشدّ} كقولك: "هو زيدٌ أو عمرو" إنّما هذه {أو} التي في معنى الواو، نحو قولك: "نحن نأكل البرّ أو الشعير أو الأرزّ، كلّ هذا نأكل" فـ{أشدّ} ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو "وهي أشدّ قسوةً".
وقال بعضهم (فهْي كالحجارة) فأسكن الهاء، وبعضهم يكسرها، وذلك أن لغة العرب في "هي" و"هو" ولام الأمر، إذا كان قبلهن واو أو فاء أسكنوا أوائلهن، ومنهم من يدعها، قال: (وَهُوَ اللّه لا إله إلاّ هو) [و] قال: (وَهُوَ العزيز الحكيم). [و] قال: وَ(لِْيَتُوبوا) وقف وكسر. وقال: (فَلِيَعْبُدُوا) وقف وكسر.
باب إنّ وأنّ.
قال: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط} فهذه اللاّم لام التوكيد، وهي منصوبة تقع على الاسم الذي تقع عليه "إنّ" إذا كان بينها وبين "إنّ" حشو نحو هذا، [و] هو مثل: "إنّ في الدار لزيداً"، وتقع أيضاً في خبر "إنّ" وتصرف "إنّ" إلى الابتداء، تقول: "أشهد إنّه لظريفٌ "قال الله عزّ وجل: {واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}، وقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصّل ما في الصّدور * إنّ ربّهم بهم يومئذٍ لّخبيرٌ}، وهذا لو لم تكن فيه اللام كان "أنّ ربّهم" لأن "أنّ" الثقيلة إذا كانت هي وما عملت فيه بمنزلة "ذاك" أو بمنزلة اسم فهي أبدا "أنّ" مفتوحة، وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم فهي "إنّ" على الابتداء، ألا ترى إلى قوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين}، يقول: "اذكروا هذا" وقال: {فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث}، لأنه يحسن في مكانه "لولا ذاك" وكل ما حسن فيه "ذاك" أن تجعله مكان "أنّ" وما عملت فيه فهو "أنّ"، وإذا قلت {يعلم إنّك لرسوله} لم يحسن أن تقول: "يعلم لذالك"، فإن قلت: اطرح اللام أيضاً وقل "يعلم ذاك"، فاللام ليست مما عملت فيه "إنّ".
وأما قوله: {إلاّ إنّهم ليأكلون الطّعام} فلم تنكسر هذه من أجل اللام، [و] لو لم تكن فيها لكانت "إنّ" أيضاً، لأنه لا يحسن أن تقول "ما أرسلنا قبلك إلاّ ذاك" و"ذاك" هو القصة، قال الشاعر:

ما أعطياني ولا سألتهما = إلاّ وإني لحاجزي كرمي
فلو ألقيت من هذه اللام أيضاً لكانت "أن"، وقال: {ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النّار} كأنه قال: "ذاك الأمر"، وهذا قوله: {وأنّ للكافرين عذاب النّار} تقع في مكانه "هذا"، وقال: {ذلكم وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين} كأنه على جواب من قال: "ما الأمر"؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: "ذلكم" كأنه قال: "ذلكم الأمر وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين" فحسن أن يقول: "ذلكم" و"هذا"، وتضمر الخبر أو تجعله خبر مضمر.
وقال: {إنّ لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى} لأنه يجوز أن تقول: "إنّ لك ذاك" و"هذا" وهذه الثلاثة الأحرف يجوز فيها كسر "إنّ" على الابتداء، {فنادته الملائكة.. أنّ اللّه يبشّرك} فيجوز أن تقول: "فنادته الملائكة بذاك" وإن شئت رفعته على الحكاية كأنه يقول: (فنادته الملائكة فقالت: "إنّ اللّه يبشّرك") لأنّ كلّ شيء بعد القول حكاية، تقول: (قلت: "عبد اللّه منطلقٌ") و(قلت: "إنّ عبد اللّه زيداً منطلقٌ") إلاّ في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظن، فذاك ينبغي [له] أن يفتح "أنّ".
وقال: {إنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً} فيزعمون أنّ هذا "ولأنّ هذه أمّتكم أمّةٌ واحدةٌ وأنا ربّكّم فاتّقون" يقول: "فاتّقون لأنّ هذه أمّتكم"، وهذا يحسن فيه كَذَاكَ، فإن قلت: "كيف تلحق اللام ولم تكن في الكلام"؟
فإن طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ من "أنّ" حسن ألا تراه يقول "أشهد أنّك صادقٌ" وإنّما هو "أشهد على ذلك".
وقال: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً} يقول: "فلا تدعوا مع الله أحدا لأنّ المساجد لله"، وفي هذا الإعراب ضعف، لأنه عمل فيه ما بعده، أضافه إليه بحرف الجر، ولو قلت "أنّك صالحٌ بلغني" لم يجز، وإن جاز في "ذلك"، لأنّ حرف الجر لما تقدم ضميره قوي، وقد قرئ مكسورا، قال بعضهم: إنّما هذا على {أوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ مّن الجنّ} و"أوحي إلي أنّ المساجد للّه" و"أوحي إليّ أنه لمّا قام عبد اللّه"، وقد قرئ {وأنّه تعالى جدّ ربّنا} ففتح كل "أن" يجوز فيه على الوحي، وقال بعضهم (وإنّه تعالى جدّ ربّنا) فكسروها من قول الجن، فلما صار بعد القول صار حكاية وكذاك ما بعده مما هو من كلام الجن.
وأما "إنّما" فإذا حسن مكانها "أنّ" فتحتها، وإذا لم تحسن كسرتها، قال: {إنّما أنا بشرٌ مّثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحدٌ} فالآخرة يحسن مكانها "أنّ" فتقول: "يوحى إليّ أنّ إلهكم إلهٌ واحد"، قال الشاعر:

أراني -ولا كفران للّه- إنّما = أواخي من الأقوام كلّ بخيل
لأنّه لا يحسن ههنا "أنّ" [فـ] لو قلت: "أراني أنما أواخي من الأقوام" لم يحسن. وقال:

أبلغ الحارث بن ظالم المو = عد والناذر النّذور عليّا
أنّما تقتل النّيام، ولا تقـ = ـتل يقظان ذا سلاحٍ كميّا
فحسن أن تقول: "أنّك تقتل النّيام".
وأمّا قوله عز وجل: {أيعدكم أنّكم إذا متٌّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مّخرجون} فالآخرة بدلٌ من الأولى.
وأمّا "إن" الخفيفة فتكون في معنى "ما" كقول الله عز وجل: {إن الكافرون إلاّ في غرورٍ} أي: ما الكافرون، وقال: {إن كان للرّحمن ولدٌ} أي: ما كان للرحمن ولد، {فأنا أول العابدين} من هذه الأمة للرّحمن، بنفي الولد عنه، أي: أنا أول العابدين بأنّه ليس للرحمن ولد، وقال بعضهم (فأنا أول العبدين) يقول: "أنا أول من يغضب من ادّعائكم للّه ولدا"، ويقول: "عبد يعبد عبدا" أي: غضب.
وقال: {وتظنّون إن لّبثتم إلاّ قليلاً} فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى "ما"، وكذلك {ولقد مكّناهم فيما إن مّكّنّاكم فيه} فـ"إن" بمنزلة "ما"، و"ما" التي قبلها بمنزلة "الذي"، ويكون للمجازاة نحو قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}، {وإن تعفوا وتصفحوا}، وتزاد "إن" مع "ما"، يقولون: "ما إن كان كذا وكذا" أي: "ما كان كذا وكذا"، و"ما إن هذا زيدٌ"، ولكنها تغير "ما" "فلا ينصب بها الخبر، وقال الشاعر:

وما إن طبنا جبنٌ ولكن = منايانا وطعمة آخرينا
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة، وهي مكسورة ولا تكون إلاّ وفي خبرها اللام، يقولون: "إن زيدٌ لمنطلقٌ" ولا يقولونه بغير لام مخافة أن تلتبس بالتي معناها "ما".
وقد زعموا أن بعضهم يقول: "إن زيداً لمنطلقٌ" يعملها على المعنى وهي مثل {إن كلّ نفسٍ لّمّا عليها حافظٌ} يقرأ بالنصب والرفع، و"ما" زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد وهي التي في قوله: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} ولكنها إنما وقعت على الفعل حين خففت كما تقع "لكن" على الفعل إذا خففت. ألا ترى أنك تقول: "لكن قد قال ذاك زيد" ولم يعرّوها من اللام في قوله: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} وعلى هذه اللغة فيما نرى -والله أعلم- {إن هذان لساحران} وقد شددها قوم فقالوا (إنّ هذان)، وهذا لا يكاد يعرف إلا أنهم يزعمون أن بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا فيقولون: "رأيت أخواك" و"رأيت الرجلان" و"أوضعته علاه" و"ذهبت إلاه" فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ، وزعم أبو زيد أنه سمع أعرابياً فصيحا من بلحارث يقول: "ضربت يداه" و"وضعته علاه" يريد: يديه وعليه. وقال بعضهم (إنّ هذين لساحران) وذلك خلاف الكتاب، قال الشاعر:

طاروا عليهن فشلٌ علاها
=
واشدد بمثنى حقبٍ حقواها
=
ناجيةً وناجياً أباها
وأمّا "أن" الخفيفة فتكون زائدةً مع "فلمّا" و"لمّا"، قال: {فلمّا أن جاء البشير} وإنما هي "فلمّا جاء البشير"، وقال: {ولمّا جاءت رسلنا} يقول "ولمّا جاءت"، وتزاد أيضاً مع "لو" يقولون: "أن لو جئتني كان خيراً لك" يقول "لو جئتني".
وتكون في معنى "أي" قال: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} يقول "أي امشوا".
وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله: {أن الحمد للّه} و{أنّ لعنة اللّه عليه} على قولك "أنه لعنة اللّه" و"أنه الحمد للّه"، وهذه بمنزلة قوله: {أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً} [و] {وحسبوا ألاّ تكون فتنةٌ} ولكن هذه إذا خففت وهي إلى جنب الفعل لم يحسن إلا "إن" معها "لا" حتى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار، ولا تعوض "لا" في قوله: {أن الحمد للّه} لأنها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم، وعوّضتها "لا" إذا كانت مع الفعل لأنهم أرادوا أن يبيّنوا أنها لا تعمل في هذا المكان وأنها ثقيلة في المعنى، وتكون "أن" الخفيفة تعمل في الفعل وتكون هي والفعل اسما للمصدر، نحو قوله: {على أن نّسوّي بنانه} إنما هي "على تسوية بنانه"). [معاني القرآن: 1/83-89]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({قست قلوبكم}: جفت وعست، و"عتتت" مثلها). [غريب القرآن وتفسيره: 74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ قست قلوبكم} أي: اشتدت وصلبت). [تفسير غريب القرآن: 55]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
تأويل {قست} في اللغة: غلظت ويبست وصلبت، فتأويل القسو في القلب: ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.
ومعنى {من بعد ذلك} أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها -فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزّ وجلّ ما يزيل كل شك- أن يلين قلبه ويخضع،
ويحتمل أن يكون {من بعد ذلك} من بعد إحياء الميت والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير، ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انبجاس الماء من حجر يحملونه معهم، وإنما جاز ذلك وهؤلاء الجماعة مخاطبون، ولم يقل "ذلكم" -ولو قال "ذلكم" كان جيدا- وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد "ذلك" وبعد "ذلكم"؛ لأن الجماعة تؤدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة.
وقوله عزّ وجلّ: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة} وقد روي (أو أشدَّ قسوة) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد بيناه، ودخول "أو" ههنا لغير معنى الشك، ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة، تقول: الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين، فلست بشاك، وإنما المعنى ههنا: هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم، فإن أخذته عن الحسن فأنت مصيب، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب، وإن أخذته عنهما جميعا فأنت مصيب، فالتأويل: اعلموا أن قلوب هؤلاء إن شبهتم قسوتها بالحجارة فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو.
وكذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا... أو كصيّب} أي: إن مثلتهم بالمستوقد فذلك مثلهم، وإن مثلتهم بالصيّب فهو لهم مثل، وقد شرحناه في مكانه شرحا شافيا كافيا إن شاء اللّه.
فمن قرأ {أشد قسوة} رفع أشد بإضمار "هي" كأنّه قال: أو هي أشد قسوة، ومن نصب (أو أشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف. ولكن "أشد" أفعل لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل، وهو نعت ففتح وهو في موضع جر.
ويجوز في قوله تعالى {فهي كالحجارة}: (فهْي كالحجارة) -بإسكان الهاء-، لأن الفاء مع هي قد جعلت الكلمة بمنزلة (فخذ)، فتحذف الكسرة استثقالا، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في "هي" الإسكان في الياء من (هي) ولا أعلم أحدا قرأ بها، وهي عندي لا يجوز إسكانها ولا إسكان الواو في هو، لا يجوز "هو ربكم" وقد روى الإسكان بعض النحويين وهو رديء لأن كل مضمر فحركته -إذا انفرد- الفتح، نحو (أنا ربكم)، فكما لا تسكن نون أنا لا تسكن هذه الواو.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار} بين عزّ وجلّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة، وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار، ومنها ما يشّقّق فيخرج منه الماء يعني: العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهارا، ومنها ما يهبط من خشية الله، فقالوا: إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللّه له حين كلم موسى عليه السلام، وقال قوم: إنها أثر الصنعة التي تدل على أنّها مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها وإنما الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزّ وجلّ: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه}، وكما قال: {ألم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّماوات}، ثم قال: {والنّجوم والجبال} فأعلم أن ذلك تمييز أراد اللّه منها، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب}، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره).
[معاني القرآن: 1/155-158]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({قست قلوبكم} أي: اشتدت وصلبت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({قَسَتْ}: صلبت). [العمدة في غريب القرآن: 79]


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:32 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 75 إلى 86]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

تفسير قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} هذه الألف ألف استخبار، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار والنهي إذا لم يكن معها نفي، كأنّه أيئسهم من الطمع في إيمان هذه الفرقة من اليهود، فإذا كان في أول الكلام نفي، فإنكار النفي تثبيت، نحو قوله عزّ وجلّ: {ألم يأتكم نذير * قالوا بلى}،
فجواب {أفتطمعون} "لا" كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه} يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللّه لموسى -عليه السلام- فحرفوه فقيل في هؤلاء الذين شاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كفروا وحرفوا، فلهم سابقة في كفرهم). [معاني القرآن: 1/158]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم...} هذا من قول اليهود لبعضهم؛ أي: لا تحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- في التوراة وأنتم لا تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم، {أفلا تعقلون}.
قال الله: {أولا يعلمون أنّ اللّه يعلم ما يسرّون وما يعلنون} هذا جوابهم من قول الله). [معاني القرآن: 1/50]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم} أي: بما منّ الله عليكم، وأعطاكم دونهم).[مجاز القرآن: 1/45]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون}
المعنى: أتخبرونهم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره موجود في كتابكم وصفته.
{ليحاجّوكم به عند ربّكم} أي: لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عليكم، إذ كنتم مقرّين به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللّه.
{أفلا تعقلون} أي: أفلا تعقلون حجة الله عليكم في هذا). [معاني القرآن: 1/158-189]

تفسير قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم...}
فـ"الأمانيّ " على وجهين في المعنى، ووجهين في العربية؛
فأما في العربية؛ فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول: "إلاّ أماني وإن هم" ومنهم من يشدّد، وهو أجود الوجهين.
وكذلك ما كان مثل "أمنيّة"، ومثل "أضحيّة"، و"أغنيّة"، ففي جمعه وجهان: التخفيف والتشديد، وإنما تشدّد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع الفعل والياء الأصلي، وإن خفّفت حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القراقير والقراقر، فمن قال (الأماني) بالتخفيف فهو الذي يقول القراقر، ومن شدّد (الأمانيّ) فهو الذي يقول القراقير.
والأمنيّة في المعنى: التلاوة، كقول الله عزّ وجلّ: {إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي: في تلاوته، والأمانيّ -أيضا-: أن يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة؛ قال بعض العرب لابن دأب وهو يحدّث الناس: أهذا شيء رويته أم شيء تمنّيته؟ يريد: افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله، وهذا أبين الوجهين). [معاني القرآن: 1/49-50]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم إلاّ يظنّون}
باب من الاستثناء.
{ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ} منصوبة لأنه مستثنى ليس من أول الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى "لكن" خارجا من أول الكلام إنما يريد "لكن أمانيّ" و"لكنّهم يتمنّون"، وإنما فسرناه بـ"لكن" لنبين خروجه من الأول، ألا ترى أنك إذا ذكرت "لكن" وجدت الكلام منقطعاً من أوله، ومثل ذلك في القرآن كثير [منه قوله عز وجل] {وما لأحدٍ عنده من نّعمةٍ تجزى * إلاّ ابتغاء وجه ربّه} وقال: {ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ} وقال: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً} يقول: "فهلاّ كان منهم من ينهى"، ثم قال: "ولكن قليلاً منهم من ينهى"، ثم قال "ولكن قليلٌ منهم قد نهوا"، فلما جاء مستثنى خارجاً من الأول انتصب، ومثله {فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس} يقول: "فهلاّ كانت"، ثم قال: "ولكنّ قوم يونس" فـ"إلا" تجيء في معنى "لكنّ"، وإذا عرفت أنها في معنى "لكنّ" فينبغي أن تعرف خروجها من أوله، وقد يكون {إلاّ قوم يونس} رفعا، تجعل "إلاّ" وما بعده في موضع صفة بمنزلة "غير" كأنه قال: "فهلا كانت قريةٌ آمنت غير قرية قوم يونس"، ومثلها {لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ اللّه لفسدتا} فقوله: {إلاّ اللّه} صفة [و] لولا ذلك لانتصب، لأنه مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام، وكل مستثنى مقدم يجوز إلقاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز إلقاؤه [فـ] لو قلت "لو كان فيهما آلهةٌ لفسدتا" جاز، فقد يجوز فيه النصب ويكون مثل قوله "ما مرّ بي أحدٌ إلاّ زيداً مثلك"، قال الشاعر فيما هو صفة:


أنيخت فألقت بلدةً فوق بلدةٍ = قليلٌ بها الأصوات إلاّ بغامها
وقال:

وكلّ أخٍ مفارقه أخوه = لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومثل المنصوب الذي في معنى "لكن" قول الله عز وجل: {وإن نّشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلاّ رحمةً مّنّا} وهو في الشعر كثير وفي الكلام، قال الفرزدق:

وما سجنوني غير أني ابن غالب = وأني من الأثرين غير الزعانف
يقول: "ولكنّني"، وهو مثل قولهم: "ما فيها أحدٌ إلا حماراً" لما كان ليس من أول الكلام جعل على معنى "لكنّ" ومثله:

ليس بيني وبين قيسٍ عتاب = غير طعن الكلا وضرب الرقاب
وقوله:

حلفت يميناً غير ذي مثنويّةٍ = ولا علم إلاّ حسن ظنٍّ بغايب
وبصاحب.
باب الجمع.
وأمّا تثقيل {الأمانيّ} فلأن واحدها "أمنيّة" مثقّل، وكلّ ما كان واحده مثقلا مثل: "بختيّة" و"بخاتيّ" فهو مثقّل، وقد قرأ بعضهم (إلاّ أماني) فخفف، وذلك جائز لأن الجمع على غير واحده وينقص منه ويزاد فيه، فأما "الأثافي" فكلّهم يخفّفها وواحدها "أثفيّة" مثقّلة، وإنما خففوها لأنهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز، ومثل تخفيف "الأماني" قولهم: "مفتاح" و"مفاتح" وفي "معطاء": "معاطٍ"،
قال الأخفش: قد سمعت بلعنبر تقول: "صحاري" و"معاطيّ" فتثقل.
وقوله: {وإن هم إلاّ يظنّون} أي: فماّ هم إلاّ يظنّون). [معاني القرآن: 1/89-91]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({الأماني} الأمنية في المعنى: التلاوة، ويقال للحديث: المفتعل، قيل لبعضهم في حديث: تمنيته أم حديث رويته؟ أي: افتعلته). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ} أي: لا يعلمون الكتاب إلّا أن يحدثهم كبراؤهم بشيء، فيقبلونه ويظنون أنه الحق وهو كذب، ومنه قول عثمان -رضي اللّه عنه-: «ما تغنّيت ولا تمنّيت» أي: ما اختلقت الباطل.
وتكون الأمانيّ: التّلاوة، قال اللّه عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} يريد: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
يقول: فهم لا يعلمون الكتاب إلّا تلاوة ولا يعلمون به، وليسوا كمن يتلوه حقّ تلاوته، فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه).
[تفسير غريب القرآن:55-56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ وإن هم إلّا يظنّون}
معنى "الأمّي" في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلّة أمّته، أي: لا يكتب فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه، وارتفع {أمّيّون} بالابتداء و{منهم} الخبر، ومن قول الأخفش يرتفع {أمّيّون} بفعل "هم"، كان المعنى: واستقر منهم أمّيّون.
ومعنى {إلّا أمانيّ} قال الناس في معناه قولين:
قالوا: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، كما قال عزّ وجلّ: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقد قيل: الأماني أكاذيب العرب، تقول أنت إنما تتمنى هذا القول، أي: تختلقه.
ويجوز أن يكون أماني منسوبا إلى القائل إذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه، وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حقيقة له وهو يحبه: هذا منى، وهذه أمنية.
وفي لفظ أماني وجهان:
العرب تقول هذه أمان وأمانيّ يا هذا، بالتشديد والتخفيف، فمن قال (أمانيّ) بالتشديد فهو مثل أحدوثة وأحاديث، وقرقورة وقراقير، ومن قال (أمان) بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياء.
والعرب تقول في أثفية أثافيّ وأثاف، والتخفيف أكثر لكثرة استعمالهم أثاف، والأثافي: الأحجار التي تجعل تحت القدر). [معاني القرآن: 1/159-190]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"الأماني": التلاوة). [ياقوتة الصراط: 175]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({إلا أماني} إلا أباطيل وأكاذيب، قال عثمان رضي الله عنه: "ما تمنيت منذ أسلمت" أي: ما كذبت.
أي: لا يعلمون الكتاب إلا أن يحدثهم كبراؤهم بشيء فيقبلونه ويظنون أنه الحق وهو باطل كذب.
(الأماني) في غير هذه: التلاوة، وكقوله تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي: تلاوته). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("الأمنية": التلاوة). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({فويلٌ لّلّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لّهم مّمّا كتبت أيديهم وويلٌ لّهم مّمّا يكسبون}
{فويلٌ لّلّذين يكتبون الكتاب} يرفع "الويل" لأنه اسم مبتدأ جعل ما بعده خبره، وكذلك "الويح و"الويل" و"الويس" إذا كانت بعدهنّ هذه اللام ترفعهن، وأما "التعس" و"البعد" وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أنّ كل ما كان من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام فهو رفع باللام، ونصب بغير لام، نحو: {ويلٌ لّلمطفّفين} و"ويلٌ لزيدٍ"، ولو ألقيت اللام قلت: "ويل زيدٍ" و"ويح زيدٍ" و"ويس زيدٍ"، فقد حسنت إضافته بغير لام فلذلك رفعته باللام مثل: {ويلٌ يومئذٍ لّلمكذّبين}.
وأما قوله: {ألا بعداً لّمدين} و{ألا بعداً لّثمود} و{والّذين كفروا فتعساً لّهم} فهذا لا تحسن إضافته بغير لام، ولو قلت: "تعسهم" أو "بعدهم" لم يحسن، وانتصاب هذا كله بالفعل، كأنك قلت: "أتعسهم اللّه تعساً" و"أبعدهم اللّه بعدا"، وإذا قلت: "ويل زيدٍ" فكأنك قلت: "ألزمه اللّه الويل"، وأما رفعك إياه باللام؛ فإنما كان لأنك جعلت ذلك واقعا واجبا لهم في الاستحقاق، ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم على ضمير الفعل وهو قياس حسن، فيقولون: "ويلاً لزيد" و"ويحاً لزيد"، قال الشاعر:

كسا اللؤم تيماً خضرةً في جلودها = فويلاً لتيمٍ من سرابيلها الخضر
قال الأخفش: "حدثني عيسى بن عمر أنه سمع الأعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب، قال أبو زبيد:

أغار وأقوى ذات يومٍ وخيبةٌ = لأوّل من يلقى غيٌ ميسّر
باب اللام.
وقوله: {ليشتروا به ثمناً قليلاً} فهذه اللام إذا كانت في معنى "كي" كان ما بعدها نصبا على ضمير "أن"، وكذلك المنتصب بـ"كي" هو أيضاً على ضمير "أن" كأنه يقول: "الاشتراء"، فـ"يشتروا" لا يكون اسما إلا بـ"أن"، فـ"أن" مضمرة وهي الناصبة وهي في موضع جر باللام. وكذلك {كي لا يكون دولةً} "أن" مضمرة وقد جرتها "كي"، وقالوا: "كيمه" فـ"مه" اسم لأنه "ما" التي في الاستفهام وأضاف "كي" إليها، وقد تكون "كي" بمنزلة "أن" هي الناصبة وذلك قوله: {لّكيلا تأسوا} فأوقع عليها اللام، ولو لم تكن "كي" وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام وكذلك ما انتصب بعد "حتّى" إنّما انتصب بمضمر "أن" قال: {حتّى يأتي وعد اللّه} و{حتّى تتّبع ملّتهم} إنّما هو "حتّى أن يأتي " و"حتّى أن تتّبع"، وكذلك جميع ما في القرآن من "حتّى"، وكذلك {وزلزلوا حتّى يقول الرّسول} أي: "حتّى أن يقول"، لأنّ "حتّى" في معنى "إلىّ"، تقول "أقمنا حتّى الليل" أي: "إلى اللّيل".
فإن قيل: إظهار "أن" ههنا قبيح؛ قلت: "قد تضمر أشياء يقبح إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها"، ألا ترى أنّ قولك: "إن زيداً ضربته" منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن، وقد قرئت هذه الآية (وزلزلوا حتّى يقولُ الرّسولُ) يريد: "حتّى الرّسول قائلٌ"، جعل ما بعد "حتّى" مبتدأ، وقد يكون ذلك نحو قولك: "سرت حتّى أدخلها" إذا أردت: "سرت فإذا أنا داخلٌ فيها"، و"سرت أمس حتّى أدخلها اليوم" أي: حتّى "أنا اليوم أدخلها فلا أمنع"، وإذا كان غاية للسير نصبته، وكذلك ما لم يجب مما يقع عليه "حتّى" نحو: {لا أبرح حتّى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقباً}.
وأما {ولن يخلف اللّه وعده} فنصب بـ"لن" كما نصب بـ"أن"، وقال بعضهم: إنما هي "أن" جعلت "لا" كأنه يريد "لا أن يخلف اللّه وعده" فلما كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميع "لن" في القرآن.
وينبغي لمن قال ذلك القول أن يرفع "أزيدٌ لن تضرب" لأنه في معنى "أزيد لا ضرب له"، وكذلك ما نصب بـ"إذن" تقول: "إذن آتيك" تنصب بها كما تنصب بـ"أن" وبـ"لن" فإذا كان قبلها الفاء أو الواو رفعت نحو قول الله عز وجل: {وإذاً لاّ تمتّعون إلاّ قليلاً} وقال: {فإذاً لاّ يؤتون النّاس نقيراً} وقد يكون هذا نصبا أيضاً عنده على إعمال "إذن"، وزعموا أنّه في بعض القراءة منصوب؛ وإنّما رفع لأنّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو ولم يحمل على "إذن"، فكأنه قال: "فلا يؤتون الناس إذا نقيرا" [و] "ولا تمتّعون إذن"، وقوله: {لّئلاّ يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيءٍ} [و] {وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ} و{أن لا يرجع إليهم قولاً} فارتفع الفعل بعد "أن لا" لأنّ ["أن"] هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خففت وجعل الاسم فيها مضمرا، والدليل على ذلك أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل، ألا ترى أنّك تقول "أفلا يرون أنّه لا يرجع إليهم"، وتقول: "أنّهم لا يقدرون على شيء" [و] "أنّه لا تكون فتنة". وقال: {آيتك أن لا تكلّم الناس} نصب لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنما هو {آيتك أن لا تكلّم} كما تقول: (آيتك أن تكلّم) وأدخلت "لا" للمعنى الذي أريد من النفي، ولو رفعت هذا جاز على معنى (آيتك أنك لا تكلم)، ولو نصب الآخر جاز على أن تجعلها "أن" الخفيفة التي تعمل في الأفعال، ومثل ذلك {إنّه ظنّ أن لّن يحور} وقال: {تظنّ أن يفعل بها فاقرةٌ} وقال: {إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} وتقول: "علمت أن لا تكرّمني" و"حسبت أن لا تكرمني"، فهذا مثل ما ذكرت لك، فإنما صار "علمت" و"استيقنت" ما بعده رفع لأنه واجب، فلما كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده "أن" التي تعمل في الأفعال، لأن تلك إنما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول "أريد أن تأتيني" فلا يكون هذا إلا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنه، وأما "خشيت أن لا تكرمني" فهذا لم يقع، ففي مثل هذا تعمل "أن" الخفيفة، ولو رفعته على أمر قد استقر عندك وعرفته كأنك جريته فكان لا يكرمك فقلت: "خشيت أن لا تكرمني" أي: "خشيت أنّك لا تكرمني" جاز.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان "كي" وأنشدوا هذا البيت، فزعم أنه سمعه مفتوحا:

يؤامرني ربيعة كلّ يومٍ = لأهلكه وأقتني الدّجاجا
وزعم خلف أنها لغة لبني العنبر وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا:

فقلت لكلبيّي قضاعة إنّما = تخبّر تماني أهل فلجٍ لأمنعا
يريد "من أهل فلجٍ".
وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أن أصل اللام الفتح وإنما كسرت في الإضافة ليفرق بينها وبين لام الابتداء.
وزعم أبو عبيدة أنه سمع لام "لعلّ" مفتوحة في لغة من يجرّبها ما بعدها في قول الشاعر:

لعلّ اللّه يمكنني عليها = جهاراً من زهيرٍ أو أسيد
يريد "لعلّ عبد اللّه" فهذه اللام مكسورة لأنها لام إضافة.
وقد زعم أنه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام "كي"، وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد "كيما" وأنشد:

إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما = يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع
فهذا جعل "ما" اسما وجعل "يضرّ" و"ينفع" من صلته جعله اسما للفعل وأوقع "كي" عليه وجعل "كي" بمنزلة اللام.
وقوله: {ألم يعلموا أنّه من يحادد اللّه ورسوله فأنّ له نار جهنّم}، وقوله: {أنّه من عمل منكم سوءًا بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفورٌ رّحيمٌ} فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة "ما" ويكون الذي بعد الفاء بدلا من "أن" التي قبلها، وأجوده أن تكسر "إن" وأن تجعل الفاء جواب المجازاة، وزعموا أنهم يقولون "أخوك فوجد" "بل أخوك فجهد" يريدون "أخوك وجد" و"بل أخوك جهد" فيزيدون الفاء، وقد فسر الحسن {حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها} على حذف الواو، وقال: "معناها: قال لهم خزنتها"، فالواو في هذا زائدة، قال الشاعر:

فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن = إلاّ كلمّة حالمٍ بخيال
وقال:

فإذا وذلك ليس إلاّ حينه = وإذا مضى شيءٌ كأن لم يفعل
كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير). [معاني القرآن: 1/92-96]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه} أي: يزيدون في كتب اللّه ما ليس منها، لينالوا بذلك غرضا حقيرا من الدنيا). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون}
"الويل" في اللغة: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصله في العذاب والهلاك، وارتفع "ويل" بالابتداء، وخبره {للّذين}، ولو كان في غير القرآن لجاز (فويلا للذين) على معنى: جعل الله ويلا للذين، والرفع على معنى: ثبوت الويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا.
يقال: إن هذا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كتبوا صفته على غير ما كانت عليه في التوراة،
ويقال في التفسير: إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة، فبدّلوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك، لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا). [معاني القرآن: 1/160]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {إلاّ أيّاماً مّعدودةً...}
يقال: كيف جاز في الكلام: لآتينك أياما معدودة، ولم يبين عددها؟
وذلك أنهم نووا الأيام التي عبدوا فيها العجل، فقالوا: لن نعذّب في النار إلا تلك الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل، فلما كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بـ"معدودة" و"معدودات"، فقال الله: قل يا محمد: هل عندكم من الله عهدٌ بهذا الذي قلتم {أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون}). [معاني القرآن: 1/50]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({اتخذتم عند الله عهداً} أي: وعداً، والميثاق: العهد يوثق له). [مجاز القرآن: 1/45]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({عند الله عهدا} أي: وعدا). [غريب القرآن وتفسيره: 74]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وقالوا لن تمسّنا النّار إلّا أيّاماً معدودةً} قالوا: إنما نعذّب أربعين يوما قدر ما عبد أصحابنا العجل.
{قل أتّخذتم عند اللّه عهداً} أي أتخذتم بذلك من اللّه وعدا؟). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة قل أتّخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون}
{تمسنا} نصب بـ{لن}، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ"لن".
فروي عن الخليل قولان؛
أحدهما: أنها نصبت كما نصبت "أن" وليس ما بعدها بصلة لها، لأن "لن يفعل"، نفي "سيفعل" فقدم ما بعدها عليها، نحو قولك: زيدا لن أضرب، كما تقول: زيدا لم أضرب،
وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل أنه قال: الأصل في "لن": "لا أن"، ولكن الحذف وقع استخفافا، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، لو كان كذلك لم يجز (زيدا لن أضرب)، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين، وقد حكى هشام عن الكسائي في "لن" مثل هذا القول الشاذ عن الخليل، ولم يأخذ به سيبويه ولا أصحابه.
ومعنى {أيّاما معدودة} قالوا: إنّما نعذّب لأننا عبدنا العجل أياما، قيل في عددها قولان، قيل: سبعة أيام، وقيل: أربعون يوما، وهذه الحكاية عن اليهود، هم الذين قالوا: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}.
وقوله عزّ وجلّ: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدا} بقطع الألف هي تقرأ على ضربين: {أتخذتم} بتبيين الذال، و(اتختم) بإدغام الذال في التاء، والألف قطع لأنها ألف استفهام وتقرير.
وقوله عزّ وجلّ: {عند اللّه عهدا} المعنى: عهد اللّه إليكم في أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار.
وقوله عزّ وجلّ: {فلن يخلف اللّه عهده} أي: إن كان لكم عهد فلن يخلفه اللّه، {أم تقولون على الله ما لا تعلمون}). [معاني القرآن: 1/160-161]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({إلا أياما معدودة} قالوا: نعذب قدر ما عبدنا العجل، أربعين يوما.
وقيل: قالوا: إنما نعذب سبعة أيام، لكل ألف سنة من سني الدنيا يوم، وعمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({عَهْداً}: وعدا). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {بلى من كسب سيّئةً...}
وضعت "بلى" لكل إقرار في أوّله جحد، ووضعت "نعم" للاستفهام الذي لا جحد فيه، فـ"بلى" بمنزلة "نعم" إلا أنها لا تكون إلاّ لما في أوّله جحد؛ قال الله تبارك وتعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً قالوا نعم} فـ"بلى" لا تصلح في هذا الموضع.
وأما الجحد فقوله: {ألم يأتكم نذيرٌ. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ} ولا تصلح ها هنا "نعم" أداة؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب بـ "نعم" و"لا" ما لم يكن فيه جحدٌ، فإذا دخل الجحد في الاستفهام لم يستقم أن تقول فيه "نعم" فتكون كأنك مقرٌّ بالجحد وبالفعل الذي بعده؛ ألا ترى أنّك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت: "نعم" كنت مقرّاً بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت :"نعم مالي مالٌ"، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما بعده فاختاروا "بلى" لأنّ أصلها كان رجوعا محضاً عن الجحد إذا قالوا: ما قال عبد الله بل زيدٌ، فكانت "بل" كلمة عطف ورجوع لا يصلح الوقوف عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فقالوا: "بلى"، فدلّت على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ "بل" على الرجوع عن الجحد فقط). [معاني القرآن: 1/52-53]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ثم قال عزّ وجلّ: {بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} ردا لقولهم: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}.
وقوله عزّ وجلّ: {وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} فألحق في هذه الآية، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزّ وجلّ في ذكرهم،
وقد قيل: {من كسب سيئة}: الشرك باللّه، {وأحاطت به خطيئته}: الكبائر، والذي جرى في هذه الأقاصيص إنما هو إخبار عن اليهود).
[معاني القرآن: 1/162]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه...}
رفعت {تعبدون} لأنّ دخول "أن" يصلح فيها، فلمّا حذف الناصب رفعت، كما قال الله: {أفغير اللّه تأمرونّي أعبد} (قرأ الآية)، وكما قال: {ولا تمنن تستكثر}، وفي قراءة عبد الله "ولا تمنن أن تستكثر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت، وفي قراءة أبيّ: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا" ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين، ألا ترى أنه قد قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون في الكلام أن تقول: واللّه قم، ولا أن تقول: والله لا تقم، ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وقولوا للنّاس حسناً} كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا، وإن شئت جعلت {لا تعبدون} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد.
وإنّما جاز أن تقول (لا يعبدون) و(لا تعبدون) وهم غيّبٌ، كما قال: "قل للّذين كفروا سيغلبون" و"ستغلبون" بالياء والتاء؛ "سيغلبون" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين، وكذلك قولك: استحلفت عبد الله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفته لتقومنّ، لأني قد كنت خاطبته، ويجوز في هذا: استحلفت عبد الله لأقومنّ؛ أي: قلت له احلف لأقومنّ، كقولك: قل لأقومنّ، فإذا قلت: استحلفت، فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك: حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم، وحلف عبد الله لأقومنّ؛ لأنهّ كقولك: قال لأقومنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلفٌ سقط الخطاب.
وقوله: {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّننّه وأهله} فيها ثلاثة أوجهٍ: "لتبيّتنّه" و"ليبيّتنّه" و"لنبيّتنّه" بالتاء والياء والنون، إذا جعلت "تقاسموا" على وجه فعلوا، فإذا جعلتها في موضع جزمٍ قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنكّ تقول للرجل: احلف لتقومنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ، ولا يجوز أن تقول للرّجل: احلف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما في اليمين). [معاني القرآن: 1/53-45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً مّنكم وأنتم مّعرضون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} وقوله: {وبالوالدين إحساناً} فجعله أمراً، كأنّه يقول: "وإحساناً بالوالدين" أي: "أحسنوا إحسانا".
وقال: {وقولوا للنّاس حسناً} فهو على أحد وجهين؛ إمّا أن يكون يراد بـ"الحُسْنِ": "الحَسَنُ" كما تقول: "البَخَل" و"البُخْل"، وإمّا أن يكون جعل "الحُسْن" هو "الحَسَن" في التشبيه كما تقول: "إنّما أنت أكلٌ وشربٌ"، قال الشاعر:

وخيلٍ قد دلفتٌ لها بخيلٍ = تحيّة بينهم ضربٌ وجيعٌ
"دلفت": "قصدت" فجعل التحية ضربا، وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن.
وقد قرأها بعضهم (حَسَنًا) يريد: "قولوا لهم حسناً"، وقال بعضهم (قولوا للناس حسنى) يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا "الحسنى" لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتلكم بتذكيرها إلا بالألف واللام [فـ] لو قلت: "جاءني أحسن وأطول" لم يحسن حتّى تقول: "جاءني الأحسن والأطول" فكذلك هذا يقول: "جاءتني الحسنى والطولى"، إلاّ أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو "دنيا" و"أولى"، قال الراجز:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت
ويقولون: "هي خيرة النساء" ["هنّ خيرات النّساء"] لا يكادون يفردونه وإفراده جائز، وفي كتاب الله عز وجل: {فيهنّ خيراتٌ حسان} وذلك أنه لم يرد "أفعل" وإنما أراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال: "فلان خيرٌ" أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ثم قال: {وقولوا للنّاس حسناً} ثم قال: {ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم} فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير، قال الشاعر:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ = لدينا ولا مقليةٌ إن تقلّب
وإنما يريدون: "تقلّيت"، وقال الآخر:

شطّت مزار العاشقين فأصبحت = عسراً عليّ طلابك ابنةٌ مخرم
إنّما أراد: "فأصبحت ابنة مخرمٍ عسراً على طلابها"، وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: "شطّت مزار العاشقين" كأنه قال: "شططت مزار العاشقين" لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام، ومثله مما يخرج من أوله قوله:
إنّ تميماً خلقت ملموما
فأراد القبيلة بقوله: "خلقت" ثم قال "ملموما" على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما
ثم قال:
قوماً ترى واحدهم صهميما
فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي، ثم قال:
لا راحم الناس ولا مرحوما
وقال الشاعر:

أقول له والرمح يأطرمتنه = تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
و "تبيّن خفافاً"، يريد: "أنا هو"، وفي كتاب الله عز وجل: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى، وقال الأسود:

وجفنةٍ كإزاء الحوض مترعةٍ = ترى جوانبها بالشّحم مفتونا
فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام، وقوله "مأطر متنه" يثنى متنه. وكذلك {الحمد للّه ربّ العالمين} ثم قال: {إيّاك نعبد} لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب، قال رؤبة:

الحمد للّه الأعزّ الأجلل = أنت مليك الناس ربّاً فاقبل
وقال زهير:

فإنّي لو ألاقيك اجتهدنا = وكان لكلّ منكرةٍ كفاء
فأبرئ موضحات الرأس منه = وقد يشفى من الجرب الهناء
وقال الله تبارك وتعالى: {ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون} فذكّر بعد التأنيث، كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون، ومثله {فلماّ رأى الشّمس بازغةً قال هذا ربّي هذا أكبر فلمّا أفلت} فيكون هذا على: الذي أرى ربّي، أي: هذا الشيء ربي، وهذا يشبه قول المفسرين {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} قال: إنّما دخلت "إلى" لأن معنى "الرفث" و"الإفضاء" واحد، فكأنه قال: "الإفضاء إلى نسائكم"، وإنما يقال: "رفث بامرأته" ولا يقال: "إلى امرأته"، وذا عندي كنحو ما يجوز من "إلى" في مكان "الباء" ، في مكانها، وفي مكان "على" في قوله: {فأثابكم غمّاً بغمٍّ} إنما هو "غمّاً على غمٍّ" [وقوله] {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ} أي: "على قنطارٍ"، كما تقول: "مررت به" و"مررت عليه"، كما قال الشاعر -وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب-:

إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ = لعمر اللّه أعجبني رضاها
يريد: "عنى"، وذا يشبه {وإذا خلوا إلى شياطينهم} لأنك تقول: "خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا" و"خلوت به"، وإن شئت جعلتها في معنى قوله: {من أنصاري إلى اللّه} أي: "مع اللّه"، وكما قال: {ونصرناه من القوم} أي: "على القوم"). [معاني القرآن: 1/97-100]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): (و"الميثاق": العهد). [غريب القرآن وتفسيره: 75]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه} أمرناهم بذلك فقبلوه، وهو أخذ الميثاق عليهم.
{وبالوالدين إحساناً} أي: وصّيناهم بالوالدين إحسانا، مختصر كما قال: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً} أي: ووصى بالوالدين). [تفسير غريب القرآن: 56]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم وأنتم معرضون} القراءة على ضربين، (تعبدون) و(يعبدون) بالياء والتاء، وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: (لا تعبدوا).
ورفع {لا تعبدون} -بالتاء- على ضربين، على أن يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} فجاء جواب القسم باللام فكذلك هو بالنفي بـ"لا"، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط "أن" على معنى "ألا تعبدوا" فلما سقطت "أن" رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيره من النحويين،
فأما القراءة بالتاء؛ فعلى معنى الخطاب والحكاية، كأنّه قيل: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأمّا (لا يعبدون) بالياء فإنهم غيب، وعلامة الغائب الياء.
ومعنى "أخذ الميثاق والعهد" قد بيّناه قبل هذا الموضع.
وقوله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسانا} نصب على معنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، بدل من اللفظ (أحسنوا).
{وذي القربى واليتامى}: جمع على فعالى، كما جمع أسير على أسارى، يقال: يَتِم يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا إذا فقد أباه، هذا للإنسان فأمّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد، عن الرياشي، عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم،
{والمساكين} مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنّه قد أسكنه الفقر.
وقوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنا} فيها ثلاثة أقوال:
(حسْنًا) بالتنوين وإسكان السين، و(حسَنًا) بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش (حسنى) غير منون.
فأما الوجهان الأولان؛ فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما "حسنى" فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفضلى، لا يستعمل إلا بالألف واللام، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى} وقال: {للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
وفي قوله {حسنا} بالتنوين قولان:
المعنى: قولوا للناس قولا ذا حسن، وزعم الأخفش أنّه يجوز أن يكون (حُسْنًا) في معنى (حَسَنًا)، فأمّا (حُسْنًا) فصفة، المعنى: قولا حسنا،
وتفسير: {قولوا للناس حسنا} مخاطبة لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم} يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق،
وقوله {وأنتم معرضون} أي: وأنتم -أيضا- كأوائلكم في الإعراض عمّا عهد إليكم فيه،
ونصب {إلّا قليلا} على الاستثناء، والمعنى: استثني قليلا منكم). [معاني القرآن: 1/162-164]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("المِيثَاقَ": العهد). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا تسفكون دماءكم} سفك دمه: أي صبّ دمه، كما يسفح نحي السمن: يهريقه).
[مجاز القرآن: 1/45]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم مّن دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}
[وقوله] {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} فرفع هذا، لأنه كلّ ما كان من الفعل على "يفعل هو" و"تفعل أنت" و"أفعلٌ أنا" و"نفعل نحن" فهو أبداً مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة، وليس شيء من ذلك ههنا وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء، ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: "استحلفناهم لا يعبدون" أي: قلنا لهم: "واللّه لا تعبدون"، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) و{تعبدون}.
قال: {وحفظاً مّن كلّ شيطان مّاردٍ * لاّ يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون} فإن شئت جعلت "لا يسّمّعون" مبتدأ، وإن شئت قلت: هو في معنى "أن لا لا يسّمّعوا" فلما حذفت "أن" ارتفع، كما تقول: "أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي"، ومثله: "مره يعطيني" إن شئت جعلته على "فهو يعطيني"، وإن شئت على "أن يعطيني"، فلما ألقيت "أن" ارتفع، قال الشاعر:

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغي = وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي
فـ"أحضر" في معنى "أن أحضر"). [معاني القرآن: 1/100-101]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض.
{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره ويغلبه عليها.
{ثمّ أقررتم} أي: ثمّ قبلتم ذلك وأقررتم به.
{وأنتم تشهدون} على ذلك). [تفسير غريب القرآن:56-57]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقال: سفكت الدم أسفكه سفكا إذا صببته، ورفع {لا تسفكون} على القسم، وعلى حذف "أن" كما وصفنا في قوله: {لا تعبدون}، ومثل حذف "أن" قول طرفة:

ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى= وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وواحد الدماء دم -يا هذا- مخفف، وأصله "دمى" في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:

فلو أنّا على حجر ذبحنا= جرى الدّميان بالخبر اليقين
وقال قوم: أصله "دمي" إلا إنّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
وقوله عز وجل: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} عطف على {لا تسفكون دماءكم}.
وقوله: {ثم أقررتم} أي: اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق).
[معاني القرآن: 1/164-165]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دماء بعض، وكذلك {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم...}
إن شئت جعلت {هو} كناية عن الإخراج، {وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم} أي: وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حال بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بـ{محرم}؛ كما قال الله جل وعزّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فالمعنى -والله أعلم-: ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد في الظّنّ لأنّه ناصب، وفي "كان" و"ليس" لأنهما يرفعان، وفي "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصبن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ،
قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح في ذلك العماد؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ .
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم، وأنشدني بعض العرب:

فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته = على العيس في آباطها عرقٌ يبس
بأنّ السّلامي الذي بضريّةٍ = أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ = فهل هو مرفوعٌ بما ها هنا رأس
فجعل مع "هل" العماد وهي لا ترفع ولا تنصب؛ لأن "هل" تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا"، تقول: ما هو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد). [معاني القرآن: 1/50-52]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ الّعذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) فجعلها من "تتظاهرون" وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ، وقد قرئت {تظاهرون} مخففة بحذف التاء الآخرة لأنّها زائدة لغير معنى، وقال: (وإن يأتوكم أسرى) وقرئت {أسارى}، وذلك لأن "أسير" "فعيل"، وهو يشبه "مريضاً" لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا "فعيل" مثله، وقد قالوا في جماعة "المريض": "مرضى"، وقالوا: "أسارى" فجعلوها مثل "سكارى" و"كسالى"، لأنّ جمع "فعلان" الذي به علة قد يشارك جمع "فعيل" وجمع "فعل" نحو: "حبطٌ" و"حبطى" و"حباطى" و"حبجٌ" و"حبجى" و"حباجى"، وقد قالوا: "أسارى" كما قالوا: "سكارى".
وقال بعضهم: (تفدوهم) من "تفدى"، وبعضهم: {تفادوهم} من "فادى" يفادي" وبها نقرأ، وكل ذلك صواب.
وقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ}، وقال: {ما هذا إلاّ بشرٌ مّثلكم} و{وما أمرنا إلاّ واحدةٌ} رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر "ما" فهو رفع، لأن "ما" لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى "ليس" لا يشركها معه شيء، وذلك قول الله عز وجل: {ما هذا بشراً}، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا "ما" بالفعل.
وقال: {ثمّ أنتم هؤلاء} وفي موضع آخر {ها أنتم هؤلاء} كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا، وتقول: "ها أنا هذا" و"ها أنت هذا" فتجعل "هذا" للذي يخاطب، وتقول: "هذا أنت"، وقد جاء أشد من ذا، قال الله عز وجل: {ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة} والعصبة هي تنوء بالمفاتيح، قال:

تنوء بها فتثقلها = عجيزتها......
يريد: "تنوء بعجزيتها"، أي: "لا تقوم إلا جهدا بعد جهد"، قال الشاعر:

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت = نجران أو بلغت سوآتهم هجر
وهو يريد أن السوآت بلغت هجراً، و"هجر" رفعٌ لأنّ القصيدة مرفوعة، ومثل ذا قول الشاعر:

وتلحق خيلٌ لا هوادة بينها = وتشقى الرّماح بالضياطرة الحمر
والضياطرة هم يشقون بالرماح، و"الضياطرة" هم العظام وواحدهم "ضيطار" مثل "بيطار"، ومثل قول الشاعر:

لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي = على وعلٍ بذي الفقارة عاقل
يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي). [معاني القرآن: 1/101-103]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقد بينت معنى هذه الآية في المشكل.
{تظاهرون}: تعاونون، والتّظاهر: التعاون، ومنه قوله: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه} أي: تعاونا عليه، و"اللّه ظهير" أي: عون. وأصل التّظاهر من الظّهر، فكأنّ التظاهر: أن يجعل كلّ واحد من الرجلين أو من القوم، الآخر له ظهرا يتقوّى به ويستند إليه).
[تفسير غريب القرآن: 57]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
{ثم أنتم هؤلاء} الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم وهذا نقض عهدهم
وقوله عزّ وجلّ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قرئت بالتخفيف والتشديد، {تظاهرون} و(تظّاهرون)، فمن قرأ بالتشديد؛ فالأصل فيه (تتظاهرون) فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف؛ فالأصل فيه -أيضا- (تتظاهرون) فحذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين.
وتفسير {تظاهرون}: تتعاونون، يقال: قد ظاهر فلان فلانا إذا عاونه، منه قوله {وكان الكافر على ربه ظهيرا} أي: معينا.
وقوله عزّ وجلّ: {بالإثم والعدوان} العدوان: الإفراط في الظلم؛ ويقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، هذا كله معناه: المجاوزة في الظلم. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعدوا في السّبت} إنما هو من هذا، أي: لا تظلموا فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} القراءة في هذا على وجوه:
(أسرى تَفْدوهم) و(أسرى تُفَادوهم)، و(أُسَارى تفادوهم)، ويجوز (أَسَارى) ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع "فُعالى".
أعلم الله مناقضتهم في كتابه وأنه قد حرّم عليهم قتلهم وإخراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونهم إذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبّخهم فقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا} يعني: ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا إلى الشام،
و(بني) قريظة أبيدوا -حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذراري- فقال الله عزّ وجلّ: {ذلك لهم خزي في الدّنيا}، ولغيرهم من سائر الكفار: الخزي في الدنيا: القتل وأخذ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك غير مكفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم، فقال: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.
ومعنى {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}
{هؤلاء} في معنى "الذين"، و{تقتلون} صلة لـ{هؤلاء}، كقولك: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثله قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى}.
وقوله عزّ وجلّ: {وهو محرم عليكم إخراجهم}
{هو} على ضربين:
جائز أن يكون بإضمار الإخراج الذي تقدم ذكره، قال: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ... وهو محرم عليكم إخراجهم}، ثم بين -لتراخي الكلام- أن ذلك الذي حرم الإخراج.
وجائز أن يكون للقصة والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إخراجهم، كما قال عزّ وجلّ: {قل هو اللّه أحد} أي: الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزّ وجلّ .
{خزي} يقال في الشر والسوء: خزي الرجل خزيا، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية.
ومعنى {يردون إلى أشد العذاب}، و{عذاب عظيم}، و{عذاب أليم} أن العذاب على ضربين، على قدر المعاصي.
والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلّا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} فهذه النار الموصوفة ههنا لا يدخلها إلا الكفار). [معاني القرآن: 1/165-168]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{تظاهرون}: تعاونون). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{الخزي}: المباعدة من الخير). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تظاهرون} أي: تعاونون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تَظَاهَرُونَ}: تعاونون). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من87 إلى 91]

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وقفّينا} أي: أردفنا من يقفوه.
{وأيّدناه بروح القدس} أي: شدّدناه وقوّيناه، ورجل ذو أيد وذو آد: أي قوة، والله تبارك وتعالى ذو الأيد، قال العجاج:

من أن تبدّلت بآدى آدا
{والسّماء بنيناها بأيدٍ} أي: بقوة). [مجاز القرآن: 1/45-46]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وقفينا}: أردفنا، من قفا أثره يقفو.
{وأيدناه}: قويناه، يقال: رجل ذو أيد، ومنه {والسماء بنيناها بأيد} أي: بقوة). [غريب القرآن وتفسيره: 75]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وقفّينا من بعده بالرّسل} أي: أتبعناه بهم وأردفناه إيّاهم، وهو من القفا مأخوذ، ومنه يقال: "قفوت الرجل" إذا سرت في أثره). [تفسير غريب القرآن: 57]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذّبتم وفريقا تقتلون}
{ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني: التوراة.
وقوله {وقفّينا من بعده بالرّسل} أي: أرسلنا رسولا يقفو رسولا في دعائه إلى توحيد اللّه والقيام بشرائع دينه، يقال من ذلك: "فلان يقفو فلانا" إذا أتبعه.
وقوله عزّ وجلّ: {وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات}
معنى {آتينا}: أعطينا، ومعنى {البيّنات}: الآيات التي يعجز عنها المخلوقون مما أعطيه عيسى -صلى الله عليه وسلم- من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص.
وقوله عزّ وجلّ: {وأيّدناه بروح القدس}
معني "أيّدنا" في اللغة: قوينا وشددنا، قال الشاعر:
من أن تبدّلت بآد آدا
يريد :من أن تبدلت بأيد آدا، يريد بقوة قوة الأد والأيد القوة.
وقوله عزّ وجلّ {بروح القدس} "روح القدس": جبريل عليه السلام، و"القدس": الطهارة، وقد بيّناه.
وقوله عزّ وجلّ: {أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} نصب "كلما" كنصب سائر الظروف، ومعنى {استكبرتم}: أنفتم وتعظمتم من أن تكونوا أتباعا، لأنهم كانت لهم رياسة، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيا على الآخرة). [معاني القرآن: 1/168-169]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"القدس": الطهر، ومنه قولنا: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، أي: طُهْرٌ طُهْرٌ).
[ياقوتة الصراط:175-176]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({وقفينا من بعده بالرسل} أي: أتبعناه وأردفناه، من قفوت أثره). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({وَقَفَّيْنَا}: أتبعنا، {وَأَيَّدْنَاهُ}: قويناه). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فقليلاً مّا يؤمنون...} يقول القائل: هل كان لهم قليلٌ من الإيمان أو كثيرٌ؟
ففيه وجهان من العربية:
أحدهما: ألاّ يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا، ومثله مما تقوله العرب بالقلّة على أن ينفوا الفعل كلّه قولهم: قلّ ما رأيت مثل هذا قطّ، وحكى الكسائي عن العرب: مررت ببلادٍ قلّ ما تنبت إلاّ البصل والكرّاث، أي: ما تنبت إلاّ هذين، وكذلك قول العرب: ما أكاد أبرح منزلي؛ وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا.
والوجه الآخر: أن يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه -بالنبي صلى الله عليه وسلم- فيكونون كافرين؛ وذلك أنه يقال: من خلقكم؟ ومن رزقكم؟ فيقولون الله تبارك وتعالى، ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآيات الله، فذلك قوله: {قليلاً ما يؤمنون}. وكذلك قال المفسرون في قول الله: {وما يؤمن أكثرهم باللّه إلاّ وهم مشركون} على هذا التفسير). [معاني القرآن: 1/59-60]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قلوبنا غلفٌ} كل شيء في غلاف، ويقال: سيفٌ أغلف، وقوسٌ غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يختتن.
{قلوبنا في أكنّةٍ} أي: في أغطية واحدها كنان، قال عمر بن أبي ربيعة:

تحت عينٍ كنانها = ظلّ بردٍ مرحّل
{لعنهم الله} أي: أطردهم وأبعدهم، قالوا: ذئبٌ لعين، أي: مطرود مبعد، وقال الشمّاخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنه = مقام الذئب كالرجل اللّعين
يريد: مقام الذئب اللعين كالرجل). [مجاز القرآن: 1/46]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقالوا قلوبنا غلفٌ بل لّعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً مّا يؤمنون}
قال: {فقليلاً مّا يؤمنون} وتفسيره: "فقليلاً يؤمنون" و"ما" زائدة، كما قال: {فبما رحمةٍ مّن اللّه لنت لهم} يقول: "فبرحمةٍ من اللّه"، وقال: {إنّه لحقٌّ مّثل ما أنّكم تنطقون} أي: لحقٌّ مثل أنّكم تنطقون وزيادة "ما" في القرآن والكلام نحو ذا كثير، قال:

لو بأبانين جاء يخطبها = خضّب ما أنف خاطبٍ بدم
أي: خضّب بدمٍ أنف خاطبٍ). [معاني القرآن: 1/103]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({قلوبنا غلف} أي: في أغطية، ومنه قلب أغلف، ورجل أغلف: إذا كان غير مختون.
{لعنهم الله}: أطردهم الله وأبعدهم، يقال: ذئب لعين، أي: مطرود). [غريب القرآن وتفسيره: 75]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({قلوبنا غلفٌ} جمع أغلف، أي: كأنّها في غلاف لا تفهم عنك ولا تعقل شيئا مما تقول، وهو مثل قوله: {قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه}، يقال: غلّفت السيف: إذا جعلته في غلاف، فهو سيف أغلف، ومنه قيل لمن لم يختن: أغلف.
ومن قرأه (غُلُفٌ) أراد جمع غلاف، أي: هي أوعية للعلم). [تفسير غريب القرآن:57-58]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلا ما يؤمنون}
تقرأ على وجهين (غُلْف) و(غُلُف)، وأجود القراءتين (غُلْف) بإسكان اللام، لأن له شاهدا من القرآن، ومعنى (غُلْف): ذوات غلف، الواحد منها أَغْلَف وغُلْف مثل أحمر وحُمْر، فكأنهم قالوا: قلوبنا في أوعية، والدليل على ذلك قوله: {وقالوا قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}.
ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غلاف وغُلُف، مثل: مثال ومُثُل، وحِمار وحُمُر، فيكون معنى هذا: إن قلوبنا أوعية للعلم،
والأول أشبه؛ ويجوز أن تسكن (غُلُف) فيقال: غُلْف، كما يقال في جمع مثال: مُثْل.
فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال: {بل لعنهم اللّه بكفرهم} معنى {لعنهم} في اللغة: أبعدهم،
فالتأويل -واللّه أعلم-: بل طبع اللّه على قلوبهم، كما قال: {ختم اللّه على قلوبهم}، ثم أخبر عزّ وجلّ أن ذلك مجازاة منه لهم على كفرهم، فقال: {بل لعنهم اللّه بكفرهم}، واللعن -كما وصفنا-: الإبعاد، قال الشّمّاخ:

وماء قد وردت لوصل أروى = عليه الطير كالورق اللّجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه = مقام الذئب كالرجل اللّعين
). [معاني القرآن: 1/169-170]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (و"اللعن": الطرد من الخير). [ياقوتة الصراط: 176]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( و(غُلْف) جمع "أغلف" أي: كأنها في غلاف، مغلقة لا تفهم ولا تعقل عنك شيئا، ومن قرأ (غُلُف) جمع غلاف، أي: غلف للعلم، أي: أوعية، ويجوز أن يكون من أسكن اللام أراد: جمع غلاف، وأسكن تخفيفا).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({غُلْفٌ}: في أغطية، {لَّعَنَهُمُ}: باعدهم). [العمدة في غريب القرآن:79-80]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ...}
[إن شئت] رفعت الـ"مصدّق" ونويت أن يكون نعتاً للكتاب لأنّه نكرةٌ، ولو نصبته على أن تجعل الـ"مصدّق" فعلا للكتاب لكان صوابا، وفي قراءة عبد الله في آل عمران: "ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقاً" فجعله فعلا، وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى نعتها ثم جاء النّعت، فالنّصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأنّ صلة النكرة تصير كالموقّتة لها، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل في دارك، أو بعبدٍ لك في دارك، فكأنّك قلت: بعبدك أو بسايس دابّتك، فقس على هذا؛ وقد قال بعض الشعراء:

لو كان حيّ ناجياً لنجا = من يومه المزلّم الأعصم
فنصب ولم يصل النّكرة بشيء وهو جائزٌ.
فأما قوله: {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لساناً عربيّاً} فإنّ نصب "الّلسان" على وجهين:
أحدهما: أن تضمر شيئا يقع عليه الـ"مصدّق"، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراة والإنجيل لساناً عربيّاً لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين فصار اللسان العربيّ مفسّرا.
وأما الوجه الآخر: فعلى ما فسّرت لك لما وصلت الـ"كتاب" بالـ"مصدّق" أخرجت "لساناً" ممّا في "مصدّق" من الرّاجع من ذكره،
ولو كان "الّلسان" مرفوعا لكان صواباً؛ على أنه نعتٌ وإن طال). [معاني القرآن: 1/55-56]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به...} وقبلها " ولمّا"، وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه في الفاء التي في الثانية، وصارت {كفروا به} كافية من جوابهما جميعا.
ومثله في الكلام: ما هو إلاّ أن أتاني عبد الله فلما قعد أوسعت له وأكرمته، ومثله قوله: {فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي} في البقرة، {فمن اتّبع هداي} في "طه"، اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا {فلا خوفٌ عليهم} في البقرة، {فلا يضلّ ولا يشقى} في "طه"، وصارت الفاء في قوله: {فمن تبع} كأنها جواب لـ"إمّا"، ألا ترى أنّ الواو لا تصلح في موضع الفاء، فذلك دليلٌ على أن الفاء جواب وليست بنسقٍ).
[معاني القرآن: 1/59]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يستفتحون}: يستنصرون). [مجاز القرآن: 1/47]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}
قال: {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به}
فإن قيل: فأين جواب {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم}؟
قلت: جوابه في القرآن كثير، [و] استغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه، كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به نحو قول الله عز وجل: {ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى بل للّه الأمر جميعاً} فيذكرون [أن] تفسيره: "لو سيّرت الجبال بقرآنٍ غير هذا لكان هذا القرآن ستسيّر به الجبال" فاستغني عن اللّفظ بالجواب إذ عرف المعنى، وقال: {لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا وّيحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنّهم بمفازةٍ مّن العذاب} ولم يجئ لـ{تحسبنّ} الأول بجواب وترك للاستغناء بما في القرآن من الأجوبة، وقال: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لّهم} معناه: "لا يحسبنّه خيراً لهم" وحذف ذلك الكلام وكان فيما بقي دليل على المعنى، ومثله {وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلّكم ترحمون} ثم قال: {وما تأتيهم مّن آيةٍ} من قبل أن يجيء بقوله "فعلوا كذا وكذا" لأن ذلك في القرآن كثير، استغني به، وكان في قوله: {وما تأتيهم مّن آيةٍ مّن آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين} دليل على أنّهم أعرضوا فاستغني بهذا وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا، وقال: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيراً} وقال: {ليتبرّوا} على معنى: "خلّيناهم وإيّاكم لم نمنعكم منهم بذنوبكم"، وقال: {ليسوءوا وجوهكم} ولم يذكر أنه خلاهم وإياهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أسلفوا ثم لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلطوا عليهم بظلمهم، وقال: {ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت} فليس لهذا جواب، وقال: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب} فجواب هذا إنما هو في المعنى، وهذا كثير، وسنفسر كل ما مررنا به إن شاء الله، وزعموا أن هذا البيت ليس له جواب:

ودوّيّةٍ قفرٍ تمشّى نعامها = كمشي النّصارى في خفاف الأرندج
يريد: "وربّ دوّيّةٍ" ثم لم يأت له بجواب، وقال:

حتى إذا أسلكوه في قتائدةٍ = شلاًّ كما تطرد الجمالة الشردا
فهذا ليس له جواب إلا في المعنى، وزعم بعضهم أنّ هذا البيت:

فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن = إلاّ كلمّة حالمٍ بخيال
قالوا: الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر). [معاني القرآن: 1/103-105]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({يستفتحون على الذين كفروا}: يستنصرون بتمنيهم أن يبعث الله عز وجل محمدا -صلى الله عليه وسلم-). [غريب القرآن وتفسيره:75-76]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} يقول: كانت اليهود إذا قاتلت أهل الشرك استفتحوا عليهم، أي: استنصروا اللّه عليهم، فقالوا: اللهم انصرنا بالنّبي المبعوث إلينا، فلما جاءهم النبي -صلّى اللّه عليه وسلم- وعرفوه كفروا به، و"الاستفتاح": الاستنصار). [تفسير غريب القرآن: 58]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {ولمّا جاءهم كتاب من عند اللّه مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}
تقرأ {جاءهم} بفتح الجيم والتفخيم، وهي لغة أهل الحجاز، وهي اللغة العليا القدمى،
والإمالة إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب، ووجهها أنها الأصل من ذوات الياء فأميلت لتدل على ذلك.
ومعنى {كتاب اللّه} ههنا: القرآن، واشتقاقه من "الكتب" وهي جمع "كتبة" وهي: الخرزة، وكل ما ضممت بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته، و"الكتيبة": الفرقة التي تحارب، من هذا اشتقاقها لأن بعضها منضم إلى بعض، وسمى كلام الله -عزّ وجلّ- الذي أنزل على نبيه "كتابا" و"قرآنا" و"فرقانا"، فقد فسرنا معنى "كتاب". ومعنى "قرآن" معنى الجمع، يقال: ما قرأت هذه الناقة سلّى قط، أي: لم يضطمّ رحمها على ولد قط، قال الشاعر:
هجان اللّون لم تقرأ جنينا
قال أكثر النّاس: لم تجتمع جنينا، أي: لم تضم رحمها على الجنين.
وقال قطرب في "قرآن" قولين:
أحدهما هذا، وهو المعروف الذي عليه أكثر الناس،
والقول الآخر ليس بخارج من الصّحّة، وهو حسن، قال: "لم تقرأ جنينا": لم تلقه مجموعا.
وقال: يجوز أن يكون معنى قرأت: لفظت به مجموعا، كما أن لفظت من اللفظ، اشتقاقه من لفظت كذا وكذا، إذا ألقيته، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعا.
وقوله عزّ وجلّ: {مصدق لما معهم} أي: يصدق بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا بوحي أو قراءة كتب، وقد علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميا لا يكتب.
وقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} ضم {قبل} لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الكسر والفتح، فلما عدلت عن بابها بنيت على الضم، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الإضافة فجعلت مفردة تنبئ عن الإضافة، المعنى: وكانوا من قبل هذا.
ومعنى: {يستفتحون على الّذين كفروا} فيه قولان:
قال بعضهم: كانوا يخبرون بصحة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: "وكانوا يستفتحون على الذين كفروا": يستنصرون بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، "فلما جاءهم ما عرفوا" أي: ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون، "كفروا" وهم يوقنون أنهم معتمدون للشقاق عداوة للّه.
وقوله عزّ وجلّ: {فلعنة اللّه على الكافرين} قد فسرنا اللعنة، وجواب {ولمّا جاءهم كتاب} محذوف؛ لأن معناه معروف دلّ عليه {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}). [معاني القرآن: 1/170-171]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أي: كانوا يستنصرون الله إذا قاتلوا الشرك، بأن يقولوا: انصرنا عليهم بالنبي المبعوث إلينا، فلما جاءهم ذلك النبي وعرفوه كفروا به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَسْتَفْتِحُونَ}: يستنصرون). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم...} معناه -والله أعلم-: باعوا به أنفسهم.
وللعرب في "شروا" و"اشتروا" مذهبان:
فالأكثر منهما أن يكون "شروا": باعوا، و"اشتروا": ابتاعوا،
وربمّا جعلوهما جميعا في معنى: باعوا،
وكذلك البيع؛ يقال: بعت الثوب، على معنى أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللّغة في تميم وربيعة، سمعت أبا ثروان يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم، يريد اشتر لي؛ وأنشدني بعض ربيعة:

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له = بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
على معنى لم تشتر له بتاتا؛ قال الفرّاء: والبتات: الزاد.
وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم}
{أن يكفروا} في موضع خفض ورفع؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي في {به} على التكرير على كلامين كأنّك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع "ما" التي تلي {بئس}.
ولا يجوز أن يكون رفعاً على قولك: بئس الرجل عبد الله، وكان الكسائيّ يقول ذلك.
قال الفراء: و"بئس" لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوبٌ موقّت، ولها وجهان؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلاً عمرو، ونعم رجلاً عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقّتة، في سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو، وبئس الرجل عمرو، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك: نعم غلام سفر زيدٌ، وغلام سفر زيدٌ، وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زيدٌ، ولا يجوز النّصب إلا أن يضطرّ إليه شاعرٌ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألاّ ينصبوا.
وإذا أوليت "نعم" و"بئس" من النكرات مالا يكون معرفةً مثل "مثل" و"أي" كان الكلام فاسدا؛ خطأٌ أن تقول: نعم مثلك زيدٌ، ونعم أي رجل زيد؛ لأن هذين لا يكونان مفسّرين، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] درّك من أي رجل، كما تقول: للّه درّك من رجل.
ولا يصلح أن تولي نعم وبئس "الذي" ولا "من" ولا "ما" إلا أن تنوي بهما الاكتفاء دون أن يأتي بعد ذلك اسمٌ مرفوع. من ذلك قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت، ولا يجوز ساء ما صنيعك، وقد أجازه الكسائي في كتابه على هذا المذهب.
قال الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال: أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تامّاً، ثم أضمروا لصنعت "ما" كأنّه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا أجيزه.
فإذا جعلت "نعم" صلة لـ"ما" بمنزلة قولك "كلّما" و"إنّما" كانت بمنزلة "حبّذا" فرفعت بها الأسماء؛ من ذلك قول الله عز وجل: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي} رفعت "هي" بـ"نعمّا" ولا تأنيث في "نعم" ولا تثنية إذا جعلت "ما" صلة لها فتصير "ما" مع "نعم" بمنزلة "ذا" من "حبّذا" ألا ترى أنّ "حبذا" لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ.
ولو جعلت "ما" على جهة الحشو كما تقول: عما قليلٍ آتيك، جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جاريةً جاريتك. وسمعت العرب تقول في "نعم" المكتفية بـ"ما": بئسما تزويجٌ ولا مهر، فيرفعون التزويج بـ"بئسما"). [معاني القرآن: 1/56-58]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {بغياً أن ينزّل اللّه من فضله...} موضع "أن" جزاءٌ، وكان الكسائي يقول في "أن": هي في موضع خفض، وإنما هي جزاءٌ.
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله وكان ينوي بها الاستقبال كسرت "إن" وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني، فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني، وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أنْ أتيتني؛ كذلك قال الشاعر:

أتجزع أن بان الخليط المودّع = وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع
يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك.
ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر "إن" وجزم بها، كقول الله جلّ ثناؤه: {فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا} فقرأها القرّاء بالكسر، ولو قرئت بفتح "أن" على معنى [إذ لم يؤمنوا] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] وتأويل "أن" في موضع نصب، لأنها إنما كانت أداة بمنزلة "إذ" فهي في موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي في موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض). [معاني القرآن: 1/58-59]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ...}
لا يكون {باءوا} مفردةً حتى توصل بالباء، فيقال: باء بإثم يبوء بوءاً.
وقوله: {بغضبٍ على غضبٍ} أن الله غضب على اليهود في قولهم: {يد اللّه مغلولةٌ غلّت أيديهم}، ثم غضب عليهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة، فذلك قوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ}). [معاني القرآن: 1/60]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغياً أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مّهينٌ}
قال: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغياً أن ينزّل اللّه من فضله} فـ{ما} وحدها اسم، و{أن يكفروا} تفسير له نحو: "نعم رجلاً زيدٌ" و{أن ينزّل} بدلٌ من {بما أنزل اللّه}). [معاني القرآن: 1/105-106]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بئس ما اشتروا به أنفسهم} معناه: باعوا.
وللعرب في "شروا" و"اشتروا" مذهبان:
الأكثر أن يكونوا بـ"شروا": باعوا، و"اشتروا": ابتاعوا.
وربما جعلوهما جميعا في معنى: باعوا.
وكذلك البيع: يقال بعت الثوب، أي: أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وحكي عن بعض العرب أنه قال: بع لي تمرا بدرهم، أي: اشتر، وقال الشاعر:

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له = بتاتا ولم تضرب له رأس موعد
وقال الراجز:

إذا الثريا طلعت عشايا = فبع لراعي غنم كسايا
أي: اشتر). [غريب القرآن وتفسيره: 76]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}
"بئس" إذا وقعت على "ما" جعلت معها بمنزلة اسم منكور، وإنما ذلك في "نعم" و"بئس" لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك لأن "نعم" مستوفية لجميع المدح، و"بئس" مستوفية لجميع الذم، فإذا قلت: نعم الرجل زيد، فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه.
قال أبو إسحاق: وفي (نعم الرجل زيد) أربع لغات:
نَعِم الرجل زيد، ونِعِمَ الرجل زيد، ونِعْم الرجل زيد، ونَعْمَ الرجل زيد.
وكذلك إذا قلت: بئس الرجل، دللت على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفع أبدا، وذلك كقولك: نعم رجلا زيد، ونعم الرجل زيد، فلما نصب "رجل" فعلى التمييز، وفي "نعم" اسم مضمر على شريطة التفسير، و"زيد" مبين من هذا الممدوح، لأنك إذا قلت: "نعم الرجل" لم يعلم من تعني، فقولك "زيد" تريد به: هذا الممدوح هو زيد.
وقال سيبويه والخليل جميع ما قلنا في "نعم" و"بئس"، وقالا: إن شئت رفعت "زيدا" لأنه ابتداء مؤخّر، كأنك قلت -حين قلت (نعم رجلا زيد)-: نعم زيد نعم الرجل، وكذلك كانت "ما" في "نعم" بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد في "نعم" أن يليها اسم منكور أو جنس، فقوله {بئسما اشتروا به أنفسهم}: بئس شيئا اشتروا به أنفسهم.
وقوله عزّ وجلّ: {أن يكفروا بما أنزل اللّه} موضعه رفع: المعنى ذلك الشيء المذموم أن يكفروا بما أنزل اللّه.
وقوله عزّ وجلّ: {فنعمّا هي} كأنه قال: فنعم شيئا هي،
وقال قوم: إنّ "نعم" مع "ما" بمنزلة "حبّ" مع "ذا"، تقول: حبّذا زيد، وحبذا هي، ونعما هي،
والقول الأول هو مذهب النحويين وروى جميع النحويين (بئسما تزويج ولا مهر) والمعنى فيه: بئس شيئا تزويج ولا مهر.
وقوله عزّ وجلّ: {أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} معناه: أنهم كفروا بغيا وعداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم لم يشكّوا في نبوته -صلى الله عليه وسلم- وإنما حسدوه على ما أعطاه الله من الفضل،
المعنى: كفروا بغيا لأن نزّل اللّه الفضل على النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ونصب {بغيا} مفعولا له، كما تقول: فعلت ذلك حذر الشر، أي: لحذر الشر، كأنك قلت: حذرت حذرا، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو حاتم الطائي:

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره = وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
المعنى: أغفر عوراء الكريم لادّخاره، وأعرض عن شتم اللئيم للتكرم.
وكأنه قال: أدخر الكريم ادخارا، وأتكرم على الكريم تكرما، لأن قوله (أغفر عوراء الكريم) معناه: أدخر الكريم، وقوله (وأعرض عن شتم اللئيم تكرما) معناه: أتكرم على اللئيم،
وموضع {أن} الثانية نصب، المعنى: أن يكفروا بما أنزل اللّه لأن ينزل اللّه، أي: كفروا لهذه العلّة، فشرحه كهذا الذي شرحناه.
وقوله عزّ وجلّ: {فباءوا بغضب على غضب}
معنى {باءوا} في اللغة: احتملوا، يقال: قد بؤت بهذا الذنب، أي: تحملته.
ومعنى {بغضب على غضب} فيه قولان:
قال بعضهم: {بغضب} من أجل الكفر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- {على غضب} على الكفر بعيسى -صلى الله عليه وسلم-، يعني بهم اليهود.
وقيل: {فباءوا بغضب على غضب} أي: بإثم استحقوا به النار، على إثم تقدم أي: استحقوا به أيضا النّار). [معاني القرآن: 1/172-174]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"باءوا" أي: رجعوا). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اشْتَرَوْاْ}: ابتاعوا). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ويكفرون بما وراءه...} يريد: سواه، وذلك كثيرٌ في العربية أن يتكلّم الرجل بالكلام الحسن فيقول السّامع: ليس وراء هذا الكلام شيء، أي ليس عنده شيء سواه). [معاني القرآن: 1/60]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل...}
يقول القائل: إنما "تقتلون" للمستقبل فكيف قال: "من قبل"؟ ونحن لا نجيز في الكلام أنا أضربك أمس.
وذلك جائز إذا أردت بـ"تفعلون" الماضي، ألا ترى أنّك تعنّف الرجل بما سلف من فعله فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغّض نفسك إلى الناس! ومثله قول الله: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} ولم يقل: ما تلت الشياطين، وذلك عربيّ كثير في الكلام؛ أنشدني بعض العرب:

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ = ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروفٌ؛
ومثله في الكلام: إذا نظرت في سير عمر -رحمه الله- لم يسئ؛ المعنى: لم تجده أساء؛ فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيّه لم يقع في الوهم أنه مستقبل؛
فلذلك صلحت "من قبل" مع قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولّوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم). [معاني القرآن: 1/60-61]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ويكفرون بما وراءه} أي: بما بعده). [مجاز القرآن: 1/47]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لّما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مّؤمنين}
قال: {وهو الحقّ مصدّقاً لّما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه} فنصب {مصدّقاً} لأنه خبر معرفة.
و{تقتلون} في معنى "قتلتم"، كما قال الشاعر:

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني = فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
يريد: "لقد مررت" بقوله "أمرّ"). [معاني القرآن: 1/106]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ويكفرون بما وراءه}: بما بعده). [غريب القرآن وتفسيره: 77]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين} أي: بالقرآن الذي أنزل اللّه على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{قالوا نؤمن بما أنزل علينا} وقد بين الله أنهم غير مؤمنين بما أنزل عليهم، وقد بيّنّا ذلك فيما مضى.
وقوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ} معناه: ويكفرون بما بعده، أي: بما بعد الذي أنزل عليهم، {وهو الحقّ مصدّقا لما معهم} فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذ كفروا بما يصدّق ما معهم، نصب {مصدقا} على الحال، وهذه حال مؤكدة،
زعم سيبويه والخليل وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك "هو زيد قائما" خطأ، لأن قولك "هو زيد" كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة، لأن الحال توجب ههنا إنّه إذا كان قائما فهو زيد، فإذا ترك القيام فليس بزيد، وهذا خطأ.
فأما قولك "هو زيد معروفا"، و"هو الحق مصدقا"، ففي الحال فائدة، كأنك قلت: انتبه له معروفا، وكأنه بمنزلة قولك "هو زيد حقا"، فـ"معروفا" حال لأنه إنما يكون زيدا لأنه يعرف بزيد، وكذلك "الحق"، القرآن هو الحق إذ كان مصدقا لكتب الرسل.
أكذبهم اللّه في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} فقال: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين} أي: أيّ كتاب جوّز فيه قتل نبي؟ وأي دين وإيمان جوز فيه ذلك؟
فإن قال قائل: فلم قيل لهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل، وهؤلاء لم يقتلوا نبيا قط؟
قيل له: قال أهل اللغة في هذا قولين:
أحدهما: إن الخطاب لمن شوهد من أهل مكة ومن غاب خطاب واحد، فإذا قتل أسلافهم الأنبياء وهم مقيمون على ذلك المذهب فقد شركوهم في قتلهم.
وقيل أيضا: لم رضيتم بذلك الفعل، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول.
وإنما جاز أن يذكر هنا لفظ الاستقبال والمعنى المضي لقوله {من قبل} ودليل ذلك قوله {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبيّنات وبالّذي قلتم فلم قتلتموهم} فقوله {فلم تقتلون} بمنزلة (فلم قتلتم).
وقيل في قوله: {إن كنتم مؤمنين} قولان:
أحدهما: ما كنتم مؤمنين،
وقيل: إنّ إيمانكم ليس بإيمان، و"الإيمان" ههنا واقع على أصل العقد والدين، فقيل لهم: ليس إيمان إيمانا إذا كان يدعو إلى قتل الأنبياء).
[معاني القرآن: 1/174-175]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{وراءه}: سواه، و"الوراء" -أيضاً-: الخلف، والوراء -أيضاً-: القدام، والوراء -أيضاً-: ابن الابن). [ياقوتة الصراط: 176]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَرَاءهُ}: ما بعده). [العمدة في غريب القرآن: 80]


رد مع اقتباس
  #12  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من92 إلى 101]

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {سمعنا وعصينا...} معناه: سمعنا قولك, وعصينا أمرك). [معاني القرآن: 1/61]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم...} فإنه أراد: حبّ العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثيرٌ؛ قال الله: {واسأل القرية التي كنّا فيها والعير التي أقبلنا فيها}, والمعنى: سل أهل القرية وأهل العير؛ وأنشدني المفضّل:
حسبت بغام راحلتي عناقاً= وما هي ويب غيرك بالعناق
ومعناه: بغام عناق؛ ومثله من كتاب الله: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه}, معناه -والله أعلم-: ولكنّ البرّ برّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف الله. والعرب قد تقول: إذا سرّك أن تنظر إلى السّخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم, وأنشدني بعضهم:
يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ = وإنّ جهاداً طيّءٌ وقتالها
يجزئ ذكر الاسم من فعله إذا كان معروفا بسخاء, أو شجاعة, وأشباه ذلك). [معاني القرآن: 1/61-62]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأشربوا في قلوبهم العجل}: سقوه حتى غلب عليهم؛ مجازه مجاز المختصر؛
{أشربوا في قلوبهم العجل}: حبّ العجل، وفي القرآن: {وسل القرية} مجازها: أهل القرية، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بنى أقيشٍ= يقعقع خلف رجليه بشنّ
أقيش: حي من الجن، أضمر جملاً يقعقع خلف رجليه بشن، وقال الأسديّ:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها= بنى شاب قرناها تصرّ وتحلب
أضمر "التي" شاب قرناها؛
وقال أبو أسلم: وأوتى بطعام قبل طعام، فقال: الذي قبل أطيب). [مجاز القرآن: 1/47-48]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي: حبّ العجل). [تفسير غريب القرآن: 58]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} قد بيّنّاه فيما مضى.
وقوله عزّ وجلّ: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} معناه: سقوا حبّ العجل، فحذف "حب" وأقيم "العجل" مقامه.
كما قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
أي: كخلالته أبي مرحب، وكما قال:
وشر المنايا ميّت بين أهله= كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره
المعنى: وشر المنايا منيّة ميت....
وقوله عزّ وجلّ {بكفرهم} أي: فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر، كما قال: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}.
وقوله: {بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} قد فسرناه، أي: ما كنتم مؤمنين، فبئس الإيمان يأمركم بالكفر).[معاني القرآن: 1/175-176]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({الطور}: الجبل). [ياقوتة الصراط: 174]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و{سمعنا}: قولك، {وعصينا}: أمرك). [ياقوتة الصراط: 176]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وأشربوا في قلوبهم العجل} أي: سقوه حتى غلب عليهم حبه، يريد: حب العجل).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَأُشْرِبُوا}: غلب عليهم). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً مّن دون النّاس فتمنّوا الموت...}
يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً, أو نصرانيًا, {فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} فأبوا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يقوله أحد إلا غصّ بريقه)),
ثم إنه وصفهم, فقال: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ ومن الّذين أشركوا}, معناه- والله أعلم-: وأحرص من الذين أشركوا على الحياة, ومثله أن تقول: هذا أسخى النّاس, ومن هرم؛ لأن التأويل للأوّل هو أسخى من الناس, ومن هرم؛
ثمّ إنه وصف المجوس فقال: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ}, وذلك أن تحيتهم فيما بينهم: (زه هزار سال), فهذا تفسيره: عش ألف سنة.
وأما قوله: {قل من كان عدوّاً لّجبريل فإنّه نزّله...} يعني: القرآن، {على قلبك}: هذا أمرٌ أمر الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا جبريل, وأخبره الله بذلك، فقال: {قل من كان عدوّاً لّجبريل فإنّه نزّله على قلبك} يعني: قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان في هذا الموضع "على قلبي" وهو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم لكان صواباً, ومثله في الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندي، وعندك؛ أمّا "عندك" فجاز؛ لأنه كالخطاب، وأمّا "عندي" فهو قول المتكلم بعينه, يأتي هذا من تأويل قوله: "ستغلبون" , و"سيغلبون" بالتاء والياء). [معاني القرآن: 1/62-63]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصة من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} قيل لهم هذا لأنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى}, وقالوا: {نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه}, فقيل لهم: إن كنتم عند أنفسكم صادقين فيما تدّعون, فتمنوا الموت، فإن من كان لا يشك في أنه صائر إلى الجنة، فالجنة عنده آثر من الدنيا، فإن كنتم صادقين, فتمنوا الأثرة والفضل.
وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة, وأظهر آية, وأدلة على الإسلام، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال لهم: تمنّوا الموت وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً, فلم يتمنّه منهم واحد؛ لأنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ أنهم كفوا عن التمني, ولم يقدم واحد منهم عليه, فيكون إقدامه دفعاً لقوله: {ولن يتمنوه أبداً}, أو يعيش بعد التمني, فيكون قد ردّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, فالحمد للّه الذي أوضح الحق وبيّنه، وقمع الباطل وأزهقه). [معاني القرآن: 1/176-177]

تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {ولن يتمنّوه أبدا بما قدّمت أيديهم واللّه عليم بالظّالمين} يعني: ما قدمت من كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا, وهم يعلمون أنه حق, وأنهم إن تمنوه ماتوا، ودليل ذلك إمساكهم عن تمنيه,
وقوله عزّ وجلّ {واللّه عليم بالظّالمين}: اللّه عزّ وجلّ عليم بالظالمين وغير الظالمين، وإنما الفائدة ههنا إنّه عليم بمجازاتهم, وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكرا، قال: أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله: أنا أعلم ما أعاملك به، وأستعمله معك.
فالمعنى: إنه عليم بهم, وبصير بما يعملون، أي: يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا, أو بالذلّة والمسكنة وأداء الجزية، ونصب {لن} كما تنصب (أن), وقد شرحنا نصبها فيما مضى, وذكرنا ما قاله النحويون فيه.
ونصب {أبداً} لأنه ظرف من الزمان، المعنى: لن يتمنوه في طول عمرهم إلى موتهم، وكذلك قولك: لا أكلمك أبدا، المعنى: لا أكلمك ما عشت.
ومعنى {بما قدمت أيديهم} أي: بما تقدمه أيديهم, ويصلح أن يكون: بالذي قدمته أيديهم). [معاني القرآن: 1/177]

تفسير قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بمزحزحه}: بمبعده). [مجاز القرآن: 1/48]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصيرٌ بما يعملون}
قوله: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فهو نحو "ما زيدٌ بمزحزحه أن يعمّر", و"ما زيدٌ بضارّه أن يقوم، فـ"أن يعمّر" في موضع رفع, وقد حسنت الباء كما تقول: "ما عبد الله بملازمه زيدٌ".
{قل من كان عدوّاً لّجبريل فإنّه نزّله على قلبك بإذن اللّه مصدّقاً لّما بين يديه وهدًى وبشرى للمؤمنين}
قوله: {من كان عدوّاً لّجبريل} ومن العرب من يقول (لجبرئيل) فيهمزون ولا يهمزون، وكذلك "إسرائيل" منهم من يهمز, ومنهم من لا يهمز، ويقولون "ميكائيل" فيهمزون, ولا يهمزون , ويقولون: {ميكال} كما قالوا: {جبريل}, وقال بعضهم: "جَبْرَئِل", ولا أعلم وجهه إلا أني قد سمعت "إسراءل", وقال بعضهم :"آسراييل" فأمال الراء, قال أبو الحسن: في "جِبْرِيل" ست لغات:
جبرآييل, وجَبْرَئيل, وجَبْرَئل, وجَبرِيل، وجِبْرِيل، وجَبْراءِل، جَبْرَاعِيل, وجَبرعيل, جَبرعِل: فَعْلِيل فِعْليل, جَبْرَاعِل). [معاني القرآن: 1/107]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بمزحزحه}: بمبعده). [غريب القرآن وتفسيره: 77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ} يعني: اليهود.
{ومن الّذين أشركوا} يعني: المجوس, وشركهم: أنهم قالوا: بإلهين: النور والظلمة.
{يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ} أراد معنى قولهم لملوكهم في تحيتهم: «عش ألف سنة وألف نوروز».
{وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} أي: بمباعده من العذاب طول عمره، لأن عمره ينقضي, وإن طال، ويصير إلى عذاب اللّه). [تفسير غريب القرآن: 58]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصير بما يعملون} يعني به علماء اليهود هؤلاء،
المعنى: أنك تجدهم في حال دعائهم إلى تمنى الموت, أحرص الناس على حياة.
ومعنى {لتجدنّهم}: لتعلمنّهم.
ومعنى {ومن الّذين أشركوا} أي: ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهذا نهاية في التمثيل, و"الذين أشركوا" هم المجوس، ومن لا يؤمن بالبعث.
وقوله عزّ وجلّ: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة} ذكرت الألف؛ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو به لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال: عش ألف نيروز وألف مهرجان.
يقول: فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة، وأنّ نعيم الجنة له الفضل لا يتمنون الموت, وهم أحرص ممّن لا يؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هؤلاء؛ لأنهم كفّار بالنبي صلى الله عليه وسلم, و هو عندهم حق، فيعلمون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، فهم أحرص لهذه العلة، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق, لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني، لأن التمني من واحد منهم كان يثبت قولهم.
وإنما بالغنا في شرح هذه الآيات؛ لأنها نهاية في الاحتجاج في تثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} هذا كناية عن {أحدهم} الذي جرى ذكره، كأنه قال: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره،
ويصلح أن تكون "هو" كناية عما جرى ذكره من طول العمر، فيكون: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل أن يعمر مبنياً عن "هو" كأنّه قال: ذلك الذي ليس بمزحزحه أن يعمر.
وقد قال قوم: إن (هو) لمجهول,
وهذا عند قوم لا يصلح في "ما" إذا جاء في خبرها الباء مع الجملة، لا يجيز البصريون: "ما هو قائماً زيد" يريدون: ما الأمر قائما زيد، و"لا كان هو قائما زيد"، يريدون: ما الأمر قائما زيد؛ و"لا كان هو قائما زيد"، يريدون: كان الأمر قائما زيد، وكذلك لا يجيزون "ما هو بقائم زيد"، يريدون: ما الأمر.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه بصير بما يعملون} شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه.
وتقول في "يود": وددت الرجل أَودة وُدًّا أو وِدادًا ومودة وودادة،
وحكى الكسائي: ودَدْتُ الرجل,
والذي يعرفه جميع الناس وددته، ولم يحك إلا ما سمع إلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤخذ بلغته، لأن الإجماع على تصحيح أودّ، وأودّ لا يكون ماضيه وددت, فالإجماع يبطل وددت, أعني الإجماع في قولهم أود). [معاني القرآن: 1/178-179]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لو يعمر ألف سنة} وذلك من شدة حبهم للحياة، فاليهود أحرص على الحياة من هؤلاء المذكورين). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {بِمُزَحْزِحِهِ}: بمبعده). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({مصدّقاً لما بين يديه} أي: لما كان قبله). [مجاز القرآن: 1/48]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({مصدقا لما بين يديه} أي: لما كان قبله). [غريب القرآن وتفسيره: 77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({قل من كان عدوًّا لجبريل} من اليهود, وكانوا قالوا: لا نتبع محمداً, وجبريل يأتيه، لأنّه يأتي بالعذاب, {فإنّه نزّله} يعني: فإن جبريل نزل القرآن {على قلبك}). [تفسير غريب القرآن: 59]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {قل من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن اللّه مصدّقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97)}
"جبريل" في اسمه لغات قرئ ببعضها, ومنها ما لم يقرأ به، فأجود اللغات "جَبرئيل" بفتح الجيم، والهمز، لأن الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الصور ((جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره))، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث، ويقال: "جبريل" بفتح الجيم وكسرها, ويقال أيضا "جبرألّ" بحذف الياء, وإثبات الهمزة, وتشديد اللام, ويقال: "جبرين" بالنون، وهذا لا يجوز في القرآن، أعني: إثبات النون؛ لأنه خلاف المصحف, قال الشاعر:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة= الدهر إلا جبرئيل أمامها
وهذا البيت على لفظ ما في الحديث, وما عليه كثير من القراء.
وقد جاء في الشعر "جبريل", قال الشاعر:
وجبريل رسول الله فينا= وروح القدس ليس له كفاء
وإنما جرى ذكر هذا؛ لأن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: جبريل عدونا, فلو أتاك ميكائيل، لقبلنا منك، فقال اللّه عزّ وجلّ: {قل من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن اللّه مصدّقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97)}
ونصب {مصدقًا}على الحال). [معاني القرآن: 1/180]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَيْنَ يَدَيْهِ}: ما كان قبله). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({من كان عدوّاً للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ اللّه عدوٌّ لّلكافرين}
قال: {من كان عدوّاً للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ اللّه عدوٌّ لّلكافرين} فأظهر الاسم, وقد ذكره في أول الكلام, قال الشاعر:
ليت الغراب غداة ينعب دائباً = كان الغراب مقطّع الأوداج). [معاني القرآن: 1/107]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {من كان عدوّا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ اللّه عدوّ للكافرين (98)}
"ميكائيل" فيه لغات، ميكائيل , وميكال, وقد قرئ بهما جميعاً, وميكَأْل بهمزة بغير ياء, وهذه أسماء أعجمية دفعت إلى العرب, فلفظت بها بألفاظ مختلفة, أعني: جبريل، وميكائيل, و"إسرائيل" فيه لغات أيضا: إسراييل, وإسرال، وإسرايل, وإبراهيم, وإبراهم، وأبرهم, وإبراهام، والقرآن إنما أتى بإبراهيم فقط, وعليه القراءة, وأكثر ما أرويه من القراءة في كتابنا هذا, فهو عن أبي عبيد ممّا رواه إسماعيل بن إسحاق, عن أبي عبد الرحمن, عن أبي عبيد). [معاني القرآن: 1/180-181]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات وما يكفر بها إلّا الفاسقون} يعني: الآيات التي جرى ذكرها مما قد بيّنّاه، و"الآية" في اللغة: العلامة.
و{بينات}: واضحات، و"قد" إنما تدخل في الكلام لقوم لا يتوقعون الخبر، واللام في {لقد} لام قسم.
وقوله عزّ وجلّ: {وما يكفر بها إلا الفاسقون} يعني: الذين قد خرجوا عن القصد، وقد بيّنّا أن قول العرب "فسقت الرطبة": خرجت عن قشرتها). [معاني القرآن: 1/181]

تفسير قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أوكلّما عاهدوا عهداً نّبذه فريقٌ مّنهم بل أكثرهم لا يؤمنون}
قال: {أوكلّما عاهدوا عهداً} فهذه واو تجعل مع حرف الاستفهام, وهي مثل الفاء التي في قوله: {أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم}, فهذا في القرآن والكلام كثير، وهما زائدتان في هذا الوجه, وهي مثل الفاء التي في قولك: "أفا الله لتصنعنّ كذا وكذا", وقولك للرجل: "أفلا تقوم", وإن شئت جعلت الفاء والواو ههنا حرف عطف). [معاني القرآن: 1/107]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({نبذه فريق}: تركه فريق). [غريب القرآن وتفسيره: 77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({نبذه فريقٌ منهم}: تركه, ولم يعمل به). [تفسير غريب القرآن: 59]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أوكلّما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون}
معنى {نبذه}: رفضه, ورمى به. قال الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته= كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
ونصب {أوكلما عاهدوا} على الظرف.
وهذه الواو في {أوكلما} تدخل عليها ألف الاستفهام، لأن الاستفهام مستأنف، والألف أمّ حروف الاستفهام, وهذه الواو تدخل على هل فتقول: وهل زيد عاقل؟، لأن معنى ألف الاستفهام موجود في "هل"، فكأن التقدير: أو هل، إلا أن ألف الاستفهام و"هل" لا يجتمعان لإغناء "هل" عن الألف). [معاني القرآن: 1/181-182]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نبذه}: تركه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("نَبَذَ": ترك). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({نبذ فريقٌ} أي: بعض؛ "نبذه": تركه،
وقال أبو الأسود الدّؤليّ: قال أبو عبيدة: أخذ من الدألان، واختار الدّؤلى:
نظرت إلى عنوانه فنبذته= كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا). [مجاز القرآن: 1/48]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} يعني به: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي جاء به مصدّق التوراة والإنجيل،
{ولمّا} يقع بها الشيء لوقوع غيره {مصدّق} رفع صفة لرسول؛ لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاً؛ لأن {رسول} قد وصف بقوله {من عند اللّه}, فلذلك صار النصب يحسن،
وموضع "ما" في {مصدّق لما معهم} جر بلام الإضافة، و "مع" صلة لها، والناصب لـ"مع" الاستقرار, المعنى: لما استقر معهم.
وقوله عزّ وجلّ: {نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم}
{الّذين أوتوا الكتاب} يعني به: اليهود، و"الكتاب" هنا: التوراة, و{كتاب اللّه وراء ظهورهم} فيه قولان:
جائز أن يكون: القرآن,
وجائز أن يكون: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزّ وجلّ: {كأنّهم لا يعلمون} أعلم أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم, وأعلم أنّهم نبذوا كتاب اللّه). [معاني القرآن: 1/182]


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 12:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من102 إلى 105]

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان...}
كما تقول (في ملك سليمان)، تصلح "في" و"على" في مثل هذا الموضع؛ تقول: أتيته في عهد سليمان, وعلى عهده سواء). [معاني القرآن: 1/63]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما أنزل على الملكين...}
- يقرءون "الملكين" من الملائكة, وكان ابن عباس يقول: "الملكين" من الملوك). [معاني القرآن: 1/64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به...}
أما السّحر فمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاماً إذا قيل أخّذ به الرجل عن امرأته, ثم قال: ومن قول الملكين إذا تعلّم منهما ذلك: لا تكفر,
{إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر، فيتعلّمون} ليست بجواب لقوله: {وما يعلّمان}, إنما هي مردودة على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر}, {فيتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم}؛ فهذا وجه, ويكون {فيتعلّمون} متصلة بقوله: {إنّما نحن فتنةٌ} فيأبون, فيتعلّمون ما يضرّهم، وكأنه أجود الوجهين في العربية, والله أعلم). [معاني القرآن: 1/64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه...}
{من} في موضع رفع وهي جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام, صيّروا فعله على جهة "فعل", ولا يكادون يجعلونه على "يفعل" كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" في تأويل جزاءٍ وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى "فعل"؛ لأن الجزم لا يستبين في "فعل"، فصيّروا حدوث اللام -وإن كانت لا تعرّب شيئا- كالذي يعرّب، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين -يريد تستقبل به- إمّا بلامٍ، وإما بـ"لا" وإما بـ"إنّ" وإمّا بـ"ما" فتقول في "ما": لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع،
وفي "إنّ": لئن أتيتني إنّ ذلك لمشكور لك -قال الفراء: لا يكتب "لئن" إلا بالياء ليفرق بينها وبين "لأن"-،
وفي "لا": "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم",
وفي اللام: {ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار},
وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين؛ لأن اللام التي دخلت في قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه}, وفي قوله: {لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ}, وفي قوله: {لئن أخرجوا} إنما هي لام اليمين؛ كان موضعها في آخر الكلام، فلمّا صارت في أوله صارت كاليمين، فلقيت بما يلقى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على "يفعل" جاز ذلك, وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم = ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع
وأنشدني بعض بني عقيل:
لئن كان ما حدّثته اليوم صادقاً = أصم في نهار القيظ للشّمس باديا
وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ = وأعر من الخاتام صغرى شماليا
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه في الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام، كما قال الآخر:
فلا يدعني قومي صريحاً لحرّةٍ = لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
فاللام في "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة "إن"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فلئن قومٌ أصابوا غرّةً = وأصبنا من زمانٍ رققا
للقد كانوا لدى أزماننا = لصنيعين لبأسٍ وتقى
فأدخل على "لقد" لاماً أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في "لقد" حتى صارت كأنها منها, وأنشدني بعض بنى أسد:
لددتهم النّصيحة كلّ لدٍّ = فمجّوا النّصح ثم ثنوا فقاءوا
فلا واللّه لا يلفى لما بي = ولا للما بهم أبداً دواء
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه = ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" في الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غبّ معركةٍ = لا تلفنا من دماء القوم ننتفل
فجزم "لا تلفنا" , والوجه الرفع، كما قال الله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم}, ولكنه لمّا جاء بعد حرفٍ ينوي به الجزم صيّر جزما جوابا للمجزوم, وهو في معنى رفع, وأنشدني القاسم بن معنٍ, عن العرب:
حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل = أمامك بيتٌ من بيوتي سائر
والمعنى: حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صيّر جواباً للجزم, ومثله في العربية: آتيك كي إن تحدثني بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم). [معاني القرآن: 1/65-69]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في الآخرة من خلاقٍ}: من نصيب خير). [مجاز القرآن: 1/48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} أي: تَتَبَّع, و{تتلُو}: تحكى وتكلم به، كما تقول: يتلو كتاب الله, أي: يقرؤه). [مجاز القرآن: 1/48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولبئس ما شروا به} أي: باعوا به أنفسهم، وقال ابن مفرّغ الحميريّ:
وشريت برداً ليتني= من بعد بردٍ كنت هامه
أي: بعته). [مجاز القرآن: 1/48]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}
قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} معطوفان على {الملكين}، أو بدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان, وموضعهما جر, و{بابل} لم ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل مؤنث على حرفين أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن, فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنث فهو لا ينصرف ما دام اسماً للمؤنث.
وقال: {حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما}, فليس قوله: {فيتعلّمون} جواباً لقوله: {فلا تكفر}، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم}, وقال: {يفرّقون به بين المرء وزوجه}؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما زوج، فالمرأة زوج, والرجل زوج, قال: {وخلق منها زوجها}, وقال: {من كلٍّ زوجين اثنين}, وقد يقال أيضاً "هما زوجٌ" للاثنين، كما تقول: "هما سواءٌ", و"هما سيّان", و"الزوج" أيضاً: النمط يطرح على الهودج, قال الشاعر:
من كلّ محفوفٍ يظلّ غصيّة = زوجٌ عليه كلّةٌ وقرامها
وقد قالوا: "الزوجة", قال الشاعر:
زوجة أشمط مرهوبٍ بوادره = قد صار في رأسه التخويص والنزع
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ}, فهذه لام الابتداء تدخل بعد العلم, وما أشبهه, ويبتدأ بعدها، تقول: "لقد علمت لزيدٌ خيرٌ منك" , قال: {لّمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم}, وقال: {ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا}.
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه}, ثم قال: {لو كانوا يعلمون} يعني: بالأولين الشياطين؛ لأنهم قد علموا {ولّو كانوا يعلمون} يعني: الإنس, وكان في قوله: {لمثوبةٌ} دليل على "أثيبوا", فاستغني به عن الجواب). [معاني القرآن: 1/108-109]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({من خلاق}: من نصيب خير.
{شروا به أنفسهم}: باعوا به أنفسهم). [غريب القرآن وتفسيره:77-78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أي: ما ترويه الشياطين على ملك سليمان, والتلاوة والرواية شيء واحد, وكانت الشياطين دفنت سحراً تحت كرسيّه، وقالت للناس بعد وفاته: إنما هلك بالسحر, يقول: فاليهود تتبع السحر, وتعمل به.
{إنّما نحن فتنةٌ} أي: اختبار وابتلاء, و"الخلاق": الحظّ من الخير ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: ((ليؤيّدن اللّه هذا الدين بقوم لا خلاق لهم)) أي: لا حظّ لهم في الخير.
{شروا به أنفسهم} أي: باعوها, يقال: شريت الشيء, وأنت تريد اشتريته وبعته, وهو حرف من حروف الأضداد). [تفسير غريب القرآن: 59-60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر, فلبهت اليهود وكذبهم, ادعوا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان, وأنه اسم الله الأعظم، يتكسّبون بذلك، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم رفضوا كتابه, واتبعوا السحر،
ومعنى {على ملك سليمان}: على عهد ملك سليمان عليهم, فبرأ اللّه عزّ وجلّ سليمان من السحر، وأظهر محمداً صلى الله عليه وسلم على كذبهم.
وقال: {وما كفر سليمان} لأن اللّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً, فبرّأه منه، وأعلم أن الشياطين كفروا, فقال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}، فمن شدد {لكنّ} نصب الشياطين، ومن خفف رفع فقال: (وَلَكِنِ الشياطينُ كفروا), وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وقد قرئ (على المِلَكَيْنِ)، و{المَلَكَيْنِ} أثبت في الرواية والتفسير جميعاً,
المعنى: يعلمون الناس السحر, ويعلمون ما أنزل على الملكين، فموضع {ما} نصب، نسق على {السحر}،
وجائز أن يكون: واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين, واتبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون (ما) الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله: {وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر} فيه غير قول:
أحدها -وهو أثبتها-: أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر, و"علمت"، و"أعلمت" جميعاً في اللغة بمعنى واحد, كانا يعلمان نبأ السحر, ويأمران باجتنابه, وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما القذف؟ لوجب أن يوقف, ويعلّم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس, وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا يكون على هذا التأويل: تعلم السحر كفراً, إنما يكون العمل به كفرا، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قول آخر جائز: أن يكون اللّه عزّ وجلّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلّمه كافراً, وبترك تعلمه مؤمناً؛ لأن السحر قد كان كثر, وكان في كل أمة، والدليل على ذلك: أن فرعون فزع في أمر موسى صلى الله عليه وسلم إلى السحر, فقال: {ائتوني بكل ساحر عليم}, وهذا ممكن أن يمتحن اللّه به كما امتحن بالنهر في قوله: {إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده}.
وقد قيل: إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به, ولا أتى به سليمان عليه السلام, فقال قوم: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}, فيكون "ما" جحدا، ويكون "هاروت" و"ماروت" من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم -على مذهب هؤلاء-: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهما -على مذهب هؤلاء-: {إنّما نحن فتنة فلا تكفر} كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا ترد ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل, وأشبه بالحق عند كثير من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاء في قصّة الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به.
وإنما نذكر -مع الإعراب- المعنى والتفسير؛ لأن كتاب اللّه ينبغي أن يتبين؛ ألا ترى أن اللّه يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن}, فحضضنا على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللّه أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية, إن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم, وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر إلا إنّه يفرق به بين المرء وزوجه, فهو من باب السحر في التحريم, وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزّ وجلّ: {فيتعلّمون منهما} ليس {يتعلّمون} بجواب لقوله {فلا تكفر}, وقد قال أصحاب النحو في هذا قولين:
قال بعضهم: إن قوله {يتعلمون} عطف على قوله: {يعلّمون}, وهذا خطأ، لأن قوله {منهما} دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة,
وقيل: {فيتعلّمون} عطف على ما يوجبه معنى الكلام، المعنى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} فلا تتعلم, ولا تعمل بالسحر، فيأبون, فيتعلمون، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا: أن يكون عطفاً على {يعلمان}, {فيتعلمون}, واستغنى عن ذكر {يعلمان} بما في الكلام من الدليل عليه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله}؛ "الإذن" هنا لا يكون الأمر من الله عزّ وجلّ، {إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء}, ولكن المعنى: إلا بعلم الله.
وقوله عزّ وجلّ: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} المعنى: أنّه يضرهم في الآخرة, وإن تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}؛ "الخلاق": النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك: الذين يعلمون السحر؛ لأنهم كانوا من علماء اليهود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فيه قولان:
قالوا: {لو كانوا يعلمون} يعني به: الذين يعلمون السحر, والذين علموا أن العالم به لا خلاق له: هم المعلمون.
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يكون {لو كانوا يعلمون} راجعاً إلى هؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة, أي: لمن علّم السحر, ولكن قيل: {لو كانوا يعلمون} وأي: لو كان علمهم ينفعهم, لسمّوا عالمين، ولكنّ علمهم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم: {لو كانوا يعلمون} أي: ليس يوفون العلم حقه؛ لأنّ العالم إذا ترك العمل بعلمه , قيل له: لست بعالم, ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في {لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} قولين:
جعل بعضهم "من" بمعنى الشرط، وجعل الجواب: {ما له في الآخرة من خلاق}، وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق, كما تقول: واللّه لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل.
فأمّا دخول اللام في الجزاء في غير هذا الموضع, وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الّذين كفروا}, ونحو{ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك}, فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة؛ لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم, فأجيبت بجوابه, وهذا خطأ؛ لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعلاماً أنّ الجملة بكمالها معقودة للقسم؛ لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه , فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام). [معاني القرآن: 1/182-187]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والفتنة: الاختبار، والفتنة: المنحة، والفتنة: المال، والفتنة: الأولاد، والفتنة -أيضًا- الكفر، والفتنة: اختلاف الناس بالآراء، والفتنة: المحبة، والفتنة: الإحراق بالنار، والفتنة: إدخال الذهب أو الفضة إلى النار لينقيا من الخبث، والفتنة: المنع، والفتنة: الصد، يقال: فتنه عن كذا، أي: صده عنه). [ياقوتة الصراط: 177-178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({واتبعوا ما تتلو الشياطين} أي: ما تروي، يعني: اليهود, والتلاوة: الرواية، والذين رووا أنهم قالوا بالسحر؛ لأن الشياطين دفنت تحت كرسي سليمان سحراً, فلما مات؛ قالت الشياطين: بهذا هلك، فاتبعته اليهود, وعملت به.
{إنما نحن فتنة} أي: ابتلاء واختبار , و"الخلاق": الحظ من الخير). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَا تَتْلُو}: ما تروى, {فِتْنَةٌ}: اختبار, {مِنْ خَلاَقٍ}: نصيب). [العمدة في غريب القرآن: 80-81]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لمثوبةٌ}: من الثواب). [مجاز القرآن: 1/49]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ لّو كانوا يعلمون}
قال: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ}, فليس لقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} جواب في اللفظ, ولكنه في المعنى يريد: لأثيبوا, فقوله: {لمثوبةٌ} يدل على "لأثيبوا", فاستغني به عن الجواب, وقوله: {لمثوبةٌ} هذه اللام للابتداء كما فسرت لك). [معاني القرآن: 1/109]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({لمثوبة}: من الثواب). [غريب القرآن وتفسيره: 78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({المثوبة}: الثواب, والثواب والأجر: هما الجزاء على العمل). [تفسير غريب القرآن: 60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند اللّه خير لو كانوا يعلمون}
"مثوبة" في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: "لأثيبوا", ومعنى الكلام: أن ثواب اللّه خير لهم من كسبهم بالكفر والسحر.
وقوله عزّ وجلّ: {لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا يعملون بعلمهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل). [معاني القرآن: 1/187]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الَمَثُوبَةٌ": الثواب). [العمدة في غريب القرآن: 81]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا...} هو من الإرعاء والمراعاة، وفي قراءة عبد الله: (لا تقولوا راعونا), وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلمّا سمعت اليهود أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يقولون: يا نبيّ الله راعنا، اغتنموها فقالوا: قد كنا نسبّه في أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السّبّ، فجعلوا يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: راعنا، ويضحك بعضهم إلى بعض، ففطن لها رجلٌ من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل إلا ضربت عنقه، فأنزل الله: {لا تقولوا راعنا} ينهى المسلمين عنها؛ إذ كانت سبّاً عند اليهود, وقد قرأها الحسن البصريّ: (لا تقولوا راعنًا) بالتنوين، يقول: لا تقولوا حمقًا, وينصب بالقول؛ كما تقول: قالوا خيرًا, وقالوا شرّا.
وقوله: {وقولوا انظرنا} أي: انتظرنا, و"أنظرنا": أخّرنا، قال الله: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} يريد: أخّرني، وفي سورة الحديد {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} خفيفة الألف على معنى الانتظار, وقرأها حمزة الزيّات: (للّذين آمنوا أنظرونا) على معنى التأخير). [معاني القرآن: 1/69-70]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({راعنا}: من راعيت إذا لم تنوّن، ومن نوّن جعلها كلمة نهوا عنها؛ راعيت: حافظت وتعاهدت). [مجاز القرآن: 1/49]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({راعنا}: من "راعيت" إذا لم تنون، ويقال: أرعني سمعك أي: استمع لي.
ومن نون (راعنًا) جعله من الرعونة، أي: لا تقولوا راعنا من القول، أي: حمتا، وهو الإرعاء والمراعاة.
{وقولوا انظرنا} أي: انتظرنا. و(انظرنا) أي: أخرنا من ذلك، قال: {أنظرني إلى يوم يبعثون}). [غريب القرآن وتفسيره: 78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لا تقولوا راعنا} من «رعيت الرجل»: إذا تأمّلته، وعرّفت أحواله, يقال: أرعني سمعك, وكان المسلمون يقولون لرسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم-: أرعني سمعك, وكان اليهود يقولون: راعنا, وهي بلغتهم سب لرسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم- بالرّعونة , وينوون بها السبّ، فأمر اللّه المؤمنين أن لا يقولوها، لئلا يقولها اليهود، وأن يجعلوا مكانها: انظرنا, أي: انتظرنا, يقال: نظرتك, وانتظرتك بمعنى.
ومن قرأها «راعنًا» بالتنوين، أراد: اسماً مأخوذاً من الرّعن والرّعونة، أي: لا تقولوا حمقاً, ولا جهلاً). [تفسير غريب القرآن: 60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} وقرأ الحسن: (لا تقولوا راعنًا) بالتنوين، والذي عليه الناس {راعنا} غير منون، وقد قيل في {راعنا} بغير تنوين ثلاثة أقوال:
1- قال بعضهم: {راعنا}: ارعنا سمعك، وقيل: كان المسلمون يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: راعنا، وكانت اليهود تتسابّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوسهم، فلما سمعوا هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سبّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره شيء، فأظهر اللّه النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمسلمين على ذلك, ونهى عن هذه الكلمة.
2- وقال قوم: {لا تقولوا راعنا}: من المراعاة والمكافأة، فأمروا أن يخاطبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتقدير, والتوقير، فقيل لهم: {لا تقولوا راعنا} أي: كافنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، {وقولوا انظرنا} أي: أمهلنا، {واسمعوا} كأنه قيل لهم: استمعوا.
3- وقال قوم: إن {راعنا} كلمة تجري على الهزء والسخرية، فنهي المسلمون أن يتلفظوا بها بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- , وأما قراءة الحسن: (راعنًا) فالمعنى فيه: لا تقولوا حمقاً من الرعونة). [معاني القرآن: 1/188]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({راعنا} من "راعيته": إذا تأملته، وكان المسلمون يقولونه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فحرفته اليهود بلغتهم، وهو سب عندهم يدعونه بالرعونة، فنهى الله تعالى المسلمين عن قول ذلك.
ومن قرأ (راعنًا) منوناً أراد: لا تقولوا اسماً مأخوذاً من الرعن، أي: لا تقولوا حمقاً, ولا جهلاً). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({رَاعِنَا}: من المراعاة. (رَاعِناً): من الرعون. {انظُرْنَا}: انتظرنا. (أَنظِرْنَا): أخرنا).
[العمدة في غريب القرآن: 81]

تفسير قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مّا يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين...} معناه: ومن المشركين،
ولو كانت "المشركون" رفعاً مردودةً على "الّذين كفروا" كان صوابًا, تريد: ما يودّ الذين كفروا, ولا المشركون, ومثلها في المائدة: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء}، قرئت بالوجهين: (والكفارِ)، (والكفارَ), وهي في قراءة عبد الله: (ومن الكفّار أولياء), وكذلك قوله: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} في موضع خفض على قوله: "من أهل الكتاب ومن المشركين"، ولو كانت رفعا كان صوابا؛ تردّ على "الذين كفروا"). [معاني القرآن: 1/70-71]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أن ينزّل عليكم من خيرٍ من ربّكم}, قال أبو ذؤيب:
جزيتك ضعف الحبّ لما استثبته= وما إن جزاك الضّعف من أحدٍ قبلي
أي: أحد قبلي، استثبته: استغللته). [مجاز القرآن: 1/49]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مّا يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم مّن خيرٍ مّن رّبّكم واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}
قال: {مّا يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} أي: "ولا من المشركين", لا يودّون {أن ينزّل عليكم}). [معاني القرآن: 1/109]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربّكم واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}المعنى: ولا من المشركين، الذين كفروا من أهل الكتاب: اليهود، والمشركون في هذا الوضع عبدة الأوثان.
{أن ينزّل عليكم من خير من ربّكم} ويقرأ (أن يُنْزِل) عليكم بالتخفيف, والتثقيل جميعاً, ويجوز في العربية (أن يَنْزِلَ عليكم)، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه الثالث إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين.
وموضع {من خير} رفع, المعنى: ما يود الذين كفروا والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم، ولو كان هذا في الكلام لجاز (ولا المشركون)، ولكن المصحف لا يخالف، والأجود ما ثبت في المصحف أيضا، ودخول (من) ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في: (ما جاءني من أحد)، و(ما جاءني أحد).
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم} أي: يختص بنبوته من يشاء من أخبر عزّ وجلّ أنه مختار). [معاني القرآن: 1/188-189]


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 01:45 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 106 إلى 123]

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}

تفسير قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها...} (أو ننسئها) , (أو نُنْسِهَا), عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عبد الله: (ما ننسك من آيةٍ أو ننسخها نجئ بمثلها أو خيرٍ منها), وفي قراءة سالم مولى أبي حذيفة: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسكها)، فهذا يقوّي النّسيان, والنّسخ: أن يعمل بالآية, ثم تنزل الأخرى, فيعمل بها, وتترك الأولى.
والنّسيان ها هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك؛ نتركها فلا ننسخها، كما قال الله جل ذكره: {نسوا اللّه فنسيهم} يريد: تركوه فتركهم.
والوجه الآخر: من النّسيان الذي ينسى، كما قال الله: {واذكر ربّك إذا نسيت}, وكان بعضهم يقرأ: (أو ننسأها) يهمز، يريد: نؤخرها من النّسيئة؛ وكلٌّ حسن ...
- وحدثني قيس, عن هشام بن عروة بإسناد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا ً يقرأ, فقال: ((يرحم الله هذا، هذا أذكرني آياتٍ قد كنت أنسيتهنّ)) ). [معاني القرآن: 1/64-65]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ما ننسخ من آية} أي: ننسخها بأية أخرى، {أو ننسها} من النّسيان: نذهب بها, ومن همزها جعلها من "نؤخرها" من التأخير، ومن قال: تنسُوها, كان مجازها تمضيها، وقال جرير:
= ولا أنسأتكم غضبي
ونسأت الناقة: سقتها، وقال طرفة:
وعنسٍ كألواح الإران نسأتُها= على لاحبٍ كأنه ظهر برجد
يعني أنه يسوقها, ويمضيها.
{نأت بخيرٍ منها} أي: نأتيك منها بخير). [مجاز القرآن: 1/49-50]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
قال: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها}, وقال بعضهم: (ننسأها) أي: نؤخّرها، وهو مثل {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر}؛ لأنّه تأخير, و{النسيئة} و{النسيء} أصله واحدٌ من "أنسأت" إلاّ أنّك تقول: "أنسأت الشيء" أي: أخّرته, ومصدره: النسيء,
و"أنسأتك الدين" أي: جعلتك تؤخّره, كأنه قال: "أنسأتك" , فـ"نسأت",
و"النسيء" أنّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر, وقال بعضهم: (أو نَنْسَها) كل ذلك صواب, وجزمه بالمجازاة, و النسيء في الشهر: التأخير.
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}
قال: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}, ومن خفف قال: (سيل),
فإن قيل: كيف جعلتها بين بين وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة، والياء الساكنة لا تكون بعد ضمة، والسين مضمومة؟
قلت: أمّا في "فُعِلَ", فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة؛ لأنهم قد قالوا "قيل" و"بيع", وقد تكون الياء في بعض "فُعِلَ" واواً خالصة لانضمام ما قبلها, وهي معه في حرف واحد كما تقول: "لم توطؤ الدابّة", وكما تقول: "قد رؤس فلان"). [معاني القرآن: 1/110]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ما ننسخ من آية أو ننساها}: نؤخرها، ومنه: البيع بنسيئة أي: بتأخير، ومنه: نسأ الله في أجلك.
ومن قال: (نَنْسَها) فمعنى نتركها من النسيان ومنه {نسوا الله فنسيهم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} أراد: أو ننسكها, من النسيان.
ومن قرأها: (أو ننسأها) بالهمز؛ أراد: نؤخّرها فلا ننسخها إلى مدة, ومنه: النّسيئة في البيع، إنما هو: البيع بالتّأخير.
ومنه: النّسيء في الشهور، إنما هو: تأخير تحريم «المحرّم».
{نأت بخيرٍ منها} أي: بأفضل منها, ومعنى فضلها: سهولتها وخفتها). [تفسير غريب القرآن: 60-61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير (106)}
في {ننسها} غير وجه قد قرئ به: (أو نُنْسِهَا)، و(نَنْسَهَا)، و(نَنْسَؤُها).
فأما النسخ في اللغة؛ فإبطال شيء, وإقامة آخر مقامه، العرب تقول: نسخت الشمس الظل، والمعنى: أذهبت الظل, وحلّت محلّه،
وقال أهل اللغة في معنى {أو ننسها} قولين:-
1- قال بعضهم: (أو نَنْسَهَا) من النسيان، وقالوا: دليلنا على ذلك قوله عزّ وجلّ: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه}, فقد أعلم اللّه أنه يشاء أن ينسى، وهذا القول عندي ليس بجائز؛ لأن اللّه عزّ وجل قد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} أنّه لا يشاء أن يذهب بالذي أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله {فلا تنسى * إلا ما شاء اللّه} قولان يبطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة:-
أحدهما: {فلا تنسى} أي: لست تترك إلا ما شاء اللّه أن تترك،
ويجوز أن يكون: إلا ما شاء الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.
2- وقيل في {أو ننسها} قول آخر, وهو خطأ أيضاً, قالوا: أو نتركها, وهذا يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت أي: تركت، وإنما معنى {أو ننسها}: أو نتركها, أي: نأمر بتركها،
فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ؟ وما الفرق بين الترك والنسخ؟
فالجواب في ذلك: أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية , فتبطل الثانية العمل بالأولى.
ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل , فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تأتي ناسخة للتي قبلها، نحو: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}, ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المحنة, فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيّنّاه, فهذا هو الحق.
ومن قرأ (أو ننسؤها) أراد: نؤخرها, والنّسء في اللغة التأخير، يقال: نسأ اللّه في أجله, وأنسأ اللّه أجله, أي: أخر أجله.
وقوله: {نأت بخير منها}المعنى: بخير منها لكم ، {أو مثلها}، فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ , فتمام الصيام الذي نسخ الإباحة في الإفطار لمن استطاع الصيام, ودليل ذلك قوله: {ولتكملوا العدّة}, فهذا هو خير لنا كما قال اللّه عزّ وجلّ.
وأمّا قوله {أو مثلها} أي: نأتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ أسهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ, والناس إليه أسرع نحو القبلة التي كانت على جهة, ثم أمر اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بجعل البيت قبلة المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب, وغيرهم إلى الإسلام). [معاني القرآن: 1/190-191]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (و{ننسها} أي: ننسكها يا محمد، من النسيان.
ومن قرأ (ننسأها) فهو من التأخير، أي: نؤخرها ولا ننسخها إلى مدة، ومنه النسأة في البيع أي: التأخير، والنسيء في الشهور: تأخيرها عن وقتها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( (نَنْسَأَهَا): نؤخرها. (نَنْسَاهَا): نتركها). [العمدة في غريب القرآن: 81]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
لفظ {ألم} ههنا لفظ استفهام, ومعناه: التوقيف، وجزم {ألم} ههنا كجزم "لم"؛ لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله،
ومعنى الملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها, فما كان مما يقال فيه ملك سمي: الملك، وما نالته القدرة مما يقال فيه مالك, فهو ملك، تقول: ملكت الشيء أملكه ملكا.
وكقوله تعالى {على ملك سليمان} أي: في سلطانه وقدرته.
وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين أملكه إذا بالغت في عجنه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا "إملاك" فلان، أي: شهدنا عقد أمر نكاحه, وتشديده.
ومعنى الآية: إن اللّه يملك السّماوات والأرض, ومن فيهن, فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ , ومنسوخ, ومتروك, وغيره.
وقوله عزّ وجلّ: {وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللّه جلّ وعزّ ناصرهم، والفائدة فيه: أنه بنصره إياهم, يغلبون من سواهم). [معاني القرآن: 1/191]

تفسير قوله تعالى:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم...}
{أم} في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛
إحداهما: أن تفرّق معنى "أيّ",
والأخرى: أن يستفهم بها, فتكون على جهة النسق، والذي ينوى بها الابتداء إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام, فلو ابتدأت كلاماً ليس قبله كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألف أو بهل؛ ومن ذلك قول الله: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين * أم يقولون افتراه}، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه,
وأمّا قوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام, فردّ عليه؛ وهو قول الله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير},
وكذلك قوله: {ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم مّن الأشرار * اتّخذناهم سخريًّا أم زاغت عنهم الأبصار} فإن شئت جعلته استفهاماً مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردوداً على قوله: {مالنا لا نرى رجالاً}, وقد قرأ بعض القرّاء: {أتّخذناهم سخرياً} يستفهم في {أتّخذناهم سخرياً} بقطع الألف لينسّق عليه "أم" ؛ لأن أكثر ما تجيء مع الألف؛ وكلٌّ صواب,
ومثله: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}, ثم قال: {أم أنا خيرٌ من هذا} والتفسير فيهما واحد, وربّما جعلت العرب "أم" إذا سبقها استفهام لا تصلح "أي" فيه على جهة "بل"؛ فيقولون: هل لك قبلنا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم, يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظّلم؛ وقال الشاعر:
فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت = أم النّوم أم كلٌّ إليّ حبيبٌ
معناه: بل كلّ إليّ حبيب.
وكذلك تفعل العرب في "أو" فيجعلونها نسقاً مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه "أحدٌ"، و"إحدى" كقولك: اضرب أحدهما زيداً أو عمراً, فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحدٌ , وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك في الكلام: اذهب إلى فلانٍ , أو دع ذلك, فلا تبرح اليوم, فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل , وجعل "أو" في معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}, وأنشدني بعض العرب:
بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى = وصورتها أو أنت في العين أملح
يريد: بل أنت). [معاني القرآن: 1/71-72]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل...} و "سواء" في هذا الموضع قصد، وقد تكون "سواء" في مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك). [معاني القرآن: 1/73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سواء السّبيل} أي: وسطه،
قال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي: أي: وسطي،
وقال حسّان بن ثابت يرثى عثمان بن عفّان:
يا ويح أنصار النبي ونسله= بعد المغيّب في سواء الملحد). [مجاز القرآن: 1/50]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سواء السبيل}: وسطه وقصده، ومثله {في سواء الجحيم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: ضلّ عن وسط الطريق، وقصده). [تفسير غريب القرآن: 61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108)}
أجود القراءة بتحقيق الهمزة، ويجوز جعلها بين بين، يكون بين الهمزة والياء فيلفظ بها (سُيل), وهذا إنما تحكمه المشافهة؛ لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المتحقق والمليّن, وما جعل ياء خالصة، ويجوز (كما سِيلَ موسى من قبل), من قولك: سِلْت أَسَال، في معنى: سُئِلت أُسْأَل, وهي لغة للعرب حجاها جميع النحويين، ولكن القراءة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل هذا الوجه من تحقيق الهمزة, وتليينها.
ومعنى {أم} ههنا, وفي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف الاستفهام إلا أنها لا تكون مبتدأة, أنها تؤذن بمعنى بل,
ومعنى ألف الاستفهام، المعنى "بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل",
فمعنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا خير لهم في السؤال عنه , وما يكفّرهم، وإنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم , وإقامتها على مخالفتهم , وقد شرحنا ذلك في قوله: {فتمنّوا الموت}, وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه, فأعلم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر، كما قال عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}, وقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: من يسأل عما لا يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحق , فقد ضل سواء السبيل, أي: قصد السبيل).
[معاني القرآن: 1/192-193]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( "السَوَاء": الوسط, {السَّبِيلِ}: الطريق). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كفّاراً...} ها هنا انقطع الكلام، ثم قال: {حسداً} كالمفسّر لم ينصب على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسداً وبغياً). [معاني القرآن: 1/73]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مّن عند أنفسهم...} من قبل أنفسهم لم يؤمروا به في كتبهم). [معاني القرآن: 1/73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فاعفوا واصفحوا} عن المشركين، وهذا قبل أن يؤمر بالهجرة والقتال؛ فكل أمر نهى عنه عن مجاهدة الكفار فهو قبل أن يؤمر بالقتال، وهو مكي). [مجاز القرآن: 1/50]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيء قدير}
يعني به: علماء اليهود.
وقوله: {حسداً من عند أنفسهم} موصول بـ{ود الذين كفروا}، لا بقوله {حسداً}؛ لأن حسد الإنسان لا يكون من عند نفسه،
ولكن المعنى: مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، الدليل على ذلك قوله: {من بعد ما تبيّن لهم الحق}.
وقوله عزّ وجلّ: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإنما كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد وضوح الحق عندهم , فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه على كلّ شيء قدير} أي: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم والأبلغ,
ويقال: أَقدر على الشيء, قَدْراً, وقَدَرًا, وقُدْرة، وقُدْرَانا، ومَقْدِرَة , ومقدُرة , ومقدَرة.
هذه سبعة أوجه, مروية كلها، وأضعفها مقدِرة بالكسر). [معاني القرآن: 1/193-194]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وآتوا الزّكاة} أي: أعطوا). [مجاز القرآن: 1/51]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({آتوا الزكاة} أي: أعطوا).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ)
: ({آتُوا}: أعطوا). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى...} يريد: يهوديّاً, فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهودية,
وهي في قراءة أبيّ وعبد الله: {إلاّ من كان يهوديا أو نصرانيً},
وقد يكون أن تجعل "اليهود" جمعاً، واحده "هائد" ممدود، وهو مثل: حائل ممدود-من النوق- وحول، وعائط, وعوط, وعيط, وعوطط).
[معاني القرآن: 1/73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({برهانكم}: بيانكم , وحجتكم). [مجاز القرآن: 1/51]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}
قال: {لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى} فزعموا أن "الهود": جماعة "الهائد"، و"الهائد": التائب الراجع إلى الحق,
وقال في مكان آخر: {وقالوا كونوا هوداً} أي: كونوا راجعين إلى الحق، ويقال: "هائد", و"هوّد" مثل: "ناقه" و"نقّه"، و"عائد" و"عوّد"، و"حائل" و"حوّل"، و"بازل" و"بزّل,
وجعل {من كان} واحداً؛ لأنّ لفظ {من} واحدٌ، وجمع في قوله: {هوداً أو نصارى}, وفي هذا الوجه تقول: "من كان صاحبك"). [معاني القرآن: 1/110-111]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}
الإخبار في هذا عن أهل الكتاب، وعقد النصارى معهم في قوله: {وقالوا}؛ لأن الفريقين يقرآن التوراة، ويختلفان في تثبيت رسالة موسى وعيسى، فلذلك قال اللّه عزّ وجلّ: {وقالوا} فأجملوا.
فالمعنى: أن اليهود قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وجاز أن يلفظ بلفظ جمع؛ لأن معنى {من} معنى جماعة, فحمل الخبر على المعنى.
والمعنى: إلا الذين كانوا هوداً, وكانوا نصارى,
وهو جمع هائد, وهود، مثل: حائل, وحول، وبازل, وبزل, وقد فسّرنا واحد النصارى, وجمعه فيما مضى من الكتاب.
وقوله عزّ وجلّ: {تلك أمانيّهم} هذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن حقيقته: إنما أنت متمن.
و{أمانيّهم} مشددة، ويجوز في العربية: (تلك أَمَانِيهِمْ), ولكن القراءة بالتشديد لا غير، للإجماع عليه، ولأنه أجود في العربية.
وقوله عزّ وجلّ: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}أي: إن كنتم عند أنفسكم صادقين, فبينوا ما الذي دلكم على ثبوت الجنة لكم). [معاني القرآن: 1/194]

تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بلى من أسلم وجهه لله وهو محسنٌ} ذهب إلى لفظ الواحد، والمعنى يقع على الجميع).
[مجاز القرآن: 1/51]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} (؟) ). [مجاز القرآن: 1/51]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي: فهذا يدخل الجنة، فإن قال قائل: فما برهان من آمن في قولكم؟
قيل: ما بيناه من الاحتجاج للنبي صلى الله عليه وسلم , ومن إظهار البراهين بأنبائهم ما لا يعلم إلا من كتاب, أو وحي، وبما قيل لهم في تمني الموت، وما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على تثبيت الرسالة، فهذا برهان من أسلم وجهه للّه). [معاني القرآن: 1/195]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يتلون الكتاب}: يقرؤنه). [مجاز القرآن: 1/51]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالت اليهود ليست النّصارى على شيء وقالت النّصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}
يعني به: أن الفريقين يتلوان التوراة، وقد وقع بينهم هذا الاختلاف, وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في القرآن، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر, فتفهموا هذا المكان, فإن فيه حجة عظيمة, وعظة في القرآن.
وقوله عزّ وجلّ: {كذلك قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم} يعني به الذين ليسوا بأصحاب كتاب نحو: مشركي العرب, والمجوس.
المعنى: أن هؤلاء أيضاً قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا.
وقوله عزّ وجلّ: {فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة} المعنى: يريهم من يدخل الجنة عياناً, ويدخل النار عياناً.
وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللّه عزّ وجلّ فيما أظهر من حجج المسلمين، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن). [معاني القرآن: 1/195]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين...} هذه الرّوم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا, وحرّقوا وخرّبوا المسجد, وإنما أظهر الله عليهم المسلمين في زمن عمر -رحمه الله- فبنوه، ولم تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا). [معاني القرآن: 1/74]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لّهم في الدّنيا خزيٌ...}
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر الله عليها المسلمين, فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي). [معاني القرآن: 1/74]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} يقول فيما وعد الله المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد). [معاني القرآن: 1/74]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({ومن أظلم ممّن مّنع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين لّهم في الدّنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ}
قال: {ومن أظلم ممّن مّنع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه} إنما هو "من أن يذكر فيها اسمه" ولكن حروف الجرّ تحذف مع "أن" كثيراً ويعمل ما قبلها فيها حتى تكون في موضع نصب، أو تكون {أن يذكر} بدلًا من "المساجد" يريدون: "من أظلم ممّن منع أن يذكر".
وقال: {وسعى في خرابها}, فهذا على "منع" , و"سَعَى" .
ثم قال: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين} فجعله جميعاً لأنّ {من} تكون في معنى الجماعة). [معاني القرآن: 1/111]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه} نزلت في «الرّوم» حين ظهروا على «بيت المقدس» فخرّبوه, فلا يدخله أحد أبداً منهم إلّا خائف.
{لهم في الدّنيا خزيٌ} أي: هوان, ذكر المفسرون: أنه فتح مدينتهم رومية). [تفسير غريب القرآن: 61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين لهم في الدّنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}
موضع (من) رفع , ولفظها لفظ استفهام، المعنى: وأي أحد أظلم ممن منع مساجد اللّه، و (أظلم) رفع بخبر الابتداء، وموضع "أن" نصب على البدل من مساجد اللّه، المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد اللّه اسمه.
وقد قيل في شرح هذه الآية غير قول: -
جاء في التفسير: أن هذا يعني به الروم، لأنهم كانوا دخلوا بيت المقدس وخربوه.
وقيل: يعني به مشركو مكة؛ لأنهم سعوا في منع المسلمين من ذكر اللّه في المسجد الحرام.
وقال بعض أهل اللغة غير هذا؛ زعم أنه يعني به جميع الكفار الذين تظاهروا على الإسلام، ومنعوا جملة المساجد، لأن من قاتل المسلمين حتى منعهم الصلاة , فقد منع جميع المساجد , وكل موضع متعبّد فيه فهو مسجد، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))، فالمعنى على هذا المذهب: ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام.
وقوله عزّ وجلّ: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين} أعلم اللّه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفاً, وهذا كقوله عزّ وجلّ: {ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون}.
قوله: {لهم في الدّنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} يرتفع (خزي) من وجهتين:
إحداهما: الابتداء،
والأخرى: الفعل الذي ينوب عنه (لهم),
المعنى: وجب لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم، والخزي الذي لهم في الدنيا: أن يقتلوا إن كانوا حرباًً, ويجزوا إن كانوا ذمة، وجعل لهم عظيم العذاب؛ لأنهم أظلم من ظلم لقوله: {ومن أظلم ممّن منع}). [معاني القرآن: 1/195-197]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} نزلت في منع الروم المسلمين من بيت المقدس، فلا يدخله أحد منهم إلا خائفاً). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الْخِزْي": الهوان). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولله المشرق والمغرب} ما بين قطري المغرب، وما بين قطري المشرق، والمشارق والمغارب فيهما، فهو مشرق كلّ يوم تطلع فيه الشمس من مكان لا تعود فيه إلى قابلٍ، والمشرقين والمغربين: مشرق الشتاء ومشرق الصيف، وكذلك مغربهما، (القطر , والقتر , والحدّ , والتّخوم واحد).
{إنّ الله واسعٌ}أي: جواد يسع لما يسأل). [مجاز القرآن: 1/51]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ}, قال: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}؛ لأنّ {أينما} من حروف الجزم من المجازاة , والجواب في الفاء). [معاني القرآن: 1/111]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فثم وجه الله}: قبلة الله.
قال مجاهد: "قبلة الله أين ما كنت من شرق أو غرب؛ فاستقبلها").[غريب القرآن وتفسيره:79-80]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({وللّه المشرق والمغرب} نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه -صلى اللّه عليه وعلى آله- كانوا في سفر, فعميت عليهم القبلة: فصلّى ناس قبل المشرق، وآخرون قبل المغرب, وكان هذا قبل أن تحوّل القبلة إلى الكعبة).
[تفسير غريب القرآن: 62]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عز وجل: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسع عليم}
يرتفعان كما وصفنا من جهتين، ومعنى {للّه} أي: هو خالقهما.
وقوله: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}
{تولّوا}جزم بـ{أينما}, والجواب {فثمّ وجه اللّه}, وعلامة الجزم في {تولّوا} سقوط النون, و (ثمّ) موضع نصب ولكن مبني على الفتح لا يجوز أن تقول ثمّا زيد.
وإنما بني على الفتح لالتقاء السّاكنين، و"ثم" في المكان أشارة بمنزلة: هنا زيد؛ فإذا أردت المكان القريب قلت: هنا زيد، وإذا أردت المكان المتراخي عنك قلت: ثمّ زيد، وهناك زيد، فإنما منعت (ثمّ) الإعراب لإبهامها, ولا أعلم أحدا شرح هذا الشرح؛ لأن هذا غير موجود في كتبهم.
ومعنى الآية:
أنه قيل فيها: أنه يعني به البيت الحرام، فقيل: {أينما تولوا فثم وجه الله} أي: فاقصدوا وجه اللّه بتيمّمكم القبلة، ودليل من قال هذا القول قوله: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} فقد قيل: إن قوماً كانوا في سفر , فأدركتهم ظلمة ومطر , فلم يعرفوا القبلة فقيل: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}.
وقال بعض أهل اللغة: إنما المعنى : معنى قوله: {وهو معكم أين ما كنتم}, فالمعنى على قوله هذا: أن اللّه معكم أينما تولوا؛ كأنه أينما تولوا فثم الله, {وهو معكم},
وإنّما حكينا في هذا ما قال الناس: وليس عندنا قطع في هذا، واللّه عزّ وجلّ أعلم بحقيقته؛ ولكن قوله: {إنّ اللّه واسع عليم} يدل على توسيعه على الناس في شيء رخص لهم به). [معاني القرآن: 1/197-198]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَجْهُ اللّهِ}: قبلة الله). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {َقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كلٌّ لّه قانتون...} يريد: مطيعون، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة).
[معاني القرآن: 1/74]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قانتون}: كل مقرٌّ بأنه عبد له، قانتات: مطيعات). [مجاز القرآن: 1/51]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({كل له قانتون} أي: كل يقر بأنه له عبد بالقول، وقانتات: مطيعات).
[غريب القرآن وتفسيره: 80]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كلٌّ له قانتون}: مقرّون بالعبودية، موجبون للطاعة, و"القنوت" يتصرف على وجوه قد بينتها في «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 62]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({وقالوا اتّخذ اللّه ولدا سبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون}
{قالوا} للنصارى, ومشركي العرب؛ لأن النصارى قالت: المسيح ابن اللّه، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه، فقال اللّه عزّ وجلّ: {بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون}
"القانت" في اللغة: المطيع، وقال الفرّاء: {كل له قانتون}, هذا خصوص, إنما يعني به أهل الطاعة،
والكلام يدل على خلاف ما قال؛ لأن قوله: {ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون} "كل" إحاطة, وإنما تأويله: كل ما خلق اللّه في السّماوات والأرض فيه أثر الصنعة, فهو قانت للّه, والدليل على أنه مخلوق,
و"القانت" في اللغة: القائم -أيضاً-؛ ألا ترى أن القنوت إنما يسمى به من دعا قائماً في الصلاة: قانتاً, فالمعنى: كل له قانت مقر بأنه خالقه، لأن أكثر من يخالف ليس بدفع أنه مخلوق, وما كان غير ذلك, فأثر الصنعة بين فيه، فهو قانت على العموم، وإنما القانت الداعي). [معاني القرآن: 1/198]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كل له قانتون} أي: مقرون بالعبودية, والقنوت في غير هذا: طول القيام، وهو الدعاء أيضاً, وأصله كله الطاعة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({قَانِتُونَ}: طائعون). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فإنّما يقول له كن فيكون...} رفعٌ, ولا يكون نصباً, إنما هي مرودة على "يقول" , "فإنما يقول فيكون", وكذلك قوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ} رفعٌ لا غير, وأمّا التي في النحل: {إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون} فإنها نصب، وكذلك التي في "يس" نصبٌ؛ لأنّها مرودةٌ على فعل قد نصب بـ"أن"، وأكثر القرّاء على رفعهما, والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفياً عند قوله: {إذا أردناه أن نّقول له كن} فقد تمّ الكلام، ثم قال: فسيكون ما أراد الله, وإنّه لأحبّ الوجهين إليّ، وإن كان الكسائيّ لا يجيز الرفع فيهما, ويذهب إلى النّسق). [معاني القرآن: 1/74-175]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بديع}: مبتدع؛ وهو البادىء الذي بدأها, {وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون} أي: أحكم أمراً، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما= داود أو صنع السّوابغ تبّع
أي: أحكم عملهما،
فرفع {فيكون}؛ لأنه ليس عطفاً على الأول، ولا فيه شريطة فيجازى، إنما يخبر أن الله تبارك وتعالى إذا قال: كن، كان).[مجاز القرآن: 1/52]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({بديع السّماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون}
قال: {وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون} فرفعه على العطف؛ كأنه إنما يريد أن يقول: "إنّما يقول كن فيكون" , وقد يكون أيضاً رفعه على الابتداء, وقال: {إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون}, فإن جعلت {يكون} ههنا معطوفةً, نصبت لأنّ {أن نقول} نصب بـ"أن" كأنه يريد: "أن نقول فيكون", فإن قال: كيف والفاء ليست في هذا المعنى؟
فإن الفاء والواو قد تعطفان على ما قبلهما وما بعدهما، وإن لم يكن في معناه نحو "ما أنت وزيداً"، وإنما يريد "لم تضرب زيداً" , وترفعه على "ما أنت وما زيد" وليس ذلك معناه, ومثل قولك: "إيّاك والأسد",
والرفع في قوله: {فيكون} على الابتداء نحو قوله: {لّنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء} , وقال: {ليضلّ عن سبيل اللّه بغير علمٍ ويتّخذها هزواً}, وقد يكون النصب في قوله: {ويتّخذها}, وفي {نقرّ في الأرحام} أيضاً على أول الكلام, قال الشاعر -فرفع على الابتداء- :
يعالج عاقراً أعيت عليه = ليلقحها فينتجها حوارا
وقال الشاعر أيضاً :
وما هو إلاّ أنّ أراها فجاءةً = فأبهت حتّى ما أكاد أجيب
والنصب في قوله: {فأبهت} على العطف, والرفع على الابتداء). [معاني القرآن: 1/111-112]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بديع السموات}: مبتدعها. {إذا قضى أمرا}: أحكم أمرا). [غريب القرآن وتفسيره: 80]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({بديع السّماوات والأرض}: مبتدعهما). [تفسير غريب القرآن: 62]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {بديع السّماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون}
يعني: أنشاهما على غير حذاء, ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه؛ قيل له: أبدعت، ولهذا قيل لكل من خالف السّنّة والإجماع مبتدع؛ لأنه يأتي في دين الإسلام بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون.
وقوله: عزّ وجلّ: {وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون}؛ رفع {يكون} من جهتين:
إن شئت على العطف على {يقول}، وإن شئت الاستئناف، المعنى: فهو يكون،
ومعنى الآية: قد تكلم الناس فيها بغير قول:
قال بعضهم: {إنما يقول له كن فيكون}, إنما يريد: فيحدث, كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني= مهلا رويدا قد ملأت بطني
والحوض لم يقل.
وقال بعض أهل اللغة: {إنّما يقول له كن فيكون} يقول له, وإن لم يكن حاضرا: كن؛ لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر.
وقال قائل: {إنّما يقول له كن فيكون} له معنى من أجلها؛ فكأنه إنما يقول من أجل إرادته إياه {كن}أي: أحدث, فيحدث،
وقال قوم: هذا يجوز أن تكون لأشياء معلومة أحدث فيها أشياء فكانت، نحو قوله: {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} واللّه أعلم).
[معاني القرآن: 1/198-199]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَدِيعُ}: مبتدع, {قَضَى}: حكم). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {تشابهت قلوبهم...} يقول: تشابهت قلوبهم في اتفاقهم على الكفر, فجعله اشتباهاً, ولا يجوز (تشّابهت) بالتثقيل؛ لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين في "تفاعلت" ولا في أشباهها, وإنما يجوز الإدغام إذا قلت في الاستقبال: تتشابه (عن قليل), فتدغم التاء الثانية عند الشين). [معاني القرآن: 1/75]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لولا يكلّمنا الله}: هلاّ يكلمنا الله, قال الأشهب ابن رميلة:
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم= بنى ضوطرى لولا الكمىّ المقنّعا
يقول: هلاّ تعدّون الكمىّ المقنّعا, يقال: رجل ضوطرى, وامرأة ضوطرة, أي: ضخمة كثيرة الشحم, ومثله ضيطار). [مجاز القرآن: 1/52-53]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({لولا يكلمنا الله}: هلا يكلمنا الله). [غريب القرآن وتفسيره: 81]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({لولا يكلّمنا اللّه}: هلّا يكلمنا, {تشابهت قلوبهم}: في الكفر, والفسق, والقسوة).
[تفسير غريب القرآن: 62]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آية كذلك قال الّذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بيّنّا الآيات لقوم يوقنون}
{لولا}: معنى هلا، المعنى: هلا يكلمنا اللّه, أو تأتينا آية، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن كفرهم في التعنّت بطلب الآيات على اقتراحهم كقول الذين من قبلهم لموسى: {أرنا اللّه جهرة} وما أشبه هذا، فأعلم الله أن كفرهم متشابه، وأن قلوبهم قد تشابهت في الكفر.
وقوله عزّ وجلّ: {قد بيّنّا الآيات لقوم يوقنون} المعنى فيه: أن من أيقن وطلب الحق , فقد آتته الآيات البينات، نحو المسلمين, ومن لم يشاق من علماء اليهود، لأنه لما أتاهم صلى الله عليه وسلم بالآيات التي يعجز عنها من أنبائهم بما لا يعلم إلا من وحي، ونحو انشقاق القمر , وآياته التي لا تحصى عليه السلام، والقرآن الذي قيل لهم , فأتوا بسورة من مثله , فعجزوا عن ذلك, ففي هذا برهان شاف). [معاني القرآن: 1/200]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لَوْلاَ}: هلا). [العمدة في غريب القرآن: 83]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم...}
قرأها ابن عباس, وأبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين جزماً, وقرأها بعض أهل المدينة جزماً, وجاء التفسير بذلك إلا أنّ التفسير على فتح التاء على النهي, والقرّاء بعد على رفعها على الخبر: (ولست تسئل)، وفي قراءة أبيّ: (وما تسأل), وفي قراءة عبد الله: (ولن تسأل), وهما شاهدان للرفع). [معاني القرآن: 1/75]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
قال: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}, وقد قرئت: (ولا تَسْأَلُ) وكلّ هذا رفعٌ ؛ لأنه ليس بنهيٍ, وإنّما هو حال؛ كأنه قال: {أرسلناك بشيراً ونذيراً}, وغير سائلٍ, أو غير مسئول, وقد قرئتا جزما جميعاً على النهي). [معاني القرآن: 1/112]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
نصب {بشيراً ونذيراً} على الحال، ومعنى {بشيراً} أي: مبشراً المؤمنين بما لهم من الثواب، وينذر المخالفين بما أعد لهم من العقاب.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} وتقرأ: (ولا تَسْأَلُ), ورفع القراءتين جميعاً من جهتين:
إحداهما: أن يكون {ولا تسأل} استئنافاً, كأنّه قيل: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، كما قال عزّ وجلّ: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}, ويجوز أن يكون له الرفع على الحال، فيكون المعنى: أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم.
ويجوز أيضاً: (ولا تَسْأَلْ عن أصحاب الجحيم), وقد قرئ به , فيكون جزماً بلا.
وفيه قولان على ما توجبه اللغة:
أن يكون أمره اللّه بترك المسألة، ويجوز أن يكون النهي لفظاً, ويكون المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب، كما يقول لك القائل الذي تعلم أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة, أو حال قبيحة، فتقول: لا تسأل عن فلان, أي: قد صار إلى أكثر مما تريد، ويقال: سألته أسأله مسألة وسؤالاً, والمصادر على فعال تقلّ في غير الأصوات والأدواء, فأمّا في الأصوات فنحو: الدعاء, والبكاء, والصراخ, وأما في الأدواء فنحو: الزكام, والسعال, وما أشبه ذلك، وإنما جاء في السؤال؛ لأن السؤال لا يكون إلا بصوت). [معاني القرآن: 1/200-201]

تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({حتّى تتّبع ملّتهم} أي: دينهم، والملل: الأديان). [مجاز القرآن: 1/53]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تتّبع ملّتهم قل إنّ هدى اللّه هو الهدى ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الّذي جاءك من العلم ما لك من اللّه من وليّ ولا نصير}
قد شرحنا معنى: اليهود والنصارى, و "ترضى" يقال في مصدره: رضي، يرضى، رضا ومرضاة، ورِضواناً ورُضواناً.
ويروي عن عاصم في كل ما في القرآن من {رضوان} الوجهان جميعا، فأمّا ما يرويه عنه أبو عمرو فـ"رِضوان" بالكسر، وما يرويه أبو بكر بن عياش: فـ"رُضوان"، والمصادر تأتي على فِعلان وفُعلان، فأمّا فِعلان، فقولك: عرفته عرفاناً, وحسبته حسباناً, وأما فُعلان كقولك: غفرانك لا كفرانك.
وقوله عزّ وجلّ: {حتّى تتّبع ملّتهم}
{تتّبع} نصب بـ{حتى}، والخليل , وسيبويه, وجميع من يوثق بعلمه يقولون: إن الناصب للفعل بعد "حتى" (أن) إلّا أنها لا تظهر مع "حتى"، ودليلهم أن "حتى" غير ناصبة هو: أن "حتى" بإجماع خافضة، قال اللّه عزّ وجلّ: {سلام هي حتى مطلع الفجر} فخفض {مطلع} بـ{حتى}، ولا نعرف في العربية أن ما يعمل في اسم يعمل في فعل، ولا ما يكون خافضاً لاسم يكون ناصباً لفعل، فقد بان أن "حتى" لا تكون ناصبة، كما أنك إذا قلت: جاء زيد ليضربك , فالمعنى: جاء زيد لأن يضربك، لأن اللام خافضة للاسم، ولا تكون ناصبة للفعل، وكذلك: ما كان زيد ليضربك، اللام خافضة، والناصب لـ"يضربك" أن المضمرة, ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام، وإنما لم يجز ؛ لأنها جواب لما يكون مع الفعل , وهو حرف واحد يقول القائل: سيضربك، وسوف يضربك، فجعل الجواب في النفي بحرف واحد كما كان في الإيجاب بشيء واحد.
ونصب {ملتهم} بـ{تتبع}، ومعنى {ملتهم} في اللغة: سنتهم وطريقتهم، ومن هذا الملة أي: الموضع الذي يختبز فيه؛ لأنها تؤثر في مكانها كما يؤثّر في الطريق.
وكلام العرب إذا اتفق لفظه, فأكثره مشتق بعضه من بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ هدى اللّه هو الهدى} أي: الصراط الذي دعا إليه , وهدى إليه هو الطريق , أي: طريق الحق.
وقوله عزّ وجلّ: {ولئن اتّبعت أهواءهم} إنما جمع ولم يقل هواهم؛ لأن جميع الفرق ممن خالف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليرضيهم منه إلا اتباع هواهم, وجمع هوى على أهواء، كما يقال: جمل وأجمال، وقتب وأقتاب.
وقوله عزّ وجلّ: {ما لك من اللّه من وليّ ولا نصير} الخفض في {نصير} القراءة المجمع عليها، ولو قرئ: (ولا نصيرٌ) بالرفع كان جائزاً؛ لأن معنى من ولي: ما لك من اللّه ولي, ولا نصير.
ومعنى الآية: أن الكفار كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة , ويرون إنّه إن هادنهم وأمهلهم أسلموا، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فنهاه اللّه , ووعظه في الركون إلى شيء مما يدعون إليه، ثم أعلمه اللّه عزّ وجل وسائر الناس أن من كان منهم غير متعنت , ولا حاسد, ولا طالب لرياسة , تلا التوراة كما أنزلت , فذكر فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حق, فآمن به , فقال تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}). [معاني القرآن: 1/202-203]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حَقَّ تِلاَوَتِهِ}: حق تلاوته). [العمدة في غريب القرآن: 83]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يتلونه حقّ تلاوته} أي: يحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه, {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} وقع على الجميع). [مجاز القرآن: 1/53]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}
قال: {يتلونه حقّ تلاوته} كما يقولون: "هَذَا حقٌّ عالمٍ" , وهو مثل "هَذا عالمٌ كلّ عالمٍ"). [معاني القرآن: 1/113]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يتلونه حق تلاوته}: يحلون حلاله ويحرمون حرامه.
وقال بعضهم: يتبعونه حق اتباعه). [غريب القرآن وتفسيره: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } يعني: أن الذين تلوا التوراة على حقيقتها، أولئك يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دليل: أن غيرهم جاحد لما يعلم حقيقته؛ لأن هؤلاء كانوا من علماء اليهود، وكذلك من آمن من علماء النصارى ممن تلا كتبهم.
و{الذين} يرفع بالابتداء، وخبر الابتداء {يتلونه}, وإن شئت كان خبر الابتداء {يتلونه} و{أولئك} جميعاً, فيكون للابتداء خبران، كما تقول: هذا حلو حامض). [معاني القرآن: 1/203]

تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين }
{يا بني إسرائيل} نصب ؛ لأنه نداء مضاف، وأصل النداء: النصب، ألا ترى أنك إذا قلت: يا بني زيد، فقال لك قائل: ما صنعت؛ قلت: ناديت بني زيد، فمحال أن تخبره بغير ما صنعت، وقد شرحناه قبل هذا شرحا أبلغ من هذا، و"إسرائيل" لا يتصرف، وقد شرحنا شرحه في مكانه , وما فيه من اللغات.
وقوله عزّ وجلّ: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين} موضع (أن) نصب كأنه قال: اذكروا أني فضلتكم على العالمين.
والدليل من القرآن على أنهم فضلوا قول موسى صلى الله عليه وسلم كما قال الله عزّ وجلّ: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين}
وتأويل تفضيلهم في هذه الآية: ما أوتوا من الملك , وأن فيهم أنبياء , وأنهم أعطوا علم التوراة، وأن أمر عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم- لم يكونوا يحتاجون فيه إلى آية غير ما سبق عندهم من العلم به، فذكرهم اللّه عزّ وجلّ ما هم عارفون، ووعظهم فقال: {واتّقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون}). [معاني القرآن: 1/203-204]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا يقبل منها عدلٌ...} يقال: فديةٌ). [معاني القرآن: 1/75]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا تجزى نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} أي: لا تغنى.
{ولا يقبل منها عدلٌ} أي: مثلٌ، يقال: هذا عدل هذا؛ والعدل: الفريضة، والصّرف: النافلة؛
وقال أبو عبيدة: العدل: المثل، والصّرف: المثل، والعدل: الفداء، قال الله تبارك وتعالى: {وإن تعدل كلّ عدل}). [مجاز القرآن: 1/53]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({لا يقبل منها عدل} العدل: الفداء، ومنه {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} وقالوا: الفريضة والصرف والنافلة). [غريب القرآن وتفسيره: 81]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا تنفعها شفاعةٌ} هذا للكافر, فليس له شافع فينفعه، ولذلك قال الكافرون: {فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ} حين رأوا تشفيع اللّه في المسلمين). [تفسير غريب القرآن: 62]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({واتّقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} العدل: الفدية، وقيل لهم: {ولا تنفعها شفاعة}؛ لأنهم كانوا يعتمدون على أنهم أبناء أنبياء اللّه، وأنهم يشفعون لهم، فأيئسهم اللّه عزّ وجلّ من ذلك, وأعلمهم أن من لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فليس ينجيه من عذاب اللّه شيء , وهو كافر). [معاني القرآن: 1/204]


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 01:57 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 124 إلى 141]

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ...}
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السّنّة؛ خمسٌ في الرأس، وخمس في الجسد؛
فأما اللاتي في الرأس: فالفرق، وقصّ الشّارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسّواك,
وأما اللاتي في الجسد: فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرفغين, يعني: الإبطين, قال الفرّاء: ويقال للواحد "رفغ"، والاستنجاء.
{فأتمّهنّ}: عمل بهنّ؛ فقال الله تبارك وتعالى: {إنّي جاعلك للنّاس إماماً}: يهتدى بهديك ويستنّ بك، فقال: ربّ {ومن ذرّيّتي} على المسئلة).
[معاني القرآن: 1/76]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لا ينال عهدي الظّالمين...} يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك, وفي قراءة عبد الله: (لا ينال عهدي الظّالمون), وقد فسّر هذا؛ لأن ما نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالني خيرك). [معاني القرآن: 1/76]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذا ابتلى إبراهيم ربّه} أي: اختبره). [مجاز القرآن: 1/54]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين}
قال: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ} أي: اختبره, و{إبراهيم} هو المبتلي؛ فلذلك انتصب,
وقال: {لا ينال عهدي الظّالمين}؛ لأنّ العهد هو الذي لا ينالهم، وقال بعضهم: (لا ينال عهدي الظالمون), والكتاب بالياء, وإنما قالوا: (الظالمون)؛ لأنهم جعلوهم الذين لا ينالون). [معاني القرآن: 1/113]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ} أي: اختبر اللّه إبراهيم بكلمات, يقال: هي عشر من السّنّة, {فأتمّهنّ} أي: عمل بهن كلّهن). [تفسير غريب القرآن: 63]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماما قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين} المعنى: اذكروا إذ ابتلى إبراهيم ربه.
ومعنى {فأتمهن}: وفّى بما أمر به فيهن، وقد اختلفوا في الكلمات:
1- فقال قوم: تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس، وخمس خلال في البدن،
فأمّا اللاتي في الرأس: فالفرق, وقص الشارب , والسواك، والمضمضة، والاستنشاق،
وأمّا التي في البدن : فالختان , وحلق العانة , والاستنجاء , وتقليم الأظافر , ونتف الإبط, فهذا مذهب قوم , وعليه كثير من أهل التفسير.
2- وقال قوم: أن الذي ابتلاه به: ما أمره به من ذبح ولده, وما كان من طرحه في النار، وأمر النجوم التي جرى ذكرها في القرآن في قوله عزّ وجلّ: {فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى كوكباً}, وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس، فهذا مذهب قوم.
وجميع هذه الخلال قد ابتلي بها إبراهيم، وقد وفّى بما أمر به, وأتى بما يأتي به المؤمن, بل البر المصطفى المختار،
ومعنى {ابتلى}: اختبر.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّي جاعلك للنّاس إماماً}؛ الأم: في اللغة القصد، تقول: أممت كذا وكذا، إذا قصدته, وكذلك قوله: {فتيمّموا صعيداً طيّباً}, أي: فاقصدوا, والإمام: الذي يؤتم به, فيفعل أهله وأمته كما فعل، أي: يقصدون لما يقصد.
{قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين}: فأعلم اللّه إبراهيم أن في ذريته الظالم، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمون), والمعنى في الرفع والنصب واحد؛ لأن النّيل مشتمل على العهد وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم، والقراءة الجيّدة هي على نصب الظالمين؛ لأن المصحف هكذا فيه، وتلك القراءة جيدة باللغة إلا أني لا أقرأ بها، ولا ينبغي أن يقرأ بها؛ لأنها خلاف المصحف؛ ولأن المعنى: أن إبراهيم عليه السلام كأنّه قال: واجعل الإمامة تنال ذريتي, واجعل هذا العهد ينال ذريتي، قال اللّه: {لا ينال عهدي الظالمين}, فهو على هذا أقوى أيضاً).[معاني القرآن: 1/205]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} أي: اختبره، والكلمات هي عشر:خمس في الرأس، وخمس في البدن: فالتي في الرأس هي: الفرق، وقص الشارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسواك.
والتي في البدن هي: الختان، ونتف الإبط، وتقليم الظفر، وحلق العانة، والاستنجاء بالماء.
{فأتمهن} أي: عمل بهن). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ جعلنا البيت مثابةً لّلنّاس...} يثوبون إليه -من المثابة والمثاب- أراد: من كل مكان. والمثابة في كلام العرب كالواحد؛ مثل: المقام والمقامة.
وقوله: {وأمناً...} يقال: إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثم عاذ بالحرم لم يقم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم، ويؤمر بألاّ يخالط, ولا يبايع، وأن يضيّق عليه حتى يخرج؛ ليقام عليه الحدّ، فذلك أمنه, ومنّ جنى من أهل الحرم جناية, أو أصاب حدّا, أقيم عليه في الحرم). [معاني القرآن: 1/76-77]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى...} وقد قرأت القرّاء بمعنى الجزم, والتفسير مع أصحاب الجزم, ومن قرأ: (واتّخَذوا), ففتح الخاء كان خبراً, يقول: جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكلّ صواب إن شاء الله). [معاني القرآن: 1/77]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أن طهّرا بيتي...} يريد: من الأصنام ألاّ تعلّق فيه.
وقوله: {للطّائفين والعاكفين...} يعني: أهله, {والرّكّع السّجود} يعني: أهل الإسلام). [معاني القرآن: 1/77]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({مثابةً} مصدر (يثوبون إليه) أي: يصيرون إليه.
{والعاكفين} العاكف أي: المقيم. {والركّع السّجود}: الذين يركعون , ويسجدون , والراكع: العاثر من الدواب, قال الشاعر:
على قرواء تركع في الظّراب
الظراب: الجبال الصغار؛ قال لبيد:
أخبّر أخبار القرون التي مضت= أدبّ كأنّي كلما قمت راكع
).[مجاز القرآن: 1/54]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ جعلنا البيت مثابةً لّلنّاس وأمناً واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود}
قال: {وإذ جعلنا البيت مثابةً لّلنّاس وأمناً} على {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم}, {وإذ جعلنا البيت مثابةً لّلنّاس}, وألحقت الهاء في "المثابة" لما كثر من يثوب إليه، كما تقول: "نسّابة" و"سيّارة" لمن يكثر ذلك منه.
وقال: {واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى} يريد (واتّخذوا) كأنّه يقول: واذكروا نعمتي , وإذ اتّخذوا مصلى من مقام إبراهيم, و{اتّخِذوا} بالكسر , وبها نقرأ ؛ لأنّها تدلّ على الغرض.
وقال: {والرّكّع السّجود} , فـ{السّجود} جماعة "السّاجد" كما تقول: "قومٌ قعودٌ" , و"جلوسٌ"). [معاني القرآن: 1/113-114]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({مثابة للناس}: مصيرا يصيرون إليه لا يقضون منه وطرا. والعاكف: المقيم).
[غريب القرآن وتفسيره:81-82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({جعلنا البيت مثابةً للنّاس} أي: معاداً لهم، من قولك: ثبت إلى كذا وكذا، عدت إليه, وثاب إليه جسمه بعد العلة، أي: عاد. أراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة.
{العاكفين}: المقيمين, يقال: عكف على كذا، إذا أقام عليه. ومنه قوله: {وانظر إلى إلهك الّذي ظلت عليه عاكفاً}, ومنه الاعتكاف، إنما هو: الإقامة في المساجد على الصلاة , والذكر للّه). [تفسير غريب القرآن: 63]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود}
{مثابة}: يثوبون إليه، والمثاب والمثابة واحد، وكذلك المقام والمقامة.
قال الشاعر:
وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن= جرير ولا مولى جرير يقومها
وواحد المقاوم "مقام", وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوهها= وأندية ينتابها القول والفعل
وواحد المقامات "مقامة",
و الأصل في مثابة "مثوبة", ولكن حركة الواو نقلت إلى التاء، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفا، وهذا إعلال إتباع، تبع مثابة باب "ثاب" وأصل ثاب "ثوب"، ولكن الواو قلبت ألفا لتحركها, وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك.
وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الإعراب والمعاني , فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم.
ومعنى قوله {وأمنا}؛ قيل: كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد، ولكن لا يبايع , ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج منه، فيقام عليه الحد.
وقوله عزّ وجلّ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} قرئت {واتخذوا} بالفتح والكسر: واتخذوا، واتّخذوا .
روى أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم, وقد وقفا على مقام إبراهيم: "أليس هذا مقام خليل ربنا؟" وقال بعضهم: "مقام أبينا, أفلا نتخذه مصلى؟"؛ فأنزل الله عزّ وجلّ: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}, فكان الأمر.
والقراءة: {واتخذوا} بالكسر على هذا الخبر أبين, ولكن ليس يمتنع (واتخَذوا)؛ لأن الناس اتخذوا هذا، فقال: {وإذ جعلنا البيت مثابة}, (واتخَذوا), فعطف بجملة على جملة.
وقوله عزّ وجلّ: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود}
معنى "طهّراه": امنعاه من تعليق الأصنام عليه، و"الطائفون": هم الذين يطوفون بالبيت، و"العاكفون": المقيمون به، ويقال: قد عكف يعكف , ويعكف على الشيء عكوفاً, أي: أقام عليه، ومن هذا قول الناس: فلان معتكف على الحرام، أي: مقيم عليه.
{والرّكع السجود}: سائر من يصلي فيه من المسلمين.
و{بيتي}: الأجود فيه فتح الياء، وإن شئت سكّنتها، و"الرّكع": جمع راكع، مثل: غاز وغزى، و"السجود" جمع ساجد، كقولك: ساجد وسجود، وشاهد وشهود). [معاني القرآن: 1/206-207]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مثابة للناس} أي: معاداً يعودون إليه, و"العاكف": المقيم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَثَابَةً}: مصير, "الْعَاكِفُونَ": المقيمون). [العمدة في غريب القرآن: 83]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ومن كفر..} من قول الله تبارك وتعالى: {فأمتّعه} على الخبر, وفي قراءة أبيّ: (ومن كفر فنمتّعه قليلاً ثمّ نضطرّه إلى عذاب النار), فهذا وجه, وكان ابن عباس يجعلها متّصلة بمسألة إبراهيم -صلى الله عليه- على معنى: "ربّ ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطرّه", منصوبة موصولة, يريد: ثم اضطرره؛ فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز في هذا المذهب كسر الراء في لغة الذين يقولون مدّة, وقرأ يحيى بن وثّاب: (فإمتعه قليلا ثم إضطرّه) بكسر الألف كما تقول: أنا أعلم ذلك). [معاني القرآن: 1/78]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلاً ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير}
قال: {وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم} , فـ{من آمن} بدل على التبيان كما تقول: "أخذت المال نصفه" , و"رأيت القوم ناساً منهم", ومثل ذلك {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه}, يريد: عن قتالٍ فيه، وجعله بدلاً, ومثله: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً}, ومثله: {قال الملأ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم}, لشبيه هذا أيضاً إلاّ أنه قدر فيه حرف الجرّ.
وقال: (ومن كفر فأمتعه قليلاً) على الأمر (ثمّ أضطره) فجزم (فأمتعه) على الأمر , وجعل الفاء جواب المجازاة,
وقال بعضهم: {فأمتّعه}, وبها نقرأ رفع على الخبر , وجواب المجازاة الفاء). [معاني القرآن: 1/114]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم باللّه واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النّار وبئس المصير} المعنى: واذكروا إذ قال إبراهيم.
{وأمنا}: ذا أمن.
وقوله عزّ وجل: {وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم...} {من} نصب بدل من {أهله}، المعنى: أرزق من آمن من أهله دون غيرهم؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أن في ذريته غير مؤمن، لقوله: عزّ وجل: {لا ينال عهدي الظّالمين}.
وقوله عزّ وجلّ: {قال ومن كفر فأمتّعه قليلا ثمّ أضطرّه إلى عذاب النار} أكثر القراءة على: {فأمتّعه قليلاً ثم أضطره} على الإخبار، وقد قرئ أيضاً: (فأمتعه ثم اضطرّه) على الدعاء، ولفظ الدعاء كلفظ الأمر مجزوم، إلا أنه استعظم أن يقال "أمر"، فمسألتك من فوقك -نحو: أعطني، وأغفر لي- دعاء ومسألة، ومسألتك من دونك أمر، كقولك لغلامك: افعل كذا وكذا,
والراء مفتوحة في قوله: (ثم اضطرّه), لسكونها , وسكون الراء التي قبلها الأصل: ثم اضطرره، ويجوز: (ثم أضطره) , ولا أعلم أحداً قرأ بها).
[معاني القرآن: 1/207-208]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل...}
يقال: هي أساس البيت, واحدتها : قاعدة، ومن النساء اللواتي قد قعدن عن المحيض قاعد بغير هاء, ويقال لامرأة الرجل: قعيدته). [معاني القرآن: 1/78]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله:{ربّنا تقبّل منّا...}
يريد: يقولان ربنا, وهي في قراءة عبد الله: {ويقولان ربنا}). [معاني القرآن: 1/78]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قواعد البيت}: أساسه، مخفف، والجميع أسس، وجماع الأسّ إذا ضممته آساس، تقديره: أفعال؛ {والقواعد}: الواحد من قواعد البيت: قاعدة, والواحدة من قواعد النسا : قاعدة، وقاعد أكثر، قال الكميت ابن زيد:
في ذروة من يفاعٍ أوّلهم= زانت عواليها قواعدها
وقال أيضاً:
وعاديةٍ من بناء الملوك= تمتّ قواعد منها وسورا
واحدها: قاعدة.
{يرفع}: أي: يبني). [مجاز القرآن: 1/54-55]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم}
قال: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا} , أي: كان إسماعيل الذي قال: {ربّنا تقبّل منّا}). [معاني القرآن: 1/114]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({قواعد البيت}: أساسه الواحدة منه قاعدة ويقال قاعد وقواعد النساء واحدتهن قاعد. القواعد الأزواج). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({القواعد من البيت}: أساسه, واحدها: قاعدة, فأما قواعد النساء , فواحدها: قاعد, وهي العجوز.). [تفسير غريب القرآن: 63-64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم (127)}
القواعد: واحدتها قاعدة , وهي كالأساس, والأس للبنيان، إلا أن كل قاعدة فهي للتي فوقها، وإسماعيل عطف على إبراهيم.
وقوله:{ربّنا تقبّل منّا},والمعنى يقولان :{ربّنا تقبّل منّا}, ومثله في كتاب اللّه:
{والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم) ومثله: (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب (23) سلام عليكم}أي: يقولون سلام عليكم). [معاني القرآن: 1/208]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{القواعد} من النساء: واحدتها: قاعد، والقواعد من البناء: يعني: الأساس، واحدتها: قاعدة).[ياقوتة الصراط: 178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ):{القواعد} أساس البيت، واحدتها قاعدة، وواحدة قواعد النساء : قاعد, وهي العجوز). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْقَوَاعِــــدَ}: الأســـــاس). [العمدة في غريب القرآن: 83]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأرنا مناسكنا...}
وفي قراءة عبد الله: {وأرهم مناسكهم} ذهب إلى الذّرّيّة, {وأرنا} ضمّهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم؛ يدلّك على ذلك قوله: {وابعث فيهم رسولًا} رجع إلى الذّرّيّة خاصّة). [معاني القرآن: 1/79]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأرنا مناسكنا}, أي: علّمنا، قال حطائط بن يعفر:
أريني جواداً مات هزلاً لأننني= أرى ما ترين أو بخيلا مخلّداً
لأنني بفتح اللام, أراد: دلّيني , ولم يرد رؤية العين، ومعنى (لأنني): لعلني). [مجاز القرآن: 1/55]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مّسلمةً لّك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التّوّاب الرّحيم}
قال: {وأرنا مناسكنا}, وقال بعضهم : {وأرنا} أسكن الراء كما تقول "قد علم ذلك " , وبالكسر نقرأ, وواحد "المناسك": "منسك" : مث: ل "مسجد" , ويقال أيضاً: "منسك"). [معاني القرآن: 1/114-115]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وأرنا منا سكنا}: أي علمنا. وقوله {ولو يرى الذين ظلموا}: أي يعلم الذين ظلموا). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأرنا مناسكنا},أي : علّمنا). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنّك أنت التّوّاب الرّحيم (128)}
تفسير المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر اللّه كله , وخضع له، فالمسلم المحقق هو الذي أظهر القبول لأمر اللّه كله , وأضمر مثل ذلك، وكذلك قوله: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}
المعنى: قولوا جميعاً: خضعنا, وأظهرنا الإسلام, وباطنهم غير ظاهرهم ؛ لأن هؤلاء منافقون, فأظهر اللّه عزّ وجلّ النبي على أسرارهم، فالمسلم على ضربين مظهر القبول , ومبطن مثل ما يظهر، فهذا يقال له : مؤمن، ومسلم إنما يظهر غير ما يبطن فهذا غير مؤمن؛ لأن التصديق والإيمان هو بالإظهار مع القبول، ألا ترى أنهم إنما قيل لهم {ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}, أي: أظهرتم الإيمان خشية.
وقوله " عزّ وجلّ: {وأرنا مناسكنا}
معناه: عزفنا متعبداتنا، وكل متعبّد , فهو منسك ومنسك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى: النسيكة؛كأنّ الأصل في النسك : إنما هو من الذبيحة للّه جلّ وعزّ, وتقرأ أيضاً {وأرنا} على ضربين: بكسر الراء , وبإسكانها, والأجود الكسر.
وإنما أسكن أبو عمرو؛ لأنه جعله بمنزلة فخذ , وعضد , وهذا ليس بمنزلة فخذ, ولا عضد؛ لأن الأصل في هذا { أرئنا}, فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت, وطرحت حركتها على الراء , فالكسرة دليل الهمزة، فحذفها قبيح، وهو جائز على بعده ؛ لأن الكسر والضم إنما يحذف على جهة الاستثقال.
فاللفظ بكسرة الهمزة , والكسرة التي في بناء الكلمة واللفظ به واحد، ولكن الاختيار ما وصفنا أولاً). [معاني القرآن: 1/208-209]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وأرنا مناسكنا}: علمناها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 33]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَأَرِنَا}: علمنا, {مَنَاسِكَنَا}: الموقف الذي يذكر الله فيه مثل: عرفات, وغيرها). [العمدة في غريب القرآن: 83]

تفسير قوله تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ويزكّيهم} أي: يطهّرهم، قال: {نفساً زكيّةً}, أي: مطّهرة). [مجاز القرآن: 1/56]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ويزكيهم}: يطهرهم، ونفس زاكية منه). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والحكمة: الفقه, والعلم). [ياقوتة الصراط: 178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ويزكيهم} أي: يطهرهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُزَكِّيهِـــمْ}: يطهرهــــم). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إلاّ من سفه نفسه...}
العرب توقع سفه على {نفسه},وهي معرفة, وكذلك قوله: {بطرت معيشتها}, وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسّر، والمفسّر في أكثر الكلام نكرة؛ كقولك: ضقت به ذرعاً, وقوله: {فإن طبن لكم عن شيء مّنه نفساً} فالفعل للذرع؛ لأنك تقول: ضاق ذرعي به، فلمّا جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الّذرع مفسرا ؛ لأن الضيق فيه؛ كما تقول: هو أوسعكم داراً, دخلت الدار ؛ لتدلّ على أن السعة فيها لا في الرّجل؛ وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت رأيك - أو - وفقت.
قال أبو عبد الله: أكثر ظنّي وثقت بالثاء, إنما الفعل للأمر، فلمّا أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير؛ ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيه سفه زيدٌ، كما لا يجور دارا أنت أوسعهم؛ لأنه وإن كان معرفة فإنه في تأويل نكرة، ويصيبه النصب في موضع نصب النكرة ولا يجاوزه). [معاني القرآن: 1/79]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سفه نفسه}, أي: أهلك نفسه , وأوبقها، تقول: سفهت نفسك). [مجاز القرآن: 1/56]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن يرغب عن مّلّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين}
قال: {إلاّ من سفه نفسه}, فزعم أهل التأويل أنه في معنى: "سفّه نفسه", وقال يونس: "أراها لغة", ويجوز في هذا القول: "سفهت زيداً"، وهو يشبه "غبن رأيه" , و"خسر نفسه" إلا أن هذا كثير، ولهذا معنى ليس لذاك, تقول: "غبن في رأيه" , و"خسر في أهله" , و"خسر في بيعه". وقد جاء لهذا نظير، قال: "ضرب عبد اللّه الظهر والبطن" ومعناه: على الظهر والبطن" كما قالوا: "دخلت البيت" وإنما هو "دخلت في البيت", وقوله: "توجّه مكّة والكوفة" ,وإنما هو: إلى مكّة والكوفة, ومما يشبه هذا قول الشاعر:
نغالي اللّحم للأضياف نيئاً = ونبذله إذا نضج القدور.
يريد: نغالى باللحم, ومثل هذا : {وإن أردتّم أن تسترضعوا أولادكم} , يقول: "لأولادكم" , و {ولا تعزموا عقدة النّكاح}, أي: على عقدة النكاح, وأحسنمن ذلك أن تقول: "إنّ سفه نفسه" جرت مجرى "سفه" إذ كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى "نفسه" و"رأيه" وأشباه ذا ممّا هو في المعنى نحو "سفه" إذا لم يتعد, وأما "غبن" و"خسر" فقد يتعدى إلى غيره تقول: "غبن خمسين" و"خسر خمسين"). [معاني القرآن: 1/115]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سفه نفسه}: أهلكها وأوبقها). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({إلّا من سفه نفسه}, أي: من سفهت نفسه, كما تقول: غبن فلان رأيه, والسّفه: الجهل). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلّا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنه في الآخرة لمن الصّالحين }
معنى {من}التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع بالابتداء، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، والملّة قد بيناها , وهي السّنّة والمذهب، وقد أكثر النحويون , واختلفوا في تفسير {سفه نفسه}, وكذلك أهل اللغة،
فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن المعنى : سفه نفسه,
وقال يونس النحوي: أراها لغة، وذهب يونس إلى أن فعل للمبالغة،كما أن فعل للمبالغة , فذهب في هذا مذهب التأويل، ويجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى : سفهت زيداً,
وقال أبو عبيدة معناه: أهلك نفسه، وأوبق نفسه، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهب يونس.
وقال بعض النحويين: إن نفسه منصوب على التفسير،
وقال التفسير في النكرات أكثر نحو : طاب زيد بأمره نفساً, وقر به عيناً, وزعم أن هذه المفسّرات المعارف أصل الفعل لها , ثم نقل إلى الفاعل نحو : وجع زيد رأسه، وزعم أن أصل الفعل للرأس , وما أشبهه، وأنه لا يجيز تقديم شيء من هذه المنصوبات, وجعل {سفه نفسه} من هذا الباب.
قال أبو إسحاق: وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف ؛ لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال , فإذا عرفه صار مقصوداً قصده، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.
وقال أبو إسحاق: إن {سفه نفسه} بمعنى : سفه في نفسه إلا أن " في " حذفت، كما حذفت حروف الجر في غير موضع.
قال الله عزّ وجلّ: {ولا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم}
والمعنى : أن تسترضعوا لأولادكم، فحذف حرف الجرّ في غير ظرف، ومثله قوله عزّ وجلّ: {ولا تعزموا عقدة النكاح},أي: على عقدة النكاح, ومثله قول الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئاً= ونرخصه إذا نضج القدور
المعنى: نغالي باللحم، ومثله قول العرب: ضرب فلان الظهر والبطن, والمعنى: على الظهر والبطن. فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر موجود في كتاب اللّه، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة، وهو عندي مذهب صالح.
والقول الجيّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل، فالمعنى: - واللّه أعلم - إلا من جهل نفسه، أي: لم يفكر في نفسه.
كقوله عزّ وجلّ: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}, فوضع جهل, وعدى كما عدى.
فهذا جميع ما قال الناس في هذا، وما حضرنا من القول فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد اصطفيناه في الدّنيا}
معناه: اخترناه , ولفظه مشتق من الصفوة.
{وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين}:فالصالح في الآخرة الفائز). [معاني القرآن: 1/209-211]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({من سفه نفسه} أي: في نفسه, وقيل: معناها سفهت نفسه, وقيل: جهل نفسه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({سَفِهَ نَفْسَــــهُ}: جهــــــل). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين}
معناه: اصطفاه إذ قال له ربه أسلم: أي: في ذلك الوقت {قال أسلمت لربّ العالمين}). [معاني القرآن: 1/211]

تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ووصّى بها إبراهيم بنيه...}
في مصاحف أهل المدينة: {وأوصى}, وكلاهما صوابٌ كثيرٌ في الكلام.
وقوله: {ويعقوب...}
أي: ويعقوب وصّى بهذا أيضاً, وفي إحدى القراءتين قراءة عبد الله , أو قراءة أبيّ: {أن يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين}, يوقع وصى على "أن" , يريد: وصّاهم "بأن" , وليس في قراءتنا "أن"، وكلّ صواب, فمن ألقاها قال: الوصيّة قول، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن، وجاز إلقاء أن؛ كما قال الله عزّ وجلّ في النساء: {يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين}؛ لأن الوصيّة كالقول؛ وأنشدني الكسائي:
إني سأبدي لك فيما أبدي = لي شجنان شجن بنجد
= وشجن لي ببلاد السند =
لأن الإبداء في المعنى بلسانه؛ ومثله قول الله عزّ وجلّ: {وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً}, لأن العدة قول, فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويّين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء؛ لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون في معنى القول وغيره, وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول, ثم ظهرت فيه أن فهي منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأمّا الذي يأتي بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول الله تبارك وتعالى: {إنّا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك} جاءت أن مفتوحة؛ لأن الرسالة قول, وكذلك قوله: {فانطلقوا وهم يتخافتون. أن لا يدخلنا} والتخافت قول, وكذلك كلّ ما كان في القرآن, وهو كثير, منه قول الله {وآخر دعواهم أن الحمد للّه}. ومثله: {فأذّن مؤذّنٌ بينهم أن لعنة اللّه على الظّالمين}الأذان قول، والدعوى قول في الأصل.
وأمّا ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن , فقول الله : {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا} , فلمّا لم يكن في "أبصرنا" كلام يدلّ على القول, أضمرت القول , فأسقطت أن؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن,ومنه قول الله: {والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم}, معناه: يقولون: أخرجوا, ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا}, معناه: يقولان: {ربّنا تقبّل منّا} , وهو كثير, فقس بهذا ما ورد عليك.
وقوله:{... قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}
قرأت القرّاء :{نعبد إلهك وإله آبائك} , وبعضهم قرأ :{وإله أبيك} واحداً, وكأن الذي قال: أبيك, ظنّ أن العمّ لا يجوز في الآباء, فقال: {وإله أبيك إبراهيم}, ثم عدّد بعد الأب العّم, والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأمّ كالأخوال, وذلك كثير في كلامهم). [معاني القرآن: 1/80-82]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({اصطفى لكم الدّين}أي: أخلص لكم الدين من الصفوة). [مجاز القرآن: 1/56]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مّسلمون}
قال: {ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ} , فهو - والله أعلم - , وقال يعقوب: يا بني؛ لأنه حين قال: {ووصّى بها} قد أخبر أنه قال لهم شيئاً, فأجرى الأخير على معنى الأول , وإن شئت قلت: {ويعقوب} معطوف, كأنك قلت: "ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" ,. ثم فسر ما قال يعقوب، قال: "يا بني"). [معاني القرآن: 1/116]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({اصطفى لكم الدين}: أخلصه من الصفوة). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}
قوله: (بها) هذه الهاء ترجع على الملة؛ لأن إسلامه هو إظهار طريقته وسنته, ويدل على قوله: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم}, قوله: {إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين}
وإنما كسرت " إن"؛ لأن معنى وصي وأوصى: قول: المعنى : قال لهم إن اللّه اصطفى لكم الدين، ووصى أبلغ من أوصى، لأن أوصى جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصّى لا يكون إلا لمرات كثيرة.
وقوله عزّ وجلّ: {فلا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}
إن قال قائل: كيف ينهاهم عن الموت، وهم إنما يماتون، فإنما وقع هذا على سعة الكلام، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم: " لا أرينك ههنا "، فلفظ النهي إنما هو للمتكلّم، وهو في الحقيقة للمكلّم.
المعنى: لا تكونن ههنا , فإن من كان ههنا - رأيته - , والمعنى في الآية: ألزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت , صادفكم مسلمين).[معاني القرآن: 1/211-212]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اصطفى}: أخلص , واختار). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اصْطَفَى}: اختــــار). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً...}
أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فإن نصبتها بـ "نكون" كان صواباً,و وإن نصبتها بفعل مضمر كان صواباً, كقولك: بل نتّبع "ملّة إبراهيم"، وإنما أمر الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ’, فقال: {قل بل ملّة إبراهيم}). [معاني القرآن: 1/82]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أم كنتم شهداء}: (أم) تجئ بعد كلام قد انقطع، وليست في موضع هل، ولا ألف الاستفهام، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ= غلس الظّلام من الرّباب خيالا
يقول: كذبتك عينك، هل رأيت، أوبل رأيت). [مجاز القرآن: 1/56-57]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق}, والعرب تجعل العم , والخال أباً.
قال أبو عبيدة: لم اسمع من حمّاد هذا، قال حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة: إنّ النبي صلى الله عليه قال يوم الفتح، حيث بعث العباس إلى أهل مكة: (( ردّوا عليّ أبي , فإنّي أخاف أن يفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة ابن مسعود))، ثم قال: ((لئن فعلوا، لأضرمنّها عليهم ناراً)), وكان النبي صلى الله عليه بعث عروة إلى ثقيف، يدعوهم إلى الله، فرقى فوق بيتٍ، ثم ناداهم إلى الإسلام فرماه رجل بسهم، فقتله). [مجاز القرآن: 1/56-57]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}
قال: {أم كنتم شهداء} استفهام مستأنف.
وقال: {إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه} , فأبدل "إذ" الآخرة من الأولى.
وقال: {إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} , على البدل, وهو في موضع جر إلا أنها أعجمية , فلا تنصرف.
وقوله: {إلهاً واحداً}, على الحال). [معاني القرآن: 1/116]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون }
المعنى: بل أكنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، إذ قال لبنيه , فقولك: (إذ) الثانية، موضعها نصب كموضع الأولى، وهذا بدل مؤكد.
وقوله: {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك}
القراءة على الجمع، وقال بعضهم: {وإله أبيك}, كأنه كره أن يجعل العم أباه، وجعل إبراهيم بدلاً من أبيك مبينا عنه، وبخفض إسماعيل وإسحاق، كان المعنى : إلهك , وإله أبيك , وإله إسماعيل، كما تقول: رأيت غلام زيد وعمرو , أي : غلامهما، ومن قال:{وإله آبائك}فجمع , وهو المجتمع عليه، جعل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق بدلاً, وكان موضعهم خفضاً على البدل المبين عن آبائك.
وقوله عزّ وجلّ: {إلهاً واحداً}: منصوب على ضربين:
1- إن شئت على الحال، كأنهم قالوا نعبد: إلهك في حال وحدانيته،
2- وإن شئت على البدل, وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد، فيكون المعنى : نعبد إلهاً واحداً). [معاني القرآن: 1/212-213]

تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم مّا كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون}
قال: {تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت}, يقول: "قد مضت" , ثم استأنف , فقال: {لها ما كسبت}). [معاني القرآن: 1/116]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (134)}
معنى {خلت} :مضت، كما تقول لثلاث خلون من الشهر , أي: مضين.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تسألون عمّا كانوا يعملون}: المعنى: إنما تسألون عن أعمالكم). [معاني القرآن: 1/213]

تفسير قوله تعالى: {َقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بل ملّة إبراهيم}: انتصب، لأن فيه ضمير فعلٍ، كأن مجازه بل اتبعوا ملة إبراهيم، أو: عليكم ملة إبراهيم.
{حنيفاً}: الحنيف في الجاهلية : من كان على دين إبراهيم، ثم سمّى من اختتن , وحج البيت حنيفاً لما تناسخت السنون، وبقي من يعبد الأوثان من العرب قالوا: نحن حنفاء على دين إبراهيم، ولم يتمسكوا منه إلا بحج البيت، والختان؛ والحنيف اليوم: المسلم.
قال ذو الرمة:
إذا خالف الظّلّ العشيّ رأيته= حنيفاً ومن قرن الضّحى يتنصّر
يعني : الحرباء). [مجاز القرآن: 1/57-58]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}
قال: {بل ملّة إبراهيم} بالنصب). [معاني القرآن: 1/116]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الحنيف}: من كان على دين إبراهيم عليه السلام). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( {الحنيف}: المستقيم, وقيل للأعرج: حنيف، نظراً له إلى السلامة). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}
المعنى: قالت اليهود: كونوا هودااً, وقالت النصارى: كونوا نصارى.
وجزم تهتدوا على الجواب للأمر، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة.
المعنى: إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب الجزاء.
وقوله عزّ وجلّ: {بل ملة إبراهيم حنيفاً}
تنصب الملة على تقدير: بل نتبع ملة إبراهيم,
ويجوز أن تنصب على معنى: بل نكون أهل ملة إبراهيم، وتحذف " الأهل " كما قال الله عزّ وجلّ: {واسأل القرية التي كنّا فيها}؛لأن القرية لا تسأل ولا تجيب.
ويجوز الرفع:{بل ملة إبراهيم حنيفاً},
والأجود والأكثر: النصب, ومجاز الرفع على معنى: قل: ملتنا وديننا ملة إبراهيم، ونصب {حنيفاً}على الحال.
المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفته، ومعنى الحنيفة في اللغة: الميل, فالمعنى: أن إبراهيم حنيف إلى دين اللّه، دين الإسلام.
كما قال عزّ وجلّ: {إنّ الدّين عند اللّه الإسلام} فلم يبعث نبي إلا به.
وإن اختلفت شرائعهم، فالعقد توحيد اللّه عزّ وجلّ والإيمان برسله وإن اختلفت الشرائع، إلا أنّه لا يجوز أن تترك شريعة نبي، أو يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة نبي الأمة التي يكون فيها, وإنما أخذ الحنف من قولهم: امرأة حنفاء , ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف بن قيس وكانت ترقصه، وخرج سيد بني تميم: -
والله لولا حنف في رجله= ودقة في ساقه من هزله
ما كان في فتيانكم من مثله). [معاني القرآن: 1/213-214]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الحَنِيف}: الذي لا يرجع عن دينه). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لا نفرّق بين أحدٍ مّنهم...}
يقول: لا نؤمن ببعض الأنبياء , ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى). [معاني القرآن: 1/82]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قولوا آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}
{لا نفرّق بين أحد منهم}: المعنى: لا نكفر ببعض , ونؤمن ببعض). [معاني القرآن: 1/214]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فإنّما هم في شقاقٍ }: مصدر شاققته وهو المشاقّة أيضاً، وشاقّه: باينه، قال النابغة الجعديّ:
وكان إليها كالذي اصطاد بكرها= شقاقاً وبغضاً أو أطمّ وأهجرا
ومجازه: حارب، وعصى). [مجاز القرآن: 1/58-59]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({في شقاق}: في محاربة وعصيان). [غريب القرآن وتفسيره: 83]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فإنّما هم في شقاقٍ} أي: في عداوة, ومباينة). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق فسيكفيكهم اللّه وهو السّميع العليم (137)}
فإن قال قائل: فهل للإيمان مثل هو غير الإيمان؟
قيل له: المعنى واضح بين، وتأويله: فإن أتوا بتصديق مث: ل تصديقكم , وإيمانكم بالأنبياء، ووحّدوا كتوحيدكم, فقد اهتدوا، أي: فقد صاروا مسلمين مثلكم.
{وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق}, أي: في مشاقة , وعداوة, ومن هذا قول الناس: فلان قد شق عصا المسلمين، إنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، وإنما صار في شق غير شق المسلمين.
وقوله عزّ وجلّ: {فسيكفيكهم اللّه}
هذا ضمان من اللّه عزّ وجلّ في النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما يكفيه إياهم بإظهار ما بعثه به على كل دين سواهو, هذا كقوله: {ليظهره على الدّين كلّه}, فهذا تأويله , واللّه أعلم.
وكذا قوله:{كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي}
فإن قال قائل : فإن من المرسل من قتل.
فإن تأويل ذلك - والله أعلم - : أن اللّه غالب هو , ورسله بالحجة الواضحة، والآية البينة، ويجوز أن تكون غلبة الآخرة ؛ لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة.
وقد قيل: إن الله لم يأمر رسولاً بحرب , فاتبع ما أمره الله به في حربه إلا غلب, فعلى هذا التأويل : يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً). [معاني القرآن: 1/214-215]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({في شقاق}: عداوة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الشِقَاقٍ}: المحاربـــة). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صبغة اللّه...}
نصب، مردودة على الملّة، وإنما قيل :{صبغة الله}؛ لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود , جعلوه في ماء لهم , يجعلون ذلك تطهيراً له كالختانة, وكذلك هي في إحدى القراءتين, قل {صبغة اللّه}, وهي الختانة، اختتن إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال: {صبغة الله}: يأمر بها محمدا صلى الله عليه وسلم , فجرت الصبغة على الختانة , لصبغهم الغلمان في الماء، ولو رفعت الصبغة والمل‍ّة كان صواباً كما تقول العرب: جدّك لاكدّك، وجدّك لا كدّك, فمن رفع أراد: هي ملّة إبراهيم، هي صبغة الله، هو جدّك, ومن نصب أضمر مثل: الذي قلت لك من الفعل).[معاني القرآن: 1/82-83]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({صبغة الله}: أي: دين الله، وخلقته التي خلقه عليها، وهي : فطرته، من فاطر , أي: خالق). [مجاز القرآن: 1/59]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغةً ونحن له عابدون}
قال: {صبغة الله} بالنصب؛ لأنهم حين قالوا لهم: {كونوا هوداً}, كأنه قيل لهم: "اتّخذوا هذه الملّة" , فقالوا: "لا , {بل ملّة إبراهيم}, أي: نتّبع ملّة إبراهيم، ثم أبدل "الصّبغة" من "الملّة" , فقال: {صبغة اللّه} بالنصب, أو يكون أراد: ثم حذف "أصحاب" كما قال: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} يريد: "برّ من آمن باللّه", والصّبغة: هي الدين). [معاني القرآن: 1/116-117]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({صبغة الله}: دين الله وإنما قيل صبغة الله لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم المولود جعلوه في ماء لهم ويقولون: هذا تطهير له كالختانة فجرت الصبغة على الختانة). [غريب القرآن وتفسيره: 83]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({صبغة اللّه}, يقال: دين اللّه, أي:ألزم دين اللّه, ويقال: الصّبغة : الختان وقد بينت اشتقاق الحرف في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون}
يجوز أن تكون{صبغة}منصوبة على قوله: {بل نتبع ملة إبراهيم}, أي: بل نتبع صبغة اللّه, ويجوز أن يكون نصبها على: بل نكون أهل صبغة الله, كما قلنا في ملة إبراهيم، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي، كأنهم قالوا: هي صبغة اللّه , أي: هي ملة إبراهيم : صبغة الله.
وقيل: إنما ذكرت الصبغة ؛ لأنّ قوماً من النصارى؟, كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم، ويقولون هذا تطهير كما أن الختان تطهير لكم؛ فقيل لهم: {صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة}, أي: التطهير الذي أمر به مبالغ في النظافة.
ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - صبغة الله, أي: خلقة اللّه جلّ وعزّ الخلق، فيكون المعنى:. أن اللّه ابتدأ الخلق على الإسلام، ويكون دليل هذا القول قول الله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى}
وجاء في الحديث: أنهم أخرجهم كالذر، ودليل هذا التأويل أيضا قوله عزّ وجلّ: {فطرت اللّه الّتي فطر النّاس عليه}, ويجوز أن يكون منه الخبر: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه )), وصبغت الثوب ؛ إنما هو غيرت لونه, وخلقته). [معاني القرآن: 1/215-216]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصبغة: الدين). [ياقوتة الصراط: 178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({صِبْغَةَ اللّهِ}: دين الله). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى:{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({قل أتحاجّوننا في اللّه وهو ربّنا وربّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}
قال: {أتحاجّونّا} مثقلة ؛ لأنهما حرفان مثلان, فأدغم أحدهما في الآخر، واحتمل الساكن قبلهما إذ كان من حروف اللين، وحروف اللين الياء والواو والألف إذا كن سواكن, وقال بعضهم {أتحاجّوننا} فلم يدغم , ولكن أخفى فجعل حركة الأولى خفيفة , وهي متحركة في الوزن، وهي في لغة الذين يقولون: "هذه مائة دّرهمٍ" يشمون شيئاً من الرفع ولا يبينون , وذلك الإخفاء,وقد قرئ هذا الحرف على ذلك:{ما لك لا تأمنّا على يوسف} بين الإدغام والإظهار, ومثل ذلك {إنّي ليحزنني أن تذهبوا به} , وأشباه هذا كثير , وإدغامه أحسن حتى يسكن الأول). [معاني القرآن: 1/117]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قل أتحاجّوننا في اللّه وهو ربّنا وربّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}
في {أتحاجّوننا في الله}: لغات, فأجودها: {أتحاجوننا} بنونين , وإن شئت بنون واحدة {أتحاجونّا} على إدغام الأولى في الثانية , وهذا وجه جيد، ومنهم من إذا أدغم أشار إلى الفتح كما قراوا: {ما لك لا تأمنّا على يوسف} على الإدغام والإشارة إلى الضم، وإن شئت حذفت إحدى النونين , فقلت:{أتحاجون}, فحذف لاجتماع النونين , قال الشاعر:
تراه كالثغام يعلّ مسكاً= يسوء الغانيات إذا فليني
يريد : فلينني، ورأيت مذهب المازني , وغيره ردّ هذه القراءة، وكذلك ردّوا {فبم تبشرون}, قال أبو إسحاق: والأقدام على رد هذه القراءة غلط ؛ لأن نافعاً رحمه الله قرأ بها، وأخبرني إسماعيل بن إسحاق أنّ نافعاً رحمه اللّه لم يقرأ بحرف إلا وأقل, ما قرأ به إثنان من قراء المدينة، وله وجه في العربية فلا ينبغي أن يرد، ولكن " الفتح " في قوله{فبم تبشرون}:أقوى في العربية.
ومعنى قوله: {قل أتحاجّوننا في الله}: أن الله عزّ وجلّ أمر المسلمين أن يقولوا لليهود الذين ظاهروا من لا يوحد اللّه عزّ وجلّ من النصارى وعبدة الأوثان، فأمر الله أن يحتج عليهم بأنكم تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحّد , فلم ظاهرتم من لا يوحّد الله جلّ وعزّ:{وهو ربّنا وربّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم}: ثم أعلموهم : أنهم مخلصون، وإخلاصهم إيمانهم بأن الله عزّ وجلّ واحد، وتصديقهم جميع رسله، فاعلموا أنهم مخلصون، دون من خالفهم). [معاني القرآن: 1/216-217 ]

تفسير قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أم تقولون إنّ إبراهيم}: أم في موضع ألف الاستفهام، ومجازها: أتقولون). [مجاز القرآن: 1/59]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم اللّه ومن أظلم ممّن كتم شهادةً عنده من اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: {أم يقولون إنّ إبراهيم}, قال بعضهم : {أم تقولون} على {قل أتحاجّوننا}, و{أم تقولون}, ومن قال: {أم يقولون} جعله استفهاماً مستأنفاً كما تقول: "إنّها لإبلٌ" , ثم تقول: "أم شاءٌ"). [معاني القرآن: 1/117-118]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم اللّه ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من اللّه وما اللّه بغافل عمّا تعملون (140)}
كأنّهم قالوا لهم: بأيّ الحجتين تتعلّقون في أمرنا؟, أبالتوحيد , فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء , فنحن متبعون؟.
وقوله عزّ وجلّ: {قل أأنتم أعلم أم الله}
تأويله: أن النبي الذي أتانا بالآيات المعجزات , وأتاكم بها أعلمكم، وأعلمنا أن الإسلام دين هؤلاء الأنبياء.
والأسباط: هم الذين من ذرية الأنبياء، والأسباط اثنا عشر سبطا ً, وهم ولد يعقوب عليه السلام، ومعنى السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسبط في اللغة الشجرة، فالسبط، الذين هم من شجرة واحدة.
وقوله:{ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من الله}
يعني بهم: هؤلاء الذين هم علماء اليهود؛ لأنهم قد علموا أن رسالة النبي حق، وإنما كفروا حسداً, كما قال الله عزّ وجلّ, وطلباً لدوام رياستهم , وكسبهم؛ لأنهم كانوا يتكسبون بإقامتهم على دينهم, فقيل: ومن أظلم ممن كتم أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم, ولا أحد أظلم منه , وقوله: {وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.
يعني: من كتمانكم ما علمته من صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم). [معاني القرآن: 1/218]

تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (141)}المعنى: لها ثواب ما كسبت، ولكم ثواب ما كسبتم). [معاني القرآن: 1/218]


رد مع اقتباس
  #16  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:10 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 142 إلى 157]

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}

تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({سيقول السّفهاء من النّاس ما ولاّهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مّستقيمٍ}
قال: {وإن كانت لكبيرةً}, يعني "القبلة", و لذلك أنث). [معاني القرآن: 1/118]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {سيقول السّفهاء من النّاس ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)}
فيه قولان:
1- قيل يعني به: كفار أهل مكة،
2- وقيل يعني به: اليهود والسفهاء , واحدهم سفيه، مثل : شهيد وشهداء، وعليم وعلماء.

وقوله عزّ وجلّ: {ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها}, معنى {ما ولّاهم}: ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمر بالصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلفة لحجّه، فأحبّ اللّه عزّ وجلّ أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه , ليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لا يتبعه، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}, فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة، والله أعلم
وقوله عزّ وجلّ: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
معناه: حيث أمر الله أن يصلّى ويتعبّد، فهو له، وعالم به، وهو فيه كماقال: {وهو اللّه في السّماوات وفي الأرض يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)}
وكما قال: {وهو معكم أين ما كنتم}
وكما قال:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم}
وقوله عزّ وجلّ: {إلى صراط مستقيم}: معناهّ: طريق مستقيم كما يحبّ الله). [معاني القرآن: 1/218-219]

تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً...}: يعني : عدلاً, {لّتكونوا شهداء على النّاس}, يقال: إن كلّ نبيّ يأتي يوم القيامة , فيقول: ((بلّغت))، فتقول أمّته: لا، فيكذّبون الأنبياء، ثم يجاء بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيصدّقون الأنبياء ونبيّهم, ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم , فيصدّق أمّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: {لّتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيداً}، ومنه قول الله: {فكيف إذا جئنا من كل أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}). [معاني القرآن: 1/83]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم...}
أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى : فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة, فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟, فأنزل الله تبارك وتعالى: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}, يريد إيمانهم ؛ لأنهم داخلون معهم في الملّة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل, وهم أحياء). [معاني القرآن: 1/83-84]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أمّةً وسطاً}, أي: عدلاً خياراً، ومنه قولهم: فلان واسطٌ في عشيرته، أي: في خيار عشيرته.
وقال غيلان:
= وقد وسطت مالكاًوحنظلاً
أي: صرت من أوسطهم , وخيارهم, وواسط: في موضع وسط، كما قالوا: ناقة يبسٌ ويابسة الخلف). [مجاز القرآن: 1/59]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({رءوفٌ}: فعول من الرأفة، وهي أشدّ الرحمة.
قال الكميت:
وهم الأرأفون بالناس في الرأ= فة والأحلمون في الأحلام). [مجاز القرآن: 1/59]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أمة وسطا} أي: عدلا وقالوا خيارا وقالوا فلان واسطا في عشيرته أي من خيارهم.
{رءوف}: من الرأفة وهي أشد الرحمة). [غريب القرآن وتفسيره: 83]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({جعلناكم أمّةً وسطاً}, أي: عدلاً خياراً, ومنه قوله في موضع آخر: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبّحون}
أي: خيرهم, وأعدلهم, قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم = إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
ومنه قيل للنبي صلى اللّه عليه وعلى آله: ((هو أوسط قريش حسباً)), وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها، وأن الغلو والتقصير مذمومان.
{لتكونوا شهداء على النّاس}, أي: على الأمم المتقدمة لأنبيائهم). [تفسير غريب القرآن: 64-65]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلّا على الّذين هدى اللّه وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوف رحيم}
معنى الأمة: الجماعة, أي: جماعة كانت إلا أن هذه الجماعة وصفت بأنها وسط.
وفي {أمّة وسطاً}, قولان:
1- قال بعضهم وسطاً: عدلاً.
2- وقال بعضهم: أخياراً, واللفظان مختلفان, والمعنى واحد؛ لأن العدل خير , والخير عدل.

وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : إنه من أوسط قومه جنساً, أي: من خيارها، والعرب تصف الفاضل النسب بأنه: من أوسط قومه، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة؛ لأن العرب تستعمل التمثيل كثيرا "
فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير الوادي وسطه فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، وسرر الوادي وسرارة الوادي وسر الوادي، ومعناه كله: من خير مكان فيه، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم من خير مكان في نسب العرب, {وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا}: أي: خياراً.
وقوله عزّ وجلّ: {لتكونوا شهداء على النّاس}
{تكونوا} في موضع نصب.
المعنى: جعلناكم خياراً؛ لأن شهداء، فنصب {تكونوا } بأن, و{شهداء} نصب خبر تكونوا، إلا أن {شهداء} لا ينون، لأنه لا ينصرف لأن فيه ألف التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها الاسم, ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذلك لم تنصرف {شهداء}.
فإن قال قائل: فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل: كما جعل التأنيث في نحو قولك جريب وأجربة، وغراب وأغربة , وضارب وضربة، وكاتب وكتبة.
وتأويل {لتكونوا شهداء على الناس}, فيه قولان:
1- جاء في التفسير أن أمم الأنبياء تكذب في الآخرة إذا سئلت عمن أرسل إليها فتجحد أنبياءها، هذا فيمن جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق الأنبياء، وتشهد عليهم بتكذيبهم، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة بصدقهم , وإنّما جازت هذه الشهادة، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا قول.

2- وقال قوم {لتكونوا شهداء على النّاس}, أي: محتجين على سائر من خالفكم، ويكون الرسول محتجاً عليكم , ومبيناًلكم.
والقول الأول: أشبه بالتفسير , وأشبه بقوله:{وسطاً} ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتج على المسلمين , وغيرهم.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن كانت لكبيرة إلّا على الّذين هدى اللّه}
يعني: قبلة بيت المقدس، أي: وإن كان اتباعها لكبيرة.
المعنى: إنه كبير على غير المخلصين، فأما من أخلص , فليست بكبيرة عليه، كما قال: {إلّا على الّذين هدى الله}, أي: فليست بكبيرة عليهم.
وهذه اللام دخلت على " إن " لأن اللام إذا لم تدخل مع إن الخفيفة كان الكلام جحدا فلولا " اللام " كان المعنى " ما كانت كبيرة " فإذا جاءت إن واللام, فمعناه التوكيد للقصة، واللام تدخل في الخبر، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاء اللّه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}
هذه اللام أهي، التي يسميها النحويون لام الجحود، وهي تنصب الفعل المستأنف, وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع.
ومعنى: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أي: من كان صلّى إلى بيت المقدس قبل أن تحوّل القبلة إلى البيت الحرام بمكة , فصلاته غير ضائعة وثوابه قائم، وقيل: إنّه كان قوم قالوا: فما نصنع بصلاتنا التي كنا صليناها إلى بيت المقدس، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم},أي: تصديقكم بأمر تلك القبلة.
وقيل أيضا: إنّ جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفّوا , وهم يصلون إلى بيت المقدس قبل نقل القبلة إلى بيت اللّه الحرام، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاتهم , فأنزل الله عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوف رحيم}: إن شئت قلت لرؤوف، وإن شئت لرووف رحيم, فهمزت , وخففت , ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة). [معاني القرآن: 1/220-221]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ليضيع إيمانكم}, أي: صلاتكم إلى بيت المقدس,{والرأفة}أشد الرحمة، ومنه:{رؤوف}). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَسَطاً}: عـــــدلاً, {الرَّأْفَةُ}: أشد الرحمة). [العمدة في غريب القرآن: 84]

تفسير قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {فولّوا وجوهكم شطره...}
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله في الكلام: ولّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتجاهه). [معاني القرآن: 1/84]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({شطر المسجد الحرام}, أي: قصد المسجد الحرام، قال الهذليّ:
إنّ العسير بها داءٌ مخامرها= فشطرها نظر العينين محسور
العسير: الناقة التي لم تركب,شطرها: نحوها، وقال ابن أحمر:
تعدو بنا شطر جمعٍ وهي عاقدةٌ= قد كارب العقد من إيقادها الحقبا
إيقادها: سرعتها). [مجاز القرآن: 1/60]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({شطر المسجد الحرام}: تلقاءه). [غريب القرآن وتفسيره: 84]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({شطر المسجد الحرام}: نحوه وقصده). [تفسير غريب القرآن: 65]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافل عمّا يعملون}
المعنى: في النظر إلى السماء، وقيل: تقلب عينك، والمعنى واحد؛ لأن التقلب إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك الصلاة إلى بيت المقدس, فكان ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يصلّي، وتقلب مصدر تقلّب تقلّباً, ويجوز في الكلام تقلاباً, ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصحف.
وقوله عزّ وجلّ: {فلنولّينّك قبلة ترضاها}: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة إلى بيت المقدس، فأمر بأن يصلي إلى بيت اللّه الحرام، وقيل في قوله: {ترضاها}, قولان :-
1- قال قوم معناه: تحبها، لا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن راضياً بتلك القبلة، لأن كل ما أمر الله الأنبياء " عليهم السلام " به , فهي راضية به , وإنما أحبها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها كانت -فيما يروى - قبلة الأنبياء؛
2- وقيل: لأنها كانت عنده ادعى لقومه إلى الإيمان.

وقوله عزّ وجلّ:{فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}
أي: المسجد الحرام، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة، والبيت الحرام، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس،
ومعنى الشطر: النحو, وشطر منصوب على الظرف.

قال الشاعر:
إنّ العسير بها داء يخامرها= فشطرها نظر العينين محسور
أي: فنحوها، ولا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر : النحو، وقول الناس : فلان شاطر، معناه : قد أخذ في نحو غير الاستواء، فلذلك قيل شاطر ؛ لعدوله عن الاستواء، يقال: قد شطر الرجل يشطر شطارة وشطارة، ويقال: هؤلاء قوم مشاطرونا, أي: دورهم تتصل بدورنا ,كما تقول هؤلاء يناحوننا, أي: نحن نحوهم، وهم نحونا، فلذلك هم شاطرونا.
وقوله عزّ وجلّ:{إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}.
إن قال قائل ما معنى: {إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}, واللّه عزّ وجلّ قد علم ما يكون قبل كونه؟
فالجواب في ذلك: أن اللّه يعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه من قبل وقوعه , وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب , ولكن المعنى: ليعلم ذلك منهم شهادة , فيقع عليهم بذلك العلم : اسم مطيعين , واسم عاصين، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.
ويكون معلوم ما في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة كما قال عزّ وجلّ: {عالم الغيب والشهادة}, فعلمه به قبل وقوعه علم غيب، وعلمه به في حال وقوعه شهادة، وكل ما علمه الله شهادة , فقد كان معلوماً عنده غيباً؛ لأنه يعلمه قبل كونه، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى: {ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين ونبلو أخباركم}). [معاني القرآن: 1/222-223]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمُمْتَرِينَ}: الشاكين, {شَطْرَ}: تلقاء). [العمدة في غريب القرآن: 85]

تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ مّا تبعوا قبلتك...}
أجيبت (لئن) بما يجاب به لو., ولو في المعنى ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل , فأجيبتا بجواب واحدٍ، وشبّهت كلّ واحدة بصاحبتها, والجواب في الكلام في (لئن) بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنّ، ولئن أحسنت لتكرمنّ، ولئن أسأت لا يحسن إليك,
وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنّ. فهذا الذي عليه يعمل، فإذا أجيبت لو بجواب لئن , فالذي قلت لك من لفظ فعليهما بالمضيّ، ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى تفعل تأتى بعدهما، وهي جائزة، فلذلك قال {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا} فأجاب (لئن) بجواب (لو)، وأجاب (لو) بجواب (لئن) , فقال:{ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير} الآية).
[معاني القرآن: 1/84]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بكلّ آيةٍ} أي: علامة، وحجة). [مجاز القرآن: 1/60]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ مّا تبعوا قبلتك وما أنت بتابعٍ قبلتهم وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعضٍ ولئن اتّبعت أهواءهم مّن بعد ما جاءك من العلم إنّك إذا لّمن الظّالمين}
قال: {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ مّا تبعوا قبلتك}؛ لأن معنى قوله: {ولئن أتيت}، ولو أتيت,ألا ترى أنك تقول: "لئن جئتني ما ضربتك" على معنى "لو" كما قال: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لّظلّوا}, يقول: "ولو أرسلنا ريحاً" ؛ لأن معنى "لئن" مثل معنى "لو" ؛ لأنّ "لو" لم تقع , وكذلك "لئن" كذا يفسره المفسرون, وهو في الإعراب على أنّ آخره معتمد لليمين, كأنه قال "و الله ما تبعوا" , أي: ما هم بمتّبعين). [معاني القرآن: 1/118]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذا لمن الظّالمين}
زعم بعض النحويين، أن " لئن " أجيب بجواب " لو " ؛ لأن الماضي: وليها كما ولي " لو ", فأجيب بجواب " لو ", ودخلت كل واحدة منها على أختها , قال اللّه عزّ وجلّ: {ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرّا لظلّوا من بعده يكفرون}
فجرت مجرى: {ولو أرسلنا ريحاً}, وكذلك قال الأخفش بهذا القول،
قال سيبويه وجميع أصحابه: إن معنى {لظلّوا من بعده يكفرون}: ليظلّنّ , ومعنى (لئن) غير معنى " لو " في قول الجماعة، وإن كان هؤلاء قالوا : إنّ الجواب متفق؛ فإنهم لا يدفعون أن معنى {لئن}ما يستقبل , ومعنى " لو " ماض , وحقيقة معنى " لو " أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، تقول: لو أتيتني لأكرمتك، أي: لم تأتني فلم أكرمك، فإنما امتنع إكرامي لامتناع إتيانك.

ومعنى " إن " , و (لئن) أنه يقع الشيء فيهما، لوقوع غيره في المستقبل تقول إن تأتني أكرمك، فالإكرام يقع بوقوع الإتيان فهذه حقيقة معناهما.
فأما التأويل: فإنّ أهل الكتاب قد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق , وأن صفته ونبوته في كتابهم، وهم يحققون العلم بذلك , فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف.
وقوله عزّ وجلّ: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض}؛ لأن أهل الكتاب تظاهروا على النبي صلى الله عليه وسلم , واليهود لا تتبع قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وهم مع ذلك في التظاهر على النبي متفقون.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّك إذا لمن الظّالمين} أي: أنك لمنهم أن اتبعت أهواءهم, وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, ولسائر أمّته؛ لأن ما خوطب به من هذا الجنس, فقد خوطب به الأمة , والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ:{يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء}, أول الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, وليس معه لفظ الأمة، وآخره دليل أن الخطاب عام). [معاني القرآن: 1/224]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و{العلم} هاهنا: القرآن). [ياقوتة الصراط: 179]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {وإنّ فريقاً مّنهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون... الحقّ من رّبّك...}
المعنى: أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها محمد صلى الله عليه وسلم قبلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف {الحقّ},فقال: يا محمد هو {الحقّ من رّبّك}، إنها قبلة إبراهيم , {فلا تكوننّ من الممترين}: فلا تشكّنّ في ذلك,والممتري: الشاك). [معاني القرآن: 1/85]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون}: يعني به: علماء اليهود, و (الذين) رفع بالابتداء، وخبر (الذين) : (يعرفونه)، وفي (يعرفونه) قولان:
1- قال بعضهم: يعرفون أن أمر القبلة ,وتحول النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بيت المقدس إلى البيت الحرام حق, كما يعرفون أبناءهم.

2- وقيل معنى {يعرفونه}: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم , وصحة أمره.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون}
أي: يعلمون {أنّه الحق}, أي: يكتمون صفته، ومن لا يعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم , وما جاء به , {وهم يعلمون}, أنّه الحق). [معاني القرآن: 1/225]

تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الحقّ من رّبّك فلا تكوننّ من الممترين}
قال: {الحقّ من رّبّك} على ضمير الاسم , ولكن استغني عنه لما ذكره كأنه قال: "هو الحقّ من ربّك"). [معاني القرآن: 1/118]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الممترين}: الشاكين).[غريب القرآن وتفسيره: 84]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الحقّ من ربّك فلا تكوننّ من الممترين} أي: من الشاكين , والخطاب أيضاً عام , أي: فلا تكونوا من الشاكين). [معاني القرآن: 1/225]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الممترين}: الشاكين). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]

تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولكلٍّ وجهةٌ...}: يعني : قبلة .{هو مولّيها}: مستقبلها، الفعل لكلٍّ، يريد: مولٍّ وجهه إليها, والتولية في هذا الموضع : إقبال.
وفي {يولّوكم الأدبار}، {ثمّ ولّيتم مدبرين} انصراف, وهو كقولك في الكلام: انصرف إليّ، أي : أقبل إليّ، وانصرف إلى أهلك, أي: اذهب إلى أهلك, وقد قرأ ابن عباس وغيره :{هو مولاّها},وكذلك قرأ أبو جعفر محمد بن عليّ، فجعل الفعل واقعاً عليه, والمعنى واحد, والله أعلم).
[معاني القرآن: 1/85]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أين ما تكونوا...}
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت بـ (ما)، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأيّ ما، وحيث ما، وكيف ما، و{أيّاًما تدعوا} كانت جزاء, ولم تكن استفهاماً, فإذا لم توصل بـ (ما) كان الأغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء, فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الذي مع أينما وأخواتها، وجوابه؛ كقوله: {أين ما تكونوا يأت بكم اللّه} , فإن أدخلت الفاء في الجواب رفعت الجواب؛ فقلت في مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك, كذلك قول الله - تبارك وتعالى - {ومن كفر فأمتّعه}.
فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلي أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثاني؛ ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {هل أدلّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليم} , ثم أجاب الاستفهام بالجزم؛ فقال تبارك وتعالى : {يغفر لكم ذنوبكم}.
فإذا أدخلت في جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال الله تبارك وتعالى: {لولا أًخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأًصّدّق} فنصب.
فإذا جئت إلى العطوف التي تكون في الجزاء , وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه؛ إن شئت رفعت العطف؛ مثل قولك: إن تأتني فإني أهل ذاك، وتؤجر وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء, والرفع على ما بعد الفاء, وقد قرأت القرّاء:{من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم}, رفع وجزم, وكذلك: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لّكم ويكفّر} جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت؛ كما قال الشاعر:
فإن يهلك النعمان تعر مطّيةٌ = وتخبأ في جوف العياب قطوعها
وإن جزمت عطفاً بعد ما نصبت تردّه على الأوّل، كان صواباً؛ كما قال بعد هذا البيت:
وتنحط حصانٌ آخر اللّيل نحطةً = تقصّم منها أو تكاد ضلوعها
وهو كثير في الشعر والكلام, وأكثر ما يكون النصب في العطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام بالفاء , فنصبت , فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب,من ذلك قوله في المنافقين: {لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن}, رددت "وأكن" على موضع الفاء؛ لانها في محلّ جزمٍ؛ إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جزم, والنصب على أن تردّه على ما بعدها، فتقول: "وأكون" , وهي في قراءة عبد الله بن مسعود :{وأكون}بالواو، وقد قرأ بها بعض القرّاء قال: وأرى ذلك صواباً, لأن الواو ربما حذفت من الكتاب وهي تراد؛ لكثرة ما تنقص وتزاد في الكلام؛ ألا ترى أنهم يكتبون "الرحمن" وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها؛ فلهذا جازت, وقد أسقطت الواو من قوله: {سندع الزّبانية}, ومن قوله: {ويدع الإنسان بالشّرّ} الآية، والقراءة على نيّة إثبات الواو, وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها في موضع ليكة، وهي في موضع آخر الأيكة، والقرّاء على التمام، فهذا شاهد على جواز "وأكون من الصّالحين".
وقال بعض الشعراء:
فأبلوني بليّتكم لعلّي = أصلكم وأستدرج نويّا
فجزم (وأستدرج), فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة في لعلّى، وإن شئت جعلته في موضع رفع , فسكّنت الجيم لكثرة توالى الحركات, وقد قرأ بعض القراء :{لا يحزنهم الفزع الأكبر}بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا :{أنلزمكموها وأنتم لها كارهون}, والرفع أحبّ إليّ من الجزم). [معاني القرآن: 1/84-85]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولكلٍّ وجهةٌ...}: العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه؛ وسمعتهم يقولون: وجّه الحجر، جهةٌ مّاله، ووجهة مّاله، ووجهٌ مّاله, ويقولون: ضعه غير هذه الوضعة، والضّعة، والضعة, ومعناه: وجّه الحجر فله جهة؛ وهو مثل، أصله في البناء يقولون: إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه , فأدره , فإنك ستقع على جهته, ولو نصبوا على قوله: وجّهه جهته , لكان صواباً). [معاني القرآن: 1/90]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها}, أي: موجّهها). [مجاز القرآن: 1/60]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم اللّه جميعاً إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
قال: {ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها} على: "ولكل أمّةٍ وجهةٌ" , وقد قال قوم {ولكلّ وجهةٍ} , فلم ينونوا "كلّ", وهذا لا يكون ؛ لأنك لا تقول: "لكلّ رجلٍ هو ضاربه", ولكن تقول: لكلّ رجلٍ ضاربٌ" , فلو كان "هو مولٍّ" كان كلاماً, فأما "مولّيها" على وجه ما قرأ , فليس بجائز). [معاني القرآن: 1/118]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({هو موليها}: موجهها وجهة إليها والفعل " لكل" والتولية في هذا الموضع إقبال وفي قوله ثم {وليتم مدبرين} و{يولوكم الأدبار}: فرار وهو قولك في الكلام: كان فلان موليا معرضا عني فانصرف إلي أي أقبل إلي، وانصرف إلى أهله أي ذهب إليهم). [غريب القرآن وتفسيره: 84]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لكلٍّ وجهةٌ},أي: قبلة, {مولّيها},أي: موليها وجهه ,أي: مستقبلها, يريد : أن كل ذي ملّة له قبلة). [تفسير غريب القرآن: 65]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولكلّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم اللّه جميعا إنّ اللّه على كلّ شيء قدير}
يقال: هذه جهة و وجهة و وجهة، وكذلك يقال: ضعة ووضعة وضعة.
وقيل في قوله:{هو موليها}, قولان: -
1- قال بعض أهل اللغة , وهو أكثر القول: هو "لكل: المعنى: هو موليها وجهه، أي : وكل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إلى تلك الجهة , وقد قرئ أيضاً:هو مولّاها, وهو حسن.
2- وقال قوم: أي اللّه - على ما يزعمون - يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد، وكلا القولين جائز، واللّه أعلم.

وقوله عزّ وجلّ:{فاستبقوا الخيرات} أي: فبادروا إلى القبول من الله عزّ وجلّ، وولّوا وجوهكم حيث أمركم أن تولوا.
وقوله عزّ وجلّ: {أين ما تكونوا يأت بكم اللّه جميعاً},أي: يرجعكم إليه.
{إنّ اللّه على كلّ شيء قدير}: فتوفون ما عملتم , وأينما تجزم ما بعدها؛ لأنها إذا وصلت ب " ما " جزمت ما بعد, وكان الكلام شرطاً, وكان الجواب جزماً كالشرط, وإن كانت استفهاماً نحو: أين زيد ؟, فإن أجبته أجبت بالجزم، تقول: أين بيتك أزرك؟, المعنى: إن أعرف بيتك أزرك.
وزعم بعض النحويين أن قوله: {هّل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}, جوابه :{يغفر لكم}
وهذا خطأ لأنه ليست بالدلالة تجب المغفرة , إنما تجب المغفرة بقبولهم ما يؤدي إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن {يغفر لكم ذنوبكم}جواب {تؤمنون باللّه ورسوله وتجاهدون}: فإنه أمر في لفظ خبر.
المعنى: آمنوا باللّه ورسوله , وجاهدوا , يغفر لكم). [معاني القرآن: 1/225-226]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ولكل وجهة هو موليها}, أي: قبلة هو موليها وجهه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وِجْهَةٌ}: قبلـــة, {مُوَلِّيهَـــا}: موجههـــا). [العمدة في غريب القرآن: 85]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والشطر: الجانب، والشطر: النصف). [ياقوتة الصراط: 179]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم...}
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا في هذا الموضع؟ , ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلاّ يخالف ما قبلها؛ فإن كان ما قبل إلاّ فاعلا كان الذي بعدها خارجاً من الفعل الذي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا؛ كما تقول: ذهب الناس إلاّ زيداً, فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله: {إلاّ الّذين ظلموا}معناه: إلا الذين ظلموا منهم, فلا حجّة لهم , {فلا تخشوهم} , وهو كما تقول في الكلام: الناس كلّهم لك حامدون إلا الظالم لك المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته , ولا بتركه الحمد لموضع العداوة, وكذلك الظالم لا حجّة له, وقد سمّي ظالماً.
وقد قال بعض النحويين: إلا في هذا الموضع بمنزلة الواو؛ كأنه قال: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ}, ولا للذين ظلموا, فهذا صواب في التفسير، خطأ في العربية؛ إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو؛ كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد بـ (إلاّ) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة , فاستدركتها , فقلت: اللهمّ إلا مائ, فالمعنى : له عليّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك, فتستثنى الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك؛ كما قال الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدةٍ = دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة , ودار مروان). [معاني القرآن: 1/89-90]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واخشوني...}
أثبتت فيها الياء , ولم تثبت في غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء ؛ لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً, من ذلك {ربّي أكرمن} , و{ أهانن} في سورة "الفجر" وقوله: {أتمدّونن بمالٍ} , ومن غير النون "المناد" و"الداع" وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها؛ مثل قوله:
{سندع الزّبانية . ويدع الإنسان} , وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو , وهي واو جماع، اكتفي بالضمّة قبلها , فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال ذلك، وهي في هوازن وعليا قيس؛ أنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا = ولا يألو لهم أحد ضرارا
وأنشدني الكسائي:
متى تقول خلت من أهلها الدار= كأنهم بجناحى طائر طاروا
وأنشدني بعضهم:
فلو أن الأطبّا كان عندي = وكان مع الأطباء الأساة
وتفعل ذلك في ياء التأنيث؛ كقول عنترة:
إن العدوّ لهم إليك وسيلة = إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب
يحذفون ياء التأنيث, وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة). [معاني القرآن: 1/90-91]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم},موضع (إلاّ) ها هنا ليس بموضع استثناء، إنما هو موضع واو الموالاة، ومجازها: لئلا يكون للناس عليكم حجة، وللذين ظلموا، وقال الأعشى:
إلاّ كخارجة المكلّف نفسه= وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا
ومعناه: وخارجة، وقال عنز بن دجاجة المازنيّ:
من كان أسرع في تفّرق فالجٍ= فلبونه جربت معاً وأغدّت
إلاّ كناشرة الذي ضيّعتم... كالغصن في غلوائه المتنبّت
غلوائه: سرعة نباته، يريد: وناشرة الذي ضيعتم، لأن بني مازن يزعمون أن فالجا الذي في بني سليم، وناشرة الذي في بني أسد: هما، ابنا مازنٍ.
{أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة}, يقول: ترحّمٌ من ربهم، قال الأعشى:
تقول بنتي إذا قرّبت مرتتحلاً= يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضى= نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
فمن رفع (مثل) جعله: عليك مثل ذلك قلت لي ودعوت لي به، ومن نصبه جعله أمراً يقول: عليك بالترحم والدعاء للي). [مجاز القرآن: 1/60-62]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون}
وقال: {لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلاّ الّذين ظلموا} , فهذا معنى "لكنّ", وزعم يونس أنه سمع أعرابياً فصيحا يقول: "ما أشتكي شيئاً إلاّ خيراً" , وذلك أنه قيل له: "كيف تجدك؟", وتكون "إلاّ" بمنزلة الواو نحو قول الشاعر:
وأرى لها داراً بأغدرة السـ = ـيدان لم يدرس لها رسم
إلاّ رماداً هامداً دفعت = عنه الرياح خوالدٌ سحم
أراد: أرى لها داراً ورماداً.
وقال بعض أهل العلم : إن الذين ظلموا ههنا: هم ناس من العرب كانوا يهوداً أو نصارى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه، فأما سائر العرب فلم يكن لهم حجة , وكانت حجة من يحتج منكسرة, إلا أنك تقول لمن تنكسر حجته: إن لك علي الحجة , ولكنها منكسرة , وإنك تحتج بلا حجة , وحجتك ضعيفة.

وقال: {ولأتمّ نعمتي عليكم} , يقول: لأن لا يكون للناس عليكم حجة, ولأتمّ نعمتي عليكم, عطف على الكلام الأول). [معاني القرآن: 1/119-120]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّةٌ إلّا الّذين ظلموا}, أي: إلّا أن يحتج عليكم الظالمون بباطل من الحجج, وهو قول اليهود: كنت , وأصحابك تصلون إلى بيت المقدس، فإن كان ذلك ضلالاً, فقد مات أصحابك عليه, وإن كان هدى فقد حوّلت عنه.
فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}, أي: صلاتكم, فلم تكن لأحد حجة). [تفسير غريب القرآن: 65-66]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة إلّا الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون}
{لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة}: أي: قد عرفكم اللّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيّنّاه ؛ لئلا يكون للناس على اللّه حجة في قوله: {ولكلّ وجهة هو مولّيها}, أي: هو موليها لئلا يكون.
وقوله عزّ وجلّ: {إلّا الّذين ظلموا منهم فلا تخشوهم}
قال بعضهم : لكن الذين ظلموا منهم , فلا تخشوهم، والقول عندي: أن المعنى في هذا واضح, المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك على من حجة إلا الظلم، أي: إلا أن تظلمني، المعنى: ما لك عليّ من حجة ألبتّة، ولكنك تظلمني، وما لك على حجة إلا ظلمي, وإنما سميّ ظلمة هنا حجة ؛ لأن المحتج به سماه حجة وحجّته داحضة عند اللّه.
قال اللّه عزّ وجلّ: {حجّتهم داحضة عند ربّهم}: سميت حجة إلا أنها حجة مبطلة, فليست بحجة موجبة حقاً.
وهذا بيان شاف إن شاء اللّه.
وقوله عزّ وجلّ:{ولأتمّ نعمتي عليكم}, أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة , {ولأتمّ نعمتي عليكم},{ولعلّكم تهتدون}). [معاني القرآن: 1/225-227]

تفسير قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كما أرسلنا فيكم...}
جواب لقوله: {فاذكروني أذكركم}: كما أرسلنا، فهذا جواب مقدّم ومؤخّر.
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: {أذكركم} , ألا ترى أنه قد جعل لقوله: {اذكروني} جواباً مجزوماً, فكان في ذلك دليل على أن الكاف التي في (كما) لما قبلها؛ لأنك تقول في الكلام: كما أحسنت فأحسن, ولا تحتاج إلى أن تشترط لـ (أحسن)؛ لأن الكاف شرط، معناه:افعل كما فعلت, وهو في العربية أنفذ من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان؛ مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه, فقد صارت (فأته) , و(ترضه) جوابين). [معاني القرآن: 1/92]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كما أرسلنا فيكم رسولاً مّنكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مّا لم تكونوا تعلمون}
قوله: {كما أرسلنا فيكم رسولاً مّنكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة} , {فاذكروني أذكركم}, أي: كما فعلت هذا, فاذكرونني). [معاني القرآن: 1/120]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ ونجل: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)}: (كما) تصلح أن تكون جوابا لما قبلها، فيكون: {لعلّكم تهتدون}., {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم}, والأجود أن تكون (كما) معلقة بقوله عزّ وجلّ {فاذكروني أذكركم}.
أي: فاذكروني بالشكر والإخلاص كما أرسلنا فيكم.
فإن قال قائل فكيف يكون جواب {كما أرسلنا}: {فاذكروني أذكركم}, جواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين ؛ لأن قوله:{فاذكروني} أمر، وقوله :{أذكركم}جزاء اذكروني,والمعنى :إن تذكروني أذكركم..
ومعنى الآية: أنها خطاب لمشركي العرب، فخاطبهم اللّه عزّ وجلّ بمادلهم على إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم , فقال:كما أرسلنا فيكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل منكم أمّي تعلمون أنه لم يتل كتابا قبل رسالته, ولا بعدها إلا بما أوحي إليه. وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة , ولا أخبار الأنبياء، ولا آبائهم ولا أقاصيصهم,فأرسل إليكم النبي صلى الله عليه وسلم ,فأنبأكم بأخبار الأنبياء، وبما كان من أخبارهم مع أممهم، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب، فكما أنعمت عليكم بإرساله فاذكروني بتوحيدي، وتصديقه صلى الله عليه وسلم.
{اشكروا لي}: أذكركم برحمتي , ومغفرتي , والثناء عليكم.
وقوله عزّ وجلّ:{ولا تكفرون}: الأكثر الذي أتى به القرّاء حذف الياءات مع النون). [معاني القرآن: 1/228]

تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واشكروا لي...}
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك. ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا؛ قال بعض الشعراء:
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم = فهلاّ شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة:
نصحت بني عوفٍ فلم يتقبّلوا = رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي). [معاني القرآن: 1/92]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا استعينوا بالصّبر والصّلاة إنّ اللّه مع الصّابرين (153)}
{يا أيّها} نداء مفرد مبهم , و {الذين} في موضع رفع صفة لـ{أيّها}, هذا مذهب الخليل, وسيبويه.
وأما مذهب الأخفش, فالذين صلة لأي , وموضع الذين رفع بإضمار الذكر العائد على أي , كأنّه على مذهب الأخفش بمنزلة قولك: يا من الذين، أي: يا من هم الذين.
و " ها " لازمة لأي عوض عما حذف منها للإضافة، وزيادة في التنبيه.
وأي في غير النداء لا يكون فيها " هاء " , ويحذف معها الذكر العائد عليها، تقول أضرب أيّهم أفضل، وأيّهم هو أفضل, تري:د الذي هو أفضل .
وأجاز المازني أن تكون صفة , أي: نصباً, فأجاز: يا أيها الرجل أقبل، وهذه الإجازة غير معروفة في كلام العرب،
ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعة عليه أحد بعده , فهذا مطروح مرذول لمخالفته كلام العرب, والقرآن, وسائر الأخبار.

ومعنى {استعينوا بالصبر والصلاة} أي: بالثبات على ما أنتم عليه, وإن نالكم فيه مكروه في العاجل، فإن الله مع الصابرين.
وتأويل إن اللّه معهم أي يظهر دينه على سائر الأديان.
لأن من كان الله معه , فهو الغالب, كما قال عزّ وجلّ: {فإنّ حزب اللّه هم الغالبون}.
ومعنى: استعينوا بالصلاة، أي: أنكم إذا صليتم , تلوتم في صلاتكم ما تعرفون به فضل ما أنتم عليه, فكان ذلك لكم عوناً). [معاني القرآن: 1/229]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ...}: رفع بإضمار مكني من أسمائهم؛ كقولك: لا تقولوا: هم أموات بل هم أحياء, ولا يجوز في الأموات النصب؛ لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أضمرت وصوفها , أو أظهرت؛ كما لا يجوز قلت عبد الله قائما، فكذلك لا يجوز نصب الأموات؛ لأنك مضمر لأسمائهم، إنما يجوز النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم في معنى قولٍ؛ من ذلك: قلت خيراً , وقلت شرّاً, فترى الخير والشرّ منصوبين؛ لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك كلاماً, فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هو بمنزلة قولك: قلت لك مال, فابن على ذا ما ورد عليك؛ من المرفوع قوله: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم} , و"خمسةٌ" و"سبعةٌ"، لا يكون نصباً؛ لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة؛ كقولك: هم ثلاثة، وهم خمسة,
وأمّا قوله تبارك وتعالى :{ويقولون طاعةٌ}, فإنه رفع على غير هذا المذهب, وذلك أن العرب كانوا يقال لهم: لا بدّ لكم من الغزو في الشتاء والصيف، فيقولون: سمع وطاعة؛ معناه: منّا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع, ولو نصب على: نسمع سمعاً, ونطيع طاعة كان صواباً.

وكذلك قوله تبارك وتعالى في سورة محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم: {فأولى لهم طاعةٌ وقولٌ معروف}, عيّرهم , وتهدّدهم بقوله: "فأولى لهم"، ثم ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أمروا "طاعة", "فإذا عزم الأمر" نكلوا وكذبوا فلم يفعلوا, فقال الله تبارك وتعالى: {فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}، وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشيء, والله أعلم,ويقال أيضاً: "وذكر فيها القتال" و"طاعة" فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك موافقاً للتفسير , فهو صواب). [معاني القرآن: 1/93-94]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لاّ تشعرون}, قال: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ} على: ولا تقولوا هم أمواتٌ, وقال: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً} نصب على "تحسب"، ثم قال: {بل أحياءٌ}, أي: بل هم أحياءٌ, ولا يكون أن تجعله على الفعل؛ لأنه لو قال: "بل احسبوهم أحياء" ,كان قد أمرهم بالشك).
[معاني القرآن: 1/120]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154)}: بإضمار مكنيهم، أي: لا تقولوا هم أموات، فنهاهم اللّه أن يسمّوا من قتل في سبيل الله ميتاً, وأمرهم بأن يسموهم شهداء فقال:{بل أحياء عند ربّهم يرزقون}, فأعلمنا أن من قتل في سبيل اللّه حي.
فإن قال قائل: فما بالنا نرى جثة غير متصرفة؟, فإن دليل ذلك : مثل ما يراه الإنسان في منامه، وجثته غير متصرفة على قدر ما يرى ,واللّه عزّ وجلّ قد توفى نفسه في نومه , فقال تعالى:
{اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها}, وينتبه المنتبه من نومه , فيدركه الانتباه , وهو في بقية من ذلك، فهذا دليل أن أرواح الشهداء جائز أن تفارق أجسامهم، وهم عند اللّه أحياء، فالأمر فيمن قتل في سبيل الله لا يجب أن يقال له : ميت , لكن يقال له: شهيد , وهو عند الله حي.
وقد قيل فيها قول غير هذا , وهذا القول الذي ذكرته آنفا هو الذي أختاره, قالوا : معنى الأموات , أي: لا تقولوا هم أموات في دينهم، بل قولوا : إنهم أحياء في دينهم.
وقال أصحاب هذا القول: دليلنا والله أعلم - قوله: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منها}, فجعل المهتدي حياً, وانّه حين كان على الضلالة كان ميتا، والقول الأول أشبه بالدين, وألصق بالتفسير.
قوله عزّ وجلّ: {ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع}
اختلف النحويون في فتح هذه الواوي:
فقال سيبويه: إنها مفتوحة لالتقاء السّاكنين.
وقالّ غيره من أصحابه: أنها مبنية على الفتح، وقد قال سيبويه في لام يفعل؛ لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة، فالذين قالوا من أصحابه إنها مبنية على الفتح غير خارجين من قول له,وكلا القولين جائز).
[معاني القرآن: 1/229-230]

تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولنبلونّكم بشيءٍ مّن الخوف والجوع ونقصٍ مّن الأموال والأنفس والثّمرات...}
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها, وذلك أن من تدلّ على أن لكل صنفٍ منها شيئا مضمراً, بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء , لكان صواباً). [معاني القرآن: 1/94]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين (155)}
ولم يقل بأشياء، فإنما جاء على الاختصار، والمعنى يدل على أنّه , وشيء من الخوف , وشيء من الجوع , وشيء من نقص الأموال والأنفس، وإنما جعل الله هذا لابتلاء ؛ لأنه أدعى لمن جاء بعد الصحابة , ومن كان في عصر صلى الله عليه وسلم إلى أتباعهم ؛ لأنهم يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياء إلا من قد وضح له الحق , وبان له البرهان، -واللّه عزّ وجلّ يعطيهم ما ينالهم من المصائب في العاجل والآجل، وما هو أهم نفعاً لهم , فجمع بهذا الدلالة على البصيرة , وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء , فقال عزّ وجلّ:
{وبشّر الصّابرين}: بالصلاة عليهم من ربّهم , والرحمة, وبأنهم المهتدون). [معاني القرآن: 1/231]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {قالوا إنّا للّه...}
لم تكسر العرب (إنا) إلا في هذا الموضع مع اللام في التوجّع خاصّة, فإذا لم يقولوا (للّه) فتحوا , فقالوا: إنا لزيد محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون, وإنما كسرت في {إنّا للّه}؛ لأنها استعملت فصارت كالحرف الواحد، فأشير إلى النون بالكسر لكسرة اللام التي في "للّه"؛ كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف من كافر لكسرة الألف؛ لأنه حرف واحد، فصارت "إنا للّه" كالحرف الواحد ؛ لكثرة استعمالهم إياها، كما قالوا: الحمد للّه). [معاني القرآن: 1/94-95]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (فقال عزّ وجلّ: {الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون}, أي: نحن وأموالنا للّه , ونحن عبيده يصنع بنا ما شاء، وفي ذلك صلاح لنا وخير.
{وإنّا إليه راجعون} أي: نحن مصدقون بأنا نبعث , ونعطي الثواب على تصديقنا، والصبر على ما ابتلانا به). [معاني القرآن: 1/231]

تفسير قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({عليهم صلوات من ربهم}أي: ترحم).[غريب القرآن وتفسيره: 84]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم} أي : مغفرة, والصلاة تتصرف على وجوه قد بينتها في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 66]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}
والصلاة في اللغة على ضربين:
1-
أحدهما الركوع , والسجود،
2- والآخر: الرحمة ,والثناء , والدعاء,
فصلاة الناس على الميت إنما معناها: الدعاء , والثناء على الله صلاة،
والصلاة من اللّه عزّ وجلّ على أنبيائه, وعباده, معناها: الرحمة لهم، والثناء عليهم، وصلاتنا الركوع , والسجود كما وصفنا, والدعاء صلاة, قال الأعشى:

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي= نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
ويروى مثل الذي صليت، فمن قال عليك مثل الذي صليت، فمعناه: أنه يأمرها بأن تدعو له مثل الذي دعا لها, أي: تعيد الدعاء له, ومن روى عليك مثل الذي صليت؛ فهو رد عليها.
كأنه قال عليك مثل دعائك، أن ينالك من الخير مثل الذي أردت لي بهذه , ودعوت به لي.
وقال الشاعر:
صلى على يحيى وأشياعه = ربّ كريم وشفيع مطاع
المعنى: عليه الرحمة من اللّه , والثناء الجميل.
وأصل هذا كله عندي من اللزوم, يقال: صلي, وأصلى, واصطلى، إذا لزم, ومن هذا ما يصلى في النار، أي أنه يلزم.
وقال أهل اللغة في الصلاة: هي من الصّلوين، وهما مكتنفاًذنب الناقة, وأول موصل الفخذ من الإنسان، وكأنهما في الحقيقة مكتنف العصعص, والأصل عندي القول الأول.
ألا ترى أن الاسم للصيام هو: الإمساك عن الطعام والشراب،
وأصل الصيام: الثبوت على الإمساك عن الطعام،
وكذلك الصلاة: إنما هي لزوم ما فرض اللّه، والصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزومه,
وأما المصلي الذي يأتي في أثر السابق من الخيل , فهو مسمى من الصلوين لا محالة، وهما مكتنفاذنب الفرس، فكأنة يأتي مع ذلك المكان.

قال الشاعر في الصيام الذي هو ثبوت على القيام:
خيل صيام وخيل غير صائمة= تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
وقوله تعالى: {وإنّا إليه راجعون}
الأكثرون في قوله:{إنّا للّه}, تفخيم الألف ولزوم الفتح, وقد قيل: وهو كثير في كلام العرب: إنّ اللّه بإمالة الألف إلى الكسر، وكان ذلك في هذا الحرف بكثرة الاستعمال، وزعم بعض النحويين أن النون كسرت، ولم يفهم ما قاله القوم, إنما الألف ممالة إلى الكسرة.
وزعم أن هذا مثل قولهم:" الحمد لله "، فهذا صواب , أعني : قولهم (إنّا للّه) بالكسر , وقولهم " الحمد لله من أعظم الخطأ، فكيف يكون ما هو صواب بإجماع كالخطأ). [معاني القرآن: 1/232-233]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({صلوات} أي: مغفرة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({صَلَــــوَاتٌ}: رحمـــة). [العمدة في غريب القرآن: 85]


رد مع اقتباس
  #17  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:20 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 158 إلى 176]

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما...}
كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة؛ لصنمين كانا عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيماً للصنمين، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما} , وقد قرأها بعضهم :{ألاّ يطّوف}, وهذا يكون على وجهين؛
أحدهما أن تجعل "لا" مع "أن" صلة على معنى الإلغاء؛ كما قال: {ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك} , والمعنى: ما منعك أن تسجد,
والوجه الآخر أن تجعل الطواف بينهما يرخّص في تركه, والأوّل المعمول به).
[معاني القرآن: 1/95]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ومن تطوّع خيراً...}
تنصب على جهة فعل, وأصحاب عبد الله وحمزة :{ومن يطّوّع}؛ لأنها في مصحف عبد الله:{يتطوع}). [معاني القرآن: 1/95]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({شعائر الله}: واحدتها شعيرة، وهي في هذا الموضع: ما أشعر لموقفٍ, أو مشعرٍ, أو منحرٍ , أي: أعلم لذاك, وفي موضع آخر: الهدى، إذا أشعرها، وهو أن يقلّدها، أو يحللّها, فأعلم أنها هدىٌ، والأصل: أن يشعرها بحديدة في سنامها من جانبها الأيمن: يطعنها حتى يخرج الدم). [مجاز القرآن: 1/62]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوّع خيراً فإنّ اللّه شاكرٌ عليمٌ}
قال: {فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما}, "إطّوّف" , "يطّوّف"؛ وهي من "تطوّف", فأدغم التاء في الطاء، فلما سكنت جعل قبلها ألفاً حتى يقدر على الابتداء بها, وإنما قال:{لا جناح عليه}؛ لأن ذلك كان مكروهاً في الجاهلية في الجاهلية, فأخبر أنه ليس بمكروه عنده). [معاني القرآن: 1/120]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({شعائر الله} واحدتها شعيرة وهي في هذا الموضع ما أشعر لموقف أو مسعى أو منحر أي صير علما، والمشاعر المواضع التي صيرت أعلاما مثل عرفة والمزدلفة وغير ذلك، وهي في موضع آخر الهدى إذ أشعرتها، والأشعار أن تبضع من جانبها الأيمن حتى يخرج الدم.
والتقليد ما تقلد من نعل أو غيرها).
[غريب القرآن وتفسيره: 85]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فلا جناح عليه}, أي: لا إثم عليه.
{أن يطّوّف بهما}, أي: يتطوّف, فأدغمت التاء في الطاء, وكان المسلمون في صدر الإسلام يكرهون الطواف بينهما، لصنمين كانا عليهما، حتى أنزل اللّه هذا, وقرأ بعضهم: ألا يطوف بهما, وفي هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أن يجعل الطواف مرخّصا في تركه بينهما.
والوجه الآخر: أن يجعل «لا» مع «أن» صلة, كما قال: {ما منعك ألّا تسجد}, هذا قول الفراء). [تفسير غريب القرآن: 66-67]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوّع خيرا فإنّ اللّه شاكر عليم}
الصفا في اللغة: الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئا، وهو جمع , واحدته: ضفاة وصفا، مث:ل حصاة وحصى،
والمروة والمرو: الحجارة اللينة.

وهذان الموضعان من شعائر اللّه، أي: من أعلام متعبداته , وواحدة الشعائر : شعيرة، والشعائر كلى ما كان من موقف , أو مسعى, أوذبح.
وإنما قيل شعائر : لكل علم لما تعبد به؛ لأن قولهم شعرت به: علمته، فلهذا سمّيت الأعلام التي هي متعبّدات شعائر.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما}
وإنما كان المسلمون اجتنبوا الطواف بينهما لأن الأوثان كانت قبل الإسلام منصوبة بينهما، فقيل إنّ نصب الأوثان بيتهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما؛ لأن البيت الحرام والمشاعر طهّرت بالإسلام من الأوثان وغيرها.
فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن هذين من شعائره , وأنه لا جناح في الطواف بينهما , وأن من تطوع بذلك, فاللّه شاكر عليم.
والشكر من الله عزّ وجلّ: المجازاة والثناء الجميل، والحج والعمرة يكونان فرضا وتطوعا - والطواف بالبيت مجراه مجرى الصلاة إلا أنه يطوف بالبيت الحاجّ والمعتمر، وغير الحاجّ والمعتمر، ومعنى قولهم حججت في اللغة قصدت، وكل قاصد شيئا فقد حجّه، وكذلك كل قاصد شيئا فقد اعتمره، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجف... قاست الطبيب قذاها كالمغاريد
وقال الشاعر في قوله اعتمر أي قصد:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر... مغزى بعيدا من بعيد وضبر
وقوله عزّ وجلّ: {فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما}
أي: لا إثم عليه،
والجناح: أخذ من جنح إذا مال, وعدل عن القصد, وأصل ذلك من جناح الطائر، و{أن يطّوّف بهما}, فيه غير وجه:
يجوز: أن يطوّف, وأن يطوّف، وأن يطوف بهما، فمن قرأ: أن يطوّف بهما, أراد: أن يتطوف , فأدمغت التاء في الطاء لقرب المخرجين،
ومن قرأ: أن يطوّف بهما, فهو من طوّف إذا أكثرا التّطواف.

وفي قوله عزّ وجلّ: {ومن تطوّع خيراً}, وجهان:-
إن شئت قلت: {ومن تطوّع خيراً} على لفظ المضي , ومعناه: الاستقبال؛ لأن الكلام شرط وجزاء, فلفظ الماضي فيه يؤول إلى معنى الاستقبال,
ومن قرأ: يطّوّع, فالأصل يتطوع , فأدغمت التاء في الطاء, ولست تدغم حرفاً من حرف إلا قلبته إلى لفظ المدغم فيه).
[معاني القرآن: 1/233-235]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والجناح: الإثم). [ياقوتة الصراط: 178]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والشعائر: المناسك، واحدتها: شعيرة). [ياقوتة الصراط: 179]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فلا جناح}: فلا إثم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({شَعَائِرَ اللَّهِ}: مناســـك). [العمدة في غريب القرآن: 85]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون...}
قال ابن عباس: {اللاعنون}: كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين,
قال عبد الله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان , فلعن أحدهما صاحبه , وليس أحدهما مستحقّ اللعن رجعت اللعنة على المستحقّ لها، فإن لم يستحقّها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تبارك وتعالى, فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس على ما فسّر).
[معاني القرآن: 1/95-96]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ويلعنهم اللّاعنون}, قال ابن مسعود: إذا تلاعن اثنان, وكان أحدهما غير مستحق للعن، رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود). [تفسير غريب القرآن: 67]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللّاعنون}
هذا إخبار عن علماء اليهود الذين كتموا ما علموه من صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: {من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب}, يعني: به القرآن.
ومعنى {ويلعنهم اللّاعنون}: فيه غير قول، أما ما يروى عن ابن عباس فقال: {اللّاعنون}: كل شيء في الأرض إلا الثقلين.
ويروى عن ابن مسعود أنه قال:{اللّاعنون}: الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة بمستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما , رجعت على اليهود، وقيل:{اللّاعنون}, هم المؤمنون، فكل من آمن باللّه من الإنس والجن والملائكة فهم اللاعنون لليهود , وجميع الكفرة , فهذا ما روي في قوله: {اللّاعنون}, واللّه عزّ وجلّ أعلم). [معاني القرآن: 1/235]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({إلّا الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا}, أي: بيّنوا التوبة بالإخلاص ,والعمل). [تفسير غريب القرآن: 67]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إلّا الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التّوّاب الرّحيم}
{الذين} في موضع نصب على الاستثناء، والمعنى: أن من تاب بعد هذا, وتبين منهم أن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم حق، قبل الله توبته.
فأعلم الله عزّ وجلّ: أنه يقبل التوبة ويرحم , ويغفر الذنب الذي لا غاية بعده).
[معاني القرآن: 1/235]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إن الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين...}
فـ "الملائكة والناس" في موضع خفض؛ تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة الله , ولعنة الملائكة, ولعنة الناس, وقرأها الحسن:{لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعون}, وهو جائز في العربية , وإن كان مخالفاً للكتاب, وذلك أن قولك:{عليهم لعنة الله}, كقولك: يلعنهم الله , ويلعنهم الملائكة والناس,
والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك، فينصبون النفس؛ لأن تأويل الكاف رففع, ويقولون: عجبت من غلبتك نفسك، فيرفعون النفس؛ لأن تأويل الكاف نصب, فابن على ذا ما ورد عليك.

ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، وبعضها على بعض, فمن رفع ردّ البعض إلى تأويل البيوت؛ لأنها رفع؛ ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض, ومن خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
وأجود ما يكون فيه الرفع أن يكون الأوّل الذي في تأويل رفع, أو نصب قد كنى عنه؛ مثل قولك: عجبت من تساقطها, فتقول ها هنا: عجبت من تساقطها بعضها على بعض؛ لأن الخفض إذا كنيت عنه قبح أن ينعت بظاهر، فردّ إلى المعنى الذي يكون رفعا في الظاهر، والخفض جائز, وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم في إثر بعض؛ تؤثر النصب في (بعضهم)، ويجوز الخفض). [معاني القرآن: 1/97]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إن الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}
قال: {أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}؛ لأنه أضاف اللعنة , ثم قال: {خالدين فيها}نصب على الحال). [معاني القرآن: 1/121]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين} يعني: لم يتوبوا قبل موتهم من كفرهم.
{أولئك عليهم لعنة اللّه}: واللعنة هي إبعاد اللّه، وإبعاده عذابه.
وقوله عزّ وجلّ: {والملائكة والنّاس أجمعين} ا لمعنى: لعنة الملائكة , ولعنة الناس أجمعين.
فإن قال قائل: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟, قيل له: إنّهم يلعنونه في الآخرة، كما قال عزّ وجلّ:{ ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً}
وقرأ الحسن: {أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}: وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته المصحف، والقراءة، إنما ينبغي أن يلزم فيها السنة، ولزوم السنة فيها أيضًا أقوى عند أهل العربية؛ لأن الإجماع في القراءة إنما يقع على الشيء الجيّد البالغ , ورفع الملائكة في قراءة الحسن على تأويل: أولئك جزاؤهم أن لعنهم اللّه , والملائكة، فعطف الملائكة على موضع إعراب لله في التأويل.
ويجوز على هذا: عجبت من ضرب زيد وعمرو , ومن قيامك وأخوك, المعنى: عجبت من أن ضرب زيد وعمرو , ومن أن قمت أنت وأخوك.
ومعنى {خالدين فيها} أي: في اللعنة, وخلودهم فيها: خلود في العذاب). [معاني القرآن: 1/235-236]

تفسير قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}

تفسير قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإلهكم إله واحد لا إله إلّا هو الرّحمن الرّحيم}
أخبر عزّ وجلّ بوحدانيته , ثم أخبر بالاحتجاج في الدلالة على أنه واحد , فقال:{إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل اللّه من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرّياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}). [معاني القرآن: 1/237]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وتصريف الرّياح...}, تأتى مرّة جنوباً, ومرّة شمالاً,وقبولاً, ودبوراً, فذلك تصريفها). [معاني القرآن: 1/97]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({والفلك}: تقع على الواحد، وعلى الجميع، وهي السفينة والسّفن، والعرب تفعل ذلك قالوا: هي الطّرفاء، وهذه الطّرفاء.
{وبثّ فيها}, أي: فرّق وبسط، {وزرابيّ مبثوثةٌ}, أي: متفرقة مبسوطة). [مجاز القرآن: 1/62]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الفلك}: السفن وهو جميع واحدة فلكه ويذكر ويؤنث، قال {في الفلك المشحون} وفي موضع آخر {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} ويقال الفلك واحد وجميع.
{وبث فيها}: فرق فيها ومنه {زرابي مبثوثة}). [غريب القرآن وتفسيره: 85]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({والفلك}: السّفن، واحد , وجمع بلفظ واحد). [تفسير غريب القرآن: 67]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ( {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل اللّه من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرّياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}
فهذه الآيات تدل على أنه واحد - عزّ وجلّ - فأما الآية في أمر السماء فمن أعظم الآية لأنهها سقف بغير عمد، والآية في الأرض عظيمة فيما يرى من سهلها وجبلها وبحارها. وما فيها من معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد اللاتي لا يمكن أحد أن ينشئ مثلها، وكذلك في تصريف الرياح، وتصريفها أنها تأتي من كل أفق فتكون شمالا مرة وجنوبا مرة ودبورا مرة وصبا مرة، وتأتي لواقح للسحاب.
فهذه الأشياء وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد.
كما قال عزّ وجلّ: {وإلهكم إله واحد} - لا إله غيره لأنه لا يأتي آت بمثل هذه الآيات (إلا واحدا) ). [معاني القرآن: 1/237]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْفُلْكِ}: السفن, {وَبـــَثَّ}: فرق, {الأَسْبَابُ}: الحبال). [العمدة في غريب القرآن: 86]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً يحبّونهم كحبّ اللّه...}
يريد - والله أعلم - يحبّون الأنداد، كما يحبّ المؤمنون الله, ثم قال: {والّذين آمنوا أشدّ حبّاً للّه} من أولئك الأنداد). [معاني القرآن: 1/97]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب...}
يوقع "يرى" على "أن القوة لله وأن الله" وجوابه متروك, والله أعلم,و قوله: {ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت}, وترك الجواب في القرآن كثير؛ لأن معاني الجنة والنار مكرر معروف, وإن شئت كسرت إنّ , وإنّ وأوقعت "يرى" على "إذ" في المعنى , وفتح أنّ وأنّ مع الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ :{ولو ترى الّذين ظلموا} بالتاء كان وجه الكلام أن يقول: "إن القوة..." بالكسر ", وإن..."؛ لأن "ترى" قد وقعت على {الذين ظلموا}
فاستؤنفت "إن ", "وإنّ" , ولو فتحتهما على تكرير الرّؤية من "ترى" , ومن "يرى" لكان صواباً؛ كأنه قال: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يرون {أنّ القوّة للّه جميعاً}). [معاني القرآن: 1/98]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولو يرى الذين ظلموا}, أي: يعلم، وليس برؤية عين.). [مجاز القرآن: 1/62]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً يحبّونهم كحبّ اللّه والّذين آمنوا أشدّ حبّاً للّه ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة للّه جميعاً وأنّ اللّه شديد العذاب}
قال: {ولو ترى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوّة للّه جميعاً}, فـ"إنّ" مكسورة على الابتداء إذ قال: {ولو ترى},
وقال بعضهم : {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة للّه جميعاً} , يقول: "ولو يرون أنّ القوّة للّه", أي: "لو يعلمون" ؛ لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال: {ولو ترى}, فإنما يخاطب النبي صلى الله عله وسلم , ولو كسر "إنّ" إذا قال: {ولو يرى الذين ظلموا} على الابتداء جاز لو يرى أو يعلم, وقد تكون في معنى لا يحتاج معها إلى شيء , تقول للرجل: "أما واللّه لو تعلم" , و"لو يعلم" , قال الشاعر:

إن يكن طبّك الدّلال فلوفي = سالف الدّهر والسنين الخوالي
فهذا ليس له جواب إلاّ في المعننى, وقال:
فبحظٍّ مما تعيش ولا تذ = هب بك التّرهات في الأهوال
فأضمر "فعيشي", وقال بعضهم {ولو ترى}, وفتح {أنّ} على {ترى}, وليس ذلك ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناس كما قال: {أم يقولون افتراه} , ليخبر الناس عن جهلهم , وكما قال: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض}). [معاني القرآن: 1/121-122]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أندادا يحبّونهم كحبّ اللّه والّذين آمنوا أشدّ حبّا للّه ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة للّه جميعا وأنّ اللّه شديد العذاب}
فأعلم أن بعد هذا البيان والبرهان؛ تتخذ من دونه الأنداد, وهي الأمثال، فأبان أن من الناس من يتخذ ندّا يعلم أنه لا ينفع , ولا يضر , ولا يأتي بشيء مما ذكرنا، وعنى بهذا مشركي العرب.
وقوله عزّ وجلّ: {يحبّونهم كحبّ الله}
أي: يسوّون بين هذه الأوثان وبين اللّه عزّ وجلّ في المحبة.
وقال بعض النحويين: يحبونهم كحبكم أنتم للّه, وهذا قول ليس بشيء, ودليل نقضه قوله: {والّذين آمنوا أشدّ حبّاً للّه}
والمعنى: أن المخلصين الذين لا يشركون مع اللّه غيره هم المحبّون حقاً.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو يرى الّذين ظلموا- إذ يرون العذاب - أنّ القوّة للّه جميعاً}.
في هذا غير وجه:
1- يجوز أنّ القوة للّه, وأن اللّه،
2- ويجوز أن القوة للّه, وإن الله، ولو ترى الذين ظلموا , وتفتح أن مع ترى، وتكسر، وكل ذلك قد قرئ به.

قرأ الحسن:{ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوة، وإنّ اللّه}: ونحن نفسر ما يجب أن يجرى عليه هذا إن شاء اللّه.
من قرأ : {أنّ القوة}, فموضع أن نصب بقوله :{ولو يرى الذين ظلموا أن القوة للّه جميعاً}, وكذلك نصب أن الثانية , والمعنى: ولو يرى الذين ظلموا شدّة عذاب اللّه وقوته , لعلموا مضرةاتخاذهم الأنداد، وقد جرى ذكر الأنداد في قوله: {ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً}:
ويجوز أن يكون: العامل في أنّ الجواب على ما جاء في التفسير: يروى في تفسير هذا : أنه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة , لعلموا حين يرونه أن القوة للّه جميعاً, ففتح أنّ أجود وأكثر في القراءة، وموضعها نصب في هاتين الجهتين على ما وصفنا،
ويجوز أن تكون: " إنّ " مكسورة مستأنفة، فيكون جواب {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب}, لرأوا أمرا عظيماً لا تبلغ صفته؛ لأن جواب لو إنما يترك لعظيم الموصوف نحو قوله عزّ وجلّ: {ولو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى}

المعنى: لكان هذا القرآن أبلغ من كل ما وصف, وتكون:{أنّ القوّة للّه جميعاً}, على الاستئناف.
يخبر بقوله: أن القوة للّه جميعاً, ويكون الجواب المتروك غير معلق بإنّ.
ومن قرأ:{ولو ترى الذين ظلموا}, فإن التاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : يراد به الناس
كما قال: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
فهو بمنزلة: ألم تعلموا, وكذلك : ولو ترى الذين ظلموا بمنزلة: ولو ترون, وتكون {أنّ القوّة للّه جميعاً} مستأنفة كما وصفنا.
ويكون الجواب - واللّه أعلم - : لرأيتم أمرا عظيما, كما يقول: لو رأيت فلانً, ا والسياط تأخذه، فيستغنى عن " الجواب ؛ لأن المعنى معلوم.
ويجوز فتح أن مع ترى , فيكون: لرأيتم أيها المخاطبون أن القوة للّه جميعا، أو لرأيتم أن الأنداد لم تنفع، وإنما بلغت الغاية في الضرر ؛ لأن القوة للّه جميعا.
و{جميعا}منصوبة - على الحال: المعنى أن القوة ثابتة للّه عزّ وجلّ في حال اجتماعها). [معاني القرآن: 1/237-239]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتقطّعت بهم الأسباب}, أي: الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها في الدنيا، واحدتها: وصلة). [مجاز القرآن: 1/63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وتقطعت بهم الأسباب}: الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها في الدنيا. والسبب الحبل وكل شيء بين اثنين من عهد أو رحم فهو سبب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)).). [غريب القرآن وتفسيره: 86]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وتقطّعت بهم}, يعني: الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا).[تفسير غريب القرآن: 68]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب}
يعني به: السادة , والأشراف {من الّذين اتّبعوا}, وهم الأتباع, والسفلة.
{ورأوا العذاب}, يعنى به: التابعون , والمتبوعون، {وتقطّعت بهم الأسباب}, أي: انقطع وصلهم الذي كان جمعهم.
كما قال:{لقد تقطّع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون} : فبينهم وصلهم, والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا.
وإنما ضمّت الألف في قوله {اتّبعوا}لضمّة التاء، والتاء ضمت علامة ما لم يسمّ فاعله.
فإن قال قائل: فما لم يسم فاعله مضموم الأول، والتاء المضمومة في {اتّبعوا} ثالثة، قيل إنما يضم لما لم يسم فاعله الأول من متحركات الفعل، فإذا كان في الأول ساكن اجتلبت له ألف الوصل، وضم ما كان متحركاً, فكان المتحرك من اتبعوا التاء الثانية فضمت دليلاً على ترك الفاعل، وأيضاً فإن في {اتّبعوا}ألف وصل دخلت من أجل سكون فاء الفعل؛ لأن مثاله من الفعل افتعلوا، فالألف ألف وصل, ولا يبنى عليه ضمة الأول في فعل لم يسمّ فاعله، والفاء ساكنة، والسّاكن لا يبنى عليه فلم يبق إلا الثالث، وهو التاء فضمت علماً للفعل الذي لم يسم فاعله، فكان الثالث لهذه العلة هو الأول). [معاني القرآن: 1/239-240]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({حسراتٍ} : الحسرة: أشدّ الندامة). [مجاز القرآن: 1/63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ( (الحسرة): أشد الندامة). [غريب القرآن وتفسيره: 86]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لو أنّ لنا كرّةً}, أي: رجعة, {كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم} ,يريد: أنهم عملوا في الدنيا أعمالاً لغير اللّه، فضاعت, وبطلت). [تفسير غريب القرآن: 68]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار}
أي: عودة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، موضع "أن" رفع، المعنى : لو وقع لنا كرور , لتبرأنا منهم، كما تبرأوا منا، يقال : تبرأت منهم تبرؤا، وبرئت منه براءة , وبرئت من المرض , وبرأت أيضاً, لغتان: أبرأ، برءا، وبريت القلم , وغيره , وأبريه غير مهموز، وبرأ اللّه الخلق برءاً.
وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات}
أي: كـ تبرّي بعضهم من بعض , يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم؛ لأن ما عمله الكافر غير نافعه مع كفره، قال الله عزّ وجلّ:{الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه أضلّ أعمالهم}
وقال: {حبطت أعمالهم}, ومعنى:{أضلّ أعمالهم}, لم يجازهم على ما عملوا من خير، وهذا كما تقول لمن عمل عملاً, لم يعد عليه فيه نفع: لقد ضل سعيك). [معاني القرآن: 1/240]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كرة}, أي: رجعة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْحَسْـــــرَةِ}: أشد الندامـــة). [العمدة في غريب القرآن: 86]

تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({خطوات الشّيطان}, هي الخطى، واحدتها: خطوة، ومعناها: أثر الشيطان). [مجاز القرآن: 1/63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({خطوات الشيطان}: قالوا خطاه، وكل معصية فهي من خطوات الشيطان). [غريب القرآن وتفسيره: 86]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان}, أي: لا تتبعوا سبيله, ومسلكه, وهي جمع خطوة, والخطوة: ما بين القدمين - بضم الخاء - , والخطوة: الفعلة الواحدة، بفتح الخاء. واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرمون أشياء قد أحلها اللّه، ويحلون أشياء حرمها الله). [تفسير غريب القرآن: 68]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبا ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين}
هذا على ضربين: أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياء إلا ما قد حظر الله عزّ وجلّ من الميتة , وما ذكر معها، فيكون {طيّباً}نعتاً للحلال، ويكون طيباً نعتا لما يستطاب، والأجود أن يكون {طيّباً} من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم , كقوله عزّ وجلّ:
{ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون}
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان}: أكثر القراءة خطوات بضم الخاء والطاء، وإن شئت أسكنت الطاء.
{خطوات} لثقل الضمة، وإن شئت خطوات، وهي قراءة شاذة , ولكنها جائزة في العربية قوية، وأنشد الخليل, وسيبويه, وجميع البصريين النحويين:
ولما رأونا باديا ركباتنا= على موطن لا نخلط الجدّ بالهزل
ومعنى {خطوات الشيطان}: طرقه، أي: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان). [معاني القرآن: 1/241]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خطوات الشيطان}, أي: سبيله , ومسلكه، وهو جمع خطوة, والخطوة: ما بين القدمين, والخطوة بالفتح: الفعلة الواحدة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خُطُــــوَاتِ}: طرق المعاصــي). [العمدة في غريب القرآن: 86]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أولو كان آباؤهم...}
تنصب هذه الواو؛ لأنها ولو عطفٍ أدخلت عليها ألف الاستفهام، وليست بـ (أو) التي واوها ساكنة؛ لأن الألف من , أو لا يجوز إسقاطها، وألف الاستفهام تسقط؛ فتقول: ولو كان، أو لو كان إذا استفهمت.
وإنما عيّرهم الله بهذا لما قالوا: {بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا} , قال الله تبارك وتعالى: يا محمد قل {أولو كان آباؤهم}, فقال "آباؤهم" لغيبتهم، ولو كانت "آباؤكم" لجاز؛ لأن الأمر بالقول يقع مخاطبا؛ مثل قولك: قل لزيد يقم، وقل له قم, ومثله:{أولو كان الشّيطان يدعوهم}، {أولم يسيروا}.
ومن سكّن الواو من قوله: {أو آباؤنا الأوّلون} في الواقعة , وأشباه ذلك في القرآن، جعلها "أو" التي تثبت الواحد من الاثنين, وهذه الواو في فتحها بمنزلة قوله: {أثمّ إذا ما وقع} دخلت ألف الاستفهام على "ثمّ" , وكذلك :{أفلم يسيروا}). [معاني القرآن: 1/98]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ألفينا عليه آباءنا}: أي: وجدنا). [مجاز القرآن: 1/63]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً}, الألف ليست ألف الاستفهام, أو الشك، إنما خرجت مخرج الاستفهام تقريراً بغير الاستفهام,{أولو كان آباؤهم لا يعلقون شيئاً}, أي: وإن كان آباؤهم.
{ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع}, إنما الذي ينعق الراعي، ووقع المعنى على المنعوق به وهي الغنم؛ تقول: كالغنم التي لا تسمع التي ينعق بها راعيها؛ والعرب تريد الشيء فتحوّله إلى شيء من سببه، يقولون: أعرض الحوض على الناقة وإنما تعرض الناقة على الحوض، ويقولون: هذا القميص لا يقطعني، ويقولون: أدخلت القلنسوة في رأسي، وإنما أدخلت رأسك في القلنسوة، وكذلك الخفّ، وهذا الجنس؛ وفي القرآن:{ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة}, ما إنّ العصبة لتنوء بالمفاتح: أي: تثقلها, والنعيق: الصياح بها، قال الأخطل:
انعق بضأنك يا جرير فإنما= منّتك نفسك في الخلاء ضلالا). [مجاز القرآن: 1/63-64]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): (في التفسير {ألفينا}: وجدنا). [غريب القرآن وتفسيره: 86]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا}, أي: وجدنا عليه آباءنا). [تفسير غريب القرآن: 68]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}
معنى: {ألفينا}: صادفنا، فعنّفهم اللّه , وعاب عليهم تقليدهم آباءهم.
فقال: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}
المعنى: أيتبعون آباءهم , وإن كانوا جهالاً, وهذه الواو مفتوحة ؛ لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف التوبيخ، وهي ألف الاستفهام , فبقيت الواو مفتوحة على ما يجب لها). [معاني القرآن: 1/242]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ألفينا عليه آباءنا},أي: وجدنا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَلْفَيْنَـــا}: وجدنـــا). [العمدة في غريب القرآن: 86]

تفسير قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق...}
أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبّههم بالراعي,ولم يقل: كالغنم, والمعنى - والله أعلم - : مثل الذين كفرواكمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها: ارعي أو اشربي، لم تدر ما يقول لها, فكذلك مثل الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن , وإنذار الرسول, فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى - والله أعلم - في المرعي, وهو ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد؛ لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف, وقال الشاعر:
لقد خفت حتى ما تزيد مخافتي = على وعلٍ في ذى المطارة عاقل
والمعنى: حتى ما تزيد مخافة , وعلٍ على مخافتي,وقال الآخر:
كانت فريضة ما تقول كما = كان الزناء فريضة الرّجم
والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزناء, فيتهاون الشاعر بوضع الكلمة على صحّتها ؛ لإتّضاح المعنى عند العرب, وأنشدني بعضهم:
إن سراجا لكريم مفخره = تحلى به العين إذا ما تجهره
والعين: لا تحلى به، إنما يحلى هو بها.
وفيها معنىً آخر: تضيف المثل إلى الذين كفروا, وإضافته في المعنى إلى الوعظ؛ كقولك : مثل وعظ الذين كفروا , وواعظهم كمثل الناعق؛ كما تقول: إذا لقيت فلاناً, فسلّم عليه تسليم الأمير, وإنما تريد به: كما تسلّم على الأمير,وقال الشاعر:
فلست مسلّما ما دمت حيّاً = على زيدٍ بتسليم الأمير
وكلٌّ صواب). [معاني القرآن: 1/99-100]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون...}
رفع؛ وهو وجه الكلام؛ لأنه مستأنف خبرٍ، يدلّ عليه قوله: {فهم لا يعقلون} كما تقول في الكلام: هو أصمّ فلا يسمع، وهو أخرس فلا يتكلّم, ولو نصب على الشتمّ مثل الحروف في أوّل سورة البقرة في قراءة عبد الله:{وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون صمّاً بكماً عمي}لجاز). [معاني القرآن: 1/100]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({كمثل الذي ينعق}: يصوت للغنم، كالراعي. شبه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من لا يتفهم عنه بالراعي يصوت للغنم). [غريب القرآن وتفسيره: 86]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاءً}, أراد: مثل الذين كفروا ومثلنا في وعظهم, فحذف «ومثلنا» اختصاراً, إذ كان في الكلام ما يدل عليه، على ما بينت في «تأويل المشكل».
{كمثل الّذي ينعق}, وهو: الراعي، يقال: نعق بالغنم ينعق بها إذا صاح بها.
{بما لا يسمع} , يعني: الغنم.
{إلّا دعاءً ونداءً}حسب، ولا يفهم قولاً). [تفسير غريب القرآن: 68-69]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء ونداء صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}
وضرب اللّه عزّ وجلّ لهم هذا المثل، وشبههم بالغنم المنعوق بها بما لا يسمع منه إلا الصوت، فالمعنى: مثلك يا محمد، ومثلهم كمثل الناعق والمنعوق به، بما لا يسمع، لأن سمعهم ما كان ينفعهم، فكانوا في شركهم ,وعدم قبول ما يسمعون بمنزلة من لم يسمع، والعرب تقول لمن يسمع , ولا يعمل بما يسمع: أصم.
قال الشاعر:
= أصمّ عمّا ساءه سميع
وقوله عزّ وجلّ :{صمّ بكم عمي}
وصفهم بالبكم , وهو الخرس، وبالعمى؛ لأنهم في تركهم ما يبصرون من الهداية بمنزلة العمي, وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحا كافيا إن شاء اللّه). [معاني القرآن: 1/242]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ومثل الذين كفروا.. }الآية, أراد: ومثل الذين كفروا , ومثلنا في وعظهم كمثل الراعي الذي ينعق بما لا يسمع، وهي الغنم, وفي الكلام حذف, واختصار معجز). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لاَ يَعْقِلُونَ}: لا يميزون, {يَنْعِقُ}: يصيح بالغنم). [العمدة في غريب القرآن: 86]

تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير...}
نصب لوقوع "حرّم" عليها, وذلك أن قولك "إنّما" على وجهين:-
أحدهم: ا أن تجعل "إنّما" حرفا واحدا، ثم تعمل الأفعال التي تكون بعدها في الأسماء، فإن كانت رافعة رفعت، وإن كانت ناصبة نصبت؛ فقلت: إنما دخلت دارك، وإنما أعجبتني دارك، وإنّما مالي مالك, فهذا حرف واحد.
وأمّا الوجه الآخر: فأن بجعل "ما" منفصلة من (إنّ) , فيكون "ما" على معنى الذي، فإذا كانت كذلك وصلتها بما يوصل به الذي، ثم يرفع الاسم الذي يأتي بعد الصلة؛ كقولك إنّ ما أخذت مالك، إن ما ركبت دابّتك, تريد: إن الذي ركبت دابتك، وإن الذي أخذت مالك, فأجرهما على هذا.
وهو في التنزيل في غير ما موضع؛ من ذلك قوله تبارك وتعالى: {إنّما الل‍ّه إلهٌ واحدٌ}، {إنّما أنت نذيرٌ} فهذه حرف واحد، هي وإنّ، لأن "الذي" لا تحسن في موضع "ما".
وأمّا التي في مذهب (الذي) فقوله: {إنّما صنعوا كيد ساحرٍ}, معناه: إن الذي صنعوا كيد ساحرٍ, ولو قرأ قارئ:{إنما صنعوا كيد ساحر}, نصباً, كان صواباً إذا جعل إنّ وما حرفاً واحداً, وقوله: {إنّما اتّخذتم من دون اللّه أوثاناً مودّة بينكم} قد نصب المودّة قوم، ورفعها آخرون على الوجهين اللذين فسّرت لك, وفي قراءة عبد الله:{إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا}, فهذه حجّة لمن رفع المودّة؛ لأنها مستأنفة لم يوقع الاتّخاذ عليها، فهو بمنزلة قولك: إن الذي صنعتموه ليس بنافع، مودّة بينكم ثم تنقطع ببعد , فإن شئت رفعت المودّة بـ "بين"؛ وإن شئت أضمرت لها اسماً قبلها يرفعها؛ كقوله :{سورةٌ أنزلناها}, وكقوله: {لم يلبثوا إلاّ ساعةً من نهارٍ بلاغٌ فهل يهلك}.
فإذا رأيت "إنّما" في آخرها اسم من الناس, وأشباههم ممّا يقع عليه "من" فلا تجعلنّ "ما" فيه على جهة (الذي)؛ لأن العرب لا تكاد تجعل "ما" للناس. من ذلك: إنّما ضربت أخاك، ولا تقل: أخوك؛ لأن "ما" لا تكون للناس.
فإذا كان الاسم بعد "إنّما" وصلتها من غير الناس جاز فيه لك الوجهان؛ فقلت: إنّما سكنت دارك., وإن شئت: دارك, وقد تجعل العرب "ما" في بعض الكلام للناس، وليس بالكثير.
وفي قراءة عبد الله: {والنّهار إذا تجلّى والذّكر والأنثى}, وفي قراءتنا: {وما خلق الذّكر والأنثى}, فمن جعل {ما خلق} للذكر والأنثى , جاز أن يخفض "الذكر والأنثى", كأنه قال : والذي خلق الذكر والأنثى., ومن نصب "الذكر" جعل "ما" و"خلق" كقوله: وخلقه الذكر والأنثى، يوقع خلق عليه, والخفض فيه على قراءة عبد الله حسن، والنصب أكثر.
ولو رفعت {إنّما حرّم عليكم الميتة}, كان وجهاً,
وقد قرأ بعضهم: {إنما حرّم عليكم المّيتة}, ولا يجوز هاهنا إلا رفع الميتة , والدم؛ لأنك إن جعلت "إنّما"حرفا واحدا رفعت الميتة والدم؛ لأنه فعل لم يسمّ فاعله، وإن جعلت "ما" على جهة (الذي) رفعت الميتة والدم؛ لأنه خبر لـ"ما").
[معاني القرآن: 1/100-102]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما أهلّ به لغير اللّه...}
الإهلال: ما نودي به لغير الله على الذباح , وقوله: {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ}, غير في هذا الموضع حال للمضطرّ؛ كأنك قلت: فمن اضطرّ , لا باغياً, ولا عادياً, فهو له حلال, والنصب ها هنا بمنزلة قوله: {أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد}, ومثله : {إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه} , و"غير" ها هنا لا تصلح , "لا" في موضعها؛ لأنّ "لا" تصلح في موضع غير. وإذا رأيت "غير" يصلح "لا" في موضعها , فهي مخالفة "لغير" التي لا تصلح "لا" في موضعها.
ولا تحلّ الميتة للمضطرّ إذا عدا على الناس بسيفه، أو كان في سبيل من سبل المعاصي, ويقال: إنه لا ينبغي لآكلها أن يشبع منها، ولا أن يتزوّد منها شيئاً, إنما رخّص له فيما يمسك نفسه). [معاني القرآن: 1/103]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وما أهلّ به},أي: وما أريد به، وله مجاز آخر، أي: ما ذكر عليه من أسماء آلهتهم، ولم يرد به الله عز وجل, جاء في الحديث: أرأيت من لا شرب , ولا أكل , ولا صاح , فاستهلّ : أليس مثل ذلك يطل؟.
{غير باغٍ ولا عادٍ}, أي: لا يبغي , فيأكله غير مضطر إليه، ولا عادٍ شبعه). [مجاز القرآن: 1/64]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ}
قال: {إنّما حرّم عليكم الميتة} , وإنما هي "الميّتة" خففت , وكذلك قوله: {بلدةً ميتاً} , يريد به "ميّتا" , ولكن يخففون الياء كما يقولون في "هيّن" , و"ليّن": هين" و"لين" خفيفة, قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميتٍ = إنّما الميت ميّت الأحياء
فثقل وخفف في معنى واحد, فأما {الميتة}, فهي الموت). [معاني القرآن: 1/122]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أهل به}: أريد به.
{غير باغ ولا عاد}: لا يبغي فيأكله غير مضطر إليه ولا عاد شبعه). [غريب القرآن وتفسيره: 87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فمن اضطرّ غير باغٍ}, أي: غير باغ على المسلمين، مفارق لجماعتهم، ولا عاد عليهم بسيفه, ويقال: غير عاد في الأكل حتى يشبع , ويتزوّد.
{وما أهلّ به لغير اللّه},أي: ما ذبح لغير اللّه, وإنما قيل ذلك: لأنه يذكر عند ذبحه غير اسم اللّه، فيظهر ذلك، أو يرفع الصوت به, وإهلال الحج منه، إنما هو إيجابه بالتّلبية, واستهلال الصبيّ منه إذا ولد، أي: صوته بالبكاء). [تفسير غريب القرآن: 69]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم}
النّصب في {الميتة}, وما عطف عليها هو القراءة، ونصبه لأنه مفعول به، دخلت " ما " تمنع إنّ من العمل، ويليها الفعل، وقد شرحنا دخول ما مع إن، ويجوز : إنما حرم عليكم الميتة، والذي أختاره أن يكون ما تمنع أن من العمل، ويكون المعنى : ما حرم عليكم إلا الميتة، والدم , ولحم الخنزير؛ لأن " إنما " تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها لما سواه.
قال الشاعر:
أنا الزائد الحامي الذمار وإنما= يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي، فالاختيار ما عليه جماعة القراء ؛ لإتباع السنة، وصحته في المعنى..
ومعنى {ما أهلّ به لغير الله} أي: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله عليه , وهذا موجود في اللغة, ومنه الإهلال بالحج , إنما هو رفع الصوت بالتلبية.
والميتة: أصلها الميّتة، فحذقت الياء الثانية استخفافاً, لثقل الياءين , والكسرة , والأجود في القراءة الميتة بالتخفيف.
وكذلك في قوله: {أومن كان ميتاً فأحييناه} أصله: أو من كان ميّتا بالتشديد، وتفسير الحذف, والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد}
في تفسيرها ’ ومعناها ثلاثة أوجه:
1- قال بعضهم: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد}, أي : فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير آكلها تلذذا - ولا عاد, ولا مجاوز ما يدفع عن نفسه الجوع، فلا إثم عليه.

2- وقالوا: {غير باغ}: غير مجاوز قدر حاجته , وغير مقصر عما يقيم به حياته،
3- وقالوا: أيضا: معنى غير باغ على إمام, وغير متعد على أمته.

ومعنى البغي في اللغة: قصد الفساد، يقال: بغى الجرح يبغي بغياً, إذا ترامى إلى فساد، هذا إجماع أهل اللغة, ويقال: بغى الرجل حاجته يبغيها بغاء., والعرب تقول خرج في بغاء إبله , قال الشاعر:
لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم= إنّ الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم
ويقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت, قال اللّه عزّ وجلّ: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً}أي: على الفجور .
ويقال: ابتغى لفلان أن يفعل كذا, أي: صلح له أن يفعل كذا, وكأنه قال: طلب فعل كذا , فانطلب له، أي: طاوعه، ولكن اجتزئ , بقولهم ابتغى،
والبغايا في اللغة شيئان:
1- البغايا الفواجر.
2- والبغايا الإماء، قال الأعشى:

والبغايا يركضن أكسية ألا= ضريج والشرعبيّ ذا الأذيال
ونصب {غير باغ} على الحال). [معاني القرآن: 1/244]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({وما أهل به لغير الله} أي: ما ذبح لغير الله تبارك وتعالى). [ياقوتة الصراط: 179]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({غير باغ}, أي: على المسلمين، مفارق للجماعة، {ولا عاد} عليهم بسيفه). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أُهِلَّ بِهِ}: أريد به, {بَاغٍ}: يأكل من غير مجاعة, {عَادٍ}: يشبع منها). [العمدة في غريب القرآن: 87]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم}
يعني: علماء اليهود الذين كتموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله:{ويشترون به ثمناً قليلاً} , أي: كتموه ؛ لأنهم أخذوا على كتمانه الرّشى.
{أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار}: المعنى: أن الذين يأكلونه , يعذبون به، فكأنهم: إنما أكلوا النار, وكذلك قوله عزّ وجلّ:ئ{الّذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ}
أي: يصيرهم أكله في الآخرة إلى مثل هذه الحالة.
و (الّذين) نصب ب (إنّ)، وخبر (إنّ) جملة الكلام , وهي {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار}, و (أولئك) رفع بالابتداء , وخبر (أولئك}: {ما يأكلون في بطونهم إلّا الار}.
وقوله عزّ وجلّ:{ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة}
فيه غير قول:
1-
قال بعضهم معناه يغضب عليهم، كما تقول: فلان لا يكلم فلاناً, تريد هو غضبان عليه.

2- وقال بعضهم معنى {لا يكلمهم اللّه يوم القيامة}: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية،
3- وجائز إن يكون: {لا يكلمهم الله}: لا يسمعهم الله كلامه، ويكون الأبرار , وأهل المنزلة الذين رضي اللّه عنهم يسمعون كلامه.

وقوله عزّ وجلّ: {ولا يزكّيهم}
أي: لا يثنى عليهم، ومن لا يثني اللّه عليه , فهو معذب.
وقوله عزّ وجلّ: {ولهم عذاب أليم}
معنى {أليم}: مؤلم , ومعنى مؤلم : مبالغ في الوجع). [معاني القرآن: 1/245]

تفسير قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {فما أصبرهم على النّار...}
فيه وجهان:
أحدهما معناه: فما الذي صبّرهم على النار؟,
والوجه الآخر: فما أجرأهم على النار! .

قال الكسائيّ: سألني قاضى اليمن وهو بمكّة، فقال: اختصم إليّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه، فقال له: ما أصبرك على الله! , وفي هذه أن يراد بها: ما أصبرك على عذاب الله، ثم تلقى العذاب فيكون كلامً, كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم). [معاني القرآن: 1/103]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فما أصبرهم على النّار}: (ما) في هذا الموضع في معنى الذي، فمجازها: ما الذي صبّرهم على النار، ودعاهم إليها، وليس بتعجب). [مجاز القرآن: 1/64]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النّار}
قال: {فما أصبرهم على النّار}, فزعم بعضهم أنه تعجب منهم كما قال: {قتل الإنسان ما أكفره} تعجباً من كفره,وقال بعضهم {فما أصبرهم}, أي: ما أصبرهم، و: ما الذي أصبرهم). [معاني القرآن: 1/122]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فما أصبرهم على النار}: ما أجراهم عليها.
قالوا في التفسير ما أعملهم بأعمال أهل النار،
وقالوا معناها: فما الذي صبرهم على النار. ويقال اختصم رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له الآخر: ما أصبرك على الله أي ما أصبرك على عذاب الله كما يقال ما أشبه سخاك بحاتم).
[غريب القرآن وتفسيره: 87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فما أصبرهم على النّار}: ما أجرأهم,
وحكى الفراء عن الكسائي أنه قال: أخبرني قاضي المين: أنه اختصم إليه رجلان، فحلف أحدهما على حق صاحبه, فقال له الآخر: ما أصبرك على اللّه, ويقال منه قوله: {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا} .

قال مجاهد: ما أصبرهم على النار، وما أعملهم بعمل أهل النار, وهو وجه حسن, يريد ما أدومهم على أعمال النار, وتحذف الأعمال.
قال أبو عبيدة: ما أصبرهم على النار، بمعنى : ما الذي أصبرهم على ذلك , ودعاهم إليه,وليس بتعجب). [تفسير غريب القرآن: 69-70]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النّار}
{فما أصبرهم على النّار}: وفيه غير وجه:
1- قال بعضهم: أيّ شيء أصبرهم على النار؟.

2- وقال بعضهم: فما أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار ؛ لأن هؤلاء كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى الله عليه وسلم صار إلى النار.
كما تقول: ما أصبر فلاناً على الجنس ,أي: ما أبقاه منه). [معاني القرآن: 1/245]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فما أصبرهم على النار} , أي:
1-
أجرأهم,
2-وقيل: ما أعملهم بعمل أهل النار,
3-وقيل: المعنى ما الذي يصبرهم على ذلك، وهو تقرير بلفظ الاستفهام).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 35]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ذلك بأنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ وإنّ الّذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيدٍ}
قال: {ذلك بأنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ} , فالخبر مضمر , كأنه يقول: "ذلك معلوم لهم : بأن الله نزل الكتاب؛ لأنه قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك قد قيل لهم , فالكتاب حق). [معاني القرآن: 1/122-123]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك بأنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ وإنّ الّذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}
المعنى: الأمر ذلك، أو ذلك الأمر , فذلك مرفوع بالابتداء, أو بخبر الابتداء.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ الّذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}
بتباعد بعضهم في مشاقّة بعض؛ لأن اليهود والنصارى هم الّذين اختلفوا في الكتاب, ومشاقتهم بعيدة). [معاني القرآن: 1/246]


رد مع اقتباس
  #18  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [لآيات من 177 إلى 188]

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}

تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لّيس البرّ أن تولّوا وجوهكم...}
إن شئت رفعت "البرّ" , وجعلت "أن تولوا" في موضع نصب,
وإن شئت نصبته وجعلت "أن تولّوا" في موضع رفع؛ كما قال: {فكان عاقبتهما أنّهما في النّار} في كثير من القرآن, وفي إحدى القراءتين "ليس البرّ بأن"، فلذلك اخترنا الرفع في "البرّ"، والمعنى في قوله: {ليس البرّ بأن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} , أي: ليس البرّ كله في توجّهكم إلى الصلاة , واختلاف القبلتين , {ولكنّ البرّ من آمن باللّه}, ثم وصف ما وصف إلى آخر الآية, وهي من صفات الأنبياء لا لغيرهم.

وأمّا قوله: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} , فإنه من كلام العرب أن يقولوا: إنما البرّ الصادق الذي يصل رحمه، ويخفى صدقته , فيجعل الاسم خبرا للفعل والفعل خبراً للاسم؛ لأنه أمر معروف المعنى.
فأمّا الفعل الذي جعل خبراً للاسم فقوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم}, فـ (هو) كناية عن البخل. فهذا لمن جعل "الذين" في موضع نصبٍ , وقرأها "تحسبنّ" بالتاء, ومن قرأ بياء جعل "الذين" في موضع رفع، وجعل (هو) عماداً للبخل المضمر، فاكتفى بما ظهر في "يبخلون" من ذكر البخل؛ ومثله في الكلام:
هم الملوك وأبناء الملوك لهم = والآخذون به والساسة الأول
قوله: به يريد: بالملك، وقال آخر:
إذا نهي السفيه جرى إليه = وخالف والسفيه إلى خلاف
يريد : إلى السفه.
وأما الأفعال التي جعلت أخباراً للناس , فقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى= ولكنما الفتان كلّ فتىً ندي
فجعل "أن" خبراً للفتيان.
وقوله: {من آمن باللّه} , (من) في موضع رفع، وما بعدها صلة لها، حتى ينتهي إلى قوله: {والموفون بعهدهم}, فتردّ "الموفون" على "من" , و"والموفون" من صفة "من" ؛ كأنه: من آمن , ومن فعل , وأوفى, ونصبت{الصابرين}؛ لأنها من صفة "من" , وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد، فكأنه ذهب به إلى المدح؛ والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ , فيرفعون إذا كان الاسم رفعاً, وينصبون بعض المدح ؛ فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجدّدٍ غير متبع لأوّل الكلام؛ من ذلك قول الشاعر:
لا يبعدن قومى الذين هم = سمّ العداة وآفة الجزر
النازلين بكلّ معتركٍ= والطيّبين معاقد الأزر
وربما رفعوا (النازلون) , و(الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يتبع آخر الكلام أوّله, وقال بعض الشعراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام = وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغمّ الأمور = بذات الصليل وذات الّلجم
فنصب (ليث الكتيبة) , و(ذا الرأي) على المدح والاسم قبلهما مخفوض؛ لأنه من صفة واحدٍ، فلو كان الليث غير الملك لم يكن إلا تابعاً, كما تقول مررت بالرجل والمرأة، وأشباهه, قال: , وأنشدني بعضهم:
فليت التي فيها النجوم تواضعت = على كل غثّ منهم وسمين
غيوث الحيا في كل محلٍ ولزبةٍ = أسود الشّرى يحمين كلّ عرين
فنصب, ونرى أنّ قوله: {لكن الرّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة}, أنّ نصب "المقيمين" على أنه نعت للراسخين، فطال نعته , ونصب على ما فسّرت لك, وفي قراءة عبد الله : "والمقيمون - والمؤتون" , وفي قراءة أبيّ : "والمقيمين" , ولم يجتمع في قراءتنا وفي قراءة أبيّ إلا على صوابٍ, و الله أعلم.
حدّثنا الفرّاء قال: وقد حدثني أبو معاوية الصرير , عن هشام بن عروة , عن أبيه, عن عائشة : أنها سئلت عن قوله: {إنّ هذان لساحران}, وعن قوله: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون} , وعن قوله: {والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة} , فقالت: يا ابن أخي , هذا كان خطأ من الكاتب.
وقال فيه الكسائيّ: "والمقيمين" موضعه خفض يردّ على قوله: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم , والمؤتون الزكاة, قال: وهو بمنزلة قوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين},
وكان النحويّون يقولون: "المقيمين" مردودة على {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك... إلى المقيمين} , وبعضهم:{لكن الراسخون في العلم منهم}, ومن "المقيمين" , وبعضهم "من قبلك" , ومن قبل "المقيمين".

وإنما امتنع من مذهب المدح - يعني الكسائيّ - الذي فسّرت لك ؛ لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام في سورة النساء, ألا ترى أنك حين قلت: {لكن الراسخون في العلم منهم }, إلى قوله:{والمقيمين ... والمؤتون}, كأنك منتظر لخبره وخبره في قوله: {أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} , والكلام أكثره على ما وصف الكسائي, ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص , وفي التامّ كالواحد؛ ألا ترى أنهم قالوا في الشعر:
حتى إذا قملت بطونكم= ورأيتم أبناءكم شبّوا
وقلبتم ظهر المجنّ لنا = إنّ اللئيم العاجز الخبّ
فجعل جواب {حتى إذا}بالواو، وكان ينبغي ألا يكون فيه واو، فاجتزئ بالإتباع , ولا خبر بعد ذلك, وهذا أشدّ ما وصفت لك.
ومثله في قوله: {حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها}
, ومثله, وفي قوله: {فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم} جعل بالواو, وفي قراءة عبد الله :{فلمّا جهّزهم بجهازهم وجعل السّقاية}, وفي قراءتنا بغير واو, وكلٌّ عربيّ حسن.

وقد قال بعضهم:{وآتى المال على حبه ذوي القربى ...والصابرين}, فنصب الصابرين على إيقاع الفعل عليهم, والوجه أن يكون نصباً على نيّة المدح؛ لأنه من صفة شيء واحد, والعرب تقول في النكرات كما يقولونه في المعرفة , فيقولون: مررت برجل جميل وشابّاً بعد، ومررت برجل عاقل وشرمحاً طوالا؛ وينشدون قوله:
ويأوي إلى نسوةٍ بائساتٍ = وشعثاً مراضيع مثل السّعالي
(وشعثٍ) , فيجعلونها خفضا بإتباعها أوّل الكلام، ونصباً على نية ذمّ في هذا الموضع). [معاني القرآن: 1/103-108]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله}, فالعرب تجعل المصادر صفاتٍ، فمجاز البرّ ها هنا: مجاز صفة ل(من آمن بالله)، وفي الكلام: ولكن البارّ من آمن بالله، قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي= على وعلٍ في ذي القفارة عاقل
{والموفون بعهدهم}: رفعت على موالاة قوله: {ولكنّ البرّ من آمن بالله}, وفي وفعل {والموفون بعهدهم}, ثم أخرجوا :{والصّابرين في البأساء} من الأسماء المرفوعة، والعرب تفعل ذلك إذا كثر الكلام؛ سمعت من ينشد بيت خرنق بنت هفّان من بني سعد بن ضبيعة، رهط الأعشى:
لا يبعدن قومي الذين هم= سمّ العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معتركٍ= والطيبين معاقد الأزر
فيخرجون البيت الثاني من الرفع إلى النصب، ومنهم من يرفعه على موالاة أوله في موضع الرفع). [مجاز القرآن: 1/65-66]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({لّيس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون}
قال: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين}, ثم قال: {وآتى المال على حبّه} , {وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة} , فهو على أول الكلام :{ولكنّ البرّ برّ من آمن باللّه وأقام الصلاة وآتى الزكاة} , ثم قال: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين}, فـ{الموفون} رفع على "ولكنّ الموفين" يريد "برّ الموفين" , فلما لم يذكر "البرّ" , أقام {الموفون} مقام البرّ كما قال: {وسأل القرية} فنصبها على {اسأل} , وهو يريد "أهل القرية"، ثم نصب {الصّابرين} على فعل مضمر كما قال: {لّكن الرّاسخون في العلم منهم والمؤمنون} , ثم قال: {والمقيمين}, فنصب على فعل مضمر , ثم قال: {والمؤتون الزّكاة} , فيكون رفعاً على الابتداء , أو بعطفه على "الراسخين", قال الشاعر:
لا يبعدن قومي الذين هم = سمّ العداة وآفة الجزر
النازلين بكلّ معتركٍ = والطّيّبون معاقد الأزر
ومنهم من يقول "النازلون" و"الطيبين",
ومنهم من يرفعهما جميعاً, وينصبهما جميعاً كما فسرت لك, ويكون {الصّابرين} معطوفاً على {ذوي القربى} , {وآتى الصّابرين}.

وقال: {في البأساء والضّرّاء} , فبناه على "فعلاء" وليس له "أفعل" لأنه اسم، كما قد جاء "أفعل" في الأسماء ليس معه "فعلاء" نحو "أحمد".
وقد قالوا "أفعل" في الصفة ولم يجئ له "فعلاء"، قالوا: "أنت من ذاك أوجل" و"أوجر" , ولم يقولوا: "وجلاء" ولا "وجراء" , وهما من الخوف, ومنه "رجلٌ أوجل" و"أوجر").
[معاني القرآن: 1/124]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ابن السّبيل}: الضّيف , و{والصّابرين في البأساء},أي: في الفقر,وهو من البؤس.
{والضّرّاء}: المرض والزّمانة والضر, ومنه يقال: ضرير بيّن الضّر, فأما الضّر - بفتح الضاد - فهو ضدّ النفع.
{وحين البأس}, أي : حين الشدّة, ومنه يقال: لا بأس عليك, وقيل للحرب: البأس). [تفسير غريب القرآن: 70]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون}
المعنى: ليس البر كله في الصلاة , {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه } إلى آخر الآية،
فقيل:إن هذا خصوص في الأنبياء وحدهم؛ لأن هذه الأشياء التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إلا الأنبياء عليهم السلام, وجائز أن يكون لسائر الناس، لأن اللّه عزّ وجلّ قد أمر الخلق بجميع ما في هذه الآية.

ولك في البرّ وجهان:
1- لك أن تقرأ :{ليس البرّ أن تولّوا}, و {ليس البرّ أن تولّوا}, فمن نصب جعل أن مع صلتها الاسم، فيكون المعنى: ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه، ومن رفع البر فالمعنى: ليس البّر كله توليتكم، فيكون البر اسم ليس، وتكون{أن تولّوا} الخبر.

وقوله عزّ وجلّ: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر}
إذا شددت (لكنّ) نصبت البر، وإذا خففت رفعت البر، فقلت ولكن البر من آمن باللّه، وكسرت النون من التخفيف لالتقاء السّاكنين، والمعنى: ولكن ذا البر من آمن باللّه،
ويجوز أن تكون: ولكن البر بر من آمن باللّه، كما قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب
المعنى كخلالة أبي مرحب, ومثله:{واسأل القرية الّتي كنّا فيها}
المعنى: وأسال أهل القرية.
وقوله عزّ وجلّ: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}.
في رفعها قولان:
الأجود أن يكون: مرفوعاً على المدح؛ لأن النعت إذا طال , وكثر رفع بعضه , ونصب على المدح.

المعنى: هم الموفون بعهدهم , وجائز أن يكون معطوفاً على من, المعنى: ولكن البر، وذو البر المؤمنون, والموفون بعهدهم.
وقوله عزّ وجلّ: {والصّابرين}
في نصبها وجهان: أجودهما: المدح كما وصفنا في النعت إذا طال.
المعنى: أعني الصابرين،
قال بعض النحويين: إنه معطوف على ذوي القربى.

كأنه قال: وآتي المال على حبه ذوي القربى , والصابرين , وهذا لا يصلح إلا أن يكون: والموفون رفع على المدح للمضمرين؛ لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول.
ومعنى {وحين البأس},أي: شدة الحرب، يقال: قد بأس الرجل يبأس بأساً وباساً, وبؤساً, يا هذا إذا افتقر, وقد بؤس الرجل ببؤس، فهو بئيس ؛ إذا اشتدت شجاعته). [معاني القرآن: 1/246-248]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وابن السبيل}: المسافر المحتاج، وقيل: الضيف الغريب, {في البأساء}: في الفقر , {والضراء}: الزمانة، والضر بالضم: الوجع والمرض، والضر بالفتح: ضد النفع, {وحين البأس}: حين الشدة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]

تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...}
فإنه نزل في حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} إلى آخر الآية.
فالأولى منسوخة لا يحكم بها.

وأما قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ} فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر في الظاهر؛ كما تقول: من لقي العدوّ فصبرا واحتسابا, فهذا نصب؛ ورفعه جائز, وقوله تبارك وتعالى: {فاتّباعٌ بالمعروف} , رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام؛ لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل, فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع, وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم؛ مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً , وسيرا سيرا, نصبت؛ لأنك لم تنو به العموم , فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله؛ ومثله قوله: {ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} , ومثله : {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}, ومثله في القرآن كثير، رفع كله؛ لأنها عامّة. فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: {فضرب الرّقاب}, فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ؛ ولم يكن الحثّ كالشيء الذي يجب بفعلٍ قبله؛ فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا , وصدقا عند تلك الوقعة .
قال الفرّاء: ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول : ذاك وتيك الوقعة , كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز على أن توقع عليه الأمر؛ فليصم ثلاثة أيّامٍ، فليمسك إمساكاً بالمعروف, أو يسرّح تسريحاً بإحسانٍ). [معاني القرآن: 1/109-110]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فمن عفى له من أخيه شيءٌ }:أي: ترك له). [مجاز القرآن: 1/66]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان ذلك تخفيفٌ مّن رّبّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}
قال: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان}, أي: "فعليه اتباعٌ بالمعروف أو أداءٌ إليه بإحسان" , على الذي يطلب). [معاني القرآن: 1/125]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فمن عفي له من أخيه شيء}: ترك له). [غريب القرآن وتفسيره: 87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم القصاص}, قال ابن عباس: كان القصاص في بني إسرائيل , ولم تكن فيهم الدّية, فقال اللّه عز وجل لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص}.
والكتاب يتصرّف على وجوه قد بينتها في «تأويل المشكل».
{فمن عفي له من أخيه شيءٌ}, قال: قبول الدية في العمد، والعفو عن الدم.
{فاتّباعٌ بالمعروف},أي: مطالبة بالمعروف, يري: د ليطالب آخذ الدية الجاني مطالبة لا يرهقه فيها.
{وأداءٌ إليه بإحسانٍ}, أي: ليوأد المطالب ما عليه أداء بإحسان, لا يبخسه, ولا يمطله مطل مدافع.
{ذلك تخفيفٌ من ربّكم}: عما كان على من قبلكم, يعني: القصاص, {ورحمةٌ}لكم.
{فمن اعتدى بعد ذلك},أي: قتل بعد أخذ الدية، فله عذاب أليم , قال قتادة: يقتل, ولا تؤخذ منه الدية.
وقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: ((لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدية)).). [تفسير غريب القرآن: 71-72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}
معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم،
وقوله {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثثى} يقال : إنه كان لقوم من العرب طول على آخرين , فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طول , فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} أي: من ترك له القتل , ورضي منه بالدّية , وهو قاتل متعمد للقتل , عفي له بأن ترك له دمه، ورضي منه بالدية , قال اللّه عز وجلّ: {ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة}, وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس , كما قال عزّ وجلّ: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس}, أي: في التوراة -, فتفضل اللّه على هذه الأمة بالتخفيف , والدية إذا رضي بها , وفي الدم.

ومعنى {فاتّباع بالمعروف}على ضربين:
جائز أن يكون: فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي: المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان ,
وجائز أن يكون: الإتباع بالمعروف , والأداء بإحسان جميعاً على القاتل , واللّه أعلم.

وقوله غز وجلّ: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}أي: بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية ,{فله عذاب أليم},أي: موجع.
ورفع {فاتّباع بالمعروف}على معنى فعليه اتباع , ولو كان في غير القرآن لجاز , فاتباعاً بالمعروف , وأداء على معنى , فليتبع أتباعاً, ويؤد أداء, ولكن الرفع أجود في العربية, وهو على ما في المصحف, وإجماع القراء ,فلا سبيل إلى غيره). [معاني القرآن: 1/248-249]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كتب عليكم}, أي: فرض عليكم.
{فمن عفي له}, أي ترك، وقيل: يسر، وقيل: هي قبول الدية في العمد.
{فمن اعتدى بعد ذلك}, أي: قتل بعد أن أخذ الدية من الجاني، قال قتادة: يقتل , ولا تقبل منه الدية,وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أعافي أحداً بعد أخذ الدية)).). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عُفِيَ لَهُ}: ترك ما له). [العمدة في غريب القرآن: 87]

تفسير قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ...}: يقول: إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل , فحيى, فذلك قوله: "حياة"). [معاني القرآن: 1/110]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولكم في القصاص حياةٌ} , يريد: أن سافك الدم إذا أقيد منه، ارتدع من يهمّ بالقتل , فلم يقتل خوفاًَ على نفسه أن يقتل, فكان في ذلك حياة). [تفسير غريب القرآن: 72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون}
{حياة}رفع على ضربين:
1-
على الابتداء،
2- وعلى لكم؛ كأنّه قال: وثبت لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب, أي: يا ذوي العقول.

ومعنى الحياة في القصاص: أن الرجل - إذا علم أنّه يقتل إن قتل - أمسك عن القتل , ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همّ هو بقتله, وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص , أمسك عن القتل , فسلم أن يقتل). [معاني القرآن: 1/249]

تفسير قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كتب عليكم...}: معناه في كلّ القرآن: فرض عليكم). [معاني القرآن: 1/110]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {الوصيّة للوالدين والأقربين...}
كان الرجل يوصى بما أحبّ من ماله لمن شاء من وارثٍ أو غيره، فنسختها آية المواريث, فلا وصية لوارثٍ، والوصيّة في الثلث لا يجاوز، وكانوا قبل هذا يوصى بماله كلّه , وبما أحبّ منه.
و "الوصيّة" مرفوعة بـ "كتب"، وإن شئت جعلت "كتب" في مذهب , قيل: فترفع الوصية باللام في "الوالدين" كقوله تبارك وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين}). [معاني القرآن: 1/110]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين}
قال: {إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين} , فـ{الوصيّة} على الاستئناف، كأنه - والله أعلم - : {إن ترك خيراً} , فالوصية {للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً}). [معاني القرآن: 1/125]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً}, أي: مالًا.
{الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف}, أي: يوصي لهم , ويقتصد في ذلك، لا يسرف , ولا يضر, وهذه منسوخة بالمواريث). [تفسير غريب القرآن: 72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّا على المتّقين}
المعنى: وكتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو،
وعلم أن معناه معني الواو؛ ولأن القصة الأولى قد استتمّت, وانقضى معنى الفرض فيها،
فعلم أن المعنى : فرض عليكم القصاص , وفرض عليكم الوصية.

ومعنى{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين}: هذا الفرض بإجماع نسخته آيات المواريث في سورة النساء وهذا مجمع عليه، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان وجه الحكمة فيه؛ لأن اللّه عزّ وجلّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إلا بما فيه الحكمة البالغة,
فمعنى {كتب عليكم}: فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالاً - الوصية {للوالدين والأقربين بالمعروف}, فرفع الوصية على ضربين:
أحدهما: على ما لم يسم فاعله، كأنه قال: كتب عليكم الوصية للوالدين، أي: فرض عليكم،
ويجوز أن تكون: رفع الوصية على الابتداء، ويجوز أن تكون للوالدين الخبر، ويكون على مذهب الحكاية؛ لأن معنى كتب عليكم : قيل لكم: الوصية للوالدين والأقربين, وإنما أمروا بالوصية في ذلك الوقت ؛ لأنهم كانوا ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعداء طلباً للرياء والسمعة.

ومعنى{حضر أحدكم الموت}: ليس هو إنّه كتب عليه أن يوصي إذا حضره الموت؛ لأنه إذا عاين الموت يكون في شغل عن الوصية وغيرها.
ولكن المعنى: كتب عليكم أن توصّوا , وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل :إذا حضرني الموت، أي : إذا أنا مت , فلفلان كذا، على قدر - ما أمر به - , والذي أمر به أن يجتهد في العدل في وقت الإمهال، فيوصي بالمعروف كما قال اللّه عزّ وجلّ :لوالديه ولأقربيه, ومعنى بالمعروف : بالشيء الذي يعلم ذو التمييز : أنه لا جنف فيه , ولا جور، وقد قال قوم: إن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث, وأمر الوصية في الثلث باق، وهذا القول ليس بشيء؛ لأن إجماع المسلمين أن ثلث الرجل له , إن شاء أن يوصي بشي فله، وإن ترك فجائز , فالآية في قوله: {كتب عليكم}, الوصية منسوخة بإجماع, وكما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {حقّاً على المتّقين}: نصب على حق ذلك عليكم حقاً, ولو كان في غير القرآن فرفع كان جائزاً, على معنى : ذلك حق على المتقين). [معاني القرآن: 1/249-251]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({إن ترك خيرا}, أي: مالاً). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]

تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فمن بدّله بعد ما سمعه}, أي: بدل الوصية , فإثم ما بدّل عليه).
[تفسير غريب القرآن: 73]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فمن بدّله بعدما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه إنّ اللّه سميع عليم }
يعني: فمن بدل أمر الوصية بعد سماعه إيّاها، فإنما إثمه على مبدله، ليس على الموصى إذا احتاط , أو اجتهد فيمن يوصى إليه إثم، ولا على الموصى له إثم , وإنما الإثم على الموصي إن بدل.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه سميع علم}
أي: قد سمع ما قاله الموصي، وعلم ما يفعله الموصى إليه؛ لأنه عزّ وجلّ عالم الغيب والشهادة). [معاني القرآن: 1/251]

تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فمن خاف من مّوصٍ جنفاً...}
والعرب تقول: وصيّتك , وأوصيتك، وفي إحدى القراءتين :{وأوصى بها إبراهيم}, بالألف, والجنف: الجور, {فأصلح بينهم}, وإنما ذكر الموصي وحده , فإنه أنما قال "بينهم" , يريد : أهل المواريث, وأهل الوصايا؛ فلذلك قال "بينهم", ولم يذكرهم؛ لأن المعنى يدلّ على أن الصلح إنما يكون في الورثة والموصى لهم). [معاني القرآن: 1/111]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({من موصٍ جنفاً},أي: جوراً عن الحق، وعدولاً، قال عامر الخصفّي:
هم المولى وقد جنفوا علينا= وإنّا من لقائهم لزور
جنفوا: أي: جاروا، والمولى هاهنا في موضع الموالى، أي: بنى العم، كقوله: {يخرجكم طفلاً}). [مجاز القرآن: 1/66]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ( (الجنف): الجور والعدول عن الحق ومنه {غير متجانف لإثم}). [غريب القرآن وتفسيره: 88]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( (الجنف): الميل عن الحق, يقال: جنف يجنف جنفاً.
يقول: إن خاف , أي : علم من الرجل في وصيته ميلاً عن الحق، فأصلح بينه وبين الورثة، وكفّه عن الجنف؛ فلا إثم عليه، أي: على الموصي.
قال طاوس: هو الرجل يوصي لولد ابنته , يريد: ابنته). [تفسير غريب القرآن: 73]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم}
أي: ميلاً, أو إثماً, أو قصداًلإثم,{فأصلح بينهم}, أي: عمل بالإصلاح بين الموصى لهم , فلا إثم عليه، أي: لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن يكون الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللّه , فإذا ردها الموصى إليه إلى المعروف، فقد ردها إلى ما أمر اللّه به). [معاني القرآن: 1/251]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (الجنف: الميل عن الحق). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الجَنَـــف}: الميـــل). [العمدة في غريب القرآن: 87]

تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم...}:dقال: ما كتب على الذين قبلنا، ونحن نرى النصارى يصومون أكثر من صيامنا وفي غير شهرنا،؟ >
... وحدثني محمد بن أبان القرشي , عن أبى أميّة الطنافسيّ , عن الشّعبيّ أنه قال: لو صمت السنة كلها ,لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه, فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان, وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحوّلوه إلى الفصل,وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ فعدّوه ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثقة في أنفسهم, فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستّن سنّة الأوّل حتى صارت إلى خمسين, فذلك قوله: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم}). [معاني القرآن: 1/111]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({كتب عليكم الصّيام}, أي: فرض عليكم). [مجاز القرآن: 1/66]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}
قال: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم}). [معاني القرآن: 1/125]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم الصّيام}: فرض). [تفسير غريب القرآن: 73]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}
المعنى: فرض عليكم الصيام فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم.
وقيل: إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فنقلوه عن وقته، وزادوا فيه، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث، ولا ثقة ناقليه، ولكن الجملة أن اللّه عزّ وجلّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان قبلنا الصيام، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا.
وقوله عزّ وجلّ: {لعلّكم تتّقون}
المعنى: أنّ الصّيام وصلة إلى التقي، لأنه من البر الذي يكف الإنسان عن كثير مما تتطلع إليه النفس من المعاصي، فلذلك قيل :{لعلّكم تتّقون}
و " لعل " ههنا على ترجي العباد، والله عزّ وجلّ من وراء العلم أتتقون أم لا, ولكن المعنى : أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى). [معاني القرآن: 1/252]

تفسير قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أيّاماً مّعدوداتٍ...}
نصبت على أن كلّ ما لم تسمّ فاعله إذا كان فيها اسمان أحدهما غير صاحبه رفعت واحداً, ونصبت الآخر؛ كما تقول: أعطي عبد الله المال, ولا تبال أكان المنصوب معرفة أو نكرة, فإن كان الآخر نعتا للأوّل , وكانا ظاهرين رفعتهما جميعاً, فقلت: ضرب عبد الله الظريف، رفعته؛ لأنه عبد الله, وإن كان نكرة نصبته , فقلت: ضرب عبد الله راكباً, ومظلوماً, وماشياً, وراكباً). [معاني القرآن: 1/112]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {فعدّةٌ مّن أيّامٍ أخر...}
رفع على ما فسرت لك في قوله :{فاتباع بالمعروف}, ولو كانت نصبا ً, كان صواباً). [معاني القرآن: 1/112]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ...}
يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم, ولا يصومون أن يطعم مسكيناً مكان كل يومٍ يفطره, ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء، ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لّكم} من الإطعام). [معاني القرآن: 1/112]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({أيّاماً مّعدوداتٍ فمن كان منكم مّريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ مّن أيّامٍ أخر وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ لّه وأن تصوموا خيرٌ لّكم إن كنتم تعلمون}
ثم قال: {أيّاماً}, أي: كتب الصّيام أياماً؛ لأنك شغلت الفعل بالصيام حتى صار هو يقوم مقام الفاعل، وصارت الأيّام كأنك قد ذكرت من فعل بها.
وقال: {فمن كان منكم مّريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ مّن أيّامٍ أخر} , يقول: "فعليه عدّةٌ" رفع، وإن شئت نصبت "العدّة" على "فليصم عدّةً" إلاّ أنّه لم يقرأ.
وقال: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} وقد قرئت {فدية طعام مسكين} , وهذا ليس بالجيد، إنما الطعام تفسير للفدية، وليست الفديةبإ ضافة إلى الطعام, وقوله: {يطيقونه}, يعني : الصيام, وقال بعضهم {يطوّقونه}, أي: يتكلّفون الصيام, ومن قال: {مساكين} , فهو يعني : جماعة الشهر ؛ لأن لكل يوم مسكيناً, ومن قال: {مسكين} , فإنما أخبر ما يلزمه في ترك اليوم الواحد.
وقال: {وأن تصوموا خيرٌ لّكم}؛ لأن "أن" الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم كأنه قال:" والصيام خيرٌ لكم"). [معاني القرآن: 1/125-126]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر} , أي: فعليه عدّة من أيام أخر مثل عدّة ما فاته.
{وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له} , وهذا منسوخ بقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}, والشهر منصوب لأنه ظرف, ولم ينصب بإيقاع شهد عليه, كأنه قال: فمن شهد منكم في الشهر , ولم يكن مسافرا فليصم؛ لأن الشهادة للشهر قد تكون للحاضر والمسافر). [تفسير غريب القرآن: 73-74]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أيّاماً معدودات فمن كان منكم مريضاًأو على سفر فعدّة من أيّام أخر وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوّع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}
نصب (أيّاما) على ضربين:
أجودهما: أن تكون على الظرف كأنه كتب عليكم الصيام في هذه الأيام , والعامل فيه الصيام , كان المعنى : كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات.

وقال بعض النحويين: إنه منصوب مفعول ما لم يسمّ فاعله , نحو: أعطي زيد المال, وليس هذا بشيء ؛ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم, وزيد والمال مفعولان لأعطى, فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل, وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر}أي: فعليه عدة، أو فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أخر.
و( أخر) في موضع جر، إلا أنها لا تنصرف ففتح فيها المجرور.
ومعنى {وعلى الذين يطيقونه} أي: يطيقون الصوم فدية طعام مسكين، أي: إن أفطر , وترك الصوم , كان فدية تركه طعام مسكين.
وقد قرئ {طعام مساكين}فمعنى: طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها , وهذا بإجماع , وبنص القرآن منسوخ, نسخته الآية التي تلي هذه.
وقوله عزّ وجلّ:{وأن تصوموا خير لكم}
رفع خير خبر الابتداء, المعنى : صومكم خير لكم, هذا كان خيراً لهم مع جواز الفدية، فأما ما بعد النسخ , فليس بجائز أن يقال: الصوم خير من الفدية والإفطار في هذا الوقت؛ لأنه ما لا يجوز ألبتّة فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز, وقد قيل: إن الصوم الذي كان فرض في أول الإسلام: صوم ثلاثة أيام في كل شهر , ويوم عاشوراء، ولكن شهر رمضان نسخ الفرض في ذلك الصوم كله). [معاني القرآن: 1/253]

تفسير قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {شهر رمضان...}
رفع مستأنف أي: ولكم "شهر رمضان" {الّذي أنزل فيه القرآن} , وقرأ الحسن نصباً على التكرير "وان تصوموا" شهر رمضان "خير لكم" , والرفع أجود, وقد تكون نصباً من قوله :{كتب عليكم الصيام}, شهر رمضان, توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} دليل على نسخ الإطعام, يقول: من كان سالماً ليس بمريض, أو مقيماً, ليس بمسافر فليصم , {ومن كان مريضاً أو على سفرٍ} قضى ذلك, {يريد اللّه بكم اليسر} في الإفطار في السفر , {ولا يريد بكم العسر}: الصوم فيه). [معاني القرآن: 1/112-113]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولتكملوا العدّة...}
في قضاء ما أفطرتم, وهذه اللام في قوله:{ولتكملوا العدّة}, لام كى , لو ألقيت كان صواباً,والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعلٍ بعدها, ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواوألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إليّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إليّ, فإذا قلته ,فأنت تريد: ولتحسن إليّ جئتك, وهو في القرآن كثير, منه قوله: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} , ومنه قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من الموقنين} , لو لم تكن فيه الواو كان شرطاً على قولك: أريناه ملكوت السموات ليكون, فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها {وليكون من الموقنين} أريناه, ومنه في غيراللام قوله: {إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بزينةٍ الكواكب}, ثم قال :{وحفظاً}, لو لم تكن الواو , كان الحفظ منصوباً بـ "زينا", فإذا كانت فيه الواو , وليس قبله شيء , ينسق عليه , فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ؛ كقولك في الكلام: قد أتاك أخوك ومكرما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده). [معاني القرآن: 1/113-114]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى لّلنّاس وبيّناتٍ مّن الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ مّن أيّامٍ أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون}
{ولتكملوا العدّة}, وهو معطوف على ما قبله كأنه قال "ويريد لتكملوا العدّة" , {ولتكبّروا اللّه}, وأما قوله: {يريد اللّه ليبيّن لكم}, فإنما معناه : يريد هذا ليبين لكم, قال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما = تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
فمعناه: أريد هذا الشيء لأنسى ذكرها, أو يكون أضمر "أن" بعد اللام وأوصل الفعل إليها بحرف الجر.
قال: {فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه}, فعدّى الفعل بحرف الجر، والمعنى: عرّفهم الاختلاف حتى تركوه".
ثم قال: {شهر رمضان} على تفسير الأيام، كأنه حين قال: {أيّاماً مّعدوداتٍ}, فسرها فقال: "هي شهر رمضان", وقد نصب بعضهم {شهر رمضان} , وذلك جائز على الأمر، كأنه قال: "شهر رمضان فصوموا"، أو جعله ظرفاً على {كتب عليكم الصّيام} , {شهر رمضان}, أي: "في شهر رمضان" , و"رمضان" في موضع جر ؛ لأن الشهر أضيف إليه ,ولكنه لا ينصرف.
وقال: {الّذي أنزل فيه القرآن هدىً لّلنّاس وبيّناتٍ مّن الهدى} فموضع {هدىً} و{بيّناتٌ} نصب لأنه قد شغل الفعل بـ{القرآن} , وهو كقولك: "وجد عبد الله ظريفا".
وأما قوله: {والفرقان} , فجرّ على{وبيناتٍ من الفرقان}). [معاني القرآن: 1/127]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون}
القراءة بالرفع , ويجوز النصب، وهي قراءة ليست بالكثيرة , ورفعه على ثلاثة أضرب:
أحدها: الاستئناف, المعنى: الصيام الذي كتب عليكم, أو الأيام التي كتبت عليكم شهر رمضان،
ويجوز أن يكون: رفعه على البدل من الصيام , فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله، المعنى : كتب عليكم شهر رمضان.

ويجوز أن يكون: رفعه على الابتداء , ويكون الخبر: {الّذي أنزل فيه القرآن}, والوجهان اللذان شرحناهما :" الذي " فيهما رفع على صفة الشهر، ويكون الأمر بالفرض فيه :{فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}
ومعنى من شهد: من كان شاهدا غير مسافر , فليصم، ومن كان مسافراً, أو مريضاً , فقد جعل له أن يصوم عدة أيام المرض , وأيام السفر من أيام أخر، ومن نصب شهر رمضان , نصبه على وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلا من أيام معدودات.

والوجه الثاني: على الأمر، كأنه قال : عليكم شهر رمضان, على الإغراء.
وقوله عزّ وجلّ: {يريد اللّه بكم اليسر}أي: أن ييسّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر , والمرض.
وقوله عزّ وجلّ: {ولتكمّلوا العدّة}, قرئ بالتشديد، ولتكملوا بالتخفيف, من كمّل يكمّل، وأكمل يكمل.
ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيف هذا الكلام معطوف محمول على المعنى
(المعنى: فعل اللّه ذلك ؛ ليسهل عليكم , ولتكملوا العدة.
قال الشاعر:
بادت وغيّر آيهن مع البلي= إلاّ رواكد جمرهنّ هباء
ومشجج أما سواء قذا له= فبدا وغيره ساره المعزاء
فعطف مشجج على معنى بها رواكد ومشجج، لأنه إذ قال بادت إلاّ رواكد , علم أن المعنى : بقيت رواكد ومشجج). [معاني القرآن: 1/253-254]

تفسير قوله تعالى: {و إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ...}
قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: كيف يكون ربّنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا أن بيننا وبينه سبع سموات غلظ كلّ سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مثل ذلك؟ !, فأنزل الله تبارك وتعالى: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ} أسمع ما يدعون .
{فليستجيبوا لي} : يقال: إنها التلبية). [معاني القرآن: 1/114]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فليستجيبوا لي}, أي: يجيبوني, قال كعب الغنويّ:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النّدى= فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: فلم يحبه عند ذاك مجيب). [مجاز القرآن: 1/67]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}
قوله: {يرشدون}؛ لأنها من: "رشد" "يرشد" , ولغة للعرب "رشد" "يرشد" , وقد قرئت: {يرشدون}). [معاني القرآن: 1/127]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فليستجيبوا لي}, أي: يجيبوني، هذا قول أبي عبيدة، وأنشد:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: فلم يجبه). [تفسير غريب القرآن: 74]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}
المعنى: إذا قال قائل: اين اللّه؟, فالله عزّ وجلّ قريب, لا يخلو منه مكان
كما قال: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم}, وكما قال: {وهو معكم أين ما كنتم}
{وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}
وقوله عزّ وجلّ: {أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}
إن شئت قلت: إذا دعاني بياء , وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف يتبع, فيوقف على الحرف كما هو فيه.
ومعنى الدعاء للّه عزّ وجلّ على ثلاثة أضرب:-
فضرب منها: توحيده , والثناء عليه كقولك : يا الله لا إله إلا أنت ,وقولك: ربّنا لك الحمد، فقد دعوته: بقولك ربنا، ثم أتيت بالثناء والتوحيد, ومثله: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين}
أي : يستكبرون عن توحيدي , والثناء عليّ، فهذا ضرب من الدعاء.
وضرب ثان: هو مسألة الله العفو والرحمة، وما يقرب منه , كقولك : اللهم اغفر لنا.
وضرب ثالث : هو مسألته من الدنياو كقولك:اللهم ارزقني مالا وولدا وما أشبه ذلك.
وإنما سمي هذا أجمع دعاء ؛ لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله: يا اللّه، ويا رب، ويا حي, فكذلك سمي :دعاء.
وقوله عزّ وجلّ:{فليستجيبوا لي }, أي: فليجيبوني.
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا= فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي : فلم يجبه أحد). [معاني القرآن: 1/254-255]

تفسير قوله تعالى: {حِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم...}
وفي قراءة عبد الله :{فلا رفوث ولا فسوق}, وهو الجماع فيما ذكروا؛ رفعته بـ {أحل لكم}, لأنك لم تسمّ فاعله). [معاني القرآن: 1/114]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فالآن باشروهنّ...}
يقول: عند الرّخصة التي نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم, وقوله: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم}, يقال: الولد، ويقال: "اتبعوا" بالعين, وسئل عنهما ابن عباس , فقال: سواء). [معاني القرآن: 1/114]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود...}
فقال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أهو الخيط الأبيض , والخيط الأسود؟ , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(( إنك لعريض القفا؛ هو الليل من النهار)).). [معاني القرآن: 1/114-115]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ليلة الصّيام}: مجازها ليل الصيام، والعرب تضع الواحد في موضع الجميع، قال عامر الخصفّي:
هم المولى وقد جنفوا علينا= وإنّا من لقائهم لزور
{الرّفث}, أي: الإفضاء إلى نسائكم، أي: النكاح.
{هنّ لباسٌ لكم}: يقال لامرأة الرجل: هي فراشه، ولباسه وإزاره، ومحل إزاره، قال الجعديّ:
= تثنّت عليه فكانت لباساً). [مجاز القرآن: 1/67]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الخيط الأبيض من الخيط الأسود}: الخيط الأبيض: هو الصبح المصدّق، والخيط الأسود : هو الليل، والخيط: هو اللون). [مجاز القرآن: 1/68]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الخيط الأبيض من الخيط الأسود}: الليل من النهار). [غريب القرآن وتفسيره: 88]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الرّفث}: الجماع, ورفث القول هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه من ذكر النكاح.
{تختانون أنفسكم}, أي : تخونونها بارتكاب ما حرّم اللّه عليكم.
{وابتغوا ما كتب اللّه لكم}, يعني من الولد, أمر تأديب , لا فرض.
{وكلوا واشربوا}: أمر إباحة.
{حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض} , وهو بياض النهار.
{من الخيط الأسود} , وهو سواد الليل, ويتبين هذا من هذا عند الفجر الثاني.
{عاكفون في المساجد}, أي : مقيمون, والعاكف: المقيم في المسجد الذي أوجب العكوف فيه على نفسه). [تفسير غريب القرآن: 74-75]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ علم اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود اللّه فلا تقربوها كذلك يبيّن اللّه آياته للنّاس لعلّهم يتّقون}
{الرفث}: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، والمعنى ههنا : كناية عن الجماع, أي : أحل لكم ليلة الصيام الجماع، لأنه كان في أول فرض الصيام الجماع محرما ًفي ليلة الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة والنوم, فأحل الله الجماع والأكل والشراب إلى وقت طلوع الفجر.
وقوله عزّ وجلّ: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ}
قد قيل فيه غير قول: قيل المعنى: فتعانقوهن , ويعانقنكم، وقيل : كل فريق منكم يسكن إلى صاحبه , ويلابسه , كما قال عزّ وجلّ: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها}
والعرب تسمى المرأة لباسا ً, وإزارا ً, قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى عطفه= تثنّت فكانت عليه لباساً
وقال أيضا:
ألا أبلغ أبا حفص رسولاً= فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أهل اللغة: فدى لك امرأتي.
قوله عزّ وجلّ: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم}
قالوا معناه : الولد, ويجوز أن يكون -, وهو الصحيح عندي , واللّه أعلم .
{ وابتغوا ما كتب اللّه لكم}: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه , وأمرتم به, فهو المبتغى.
وقوله عزّ وجلّ:{حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}هما فجران:
أحدهما يبد, و أسود معترضا , وهو الخيط الأسود، والأبيض يطلع ساطعاً يملأ الأفق، وحقيقته حتّى يتبين لكم الليل من النهار، وجعل اللّه عزّ وجلّ حدود الصيام طلوع الفجر الواضح، إلا أن اللّه عزّ وجلّ بين في فرضه ما يستوي في علمه أكثر الناس.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد}
معنى الباشرة هنا: الجماع, وكان الرجل يخرج من المسجد, وهو معتكف , فيجامع , ثم يعود إلى المسجد، والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في مسجد جماعة يتعبّد فيه، فعليه إذا فعل ذلك ألا يجامع , وألا يتصرّف إلا فيما لا بد له منه من حاجته.
وقوله عزّ وجلّ: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها}
معنى الحدود: ما منع الله عزّ وجلّ من مخالفتها، ومعنى الحدّاد في اللغة: الحاجب، وكل من منع شيئا فهو حدّاد, وقولهم: أحدّت المرأة على زوجها , معناه: قطعت الزينة , وامتنعت منها، والحديد إنما سمي حديداً؛ لأنه يمتنع به من الأعداء, وحدّ الدّار هو ما يمنع غيرها أن تدخل فيها.
وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يبيّن اللّه آياته للنّاس} أي: مثل البيان الذي ذكر، المعنى: ما أمرهم به يبين لهم). [معاني القرآن: 1/255-257]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{الرفث}: الجماع). [ياقوتة الصراط: 179]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ):{الرفث}: الجماع, ورفث القول: هو الإفصاح بالخنا عن الجماع, ونحوه.
{تختانون أنفسكم} : أي: تخونونها بارتكاب ما حرم الله عليكم.
{حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} تخرجون الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أي: سواد الليل من بياض الفجر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36-37]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْخَيْطُ الأَبْيَضُ}: النهار, {الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} : الليل). [العمدة في غريب القرآن: 87-88]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وتدلوا بها إلى الحكّام}, وفي قراءة أبيّ:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا بها إلى الحكّام} فهذا مثل قوله: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ}, معناه: ولا تكتموا, وإن شئت جعلته إذا ألقيت منه "لا" نصبا على الصرف؛ كما تقول: لا تسرق وتصدّق, معناه: لا تجمع بين هذين كذا وكذا؛ وقال الشاعر:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله = عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
والجزم في هذا البيت جائز , أي: لا تفعلن واحداً من هذين). [معاني القرآن: 1/115]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فريقاً}: الفريق : هي الطائفة). [مجاز القرآن: 1/68]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً مّن أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون}
قال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام}, جزم على العطف ونصب , إذا جعله جواباً بالواو). [معاني القرآن: 1/127-128]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}, أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بشهادات الزور.
{وتدلوا بها إلى الحكّام},أي: تدلي بمال أخيك إلى الحاكم, ليحكم لك به , وأنت تعلم أنك ظالم له, فإن قضاءه باحتيالك في ذلك عليك , لا يحل لك شيئاً كان محرماً عليك.
وهو مثل قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وعلى آله: ((فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)).). [تفسير غريب القرآن: 75]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقا من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون}
{تأكلوا} جزم بلا؛ لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون الأسماء تأثيرها فيها بالجزم؛ لأن الرفع يدخلها، بوقوعها موضع الأسماء والنصب يدخلها لمضارعة الناصب فيها الناصب للأسماء، وليس فيها بعد هذين الحيزين إلا الجزم, ومعنى {بالباطل },أي: بالظلم.
{وتدلوا بها إلى الحكّام} أي: تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم , ويتركون ما قد علمتم أنه الحق، ومعنى تدلوا في اللغة: إنّما أصله من أدليت الدلو إذا أرسلتها للمليء، ودلوتها إذا أخرجتها، ومعنى أدلى لي فلان بحجته : أرسلها, وأتى بها على صحة، فمعنى {وتدلوا بها إلى الحكّام} أي: تعملون على ما يوجبه الإدلاء بالحجة، وتخونون في الأمانة.
{لتأكلوا فريقاً من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون} أي: وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن، وإن ظهرخلافها.
ويجوز أن يكون: موضع:{وتدلوا }جزماً, ونصباً, فأما الجزم , فعلى النهي.
معطوف على : {ولا تأكلوا},
ويجوز أن تكون: نصباً على ما تنصب الواو، وهو الذي يسميه بعض النحويين: الصرف، ونصبه بإضمار أن، المعنى : لا تجمعوا بين الأكل بالباطل , والإدلاء إلى الحكام، وقد شرحنا هذا قبل هذا المكان).
[معاني القرآن: 1/257-258]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}, أي: شهادات الزور، {وتدلوا بها}, أي: تدلي بمال أخيك إلى الحاكم , وأنت تعلم أنك ظالم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 37]


رد مع اقتباس
  #19  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:43 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 189 إلى 196]

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يسألونك عن الأهلّة...}
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته, ما هو؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم, وعمرتكم, وحلّ ديونكم, وانقضاء عدد نسائكم). [معاني القرآن: 1/115]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها...}
وذلك أن أهل الجاهلية ألا قريشاً, ومن ولدته قريش من العرب , كان الرجل منهم إذا أحرم في غير أشهر الحج في بيت مدرٍ , أو شعرٍ , أو خباءٍ نقب في بيته نقباً من مؤخّره , فخرج منه ودخل , ولم يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبية , والفساطيط خرج من مؤخّره , ودخل منه, فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو محرم, ورجل محرم يراه، دخل من باب حائطٍ , فاتّبعه ذلك الرجل، فقال له: ((تنحّ عني)) .
قال: ولم؟ .
قال: ((دخلت من الباب, وأنت محرم)).
قال: إني قد رضيت بسنّتك وهديك.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أحمس)).
قال: فإذا كنت أحمس , فإني أحمس, فوفّق الله الرجل، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون}). [معاني القرآن: 1/116]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها} : البرّ هنافي موضع البار، ومجازها: أي: اطلبوا البرّ من أهله, ووجهه, ولا تطلبوه عند الجهلة المشركين). [مجاز القرآن: 1/68]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون}
قال: {هي مواقيت للنّاس والحجّ}, فجر {الحجّ}؛ لأنه عطفه على "الناس" , فانجر باللام.
وقال: {ولكنّ البرّ من اتّقى}يريد "برّ من اتقّى"). [معاني القرآن: 1/128]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها}
قال الزّهري: كان أناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، يتحرجون من ذلك. وكان الرجل يخرج مهلّا بها فتبدو له الحاجة فيرجع فلا يدخل من باب الحجرة من أجل السقف ولكنه يقتحم الجدار من وراء. ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. وكانت قريش وحلفاؤها الحمس لا يبالون ذلك. فأنزل اللّه: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى},أي برّ من اتقى , كما قال: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر}, أي: بر من آمن باله). [تفسير غريب القرآن: 75-76]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون}
كان النّبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً, وعن عظمه بعد، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنه جعل ذلك ليعلم الناس، أوقاتهم في حجهم وعدد نسائهم، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة؛ لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، ويستوي فيه الحاسب , وغير الحاسب.
ومعنى الهلال واشتقاقه: من قولهم : استهل الصبي إذا بكى حين يولد , أو صاح، وكأن قولهم أهل القوم بالحج والعمرة,أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية، وإنما قيل له هلال ؛ لأنه حين يرى , يهل الناس بذكره , ويقال: أهل الهلال , واستهل، ولا يقال: أهلّ، ويقال: أهللنا, أي : رأينا الهلال وأهللنا شهر كذا وكذا، إذا دخلنا فيه.
وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين جميعاً بما أذكره في أسماء الهلال , وصفات الليالي التي في كل شهر.
فأول ذلك: إنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه، وسمّي هلالاً لما وصفنا من رفع الصوت بالإخبار عنه،
وقد اختلف الناس في تسميته هلالاً, وكم ليلة يسمّى؟ , ومتى يسمّى قمراً؟,
1- فقال بعضهم يسمى هلالاً لليلتين من الشهر, ثم لا يسمى هلالاً إلى أن يعود في الشهر التالي،
2-وقال بعضهم يسمى هلالاً ثلاث ليال, ثم يسمى قمراً,
3- وقال بعضهم : يسمى هلالاً إلى أن يحجّر , وتحجيره : أن يستدير بخطة دقيقة, وهو قول الأصمعي,
4-وقال بعضهم يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، فإذا غلب ضوؤة سواد الليل , قيل له: قمر، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة، والذي عندي, وما عليه الأكثر أنه يسمى هلالاً ابن ليلتين، فإنه في الثالثة يبين ضوؤه,
واسم القمر: الزبرقان، واسم دارته: الهالة، واسم ضوئ: ه الفخت
وقد قال بعض أهل اللغة : لا أدري الفخت اسم ضوئه أم ظلمته، واسم ظلمته على الحقيقة (واسم ظله) : السّمر، ولهذا قيل للمتحدثين ليلاً: سمّار، ويقال: ضاء القمر , وأضاء، ويقال: طلع القمر، ولا يقال: أضاءت القمر , أو ضاءت.

قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به, عن الرّياشي , عن أبي زيد، وأخبرني أيضاً من أثق ب, ه عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل: قال أبو زيد الأنصاري، يقال للقمر ابن ليلة: عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين: حديث أمتين كذب ومين , ورواه ابن الأعرابي بكذب ومين، وابن ثلاث : حديث فتيات غير جد مؤتلفات.
وقيل ابن ثلاث: قليل اللباث، وابن أربع عتمة ربع , لا جائع /, ولا مرضع، وعن ابن الأعرابي : عتمة أم الربع، وابن خمس حديث وأنس،وقال أبو زيد : عشا خلفات قعس، وابن ست سمروبت, وابن سبع : دلجة الضبع , وابن ثمان : قمر أضحيان , وابن تسع , عن أبي زيد: انقطع السشسع، وعن غيره : يلتقط فيه الجزع، وابن عشر : ثلث الشهر، وعن أبي زيد , وغيره : محنق الفجر,
ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده العشر , ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة, فقالوا:
ثلاث غرر، وبعضهم يقول غز، وثلاث شهب، وثلاث بهر وبهر، وثلاث عشر، وثلاث بيض، وثلاث درع، ودرع،
ومعنى الدرع: سواد مقدّم الشاة , وبياض مؤخرها، وإنما قيل لها : درع ودرع ؛ لأن القمر يغيب في أولها, فيكون أول الليل أدرع ؛ لأن أوله أسود, وما بعده مضي، وثلاث خنس؛ لأن القمر ينخنس فيها , أي: يتأخر، وثلاث دهم، وإنما قيل لها دهم ؛ لأنها تظلم حتى تدهامّ، وقال بعضهم : ثلاث حنادس، وثلاث فحم ؛ لأن القمر يتفحم فيها، أي: يطلع في آخر الليل , وثلاث دادي، وهي أواخر الشهر , وإنما أخذت من الدأداء , وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها, فالدأدأة آخر نقل القوائم، فكذلك الدأدي في آخر الشهر.

وجمع هلال: أهله،لأدنى العدد وأكثره؛ لأن فعالاً يجمع في أقل العدد على أفعلة , مثل, مثال,وأمثلة,وحمار, وأحمرة , وإذا جاوز أفعلة جمع على فعل، مثل:حمر , ومثل,فكرهوا في التضعيف فعل نحو : هلل, وخلل، فقالوا: أهلة, وأخلة، فاقتصروا على جمع أدنى العدد، كما اقتصروا في ذوات الواو , والياء على ذلك، نحو كساء , وأكسية , ورداء, وأردية.
وقوله عزّ وجلّ: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى}
قيل: إنه كان قوم من قريش , وجماعة معهم من العرب إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها, ولم تتيسر له رجع , فلم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك تطيراً, فأعلمهم اللّه عزّ وجل أن ذلك غير بر، أي: الإقامة على الوفاء بهذه السّنة ليس ببر،
وقال الأكثر من أهل التفسير: إنهم الحمس، وهم قوم من قريش، وبنو عامر بن صعصعة , وثقيف , وخزاعة، كانوا إذا أحرموا , لا يأقطون الأقط، ولا ينفون الوبر , ولا يسلون السّمن، وإذا خرج أحدهم من الإحرام لم يدخل من باب بيته، وإنما سمّوا الحمس؛ لأنهم تحمّسوا في دينهم , أي: تشددوا.

وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب, والشدة في القتال، والحماسة على الحقيقة الشدة في كل شيء.
وقال العجاج:
= وكم قطعنا من قفاف حمس =
أي: شداد, فأعلمهم اللّه عزّ وجلّ أن تشددهم في هذا الإحرام ليس ببر, وأعلمهم أن البر التقي, فقال:{ولكنّ البرّ من اتّقى}.
المعنى: ولكن البر برّ من اتقى مخالفة أمر اللّه عزّ وجلّ، فقال:
{وأتوا البيوت من أبوابها}, فأمرهم اللّه بترك سنة الجاهلية في هذه الحماسة). [معاني القرآن: 1/257-263]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}
سبب نزول هذه الآية: أن بعض المسلمين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لم خلقت هذه الأهلة , فأنزل الله عز وجل: {قل هي مواقيت للناس والحج} : فجعلها الله عز وجل مواقيت لحج المسلمين , وإفطارهم , وصومهم , ومناسكهم , ولعدة نسائهم , ومحل دينهم , والله أعلم بما يصلح خلقه .
قال أبو إسحاق: هلال مشتق من استهل الصبي إذا بكى , وأهل القوم بحجة وعمرة , أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية , فقيل له: هلال ؛ لأنه حين يرى يهل الناس بذكره , وأهل , واستهل , ولا يقال: أهللنا, أي: رأينا الهلال, وأهللنا شهر كذا وكذا إذا دخلنا فيه, وسمي شهر لشهرته , وبيانه .
قال الأصمعي: ولا يسمى هلالاً حتى يحجر, وتحجيره : ةأن يستدير بخطة دقيقة , وقيل: ليلتين, وثلاث.
وقيل: حتى يغلب ضوءه, وهذا في السابعة .
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يسمى هلالاً لليلتين ؛ لأنه في الثالثة يتبين ضوءه). [معاني القرآن: 1/103-104]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها}
روى شعبة , عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: نزلت فينا هذه الآية , كانت الأنصار إذا حجوا , فجاءوا , لم يدخلوا البيوت من أبوابها ,ولكن من ظهورها, فجاء رجل من الأنصار , فدخل من قبل بابه , فنزلت هذه الآية: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}). [معاني القرآن: 1/105]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}: كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة , لم يحل بينهم وبين السماء شيء، يتحرجون بمن ذلك، فاذا خرج الرجل مهلاً,ثم بدت له حاجة رجع , فدخل بيته من ظهره، من أجل السقف، لئلا يحول بينه وبين السماء، فاعلموا أنه ليس من البر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 37]

تفسير قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}, أي: لا تعتدوا على من وادعكم , وعاقدكم). [تفسير غريب القرآن: 76]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين}
قالوا في تفسيره : قاتلوا أهل مكة،
وقال قوم : هذا أول فرض الجهاد , ثم نسخه:{وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة}

وقوله عزّ وجلّ:{ولا تعتدوا}أي: لا تظلموا، والاعتداء: مجاوزة الحق، وقيل في تفسيره قولان:
قيل: {لا تعتدوا} : لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله, ولا تقتلوا غيرهم،
وقيل: {لا تعتدوا}أي: لا تجاوزوا إلى قتل النساء والأطفال).
[معاني القرآن: 1/263]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله عز وجل: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}
قبل, أي: ولا تقاتلوا من عاهدتم , وعاقدتم.
وقيل: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم
قال ابن زيد ثم نسخ ذلك فقال جل وعز: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}, أي: وجدتموهم .
{وأخرجوهم من حيث أخرجوكم}, يعني: مكة). [معاني القرآن: 1/105-106]

تفسير قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم...}
فهذا وجه قد قرأت به العامّة, وقرأ أصحاب عبد الله: {ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم}, والمعنى هاهنا: فإن بدءوكم بالقتل , فاقتلوهم, والعرب تقول: قد قتل بنو فلان إذا قتل منهم الواحد, فعلى هذا قراءة أصحاب عبد الله, وكلّ حسن.
وقوله: {فإن انتهوا} فلم يبدءوكم ,{فلا عدوان} على الذين انتهوا، إنما العدوان على من ظلم: على من بدأكم , ولم ينته.
فإن قال قائل: أرأيت قوله: {فلا عدوان إلاّ على الظّالمين}, أعدوانٌ هو وقد أباحه الله لهم؟ , قلنا: ليس بعدوان في المعنى، إنما هو لفظ على مثل ما سبق قبله؛
ألا ترى أنه قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}, فالعدوان من المشركين في اللفظ ظلم في المعنى، والعدوان الذي أباحه الله وأمر به المسلمين إنما هو قصاص. فلا يكون القصاص ظلماً, وإن كان لفظه واحداً, ومثله قول الله تبارك وتعالى:{وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها}, وليست من الله على مثل معناها من المسيء؛ لأنها جزاء). [معاني القرآن: 1/116-117]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({والفتنة أشدّ من القتل},أي: الكفر أشدّ من القتل في أشهر الحرم، يقال: رجل مفتون في دينه , أي: كافر). [مجاز القرآن: 1/68]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({والفتنة أشد من القتل}: الكفر).[غريب القرآن وتفسيره: 88]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واقتلوهم حيث ثقفتموهم},أي: حيث وجدتموهم.
{وأخرجوهم من حيث أخرجوكم},يعني: من مكة.
{والفتنة أشدّ من القتل},يقول: الشرك أشد من القتل في الحرم). [تفسير غريب القرآن: 76]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين}
أي: حيث وجدتموهم، يقال: ثقفته أثقفه ثقفاًوثقافة، ويقال: رجل ثقف لقف, ومعنى الآية: لا تمتنعوا من قتلهم في الحرم وغيره.
وقوله عزّ وجلّ: {والفتنة أشدّ من القتل}
أي: فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل.
وقوله عزّ وجلّ:{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه}
كانوا قد نهوا عن ابتدائهم بقتل , أو قتال حتى يبتدي المشركون بذلك.
وتقرأ: {ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه}, أي: لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به، وجائز : ولا تقتلوهم, وإن وقع القتل ببعض دون بعض؛ لأن اللغة يجوز فيها قتلت القوم , وإنّما قتل بعضهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم). [معاني القرآن: 1/263-264]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {والفتنة أشد من القتل}
قال مجاهد: ارتداد المؤمن أشد عليه من القتل.
والفتنة في الأصل الاختبار , فتأويل الكلام : الاختبار الخبيث الذي يؤدي إلى الكفر أشد من القتل , وفتنته فلانة , أي: صارت له كالمختبرة , أي: اختبر بجمالها, وفتنت الذهب في النار , أي: اختبرته لأعلم خالص هو أم مشوب ؟.
وقيل لهذا السبب لكل ما أحميته في النار فتنته ؛ لأنه بذلك كالمختبر .
وقيل في قوله عز وجل: {يوم هم على النار يفتتنون} , هو من هذا , أي: يشوون.
قال أبو العباس: والقول عندي - والله أعلم - : إنما هو يحرقون بفتنتهم , أي: يعذبون بكفرهم من فتن الكافر .
وقيل: يختبرون, فيقال : ما سلككم في سقر ؟, وأفتنه العذاب , أي: جزاه بفتنته, كقولك: كرب , وأكربته ,والعلم لله تعالى .
يقال: فتن الرجال وفتن وأفتنته , أي: جعلت فيه فتنته كقولك: دهشته , وكحلته , هذا قول الخليل , وأفتنته جعلته فاتناً, وهذا خضر فتن .
وقال الأخفش في قوله عز وجل: {بأيكم المفتنون} , قال يعني : الفتنة, كقولك خذ ميسوره , ودع معسوره.
وكان سيبويه يأبى أن يكون المصدر على مفعول, ويقول المعتمد خذ ما يسر لك منه). [معاني القرآن: 1/107-108]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله عز وجل: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه}
قال قتادة: ثم نسخ ذلك بعد فقال:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} .
قال ابن عباس : أي: شرك , قال: ويكون الدين لله , ويخلص التوحيد لله). [معاني القرآن: 1/108]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ثقفتموهم}, وجدتموهم.
{والفتنة أشد من القتل} في الأشهر الحرم؛ لأنهم استعظموا قتل المسلمين في رجب، فأعلموا أن الشرك الذي هم عليه أشد من ذلك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 37]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ}
أما قوله: {فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ} , يريد: فإنّ اللّه لهم). [معاني القرآن: 1/128]

تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين للّه فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظّالمين}
قوله:{فلا عدوان إلاّ على الظّالمين}؛ لأنه يجوز أن يقول {إن انتهوا}, وهو قد علم: أنهم لا ينتهون إلا بعضهم , فكأنه قال: {إن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الظالمين منهم},فأضمركما قال: {فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر}, أي: فعليه ما استيسر كما تقول: "زيداً أكرمت" , وأنت تريد : "أكرمته" , وكما تقول : إلى من تقصد ؟. أقصد, تريد : "إليه"). [معاني القرآن: 1/128]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وكذلك قوله: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ},أي : لا سبيل.
وأصل العدوان: الظلم, وأراد بالعدوان: الجزاء, يقول: لا جزاء ظلم إلّا على ظالم, وقد بينت هذا في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 77]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظّالمين (193)}
هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ أن يقاتل كل كافر ؛ لأن المعنى ههنا في الفتنة والكفر). [معاني القرآن: 1/264]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}
قال قتادة: والظالم الذي أبى أن يقول: لا إله إلا الله). [معاني القرآن: 1/108]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فلا عدوان}, أي: لا سبيل، وأصل العدوان: الظلم، وأراد به هاهنا: الجزاء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 38]

تفسير قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين}
أما قوله: {فاعتدوا عليه} , فإن الله لم يأمر بالعدوان، وإنما يقول: إيتوا إليهم , الذي كان يسمى بالاعتداء, أي: افعلوا بهم كما فعلوا بكم، كما تقول: "إن تعاطيت مني ظلماً تعاطيته منك" , والثاني ليس بظالم, قال عمرو بن شأس:
جزينا ذوي العدوان بالأمس مثله = قصاصاً سواءً حذوك النّعل بالنّعل). [معاني القرآن: 1/128-129]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ}, قال مجاهد: فخرت قريش أن صدّت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، عن البيت الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام, فأقصّه اللّه , فدخل عليهم من قابل في الشهر الحرام في البلد الحرام إلى البيت الحرام, وأنزل اللّه: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ}.
وقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}, أي: من ظلمكم , فجزاؤه جزاء الاعتداء على ما بينت في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 77-78]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين}
{الشّهر)} رفع بالابتداء , وخبره {بالشّهر الحرام}, ومعناه: قتال الشهر الحرام.
ويروى أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر الحرام : هل فيه قتال؟, فأنزل الله عز وجلّ أن القتل فيه كبير، أي : عظيم في الإثم، وإنما سألوا ليغرّوا المسلمين، فإن علموا أنهم لم يؤمروا بقتلهم قاتلوهم، فأعلمهم الله عزّ وجلّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المشركون بالقتال فيه , فيقاتلهم المسلمون.
فالمعنى في قوله: {الشّهر الحرام}, أي : قتال الشهر الحرام، أي: في الشهر الحرام، بالشهر الحرام.
وأعلم اللّه عزّ وجلّ أن هذه الحرمات قصاص، أي : لا يجوز للمسلمين إلا قصاصاً.
وقوله عزّ وجلّ:{فمن اعتدى عليكم}
أي: من ظلم , فقاتل , فقد اعتدى، {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}, وسمي الثاني اعتداء ؛ لأنه مجازاة اعتداء , فسمي بمثل اسمه؛ لأن صورة الفعلين واحدة, وإن كان أحدهما طاعة , والآخر معصية، والعرب تقول ظلمني فلان , فظلمته , أي: جازيته بظلمه، وجهل عليّ , فجهلت عليه , أي: جازيته بجهله.
قال الشاعر:
ألا لا يجهلنّ أحد علينا= فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي: فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره.
وقال اللّه عزّ وجلّ:{ومكروا ومكر اللّه}
وقال: {فيسخرون منهم سخر اللّه منهم}
جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا، وجعل اسم مجازاتهم على سخريتهم سخرياً, فكذلك: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}). [معاني القرآن: 1/263-265]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال عز وجل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص}
أي: قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام .
قال مجاهد: صدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في الشهر الحرام ذي القعدة , فأقضه الله منهم من قابل , فدخل البيت الحرام في الشهر الحرام ذي القعدة , وقضى عمرة .
وقال غيره : قال الله عز وجل: {والحرمات قصاص} , فجمع ؛ لأنه جل ثناؤه أراد : الشهر الحرام , والبلد الحرام , وحرمة الإحرام). [معاني القرآن: 1/109]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال عز وجل: {فمن اعتدى عليكم}
قال مجاهد : أي: من قاتلكم فيه , {فاعتدوا عليه} , فاقتلوه فيه, سمي الثاني اعتداء ؛ لأنه جزاء الأول). [معاني القرآن: 1/109-110]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}, أي: من ظلمكم , فجازوه بمثله). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 38]

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({التّهلكة}: والهلاك، والهلك، والهلك واحد). [مجاز القرآن: 1/68]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
قال: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} , يقول: "إلى الهلكة", والباء زائدة نحو زيادتها في قوله: {تنبت بالدّهن}, وإنما هي: تنبت الدهن, قال الشاعر:
كثيراً بما يتركن في كلّ حفرةٍ = زفير القواضي نحبها وسعالها
يقول: "كثيراً يتركن" , وجعل الباء , و"ما" زائدتين). [معاني القرآن: 1/129]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({التهلكة}: الهلاك). [غريب القرآن وتفسيره: 88]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: ({وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
أي: في الجهاد في سبيل اللّه، وكل ما أمر اللّه به من الخير , فهو من سبيل الله، أي: من الطريق إلى اللّه عزّ وجلّ؛ لأن السبيل في اللغة: الطريق، وإنما استعمل في الجهاد أكثر ؛ لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
أصل بأيديكم:بأيديكم بكسر الياء, ولكن الكسرة لا تثبت في الياء إذا كان ما قبلها مكسوراً لثقل الكسرة في الياء.
{وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
وقوله عزّ وجلّ: {إلى التّهلكة)}, معناه: إلى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك , هلاكاً, وهلكا وتهلكة , وتهلكة.
وتهلكة اسم, ومعناه: إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم، أي : عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم عليكم , واللّه أعلم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
أي: أنفقوا في سبيل الله , فمن أنفق في سبيل اللّه , فمحسن). [معاني القرآن: 1/266]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله عز وجل: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
أصح ما قيل في هذا: أن سعيد بن جبير روى عن ابن عباس, لا تمسكوا النفقة في سبيل الله, فتهلكوا.
وحدثنا محمد بن جعفر الأنباري, قال: حدثنا عبد الله بن يحيى, قال: حدثنا عاصم, قال: حدثنا قيس بن الربيع, عن الأعمش, عن شقيق,
قال حذيفة : التهلكة ترك النفقة .

وقال البراء, والنعمان بن بشير : هو الرجل يذنب الذنب , فيلقي بيده , ثم يقول: لا يغفر لي .
وقال عبيدة: هو الرجل يعمل الذنوب والكبائر , ثم يقول: ليس لي توبة , فيلقي بيديه إلى التهلكة .
وقال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب , فيقول: ليس لي توبة , فينهمك في الذنوب.
قال أبو جعفر : والقول الأول أولى ؛ لأن أبا أيوب الأنصاري يروي قال : نزلت فينا معاشر الأنصار لما أعز الله دينه , قلنا سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت , فلو أقمنا فيها, وأصلحنا منها ما ضاع , فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به: {أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} , فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا, ونصلحها, فأمرنا بالغزو.,
قال أبو جعفر : فدل على وجوب الجهاد على المسلمين , وقيل أيض: اً معنى : وأحسنوا , وأنفقوا.
قال أبو إسحاق : وأحسنوا في أداء الفرائض .
وقال عكرمة : أي: أحسنوا الظن بالله.
وقال ابن زيد: عودوا على من ليس في يده شيء , والمعنى في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} على ما تقدم , أي: إن امتنعتم من النفقة في سبيل الله , عصيتم الله , فهلكتم , ويجوز أن يكون المعنى: قويتم عدوكم , فهلكتم). [معاني القرآن: 1/110-112]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({التَّهْلُكَــــةِ}: الهلاك، إلحاد الأموال). [العمدة في غريب القرآن: 88]

تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه...}
وفي قراءة عبد الله :{وأتمّوا الحجّ والعمرة إلى البيت لله}, فلو قرأ قارئ :{والعمرة لله}, فرفع العمرة ؛ لأن المعتمر إذا أتى البيت, فطاف به , وبين الصفا والمروة , حلّ من عمرته, والحج يأتي فيه عرفاتٍ , وجميع المناسك؛ وذلك قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} يقول: أتموا العمرة إلى البيت في الحج إلى أقصى مناسكه.
{فإن أحصرتم} العرب تقول للذي يمنعه من الوصول إلى إتمام حجّه , أو عمرته: خوف , أو مرض، وكل ما لم يكن مقهوراً كالحبس , والسّجن .
يقال للمريض: قد أحصر، وفي الحبس , والقهر: قد حصر, فهذا فرق بينهما, ولو نويت في قهر السلطان : أنها علّة مانعة, ولم تذهب إلى فعل الفاعل, جاز لك أن تقول: قد أحصر الرجل, ولو قلت في المرض وشبهه: إن المرض قد حصره , أو الخوف، جاز أن تقول: حصرتم, وقوله:{وسيّداًوحصوراً}, يقال: إنه المحصر عن النساء؛ لأنها علّة , وليس بمحبوس, فعلى هذا , فابن). [معاني القرآن: 1/117-118]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله:{فما استيسر من الهدي...}
"ما" في موضع رفع؛ لأن أكثر ما جاء من أشباهه في القرآن مرفوع, ولو نصبت على قولك: أهدوا ما استيسر, وتفسير الهدى في هذا الموضع بدنة , أو بقرة , أو شاة.
{فمن لم يجد} الهدى , صام ثلاثة أيامٍ , يكون آخرها: يوم عرفة، واليومان في العشر، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع في طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله , و"السبعة" فيها الخفض على الإتباع للثلاثة, وإن نصبتها , فجائز على فعل مجدّد؛ كما تقول في الكلام: لا بدّ من لقاء أخيك , وزيدٍ , وزيداً). [معاني القرآن: 1/118]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ذلك لمن لّم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} , يقول: ذلك لمن كان من الغرباء من غير أهل مكّة، فأمّا أهل مكة , فليس ذلك عليهم, و"ذلك" في موضع رففع, وعلى تصلح في موضع اللام؛ أي: ذلك على الغرباء). [معاني القرآن: 1/118]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وأتمّوا الحجّ والعمرة لله}, والمعنى: أن العمرة ليست بمفترضة، وإنما نصبت على ما قبلها.
قال أبو عبيدة: وأخبرنا ابن عون , عن الشّعبي : أنه كان يقرأ {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله} يرفع العمرة، ويقول: إنها ليست بمفترضة, ومن نصبها أيضاً جعلها غير مفترضة.
{فإن أحصرتم}: أي: إن قام بكم بعير، أو مرضتم، أو ذهبت نفقتكم، أوفاتكم الحجّ، فهذاكله محصر، والمحصور: الذي جعل في بيت، أو دار، أو سجنٍ.
{الهدي}, قال يونس: كان أبو عمرو يقول في واحد الهدى: هدية، تقديرها: جدية السرج، والجميع : الجدى مخفف, قال أبو عمرو: ولا أعلم حرفاً يشبهه.
{أو نسك} : النّسك أن ينسك، يذبح لله، فالذبيحة النسيكة.
{فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ}, العرب تؤكد الشيء , وقد فرغ منه , فتعيده بلفظ غيره تفهيماً , وتوكيدا). [مجاز القرآن: 1/68-70]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مّريضاً أو به أذًى مّن رّأسه ففديةٌ مّن صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي فمن لّم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ ذلك لمن لّم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب}
أما قوله: {فإن أحصرتم}, فلأنك تقول: "أحصرني بولي" , و"أحصرني مرضي" , أي: جعلني أحصر نفسي, وتقول: "حصرت الرجل" , أي: حبسته، فهو "محصور", وزعم يونس , عن أبي عمرو أنه يقول: "حصرته إذا منعتهه عن كلّ وجهٍ" , وإذا منعته من التقدم خاصة ,فقد "أحصرته"، ويقول بعض العرب في المرض , وما أشبهه من الإعياء , والكلال: "أحصرته".
وقال: {ففديةٌ مّن صيامٍ}, أي: فعليه فدية.
وقال: {فمن لّم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ} , فإنما قال: {عشرةٌ كاملةٌ}, وقد ذكر سبعة, وثلاثة , ليخبر أنها مجزية، وليس ليخبر عن عدتها، ألا ترى أن قوله: {كاملةٌ} إنما هي "وافية".
وقد ذكروا أنّه في حرف ابن مسعودٍ :{تسعٌ وتسعون نعجةً} أنثى , وذلك أن الكلام يؤكد بما يستغنى به عنه , كما قال: {فسجد الملائكة كلّهم أجمعون},وقد يستغنى بأحدهما، ولكن تكرير الكلام كأنه أوجب ألا ترى أنك تقول: "رأيت أخويك كليهما" ,. ولو قلت: "رأيت أخويك", أستغنيت , فتجيء بـ"كليهما" توكيداً, وقال بعضهم في قول ابن مسعود :{أنثى}, أنه إنما أراد "مؤنّثة" يصفها بذلك ؛ لأن ذلك قد يستحب من النساء.
وقال: {ذلك لمن لّم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}, وإذا وقفت قلت: {حاضري}؛ لأن الياء إنما ذهبت في الوصل لسكون اللام من "المسجد"، وكذلك {غير محلّي الصّيد}, وقوله: {عمّ يتساءلون} , و{فيم أنت من ذكراها}, وأشباه هذا مما ليس هو حرف إعراب, وحرف الإعراب الذي يقع عليه الرفع, والنصب, والجر , ونحو "هو" , و"هي"، فإذا وقفت عليه , فأنت فيه بالخيار, إن شئت ألحقت الهاء , وإن شئت لم تلحق, وقد قالت العرب في نون الجميع , ونون الاثنين في الوقف بالهاء , فقالوا: "هما رجلانه" , و"مسلمونه" , و"قد قمته" إذا أرادوا: "قد قمت",
وكذلك ما لم يكن حرف إعراب إلا أن بعضه أحسن من بعض، وهو في المفتوح أكثر, فأما "مررت بأحمر" , و"يعمر" , فلا يكون الوقف في هذا بالهاء ؛ لأن هذا قد ينصرف عن هذا الوجه, وكذلك ما لم يكن حرف إعراب , ثم كان يتغير عن حاله , فإنه لا تلحق فيه الهاء إذا سكت عليه, وأما قوله: {إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} , فإذا وقفت قلت : "تبوء" ؛ لأنها "أن تفعل" , فإذا وقفت على "تفعل" لم تحرّك.

قال: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا} , إذا وقفت عليه, لأنه "أن تفعّلا" , وأنت تعني فعل الاثنين , فهكذا الوقف عليه , قال: {ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدقٍ} , فإذا وقفت , قلت: "مبوّأ" , ولا تقول: "مبوّءا" ؛ لأنه مضاف، فإذا وقفت عليه لم يكن ألف. ولو أثبت فيه الألف , لقلت في وقف {غير محلّي الصّيد}: "محلين", ولكنه مثل "رأيت غلامي زيد" , فإذا وقفت قلت: "غلامي".
وقال: {فلمّا تراءى الجمعان}, فإذا وقفت قلت: "تراءى" , ولم تقل: "تراءيا" ؛ لأنك قد رفعت الجمعين بذا الفعل، ولو قلت: "تراءيا" كنت قد جئت باسم مرفوع بذا الفعل , وهو الألف , ويكون قولك: "الجمعان" ليس بكلام إلا على وجه آخر). [معاني القرآن: 1/130-131]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وأتموا الحج والعمرة لله}: قالوا العمرة الزيارة والمعتمر الزائر
{فإن أحصرتم}: الإحصار كل ما حبس عن المضي للحج من مرض أو خوف أو غيره، والحصر الحبس، وفلان محصور، وفي الأول محصر.
{النسك}: الذبح لله والنسيكة الذبيحة). [غريب القرآن وتفسيره:88-89]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فإن أحصرتم} من الإحصار, وهو أن يعرض للرجل ما يحول بينه , وبين الحج من مرض, أو كسر , أو عدو, يقال: أحصر الرجل إحصاراً فهو محصر, فإن حبس في سجن , أو دار , قيل: قد حصر , فهو محصور.
{فما استيسر من الهدي}, أي: فما تيسّر من الهدى وأمكن, والهدي: ما أهدي إلى البيت, وأصله هديّ مشدد فخفف, وقد قرئ:{حتّى يبلغ الهدي محلّه} بالتشديد, واحده: هديّة, ثم يخفف , فيقال: هدية.
{ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه}, هو من حلّ يحل، والمحلّ: الموضع الذي يحل به نحره.
{فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه}, أراد : فحلق, {ففديةٌ من صيامٍ}, فحذف: فحلق ؛ اختصاراً على ما بينت في «تأويل المشكل» .
{أو نسكٍ}, أي: ذبح, يقال: نسكت للّه، أي: ذبحت له). [تفسير غريب القرآن: 78]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب}
يجوز في العمرة:
1-النصب
2-والرفع:
والمعنى في النصب: أتموهما.

والمعنى في الرفع: وأتموا الحج، والعمرة لله، أي: هي مما تتقرّبون به إلى اللّه عزّ وجلّ, وليس بفرض.
وقيل أيضاً في قوله عزّ وجلّ: {وأتمّوا الحجّ والعمرة} غير قول: يروى عن علي , وابن مسعود - رحمة الله عليهما - أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك.
ويروى عن غيرهما , إنّه قال : إتمامهما أن تكون النفقة حلالًا, وينتهي عما نهى الله عنه.
وقال بعضهم: إن الحج والعمرة لهما مواقف , ومشاعر، كالطواف, والموقف بعرفة , وغير ذلك، فإتمامهما تأدية كل ما فيهما، وهذا بين.
ومعنى: اعتمر في اللغة , قيل فيه قولان: قال بعضهم:اعتمر : قصد.
قال الشاعر:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر= مغزى بعيدا من بعيد وضبر
المعنى: حين قصد مغزى بعيداً, وقال بعضهم : معنى : اعتمر: زار من الزيارة.
ومعنى العمرة في العمل: الطواف بالبيت , والسعي بين الصفا والمروة فقط، والعمرة للإنسان في كل السنة، والحج وقته وقت واحد من السنة.
ومعنى اعتمر عندي في قصد البيت, أنه إنما خص بهذا - أعني بذكر اعتمر - ؛ لأنه قصد العمل في وضع عامر , لهذا قيل معتمر.
وقوله عزّ وجلّ: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}
الرواية عند أهل اللغة: أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف , أو المرض من التصرف : قد احصر , فهو محصر, ويقال للرجل الذي حبس : قد حصر , فهو محصور.
وقال الفراء: لو قيل للذي حبس أحصر لجاز، كأنه يجعل حابسه بمنزلة المرض , والخوف الذيمنعه من التصرف، وألحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوف , والمرض : أحصر , وللمحبوس حصر، وإنما كان ذلك هو الحق ؛ لأن الرجل إذا امتنع من التصرف , فقد حبس نفسه، فكأن المرض أحبسه , أي: جعله يحبس نفسه، وقوله : حصرت فلاناً, إنما هو حبسته، لا أنه حبس نفسه، ولا يجوز فيه أحصر.
وقوله عزّ وجلّ: {فما استيسر من الهدي}
موضع " ما " رفع المعنى , فواجب عليه ما استيسر من الهدي، وقد قيل في الهدى: الهدي, والهدي جمع هدية, وهدي، كقولهم في حذية السرج حذيّة وحذي, وقال بعضهم:ما استيسر : ما تيسر من الإبل , والبقر.
وقال بعضهم : بعير , أو بقرة , أو شاة , وهذا هو الأجود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محله}
قالوا في محله : من كان حاجاً, محله يوم النحر، ولمن كان معتمراً: يوم بدخل مكة.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن كان منكم مريضاص أو به أذى من رأسه ففدية}أي: فعليه فدية، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار , فليعط فدية , أو فليأت بفدية، وإنما عليه الفدية إذا حلق رأسه, وحل من إحرامه , وقوله :{أو نسك}, أي: أو نسيكة يذبحها، والنسيكة الذبيحة..
وقوله عزّ وجلّ: {فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي}أي: فعليه ما استيسر من الهدي، وموضع (ما) رفع , ويجوز أن يكون نصباً على إضمار : فليهد ما استيسر من الهدي.
وقوله عزّ وجلّ:{فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم}معناه: فعليه صيام، والنصب جائز على : فليصم هذا الصيام، ولكن القراءة لا تجوز بما لم يقرأ به.
وقوله عزّ وجلّ: {تلك عشرة كاملة}
قيل فيها غير قول:
1- قال بعضهم: {كاملة}, أي: تكمل الثواب.

2- وقال بعضهم :{كاملة}في البدل من الهدي.
والذي في هذا - واللّه أعلم - أنه لما قيل :{فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}: جاز أن يتوهم المتوهم أن الفرض ثلاثة أيام في الحج , أو سبعة في الرجوع , - فأعلم اللّه عزّ وجلّ - أن العشرة مفترضة كلها، فالمعنى المفروض عليكم : صوم عشرة كاملة على ما ذكر من تفرقها في الحج والرجوع.
وقوله عزّ وجلّ: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}أي: هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة , و{حاضري المسجد الحرام}, أصله: حاضرين المسجد الحرام , فسقطت النون للإضافة , وسقطت الياء في الوصل لسكونها , وسكون اللام في المسجد، وأما الوقف , فتقول فيه: متى اضطررت إلى أن تقف{حاضري}). [معاني القرآن: 1/267-269]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {وأتموا الحج والعمرة لله}
يروى عن عمر: أن إتمامهما ترك الفسخ؛لأن الفسخ كان جائزا ًفي أول الإسلام
وقال عبد الله بن سلمة: سألت عليا عن قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله},ما إتمامهما ؟، قال:إن تحرم بهما من دويرة أهلك .
قال أبو جعفر :و ذهب إلى هذا جماعة من الكوفيين, وقال:وجعل الميقات حتى لا يتجاوز,فأما الأفضل فما قال علي.
وروى علقمة,عن عبد الله قال: لا يجاور بهما البيت .
وقال مجاهد,وإبراهيم : إتمامهما أن يفعل ما أمر به فيهما , وهذا كأنه إجماع؛لأن عليه أن يأتي المشاعر وما أمر به,وبذلك يتم حجه,فأما الإحرام من بلده,فلو كان من الإتمام
لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد قال الحسن:أحرم عمران بن الحصين من البلد الذي كان فيه , فأنكر ذلك عمر عليه,وقال: أيحرم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره ؟!.
وقيل: إتمامهما: أن تكون النفقة حلالاً.
وقال سفيان : إتمامهما: أن يحرم لهما قاصداً, لالتجارة
وقرأ الشعبي : والعمرة لله بالرفع , وقال العمرة: تطوع, والناس جميعاً يقرؤنها بالنصب,وفي المعنى قولان:
قال ابن عمر,والحسن,وسعيد بن جبير ,و طاووس,وعطاء,وابن سيرين : هي فريضة .
وقال جابر بن عبد الله ,و الشعبي:هي تطوع .
وليس يجب في قراءة من قرأ بالنصب أنها فرض ؛ لأنه ينبغي لمن دخل في عمل هو لله أن يتمه .
قيل: معنى الحج مأخوذ من قولهم حججت كذا ,
أي :تعرفت كذا , فالحاج يأتي مواضع بتعرفها .
قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجف = فاست الطبيب قذاها كالمغاريد). [معاني القرآن: 1/112-115]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {فإن أحصرتم},يعنني:منعتم عن إتمامهما
وفي الإحصار قولان:
أحدهما: قاله ابن عمر : وهو مذهب أهل المدينة,قال:لا يكون إلا من عدو .
قال أبو جعفر : والقول الآخر قاله ابن مسعود , وهو قول أهل الكوفة : أنه من العدو , ومن المرض , وأن من أصابه من ذينك شيء , بعث بهدي , فإذا نحر حل ., وروى سعيد بن جبير , عن ابن عباس مثله .
وروى طاووس , عن ابن عباس مثل الأول , وتلا {فإذا آمنتم} , قال : فهل الأمن إلا من خوف؟
فقد صار في الآية إشكال ؛ لأن الإحصار عند جميع أهل اللغة: إنما هو من المرض الذي يحبس عن الشيء , فأما من العدو , فلا يقال فيه إلا حصر يقال : حصر حصراً, وفي الأول أحصر إحصاراً.
والقول في الآية على مذهب ابن عمر أنه يقال: وأقتلت الرجل , عرضته للقتل , وأقبره جعل له قبراً, وأحصرته على هذا عرضته للحصر كما يقال: أحبسته , أي: عرضته للحبس , وأحصر أي : أصيب بما كان مسببا للحصر , وهو فوت الحج.

وقد روي,عن عكرمة, عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(( من عرج , أو كسر, فقد حل , وعليه حجة أخرى )), قال : فحدثت بذا ابن عباس, وأبا هريرة, فقالا : صدق , وإنما روي هذا , عن عكرمة حجاج الصواف , وروى الجلة خلاف هذا .
روى سفيان , عن عمرو بن دينار , عن ابن عباس وابن طاووس , عن أبيه , عن ابن عباس : لا حصر إلا من عدو .
وروى أبو نجيح , عن عكرمة : أن المحصر يبعث بالهدي , فإذا بلغ الهدي محله حل , وعليه الحج من قابل). [معاني القرآن: 1/116-118]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فما استيسر من الهدي}
قال ابن عمر, وابن الزبير, وعائشة : من الإبل , والبقر خاصة , شيء دون شيء .
وروى جعفر , عن أبيه , عن علي رضوان الله عنه : فما استيسر من الهدي شاة.
وقال ابن عباس: يكون من الغنم , ويكون شركاً في دم , وهو مذهب سعد). [معاني القرآن: 1/118]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى:{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}
قال: قال مجاهد : يعني : يوم النحر.
وقال خالد بن أبي عمران , عن القاسم بن محمد: حتى ينحر .
وقال أكثر الكوفيين : ينحر عنه الهدي في أي يوم شاء في الحرم.
وقال الكسائي في قوله: {محله}, إنما كسرت الحاء ؛ لأنه من حل يحل , حيث يحل أمره , ولو أراد حيث يحل ؛ لكان محله , وإنما هو على الحلال). [معاني القرآن: 1/119]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه}
روى مجاهد , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن كعب بن عجرة : أنه لما كان مع الرسول , فآذاه القمل في رأسه , فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه , وقال: ((صم ثلاثة أيام , أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين مدان, أو انسك بشاة)) .
قال أبو جعفر : أي : ذلك فعلت , أجزأ عنك
وقال عطاء : هذا لمن كان به قمل, أو صداع , و ما أشبهما .
قال أبو جعفر : وفي الكلام حذف , والمعنى : فحلق , أو اكتحل , أو تداوى بشيء فيه طيب , فعليه فدية). [معاني القرآن: 1/120]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}
قال الربيع بن أنس : إذا أمن من خوفه , وبرأ من مرضه, أي: من خوف العدو , والمرض .
وقال علقمة: إذا برأ من مرضه). [معاني القرآن: 1/121]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}
التمتع عند الفقهاء المدنيين, والكوفيين: أن يعتمر الذي ليس أهله حاضري المسجد الحرام في أشهر الحج , ويحل من عمرته, ثم يحج في تلك السنة , ولم يرجع إلى أهله بين العمرة والحج , فقد تمتع من العمرة إلى الحج , أي : انتفع بما ينتفع به الحلال , والمتعة , والمتاع في اللغة الانتفاع, ومنه قوله تعالى: {ومتعوهن}
وقال أهل المدينة: وكذلك إذا اعتمر قبل أشهر الحج , ثم دخلت عليه أشهر الحج , ولم يحل , فحل في أشهر الحج , ثم حج.
وقال الكوفيون: إن كان طاف أكثر طواف العمرة قبل دخول أشهر الحج , فليس بتمتع , وإن كان قد بقي عليه الأكثر , فهو متمتع .
وقال طاووس: من اعتمر في السنة كلها في المحرم , فما سواه من الشهور , فأقام حتى يحج , فهو متمتع .
وروى ابن أبي طلحة , عن ابن عباس : {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}, يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج.
وروى عنه عطاء : العمرة لمن أحصر , ولمن خليت سبيله , أصابتهما هذه الآية .
وروى عنه سعيد بن جبير : على من أحصر الحج في العام القابل , فإن حج , فاعتمر في أشهر الحج, فإن عليه الفدية , فهذه الأقوال , عن ابن عباس متفقة , وأصحها ما رواه سعيد بن جبير ؛ لأن اتساق الكلام على مخاطبة من أحصر , وإن كان ممن لم يحصر , فتمتع , فحكمه هذا الحكم .
فعلى هذا يصح ما رواه عطاء عنه , وكذلك ما رواه علي بن أبي طلحة غير أن نص التأويل على المخاطبة لمن أحصر .
وقال عبد الله بن الزبير : ليس التمتع الذي يصنعه الناس اليوم , يتمتع أحدهم بالعمرة قبل الحج , ولكن الحاج إذا فاته الحج ,أو ضلت راحلته, أو كسر حتى يفوته الحج , فإنه يجعله عمرة , وعليه الحج من قابل , وعليه ما استيسر من الهدي,
فتأويل ابن الزبير: أنه لا يكون إلا لمن فاته الحج ؛ لأنه تعالى قال: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}, فوقع الخطاب لمن فاته الحج بالحصر .

وخالفه في هذا الأئمة منهم عمر بن الخطاب , وعلي بن أبي طالب, وسعد, فقالوا هذا للمحصرين , وغيرهم, ويدلك على أن حكم غير المحصر غي هذا كحكم المحصر قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}, فهذا للمحصر , وغيره سواء , وكذلك التمتع). [معاني القرآن: 1/121-124]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}
قالت عائشة, وابن عمر : الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج ممن لم يجد هديًا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة , ومن لم يصم , صام أيام منى .,
وكان ابن عمر يستحب أن يصوم قبل يوم التروية ويوم عرفة .

وقال الشعبي, وعطاء وطاووس, وإبراهيم : {فصيام ثلاثة أيام في الحج} : قبل يوم التروية يوماً, ويوم التروية, ويوم عرفة). [معاني القرآن: 1/124-125]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {وسبعة إذا رجعتم}
روى شعبة , عن محمد بن أبي النور , عن حيان السلمي قال: سألت ابن عمر عن قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم}, قال: إذا رجعتم إلى أهليكم .
وروى سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال : إن شاء صامها في الطريق, إنما هي رخصة, وكذا قال عكرمة والحسن.
والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج , أي: إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الإحرام من الحل.
وقال عطاء: إذا رجعتم إلى أهليكم , وهذا كأنه إجماع). [معاني القرآن: 1/126]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال عز وجل: {تلك عشرة كاملة}
وقد علم أنها عشرة, وأحسن ما قيل في هذا: أنه لو لم يقل تلك عشرة كاملة , جاز أن يتوهم السامع أنه إنما عليه أن يصوم ثلاثة في الحج , أو سبعة إذا رجع ؛ لأنه لم يقل وسبعة أخرى
كما يقول أنا آخذ منك في سفرك درهماً, وإذا قدمت إلا اثنين , أي: لا آخذ إذا قدمت إلا اثنين .
وقال محمد بن يزيد: لو لم يقل تلك عشرة , جاز أن يتوهم السامع أن بعدها شيئا آخر , فقوله: {تلك عشرة} , بمنزلة قولك في العدد فذلك كذا وكذا
وأما معنى:{كاملة}, فروى هشيم فيه , عن عباد بن راشد, عن الحسن قال : كاملة من الهدي, أي: قد كملت في المعنى الذي جعلت له, فلم يجعل معها غيرها, وهي كاملة الأجر ككمال الهدي). [معاني القرآن: 1/126-127]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام}
قال مجاهد : أهل الحرم.
وقال الحسن, وإبراهيم, والأعرج, ونافع: هم أهل مكة خاصة .
وقال عطاء, وقال مكحول: هم أهل المواقيت , ومن بعدهم إلى مكة .
قال أبو جعفر, وقول الحسن , ومن معه أولى ؛لأن الحاضر للشيء هو الذي معه ,وليس كذا أهل المواقيت , وأهل منى , وكلام العرب لأهل مكة أن يقولوا : هم أهل المسجد الحرام .
قال أبو جعفر: فتبين أن معنى {حاضري المسجد}: لأهل مكة , ومن يليهم ممن بينه و بين مكة ما لا تقصر فيه الصلاة ؛لأن
الحاضر للشيء: هو الشاهد له ولنفسه,وإنما يكون المسافر مسافراًلشخوصه إلى ما يقصر فيه,وإن لم يكن كذلك لم يستحق اسم غائب). [معاني القرآن: 1/127-128]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فإن أحصرتم} الإحصار: كل ما حبس من الحاج، من مرض, أو خوف، والحصر في السجن, والأول يقال فيه: أحصر , فهو محصر, والثاني يقال فيه: حصر , فهو محصور.
{الهدي}: ما أهدي إلى البيت، وأصله التشديد للياء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 38]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْعُمْرَةَ}: الزيارة. {أُحْصِرْتُمْ}: حبستم. {النُسُك}: الذبح لله). [العمدة في غريب القرآن: 88]


رد مع اقتباس
  #20  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:51 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 197 إلى 207]

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}

تفسير قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} معناه: وقت الحج هذه الأشهر.
فهي وإن كانت "فى" تصلح فيها فلا يقال إلاّ بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البرد شهران، والحرّ شهران، لا ينصبون؛ لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: {ولسليمان الرّيح غدوّها شهرٌ ورواحها شهرٌ} ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب.
ووجه الكلام الرفع؛ لأن الاسم إذا كان في معنى صفةٍ أو محلّ قوي إذا أسند إلى شيء؛ ألا ترى أن العرب يقولون: هو رجل دونك وهو رجل دونٌ، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا.
ومن كلامهم المسلمون جانبٌ، والكفّار جانب، فإذا قالوا: المسلمون جانب صاحبهم نصبوا. وذلك أن الصاحب يدلّ على محلّ كما تقول: نحو صاحبهم، وقرب صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلاّ تقيده قرب شيء أو بعده.

والأشهر المعلومات: شوّالٌ وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والأشهر الحرم المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
وإنما جاز أن يقال له: أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشيء يكون فيه الحج وشبهه جعلوه في التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال الله تبارك وتعالى: {واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ فمن تعجّل في يومين} وإنما يتعجّل في يومٍ ونصف، وكذلك هو في اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها شيء تامّ، وكذلك تقول العرب: له اليوم يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعض آخر، وهذا ليس بجائزٍ في غير المواقيت، لأن العرب قد تفعل الفعل في أقلّ من الساعة، ثم يوقعونه على اليوم وعلى
العام والليالي والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك اليوم، وقتل فلان ليالي الحجّاج أمير، لأنه لا يراد أوّل الوقت وآخره، فلم يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك الحين).
وأما قوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} يقال: إن الرفث: الجماع، والفسوق: السباب، والجدال: المماراة.
{في الحجّ} فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة إلا مجاهدا فإنه رفع الرفث والفسوق ونصب الجدال.
وكلّ ذلك جائز:
1- فمن نصب أتبع آخر الكلام أوّله،
2- ومن رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان:
1-
الرفع بالنون،
2- والنصب بحذف النون. ولو نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك في غير القرآن؛ لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها بـ "لا" كان فيها وجهان:
1- إن شئت جعلت "لا" معلّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون؛ لأن "لا" في معنى صلةٍ،
2- وإن نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلّقة فتنصب بلا نونٍ؛ قال في ذلك الشاعر:

رأت إبلى برمل جدود أ[ن] لا * مقيل لها ولا شرباً نقوعا
فنوّن في الشرب، ونوى بـ "لا" الحذف؛ كما قال الآخر:
فلا أب وابنا مثل مروان وابنه * إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا
وهو في مذهبه بمنزلة المدعوّ تقول: يا عمرو والصّلت أقبلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرٍو وفيه الألف واللام؛ لأنك نويت به أن يتبعه بلا نيّة "يا" في الألف واللام.
فإن نويتها قلت: يا زيد ويأيها الصّلت أقبلا. فإن حذفت "يأيها" وأنت تريدها نصبت؛ كقول الله عز وجل: {يا جبال أوّبي معه والطّير} نصب الطير على جهتين:
1- على نيّة النداء المجدّد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال،
2- وإن شئت أوقعت عليه فعلا: وسخرنا له "الطير" فتكون النية على سخرنا. فهو في ذلك متبع؛ كقول الشاعر:

ورأيت زوجك في الوغى * متقلّدا سيفا ورمحا
وإن شئت رفعت بعض التبرئة ونصبت بعضا، وليس من قراءة القراء ولكنه يأتي في الأشعار؛ قال أميّة:
فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها * وما فاهوا به لهم مقيم
وقال الآخر:
ذاكم - وجدّكم - الصّغار بعينه * لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
وقبله:
وإذا تكون شديدةٌ أدعى لها * وإذا يحاس الحيس يدعى جندب). [معاني القرآن: 1/119-122]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فمن فرض فيهنّ الحجّ} من أو ذم في الحج: أي فرضه عليه أي ألزمه نفسه.
{فلا رفث}أي: لا لغا من الكلام، قال العجاج:
عن اللّغا ورفث التكلّم
{ولا جدال في الحجّ} أي: لا شك فيه أنه لازمٌ في ذي الحجة، هذا فيمن قال: (جدال) ومن قال: (لا جدالٌ في الحجّ): من المجادلة). [مجاز القرآن: 1/70]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فلا رفث}: فلا لغو من الكلام. واللغو واللغا التكلم بما لا يبغي.
وقال المفسرون: هو الجماع في هذا الموضع).
[غريب القرآن وتفسيره: 89]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
{فمن فرض فيهنّ الحجّ} أي: أحرم. فلا رفث أي لا جماع.
{ولا فسوق} أي: لا سباب.
{ولا جدال} أي: لا مراء).
[تفسير غريب القرآن:78-79]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى واتّقون يا أولي الألباب}
قال أكثر الناس: إن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
{فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث}.
وقال بعضهم: لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالا، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه الأشهر أن يفرض على نفسه الحج.
وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه - فأمر الله عزّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالا،
وقال بعض أهل اللغة: معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج لأن العمرة له - في طول السنة، فينبغي له في ذلك الوقت ألا يرفث ولا يفسق.

وتأويل {فلا رفث ولا فسوق}، لا جماع ولا كلمة من أسباب الجماع قال الراجز:
عن اللّغا ورفث التكلم والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله.
وأمّا {فلا فسوق} فإذا نهي عن الجماع كلّه فالفسوق داخل فيه - ولكن المعنى - واللّه أعلم - {فلا فسوق} أي: لا يخرج عن شيء من أمر الحج - وقالوا في قوله {ولا جدال في الحج} قولين:
1- قالوا: {لا جدال في الحجّ} - لا شك في الحج،
2- وقالوا لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إلى ما لا ينبغي تعظيما لأمر الحج، وكلّ صواب، ويجوز فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.

وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وكلّ صواب.
وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغير تنوين وبيّنّا حقيقة نصبها وزعم سيبويه والخليل أنه يجوز أن ترفع النكرات بتنوين
وأن قول العجاج:
تالله لولا أن يحشّن الطّبّخ... بي الجحيم حين لا مستصرخ
يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا، وأن قوله.
من صدّ عن نيرانها... فأنا ابن قيس لا براح
وحقيقة ما ارتفع بعدها عند بعض أصحابه على الابتداء لأنه إذا لم تنصب فإنّما يجري ما بعدها كما يجرى ما بعد هل، أي: لا تعمل فيه شيئا،
فيجوز أن يكون: لا رفث على ما قال سيبويه
ويجوز أن يكون: على الابتداء كما وصفنا، ويكون في الحج هو خبر لهذه المرفوعات، ويجوز إذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت بما بعده مرفوعا أن يكون عطفا على الموضع، ويجوز أن يكون: رفعه على ما وصفنا، فأما العطف على الموضع إذا قلت لا رجل وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار.

وقوله عزّ وجلّ: {وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى}.
يروى أن قوما كانوا يخرجون في حجهم يتأكّلون الناس، يخرجون بغير زاد، فأمروا بأن يتزودوا، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به تقوى اللّه عزّ وجلّ.
وقوله عزّ وجلّ: {واتّقون يا أولي الألباب}.
(الألباب) واحدها لب، وهي العقول {أولي} نصب لأنه نداء مضاف). [معاني القرآن: 1/269-271]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات}
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا عبد الله بن يحيى قال أخبرنا حجاج بن محمد قال ابن جريج: قلت لنافع مولى ابن عمر أسمعت ابن عمر سمى أشهر الحج؟، قال: نعم سمى شوالا وذا القعدة وذا الحجة.
وقال ابن عباس: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وقال أبو جعفر: والقولان يرجعان إلى شيء واحد لأن ابن عمر إنما سمى ذا الحجة لأن فيه الحج وهو شهر حج). [معاني القرآن: 1/129]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج}
قال ابن مسعود وابن عمر: فرض لبى.
وعن ابن عباس أحرم وقيل معنى أحرم أوجب على نفسه الإحرام بالعزم وإن لم يلب

قال أبو جعفر: وحقيقته في اللغة إن فرض أوجب
والمعنى: أوجب فيهن الحج بالتلبية أو بالنية واحتمل أن يكون معناه أوجب على نفسه الحج بالتلبية فيهن فتكون التلبية والحج جميعا فيهن .
واحتمل أن يكون المعنى: من أوجب على نفسه الحج فيهن بالتلبية في غيرهن
إلا أن محمد بن جعفر الأنباري حدثنا قال حدثنا عبد الله بن يحيى قال أخبرنا حجاج بن محمد قال جريج أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} فلا ينبغي لأحد أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض). [معاني القرآن: 1/129-131]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
روى سفيان بن حصيف عن مقسم عن ابن عباس قال: الرفث الجماع والفسوق السباب والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذا قال ابن عمر.
وروى طاووس عن ابن عباس وابن الزبير الرفث التعريض أي يقول لو كنا حلالين لكان كذا وكذا
وقال عطاء وقتادة: الرفث الجماع والفسوق المعاصي والجدال أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبه.
وروى أبو يحيى عن مجاهد في الجدال كما قال عطاء.
وروى عنه ابن أبي نجيح لا جدال ولا شك فيه وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء.
وعلى ذلك قرأ برفع رفث وفسوق وفتح جدال
وهذه الأقوال متقاربة لأن التعريض بالنكاح من سببه والرفث أصله الإفحاش ثم يكنى به الجماع ويبين لك أنه يقع للجماع قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}
والفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء، فسباب المسلم خروج عن طاعة الله
وقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسق وقتاله كفر))
وقيل قول عطاء وقتادة: الفسوق المعاصي. حسن جدا
على أنه قد روى عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم، أي: من صيد وغيره
فهذا قول جامع لأن سباب المسلم داخل في المعاصي وكذلك الأشياء التي منع منها المحرم وحده التي منع المحرم والحلال
ومعنى قول مجاهد لا شك فيه أنه في ذي الحجة أن النساة كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ويقف بعضهم بجمع وبعضهم بعرفة ويتمارون في الصواب من ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن الحج في ذي الحجة))
وقال أبو زيد قال أبو عمرو أراد فلا يكونن رفث ولا فسوق في شيء يخرج من الحج
ثم ابتدأ النفي فقال: {ولا جدال في الحج} فأخبر أن الأول نهي). [معاني القرآن: 1/131-134]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}
روى سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: كان أناس يقدمون مكة في الحج بغير زاد فأمروا بالزاد.
وقال مجاهد: كان أهل اليمن يقولون لا تتزودوا فتتوصلون من الناس فأمروا أن يتزودوا.
وقال قتادة نحو منه). [معاني القرآن: 1/134-135]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن خير الزاد التقوى} أي: فمن التقوى أن لا يتعرض الرجل لما يحرم عليه من المسألة). [معاني القرآن: 1/135]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {واتقون يا أولي الألباب} أي: العقول ولب كل شيء خالصه). [معاني القرآن: 1/135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( (أشهر الحج) شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
{فلا رفث} لا جماع، وقيل: لا لغو من الكلام
{ولا فسوق}
أي: لا سباب.
{ولا جدال}
أي: لا مراء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 38]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({المَّعْلُومَات}: أيام العشر.
{الرَفَثَ}: اللغو، الجماع). [العمدة في غريب القرآن: 88]

تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فإذا أفضتم}أي: رجعتم من حيث جئتم). [مجاز القرآن: 1/71]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً مّن رّبّكم فإذا أفضتم مّن عرفاتٍ فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم مّن قبله لمن الضّالّين}
قال: {فإذا أفضتم مّن عرفاتٍ فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام} فصرف "عرفاتٍ" لأنها تلك الجماعة التي كانت تتصرف، وإنما صرفت لأن الكسرة والضمة في التاء صارت بمنزلة الياء والواو في "مسلمين" و"مسلمون" لأنه تذكيره، وصارت التنوين في نحو "عرفاتٍ" و"مسلماتٍ" بمنزلة النون.
فلما سمي به ترك على حاله كما يترك "مسلمون" إذا سمي به على حاله حكاية.
ومن العرب من لا يصرف [ذا] إذا سمي به ويشبه التاء بهاء التأنيث [في] نحو "حمدة" وذلك قبيح ضعيف. قال الشاعر:

تنوّرتها من أذرعاتٍ وأهلها = بيثرب أدنى دارها نظرٌ عال
ومنهم من لا ينوّن "اذرعات" = ولا "عانات" وهو مكان). [معاني القرآن: 1/132]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أفضتم}: رجعتم من حيث جئتم). [غريب القرآن وتفسيره: 89]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم} أي: نفعا بالتجارة في حجّكم.
{فإذا أفضتم} أي: دفعتم {من عرفاتٍ}). [تفسير غريب القرآن: 79]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين}
قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لحمّال ولا أجير ولا تاجر حج فأعلمهم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك مباح، واف لا جناح فيه، أي: لا إثم فيه، وجناح اسم ليس، والخبر عليكم،
وموضع أن نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى جناح.

المعنى: لستم تأثمون أن تبتغوا، أي في أن تبتغوا.
وقوله عزّ وجلّ: {فإذا أفضتم من عرفات}.
قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف، ومعنى {أفضتم}: دفعتم بكثرة، ويقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.
وأفاض الرجل إناءه إذا صبه وأفاض البعير بجرته إذا رمى بها متفرقة كثيرة.
قال الراعي:
وأفضن بعد كظومهن بجرة... من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها، لأنها تقع منبعثة متفرقة
قال أبو ذؤلب:
وكأنهنّ ربابة وكأنّه... يسر يفيض على القداح ويصدع
وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا من تفرقة أو كثرة.
وقوله عزّ وجلّ: {من عرفات}
القراءة والوجه الكسر والتنوين، وعرفات اسم لمكان واحد ولفظه لفظ الجمع، والوجه فيه الصرف عند جميع النحويين لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبه وجره، وليس بمنزلة هاء التأنيث -، وقد يجوز منعه من الصرف إذا كان اسما لواحد، إلا أنه لا يكون إلا مكسورا وإن أسقطت التنوين.
قال امرؤ القيس:
تنورثها من أذرعات وأهلها... بيثرب أدنى دارها نظر عال
فهذا أكثر الرواية، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين، وأما الفتح فخطأ لأن نصب الجمع وفتحه كسر.
وقوله عزّ وجلّ: {فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام}.
هو مزدلفة، وهي جمع، يسمى بهما جميعا المشعر المتعبد
وقوله عزّ وجلّ:{واذكروه كما هداكم}.
موضع الكاف نصب، والمعنى: واذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم أي يكون جزاء لهدايته إياكم، واذكروه بتوحيده، والثناء عليه والشكر.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين}.
معنى (من قبله) أي: من قبل هدايته، ومعنى: كنتم من قبله {لمن الضالين} هذا من التوكيد للأمر، كأنه قيل وما كنتم من قبله إلا ضالين). [معاني القرآن: 1/271-273]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا الرمادي قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا سفيان عن عمر بن دينار قال: قال ابن عباس: كان ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما كان الإسلام كرهوا ذلك حتى نزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في مواسم الحج). [معاني القرآن: 1/135-136]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات} أي: اندفعتم.
ويقال فاض الإناء إذا امتلأ ينصب من نواحيه ورجل فياض أي: يتدفق بالعطاء
قال زهير:
وأبيض فياض يداه غمامة = على معتفيه ما تغب نوافله
وحديث مستعيض أي متتابع
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليهما السلام هذا موضع كذا فيقول عرفت وقد عرفت فلذلك سميت عرفات.
وقال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء ونعيم بن أبي هند نحوا منه.
وقال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم صلى الله عليهما حتى إذا أتى عرفات قال عرفت وكان قد أتاها من قبل ذلك ولذلك سميت عرفة).[معاني القرآن: 1/136-137]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام}
قال ابن عباس وسعيد بن جبير: ما بيت الجبلين مشعر.
قال قتادة: هي جمع قال وإنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بيت صلاة المغرب والعشاء.
قال أبو إسحاق: المعنى واذكروا بتوحيده والمعنى الثناء عليه {وإن كنتم من قبله} أي من قبل هدايته). [معاني القرآن: 1/137-138]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَفَضْتُــــم}: دفعتــــم). [العمدة في غريب القرآن: 88]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس} كانت قريش لا تخرج من الحرم، وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل اللّه وقطّان حرمه:
فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويفيضون منه، فأمرهم اللّه أن يقفوا حيث يقف الناس: ويفيضوا من حيث أفاض الناس). [تفسير غريب القرآن: 79]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفور رحيم}
قيل كانت الحمس من قريش وغيرها (وقد بيّنّا الحمس فيما تقدم) لا تفيض مع الناس في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية، وتفعل ذلك افتخارا على الناس وتعاليا عليهم، فأمرهم الله عزّ وجلّ أن يساووا الناس في الفرض، وأن يقفوا مواقفهم وألا يفيضوا من حيث أفاضوا.
قوله عزّ وجلّ: (واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفور رحيم) أي: سلوه أن يغفر لكم من مخالفتكم الناس في الإفاضة والموقف). [معاني القرآن: 1/273]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}
قالت عائشة وابن عباس: كانت العرب تقف بعرفات فتتعظم قريش أن تقف معها فتقف قريش بالمزدلفة فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفات مع الناس.
وقال الضحاك: الناس إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: والأول أولى.
روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: خرجت في طلب بعير لي بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بعرفة مع الناس قبل أن يبعث فقلت والله إن هذا من الحُمْس فما شأنه واقفا ههنا.
قال أبو جعفر: الحُمْس: الذين شددوا في دينهم والحماسة الشدة.
ويقال ثم في اللغة تدل على الثاني بعد الأول وبنيهما مهلة وقد قال الله تعالى بعد: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}

وإنما الإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام، وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن ثم بمعنى الواو
والجواب الثاني: وهو المختار أن ثم على بابها، والمعنى: ثم أمرتم بالإضافة من عرفات من حيث أفاض الناس.
وفي هذا معنى التوكيد لأنهم أمروا بالذكر عند المشعر الحرام وأفاضوا من عرفات ثم وكدت عليهم الإفاضة من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت قريش تفيض.
وقال تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} ويقال فلان كريم ثم إنه يتفقدنا وفلان يقاتل الناس ثم إنه رديء في نفسه أي ثم أزيدك في خبره .
وفي الآية قول آخر حسن على قول الضحاك: الناس إبراهيم عليه السلام فيكون المعنى من حيث أفاض إبراهيم الخليل وهو المشعر الحرام ويكون هذا مثل {الذين قال لهم الناس} وذلك نعيم بن مسعود الأشجعي
وقد روي عنه أنه قال: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي} يعني آدم وهذه قراءة شاذة). [معاني القرآن: 1/138-141]

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً...}
كانت العرب إذا حجّوا في جاهلّيتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدهم أباه بأحسن أفاعيله: اللهمّ كان يصل الرحم، ويقري الضيف، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً} فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبهم). [معاني القرآن: 1/122]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {فمن النّاس من يقول ربّنا آتنا في الدّنيا...}
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل والغنم فأنزل الله: "منهم من يسأل الدنيا فليس له في الآخرة خلاق" يعني نصيبا). [معاني القرآن: 1/122]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({من خلاق}: من نصيب). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم} كانوا في الجاهلية إذا فرغوا من حجهم ذكروا آباءهم بأحسن أفعالهم. فيقول أحدهم: كان أبي يقرى الضيف ويصل الرحم ويفعل كذا ويفعل كذا، قال اللّه عز وجل: فاذكروني كذكركم آباءكم {أو أشدّ ذكراً}، فأنا فعلت ذلك بكم وبهم). [تفسير غريب القرآن: 79]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرا فمن النّاس من يقول ربّنا آتنا في الدّنيا وما له في الآخرة من خلاق}أي: متعبداتكم التي أمرتم بها في الحج.
{فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم}.
وكانت العرب إذا قضت مناسكها، وقفت بين المسجد بمنى وبين الجبل فتعدد فضائل آبائها وتذكر محاسن أيامها، فأمرهم اللّه أن يجعبوا ذلك الذكر له، وأن يزيدوا على ذلك الذكر فيذكروا اللّه بتوحيده وتعديد نعمه، لأنه إن كانت لآبائهم نعم فهي من اللّه عزّ وجلّ، وهو المشكور عليها.
وقوله عزّ وجلّ: {أو أشدّ ذكرا}.
{أشدّ} في موضع خفض ولكنه لا يتصرف لأنه على مثال أفعل، وهو صفته، وإن شئت كان نصبا على واذكروه أشد ذكرا.
و{ذكرا} منصوب على التميز.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن النّاس من يقول ربّنا آتنا في الدّنيا}.
{آتنا} وقف لأنه دعاء، ومعناه: أعطنا في الدنيا، وهؤلاء مشركو العرب كانوا يسألون التوسعة عليهم في الدنيا ولا يسألون حظا من الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة.
وقوله عزّ وجلّ: {وما له في الآخرة من خلاق}.
يعني هؤلاء، والخلاق النصيب الوافر من الخير). [معاني القرآن: 1/273-274]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} قال مجاهد: إراقة الدماء). [معاني القرآن: 1/141]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}
روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى فيقوم الرجال فيسأل الله فيقول اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته،أي: ليس يذكر الله تعالى إنما يذكر أباه ثم يسأل أن يعطى في الدنيا). [معاني القرآن: 1/141-142]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق}
قال ابن عباس: الخلاق النصيب والمؤمنون يقولون: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} قال: المال {وفي الآخرة حسنة} قال: الجنة). [معاني القرآن: 1/142]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خَـــلاَقٍ}: نصيــــب). [العمدة في غريب القرآن: 88]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({آتنا في الدّنيا حسنةً}أي: نعمة.
وقال في موضع آخر: {إن تصبك حسنةٌ تسؤهم} [التوبة:50] أي: نعمة). [تفسير غريب القرآن: 79]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومنهم من يقول ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار}
هؤلاء المؤمنون يسألون الحظ في الدنيا والآخرة.
والأصل في " قنا " او قينا - ولكن الواو سقطت كما سقطت من يقي، لأن الأصل " يوقي " فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وسقطت ألف الوصل للاستغناء عنها لأنها اجتلبت لسكون الواو، فإذا أسقطت الواو فلا حاجة بالمتكلم إليها، وسقطت الياء للوقف - وللجزم في قول الكوفيين - والمعنى أجعلنا موقين من عذاب النار). [معاني القرآن: 1/274-275]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أولئك لهم نصيبٌ ممّا كسبوا} أي: لهم نصيب من حجهم بالثواب). [تفسير غريب القرآن: 80]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا واللّه سريع الحساب} أي: دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم ههنا الذي ذكر هو الدعاء وقد ضمن اللّه الإجابة لدعاء من دعاه إذا كان مؤمنا، لأنه قد أعلمنا أنه يضل أعمال الكافرين، ويحبطها، ودعاؤهم من أعمالهم.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه سريع الحساب} المعنى: أنه قد علم ما للمحاسب وما عليه قبل توقيفه على حسابه، فالفائدة في الحساب علم حقيقته - وقد قيل في بعض التفسير - إن حساب العبد أسرع من لمح البصر - واللّه أعلم).[معاني القرآن: 1/275]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (قال ابن عباس: الخلاق النصيب والمؤمنون يقولون: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} قال: المال {وفي الآخرة حسنة} قال: الجنة.
وقال هشام عن الحسن {آتنا في الدنيا حسنة} قال: العلم والعبادة {وفي الآخرة حسنة} قال الجنة.
وروى معمر عن قتادة قال في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد إلى أن الحسنة والنعمة من الله.
ثم قال تعالى: {وقنا} أي: اصرف عنا.
يقال منه وقيته كذا أقيه وقاية ووقاية ووفاء وقد يقال وقاك الله وقيا). [معاني القرآن: 1/142-143]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {والله سريع الحساب} أي: اعلم ما للمحاسب وما عليه قبل توقيفه على حسابه وهو يحاسبه بغير تذكر ولا روية وليس الآدمي كذلك). [معاني القرآن: 1/144]

تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واذكروا اللّه في أيّامٍ مّعدوداتٍ...}
هي العشر
[و] المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق.
فمن المفسرين من يجعل المعدودات: أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات فإنهم
يجعلونها يوم النحر ويومين من أيام التشريق؛ لأن الذبح إنما يكون في هذه الثلاثة الأيام،
ومنهم من يجعل: الذبح في آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها العشر). [معاني القرآن: 1/122-123]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لمن اتّقى...} يقول: قتل الصيد في الحرم). [معاني القرآن: 1/123]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {معدوداتٍ}: المعدودات: أيام التشريق؛ المعلومات: عشر ذي الحجة). [مجاز القرآن: 1/71]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واذكروا اللّه في أيّامٍ مّعدوداتٍ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم إليه تحشرون}
قال: {ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى} كأنه حين ذكر هذه الرخصة قد أخبر عن أمر فقال: {لمن اتّقى} أي: ذلك لمن اتقى). [معاني القرآن: 1/132]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({واذكروا الله في أيام معدودات}: الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر من ذي الحجة). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ}: أيام التّشريق. والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة). [تفسير غريب القرآن: 80]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واذكروا اللّه في أيّام معدودات فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم إليه تحشرون}
قالوا: هي أيام التشريق، {معدودات} يستعمل كثيرا في اللغة للشيء القليل - وكل عدد قل أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدل على القلة، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء، نحو دريهمات وجماعات.
وقد يجوز وهو حسن كثير أن تقع الألف والتاء للكثير، وقد ذكر أنه عيب على القائل:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقيل له لم قلّلت الجفنات ولم تقل: الجفان.
وهذا الخبر - عندي - مصنوع لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة - قال اللّه عزّ وجلّ:
{إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}.
وقال: {في جنات}، وقال {في الغرفات آمنون}، فالمسلمون ليسوا في جنات قليلة، ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء، فالألف والتاء أدل عليه، لأنه يلي التثنية، تقول: حمام، وحمامان وحمامات، فتؤدى بتاء الواحد، فهذا أدل على القليل، وجائز حسن أن يراد به الكثير، ويدل المعنى المشاهد على الإرادة، كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن تعجّل في يومين}أي: من نفر في يومين.
{فلا إثم عليه لمن اتّقى} قيل: لمن اتقى قتل الصيد، وقالوا: لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج.
فموسع عليه في التعجل في نفره). [معاني القرآن: 1/275-276]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} أي: بالتوحيد والتعظيم في أيام معدودات أي: محصيات
أمروا بالتكبير أدبار الصلوات وعند الرمي مع كل حصاة من حصى الجمار.
وروى سفيان عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن الديلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام منى ثلاثة أيام التشريق {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}.
وروى نافع عن ابن عمر الأيام المعلومات والمعدودات جمعيهن أربعة أيام فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده والمعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه}.
وروي عن عبدا لله بن مسعود وابن عمر وابن عباس فلا إثم عليه مغفور له.
وقال عطاء وإبراهيم ومجاهد وقتادة: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه في تعجيله ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخيره ثم قال تعالى: {لمن اتقى}.
قال عبد الله بن عمر: أبيح ذا لتعجيل من اتقى فالتقدير على هذا الإباحة لمن أتقى.
وقال ابن مسعود: إنها مغفرة للذنوب لمن اتقى في حجه.
قال أبو جعفر: وهذا القول مثل قوله الأول وأما قول إبراهيم {ومن تأخر فلا إثم عليه} في تأخيره فتأويل بعيد لأن المتأخر قد بلغ الغاية ولا يقال لا حرج عليه
وقد قيل: يجوز أن يقال لا حرج عليه لأن رخص الله يحسن الأخذ بها فأعلم الله تبارك وتعالى أنه لا إثم عليه في تركه الأخذ بالرخص ويدل على صحة قول ابن مسعود حديث شعبة عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه)).
والمعنى على هذا: من حج فاتقى في حجه ما ينقصه فلا إثم عليه من الذنوب الخالية،أي: قد كفر الحج عنه والتقدير تكفير الإثم لمن اتقى.
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا حاجب بن سليمان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان الثوري عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))
قال أبو جعفر: وقول أبي العالية: {لا إثم عليه} ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي، أي: من عمره). [معاني القرآن: 1/144-147]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ((الأيام المعدودات) ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، و(المعلومات) يوم النحر ويومان بعده، وقيل هي العشر). [تفسير المشكل من غريب القرآن:38-39]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({المَّعْدُودَات}: أيام التشريــق). [العمدة في غريب القرآن: 89]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ويشهد اللّه على ما في قلبه...}
كان ذلك رجلا يعجب النبي صلى الله عليه وسلم حديثه، ويعلمه أنه معه ويحلف على ذلك فيقول: (الله يعلم). فذلك قوله "ويشهد الله" أي ويستشهد الله. وقد تقرأ "ويشهد اللّه" رفع "على ما في قلبه"). [معاني القرآن: 1/123]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وهو ألدّ الخصام...} يقال للرجل: هو ألدّ من قوم لدّ، والمرأة لدّاء ونسوة لدّ، وقال الشاعر:
اللدّ أقران الرجال اللدّ * ثم أردّي بهم من يردي
ويقال: ما كنت ألدّ فقد لددت، وأنت تلدّ. فإذا غلبت الرجل في الخصومة (قلت: لددته) فأنا ألدّه لدّاً
وقول الله تبارك وتعالى: {ويهلك الحرث والنّسل} نصبت، ومنهم من يرفع "ويهلك" رفع لا يردّه على "ليفسد" ولكنه يجعله مردودا على قوله: {ومن الناس من يعجبك قوله...ويهلك} والوجه الأوّل أحسن). [معاني القرآن: 1/123-124]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {ألدّ الخصام}: شديد الخصومة، ويقال للفاجر: أبلّ وألدّ، ويقال: قد بللت ولددت بعدي؛ مصدره اللدد، والجميع: قوم لدّ، قال المسيّب بن علس:
ألا تتّقون الله يا آل عامرٍوهل يتّقى الله الأبلّ المصمّم). [مجاز القرآن: 1/71]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}
قال: {ويشهد اللّه على ما في قلبه} إذا كان هو يشهد وقال بعضهم: {ويشهد اللّه} أي: إن الله هو الذي يشهد.
وقال: {وهو ألدّ الخصام} من "لددت" "تلدّ" و"هو ألدّ" و"هم قومٌ لدٌّ" و"امرأةٌ لدّاء" و"نسوةٌ لدّ"). [معاني القرآن: 1/132-133]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ألد الخصام}: شديد الخصومة ويروى كاذب القول والجميع قوم لد). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ألدّ الخصام}: أشدّهم خصومة.
يقال: رجل ألدّ، بين اللّدد. وقوم لدّ. والخصام جمع خصم. ويجمع على فعول وفعال.
يقال:
خصم وخصام وخصوم). [تفسير غريب القرآن: 80]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}
- موضع (من) رفع على ضربين:
1- على الابتداء،
2- وبالعامل في (من) وقد شرحنا هذا الباب.

ويروى أن رجلا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه.
وقوله عزّ وجلّ: {ويشهد اللّه على ما في قلبه} وإن قلت: ويشهد اللّه على ما في قلبه فهو جائز إن كان قد قرئ به والمعنى فيه أن الله عالم بما يسرّه، فأعلم اللّه عزّ وجلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة أمر هذا المنافق - وقال: {وهو ألدّ الخصام}.
ومعنى خصم ألدّ في اللغة - الشديد الخصومة والجدل، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، وتأويله، أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك.
يقال رجل ألدّ، وامرأة لدّاء وقوم لدّ - وقد لددت فلانا ألده - إذا جادلته فغلبته.
وخصام جمع خصم، لأن فعلا يجمع إذا كان صفة على فعال، نحو صعب وصعاب، وخدل وخدال.
وكذلك أن جعلت خصما صفة، فهو يجمع على أقل العدد، وأكثره على فعول وفعال جميعا، يقال خصم وخصام وخصوم، وإن كان اسما ففعال فيه أكثر العدد، نحو فرخ وأفراخ، لأقل العدد، وفراخ وفروخ لما جاوز العشرة). [معاني القرآن: 1/276-277]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}
قال ابن عباس: علانيته ويشهد الله في الخصومة أن ما يريد الحق ولا يطلب الظلم وهو ألد الخصام ظالم.
وقال محمد بن كعب: هم المنافقون.
وقرأ ابن محيصن (ويشهد الله) بفتح الياء الهاء والرفع، ومعناه: يعلم الله.
ثم قال تعالى: {وهو ألد الخصام}
قال مجاهد: أي ظالم لا يستقيم .
وقال قتادة: شديد جدل بالباطل.
والألد في اللغة: الشديد الخصومة مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب كما قال الشاعر:
إن تحت الأحجار حزما وجودا = وخصيما ألد ذا مغلاق
ويروى معلاق ويقال هو من لديدي الوادي أي جانبيه
فصاحب هذه الصفة يأخذ من جانب ويدع الاستقامة واللدود في أحد الشقين
وقال أبو إسحاق الخصام جمع خصم). [معاني القرآن: 1/148-150]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ألد الخصام} أي: أشدهم خصومة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الأَلَــــدُّ}: الشـــديـد الخصومــة). [العمدة في غريب القرآن: 89]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقول الله تبارك وتعالى: {ويهلك الحرث والنّسل} نصبت، ومنهم من يرفع "ويهلك" رفع لا يردّه على "ليفسد" ولكنه يجعله مردودا على قوله: {ومن الناس من يعجبك قوله...ويهلك} والوجه الأوّل أحسن). [معاني القرآن: 1/124] (م)
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واللّه لا يحبّ الفساد...}
من العرب من يقول: فسد الشيء فسودا، مثل قولهم: ذهب ذهوبا وذهابا، وكسد كسودا وكسادا). [معاني القرآن: 1/124]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وإذا تولّى} أي: فارقك.
{سعى في الأرض} أي: أسرع فيها.
{ليفسد فيها ويهلك الحرث}
يعني: الزرع.
{والنّسل} يريد الحيوان. أي: يحرق ويقتل ويخرب). [تفسير غريب القرآن: 80]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد}
نصب {ليفسد} على إضمار أن، المعنى لأن يفسد فيها، وعطف ويهلك علي ويفسد،
ويجوز أن يكون: {يهلك الحرث والنسل} على الاستئناف، أي: وهو يهلك الحرث والنسل، أي يعتقد ذلك.

وقالوا في {الحرث والنسل}: إن الحرث النساء والنسل الأولاد.
وهذا غير منكر لأن المرأة تسمّى حرثا - قال اللّه عزّ وجلّ: {نساؤكم حرث لكم}
وأصل هذا إنما هو في الزرع، وكل ما حرث. فيشبه ما منه الولد بذلك. وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع. لأنه إذا أفسد في الأرض أبطل - بإفساده وإلقائه الفتنة - أمر الزراعة). [معاني القرآن: 1/277-278]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل}أي: إذا فارقك أسرع في فساد الحرث والنسل
وروى أبو مالك عن ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر.
وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال: الحرث حرث الناس والنسل نسل كل دابة.
قال قتادة: الحرث الزرع والنسل نسل كل شيء.
وحدثنا محمد بن شعيب قال أخبرني أحمد بن سعيد قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي عن علي بن الحكم عن الضحاك أما قوله: {ويهلك الحرث والنسل} فالناس وكل دابة وأما الحرث فهي الجنان والأصل النابت
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني والمعنى يحرق ويخرب ويقتل). [معاني القرآن: 1/150-151]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وإذا تولى سعى في الأرض} أي: فارقك.
{ويهلك الحرث} أي: الزرع بالحرق.
{والنسل} أي: الحيوان بالقتل). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]


تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {ولبئس المهاد}: الفراش). [مجاز القرآن: 1/71]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({والمهاد}: الفراش). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولبئس المهاد} أي: الفراش. ومنه يقال: مهّدت فلانا إذا وطّأت له. ومهد الصبيّ منه). [تفسير غريب القرآن: 80]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم}
حدثنا محمد بن جعفر ألا نباري قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب قال: قال عبد الله كفى بالرجل إثما أن يقول له أخوه اتق الله فيقول عليك نفسك أأنت تأمرني). [معاني القرآن: 1/151]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({المهاد} الفراش). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمِهَــــادُ}: الفـــــراش). [العمدة في غريب القرآن: 89]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {يشري نفسه}: يبيعها). [مجاز القرآن: 1/71]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوفٌ بالعباد}
قال: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه} يقول: "يبيعها" كما تقول: "شريت هذا المتاع" أي: بعته و"شريته"": اشتريته أيضاً، يجوز في المعنيين جميعا، كما تقول: "إنّ الجلّ لأفضل المتاع"، و"إنّ "الجلّ لأردؤه"، وعلى ذلك يجوز مع كثير مثله. وكذلك "الجلل" يكون العظيم ويكون الصغير. وكذلك "السّدف" يكون الظلمة والضوء. وقال الشاعر:
وأرى أربد قد فارقني = ومن الآرزاء رزء ذو جلل
أي: عظيم. وقال الآخر:
ألا إنّما أبكي ليومٍ لقيته = بجرثم صادٍ كلّ ما بعده جلل
أي: صغير.
وأما قوله: {ابتغاء مرضات اللّه} فإن انتصابه على الفعل وهو على "يشري" كأنه قال "لابتغاء مرضاة الله" فلما نزع اللام عمل الفعل. ومثله {حذر الموت} وأشباه هذا كثير.
قال الشاعر:

واغفر عوراء الكريم ادّخاره = وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما
لما حذف اللام عمل فيه الفعل). [معاني القرآن: 1/133]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يشري نفسه}: يبيعها). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه} أي: يبيعها. يقال: شربت الشيء، إذا بعته واشتريته. وهو من الأضداد). [تفسير غريب القرآن:80-81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رءوف بالعباد}
قال أهل اللغة: {يشري نفسه} يبيع نفسه، ومعنى بيعه نفسه بذلها في الجهاد في سبيل اللّه.
قال الشاعر في شريت بمعنى بعت:
وشريت بردا ليتني... من بعد برد كنت هامه
وقال أهل التفسير: هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان أراده المشركون مع نفر معه على ترك الإسلام، وقتلوا بعض النفر الذين كانوا معه فقال لهم صهيب: أنا شيخ كبير، إن كنت عليكم لم أضركم " وإن كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه، وخذوا مالي فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فقال له: ربح البيع يا صهيب، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا بكر وتلا الآية عليه.
ونصب {ابتغاء مرضات اللّه} على معنى المفعول له.
المعنى يشريها لابتغاء مرضاة اللّه). [معاني القرآن: 1/278-279]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}أي: يبيع ومعنى يبيع نفسه يبذلها في سبيل الله.
قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش من المشركين فنزل عن راحلته فانتثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك وعاهدوه ففعل فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبا يحيى ربح البيع)) فأنزل الله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}
وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار). [معاني القرآن: 1/152-153]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يشري نفسه} أي: يبيعها، وهو من الأضداد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَشْــــرِي}: يبيـــــع). [العمدة في غريب القرآن: 89]


رد مع اقتباس
  #21  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 02:56 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 208 إلى 218]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان...}أي: لا تتبعوا آثاره؛ فإنها معصية). [معاني القرآن: 1/124]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {السّلم}: الإسلام، والسّلم يؤنث ويذكر، قال حاجز الأزديّ:
وإنّ السّلم زائدةٌ نواه وفي موضع آخر الصلح،
{كافّةً}: جميعاً، يقال: إنه لحسن السّلم).
[مجاز القرآن: 1/71-72]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مّبينٌ}
قال: {ادخلوا في السّلم كافّةً} و"السّلم": الإسلام. وقوله: {وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون} ذلك: الصلح.
وقد قال بعضهم في "الصلح": "السّلم.
وقال: {ويلقوا إليكم السّلم} وهو الاستسلام.
وقال: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} أي: قالوا "براءةً منكم" لأنّ "السّلام" في بعض الكلام هو: البراءة. تقول: "إنّما فلان سلامٌ بسلام" أي: لا يخالط أحداً. قال الشاعر:

سلامك ربّنا في كلّ فجرٍ = بريئا ما تغنّثك الذّموم
يعني تأوّبك، يقول: "براءتك".
وقال: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلامٌ} وهذا فيما يزعم المفسرون: قالوا خيراً. كأنه - والله أعلم - سمع منهم التوحيد فقد قالوا خيرا، فلما عرف أنهم موحدون قال: "سلامٌ عليكم" فسلم عليهم. فهذا الوجه رفع على الابتداء.
وقال بعضهم: "ما كان من كلام الملائكة فهو نصب وما كان من الإنسان فهو رفع في السلام". وهذا ضعيف ليس بحجة.
وقال: {فاصفح عنهم وقل سلامٌ} فهذا يجوز على معنى: "سلامٌ عليكم" في التسليم. أو يكون على البراءة إلا أنه جعله خبر المبتدأ كأنه قال "أمري سلامٌ". أي: أمري براءة منكم، وأضمر الاسم كما يضمر الخبر. وقال الشاعر:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النّقا آأنت أم أم سالم
على: "أأنت هي أم أم سالم" أي: أشكلت عليّ بشبه أمّ سالم بك. وكل هذا قد أضمر الخبر فيه.
ومثل ذلك {لا يستوي منكم مّن أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً مّن الّذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} فلما قال: {أولئك أعظم درجةً مّن الّذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} كان فيه دليلٌ على معنى {لا يستوي منكم مّن أنفق من قبل الفتح} "ومن أنفق من بعد الفتح" أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء.

وقال: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان} لأن كل اسم على "فعلة" خفيف إذا جمع حرك ثانية بالضم نحو" ظلمات" و"غرفات" لأن مخرج الحرفين بلفظ واحد إذا قرب أحدهما من صاحبه [كان] أيسر عليهم.
وقد فتحه بعضهم فقال: "الركبات" و"الغرفات" و"الظلمات"،
وأسكن بعضهم ما كان من الواو كما يسكن ما كان من الياء نحو "كليات" أسكن اللام لئلا تحوّل الياء واوا فأسكنها في "خطوات" لأن الواو أخت الياء. وما كان على "فعلة" نحو: "سلوة" و"شهوة" حرّك ثانية في الجمع بالفتح نحو "سلوات" و"شهوات" فإذا كان أوله مكسورا كسر ثانيه نحو "كسره" و"كسرات"، و"سدرة"، و"سدرات".
وقد فتح بعضهم ثاني هذا كما فتح ثاني المضموم واستثقل الضمتين والكسرتين.
وما كان من نحو هذا ثانيه واو أو ياء أو التقى فيه حرفان من جنس واحد لم يحرّك، نحو: "دومة" و"دومات"، و"وعوذة" و"عوذات" وهي: المعاذة، و"بيضة" و"بيضات" و"ميتة" و"ميتات". لأن هذا لو حرّك لتغير وصار ألفا فكان يغير بناء الاسم فاستثقلوا ذلك.
وقالوا: "عضةٌ" و"عضات" فلم يحركوا لأن هذا موضع تتحرك فيه لام الفعل فلا يضعف ولولا أنه حرك لضعف وأكثر [ما] في "الظلمات" و"الكسرات" وما أشبههما أن يحرك الثاني على الأول.
وقد دعاهم ذلك إلى أن قالوا "أذكر" فضموا الألف لضمة الكاف وبينها حرف فذلك أخلق.
وقد قال بعضهم: "أنا أنبوك" و"أنا أجوك" فضم الباء والجيم لضمة الهمزة ليجعلها على لفظ واحد، فهذا أشد من ذاك.
وقال: "هذا هو منحدرٌ من الجبل" يريد "منحدرٌ" فضم الدال لضمة الراء، كما ضم الباء والجيم في "أنبوك" و"أجوك").
[معاني القرآن: 1/134-136]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({في السلم كافة}: السلم الإسلام. كافة جميعا). [غريب القرآن وتفسيره: 90]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ادخلوا في السّلم كافّةً} الإسلام. وتقرأ في السّلم بفتح السين أيضا وأصل السّلم والسّلم الصلح. فإذا نصبت اللام فهو الاستسلام والانقياد. قال: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام}[النساء: 94] أي: استسلم وانقاد.
{كافّةً} أي: جميعا). [تفسير غريب القرآن: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين}
{كافة} بمعنى: الجميع الإحاطة،
فيجوز أن يكون معناه: ادخلوا جميعا،
ويجوز أن يكون معناه: ادخلوا في السلم كله، أي: في جميع شرائعه، ويقال السلم والسلم -
{جميعا}، ويعني به: الإسلام والصلح، وفيه ثلاث لغات:
يقال: السّلم، والسّلم، والسّلم، وقد قرئ به:{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام}.

ومعنى {كافة} في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء من آخره، من ذلك كفة القميص، يقال لحاشية القميص كفة، وكل مستطيل فحرفه كفه، ويقال في كل مستدير كفّه، وذلك نحو كفّة الميزان، ويقال إنّما سميت كفّة الثوب لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف المنع، ومن هذا قيل لطرف اليد " كف " لأنها يكف بها عن سائر البدن، وهي الراحة مع الأصابع، ومن هذا قيل رجل مكفوف، أي قد كف بصره من أن ينظر
فمعنى الآية: ابلغوا في الإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فكفوا من أن تعدوا شرائعه.

أو: ادخلوا كلكم حتى يكف عن عدد وأحد لم يدخل فيه.
وقيل في معنى الآية: أن قوما من اليهود أسلموا فأقاموا على تحريم السبت وتحريم أكل لحوم الإبل، فأمرهم اللّه عزّ وجلّ - أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام
وقال بعض أهل اللغة: جائز أن يكون أمرهم - وهم مؤمنون - أن يدخلوا في الإيمان، أي بأن يقيموا على الإيمان ويكونوا فيما يستقبلون عليه كما قال: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزّل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل}، وكلا القولين
جائز لأن الله عزّ وجلّ، قد أمر بالإقامة على الإسلام فقال: {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}أي: لا تقتفوا آثاره، لأنّ ترككم شيئا من شرائع الإسلام اتباع الشيطان.
{خطوات}جمع خطوة، وفيها ثلاث لغات:
خطوات، وخطوات، وخطوات، وقد بيّنّا العلة في هذا الجمع فيما سلف (من الكتاب) ).
[معاني القرآن: 1/279-280]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}
قال مجاهد: يعني الإسلام.
وروى أبو مالك عن ابن عباس قال: يقول في الإسلام جميعا.
قال أبو جعفر: وأصل السلم الصلح والمسالمة،
فيجوز أن يكون المعنى: اثبتوا على الإسلام.
ويجوز أن يكون المعنى: لمن آمن بلسانه.

وقد روي أن قوما من اليهود أسلموا وأقاموا على تحريم السبت فأمرهم الله أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام). [معاني القرآن: 1/153-154]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}
قال الضحاك: هي الخطايا التي يأمر بها.
قال أبو إسحاق، أي: لا تقفوا آثاره لأن ترككم شيئا من شرائع الإسلام اتباع الشيطان). [معاني القرآن: 1/154]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والكافة: الجماعة). [ياقوتة الصراط: 179]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({في السلم} أي: الإسلام، وأصله الصلح، ومثله من فتح السين، وقيل: هما لغتان، وقيل: الفتح معناه الصلح). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({السِّلْمِ}: الصلح. {كَافَّةً}: جماعة). [العمدة في غريب القرآن: 89]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أنّ اللّه عزيز حكيم}
يقال زل يزل زلا وزللا جميعا، ومزلّة، وزل - في الطين زليلا، ومعنى {زللتم} تنحيتم عن القصد والشرائع.
{فاعلموا أنّ اللّه عزيز حكيم}.
ومعنى {عزيز}: لا يعجزونه ولا يعجزه شيء.
ومعنى{حكيم} أي: حكيم فيما فطركم عليه، وفيما شرع لكم من دينه).
[معاني القرآن: 1/280]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} أي: تنحيتم عن القصد.
{فاعلموا أن الله عزيز} لا تعجزونه ولا يعجزه شيء.
{حكيم}
فيما فطركم عليه وشرع لكم من دينه).
[معاني القرآن: 1/154]

تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظللٍ مّن الغمام والملائكة...}
رفع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهل المدينة. يريد "في ظللٍ من الغمام وفي الملائكة". والرفع أجود؛ لأنها في قراءة عبد الله {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ من الغمام}). [معاني القرآن: 1/124]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظللٍ مّن الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى اللّه ترجع الأمور}
قال: {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظللٍ مّن الغمام والملائكة} على "وفي الملائكة".
وقال بعضهم {والملائكة} أي: وتأتيهم الملائكة. والرفع هو الوجه وبه نقرأ. لأنه قد قال ذلك في غير مكان قال: {وجاء ربّك والملك} وقال: {إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربّك} و"الملك" في هذا الموضع جماعة كما تقول: "أهلك الناس الدينار والدرهم" و"هلك البعير والشّاء" تريد: جماعة الإبل والشاء.
وقوله: {إلاّ أن يأتيهم اللّه} يعني أمره، لأنّ اللّه تبارك وتعالى لا يزول كما تقول: "قد خشينا أن تأتينا بنو أميّة". وإنما تعني حكمهم).
[معاني القرآن: 1/136-137]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه} أي: هل ينتظرون إلّا ذلك يوم القيامة.
{وقضي الأمر} أي: فرغ منه). [تفسير غريب القرآن: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى اللّه ترجع الأمور}
قال أهل اللغة معناه: يأتيهم اللّه بما وعدهم من العذاب، والحساب كما قال: {فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا} أي: آتاهم بخذلانه إياهم.
و{ظلل} جمع ظلّة. و{الملائكة} تقرأ على وجهين:
بالضم والكسر.
فمن قرأ الملائكة بالرفع،
فالمعنى ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه والملائكة، والرفع هو الوجه المختار عند أهل اللغة في القراءة،
ومن قرأ والملائكة، فالمعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وظلل من الملائكة.

ومعنى {وقضي الأمر} أي: فرغ لهم ما كانوا يوعدون.
ومعنى{وإلى اللّه ترجع الأمور}
وترجع الأمور - يقرأان جميعا – تردّ فإن قال قائل أليست الأمور - الآن وفي كل وقت - راجعة إلى الله عزّ وجلّ، فالمعنى في هذا: الإعلام في أمر الحساب والثواب والعقاب، أي إليه تصيرون فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء). [معاني القرآن: 1/280-281]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}
قال مجاهد: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام.
وقيل هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحسنات والعذاب
فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أي: بخذلانه إياهم وهذا قول أبي إسحاق
وقال الأخفش سعيد: أن يأتيهم الله يعني أمره لأن الله تعالى لا يزول كما تقول خشينا أن تأتينا بنو أمية وإنما تعني حكمهم
{وقضي الأمر} أي: فرغ لهم ما كانوا يوعدون). [معاني القرآن: 1/155-156]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور} وهي راجعة إليه في كل وقت.
قال قطرب: المعنى أن المسألة عن الأعمال والثواب فيها والعقاب يرجع إليه يوم القيامة لأنهم اليوم غير مسؤولين عنها.
وقال غيره: وقد كانت في الدنيا أمور إلى قوم يجورون فيها فيأخذون ما ليس لهم فيرجع ذلك كله إلى الله يحكم فيه بالحق.
3- وبعده وقضي بالحق، أي: فصل القضاء بالعدل الخلق). [معاني القرآن: 1/156]

تفسير قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {سل بني إسرائيل...}
لا تهمز في شيء من القرآن؛ لأنها لو همزت كانت "اسأل" بألفٍ. وإنما (ترك همزها) في الأمر خاصّة؛ لأنها كثيرة الدّور في الكلام؛ فلذلك ترك همزه كما قالوا: كل، وخذ، فلم يهمزوا في الأمر، وهمزوه في النهي وما سواه.
وقد تهمزه العرب. فأمّا في القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة الزّيات يهمز الأمر إذا كانت فيه الفاء أو الواو؛ مثل قوله: {واسأل القرية التي كنّا فيها} ومثل قوله: {فاسأل الّذين يقرءون الكتاب} ولست أشتهي ذلك؛ لأنها لو كانت مهموزة لكتبت فيها الألف كما كتبوها في قوله: {فاضرب لهم طريقاً}، {واضرب لهم مثلاً} بالألف).
[معاني القرآن: 1/124-125]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كم آتيناهم...}
معناه: جئناهم به [من آية]. والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا ألقوا الباء قالوا: آتيتك آية؛ كما جاء في الكهف "آتنا غداءنا" والمعنى: ايتنا بغدائنا). [معاني القرآن: 1/125]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة ومن يبدّل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فإنّ اللّه شديد العقاب}
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى له ولسائر المؤمنين وغيرهم. المعنى أنهم أعطوا آيات بينات قد تقدم ذكرها، وقد علموا صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا، وهم عالمون بحقيقته.
وقوله عزّ وجلّ: {ومن يبدّل نعمة اللّه من بعد ما جاءته}.
يعني به في هذا الموضع حجج اللّه الدالة على أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن الله شديد العقاب (أي شديد التعذيب) ). [معاني القرآن: 1/281]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة}أي: في تصحيح أمر النبي صلى الله عليه وسلم
وقال مجاهد: ما ذكر منها في القرآن وما لم يذكر قال وهم يهود). [معاني القرآن: 1/157]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته}
قال مجاهد: أي يكفر بها وقيل لهم هذا لأنهم بدلوا ما في كتبهم). [معاني القرآن: 1/157]

تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {زيّن للّذين كفروا الحياة الدّنيا...}
ولم يقل "زينت" وذلك جائز، وإنّما ذكّر الفعل والاسم مؤنث؛ لأنه مشتّق من فعل في مذهب مصدر. فمن أنّث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكّر ذهب إلى تذكير المصدر.
ومثله {فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى} و{قد جاءكم بصائر من ربّكم}، {وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة} على ما فسّرت لك.
فأمّا في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكّر فعل مؤنّثٍ إلا في الشعر لضرورته.

وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فعلٍ، ويكون فيه معنى تأنيثٍ وهو مذكّر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرّة وعلى المعنى مرّة؛ من ذلك قوله عزّ وجلّ: {وكذّب به قومك وهو الحق} ولم يقل "كذّبت" ولو قيلت لكان صوابا؛ كما قال {كذّبت قوم نوحٍ} و{كذّبت قوم لوطٍ} ذهب إلى تأنيث الأمّة، ومثله من الكلام في الشعر كثير؛ منه قول الشاعر:
فإن كلاباً هذه عشر أبطنٍ * وأنت برئ من قبائلها العشر
وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطنٍ؛ لأن البطن ذكر، ولكنه في هذا الموضع في معنى قبيلة، فأنّث لتأنيث القبيلة في المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع في مضرٍ تسعة * وفي وائلٍ كانت العاشره
فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع؛ لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام؛ لأن العرب تقول في معنى الوقائع: الأيام؛ فيقال هو عالم بأيّام العرب، يريد وقائعها.
فأمّا قول الله تبارك وتعالى: {وجمع الشّمس والقمر} فإنه أريد به - والله أعلم -: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكّر فعل الشمس لأن الوقوف لا يحسن في الشمس حتى يكون معها القمر بشيء، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائزٍ، وإن شئت ذكّرته؛
لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث، والعرب ربما ذكّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء: أنشدني بعضهم:
فهي أحوى من الربعي خاذلة * والعين بالإثمد الحاري مكحول
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
فلا مزنةٌ ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
قال: وأنشدني يونس - يعني النحويّ البصريّ - عن العرب قول الأعشى:
إلى رجلٍ منهم أسيفٍ كأنما * يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضبا
وأمّا قوله: {السّماء منفطرٌ به} فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض في البيتين.
ومن العرب من يذكّر السماء؛ لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال: وأنشدني بعضهم:
فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالسماء مع السحاب
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟
قلت: ذلك قبيح وهو جائز، وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنّى من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكّرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يذهب به إلى المعنى، وهو في التقديم والتأخير سواء؛ قال الشاعر:

فإن تعهدي لامرئ لمّة * فإن الحوادث أزرى بها
ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتي * بناقة سعدٍ والعشيّة بارد
كأن العشية في معنى العشي؛ ألا ترى قول الله {أن سبّحوا بكرةً وعشيّاً} وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمّنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح
ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم؛ أنشدني الكسائي:
ألا هلك الشهاب المستنير * ومدرهنا الكميّ إذا نغير
وحمّال المئين إذا ألمّت * بنا الحدثان والأنف النصور
فهذا كافٍ مما يحتاج إليه من هذا النوع. وأما قوله: {وإنّ لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه} ولم يقل "بطونها" والأنعام هي مؤنثة؛ لأنه ذهب به إلى النعم والنعم ذكر وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها لأن الواحد يأتي في المعنى على معنى الجمع؛ كما قال الشاعر:
إذا رأيت أنجما من الأسد * جبهته أو الخرات والكتد
بال سهيلٌ في الفضيخ ففسد * وطاب ألبان اللقاح فبرد
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى من الألبان. وقد كان الكسائيّ يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر:
ولا تذهبن عيناك في كل شرمح * طوالٍ فإن الأقصرين أمازره
ولم يقل: أمازرهم، فذكّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة؛ فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله؛ لأن ضمير الواحد يصلح في معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل في الاثنين، وكذلك قولك هي أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله قال: أجمل شيء في النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ؛ واحتجّ بقول الشاعر:
* مثل الفراخ نتقت حواصله *
ولم يقل حواصلها. وإنما ذكّر لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال الفرّاء: أنشدني المفضّل:
ألا إن جيراني العشية رائح * دعتهم دواعٍ من هوى ومنازح
فقال: رائح ولم يقل رائحون؛ لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز، لأن الجمع منه قد بني على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز؛ لأن صورة الواحدة في الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون ويقولون عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد؛ لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين؛ قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبةً * سوداً كخافية العراب الأسحم
فقال: سودا ولم يقل: سود وهي من نعت الاثنتين والأربعين؛ للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء {زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا} ويقال إنه مجاهد فقط). [معاني القرآن: 1/125-131]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {والّذين اتّقوا فوقهم} أي: أفضل منهم.
{بغير حسابٍ} بغير محاسبة). [مجاز القرآن: 1/72]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بغير حساب}: بغير محاسبة). [غريب القرآن وتفسيره: 91]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {زيّن للّذين كفروا الحياة الدّنيا ويسخرون من الّذين آمنوا والّذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة واللّه يرزق من يشاء بغير حساب}
رفع على ما لم يسم فاعله، و (زيّن) جاز فيه لفظ التذكير، ولو كانت زيّنت لكان صوابا. وزين صواب حسن، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة ومعنى العيش واحد، وقد فصل أيضا بين الفعل وبين الاسم المؤنث.
وقيل في قوله {زيّن للّذين كفروا الحياة الدّنيا} قولان:
1- قال بعضهم زينها لهم إبليس، لأن اللّه عزّ وجلّ قد زهّد فيها وأعلم أنها متاع الغرور.
2- وقال بعضهم: معناه أن اللّه عزّ وجلّ خلق فيها الأشياء المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها، ودليل قول هؤلاء قوله تعالى: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة}
وكلّ جائز.
وقوله عزّ وجلّ: {ويسخرون من الّذين آمنوا}.
كان قوم من المشركين يسخرون من المسلمين لأن حالهم في ذات اليد كانت قليلة، فأعلم اللّه - عزّ وجلّ - بأن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة. لأن المسلمين في عليين والفجّار في الجحيم، قال اللّه - عزّ وجلّ - {إنّ الّذين أجرموا كانوا من الّذين آمنوا يضحكو}
ومعنى: {واللّه يرزق من يشاء بغير حساب}أي: ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا يرزق الكافر على قدر كفره.
فهذا معنى {بغير حساب} - أي: ليس يحاسبه بالرزق في الدنيا على قدر العمل، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل وما يتفضل اللّه به جلّ وعزّ). [معاني القرآن: 1/281-282]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا}
قال أبو إسحاق: أي: زينها لهم إبليس لأن الله قد زهد فيها وأعلم أنها متاع الغرور.
وقيل معناه أن الله خلق الأشياء المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدورها). [معاني القرآن: 1/157-158]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال عز وجل: {ويسخرون من الذين آمنوا} قال، أي: في ذات اليد.
قال ابن جريح: يسخرون منهم في طلب الآخرة.
قال قتادة: {فوقهم} أي الجنة). [معاني القرآن: 1/158]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب}
ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا يرزق الكافر على قدر كفره،أي: ليس يحاسب في الرزق في الدنيا على قدر العمل.
وقال قطرب: المعنى والله أعلم أنه يعطي العباد من الشيء المقسوم لا من عدد أكثر منه أخذه منه كالمعطي من الآدميين الألف من الألفين.
قال: ووجه آخر أن من أنفق شيئا لا يؤاخذ به كان ذلك بغير حساب). [معاني القرآن: 1/158-159]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حِسَـــابِ}: محاسبــــة). [العمدة في غريب القرآن: 89]

تفسير قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه...}
ففيها معنيان؛
أحدهما: أن تجعل اختلافهم كفر بعضهم بكتاب بعضٍ {فهدى اللّه الّذين آمنوا} للإيمان بما أنزل كلّه وهو حقّ.
والوجه الآخر: أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما بدّلت التوراة.
ثم قال {فهدى اللّه الّذين آمنوا} به للحق مما اختلفوا فيه.
وجاز أن تكون اللام في الاختلاف ومن في الحق كما قال الله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} والمعنى - والله أعلم - كمثل المنعوق به؛ لأنه وصفهم فقال تبارك وتعالى: {صمّ بكم عمى} كمثل البهائم، وقال الشاعر:

كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزناء، وقال:
إن سراجا لكريم مفخره * تحلى به العين إذا ما تجهره
والعين لا تحلى إنما يحلى بها سراج، لأنك تقول: حليت بعيني، ولا تقول حليت عيني بك إلاّ في الشعر). [معاني القرآن: 1/131-132]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أمةً واحدةً} أي: ملّةً واحدةً). [مجاز القرآن: 1/72]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كان النّاس أمّةً واحدةً فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه واللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مّستقيمٍ}
قال: {وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم} يقول: "وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه بغياً بينهم من بعد ما جاءتهم البيّنات"). [معاني القرآن: 1/137]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({كان الناس أمة واحدة}: ملة واحدة يعني على عهد آدم كانوا على الإسلام). [غريب القرآن وتفسيره:91-92]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كان النّاس أمّةً واحدةً} أي: ملّة واحدة. يعني كانوا كفارا كلهم). [تفسير غريب القرآن: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {كان النّاس أمّة واحدة فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي: على دين واحد، والأمة في اللغة أشياء،
فمنها الأمة الدين، وهو هذا،
والأمة القامة يقال فلان حسن الأمّة، أي حسن القامة.

قال الشاعر:
وأن معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمم أي طوال القامات، والأمة القرن من الناس، يقولون قد مضت أمم أي قرون، والأمة الرجل الذي لا نظير له.
ومنه قوله عزّ وجلّ - {إنّ إبراهيم كان أمّة قانتا للّه حنيفا}
قال أبو عبيدة: معنى {كان أمّة} كان إماما، والأمة في اللغة النعمة والخير.
قال عدي بن زيد.
ثم بعد الفلاح والرشد والأمّة وارتهم هناك القبور.
أي: بعد النعمة والخير، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول للشيخ إذا كان باقي القوة فلان بأمّة، ومعناه راجع إلى الخير والنعمة، لأن بقاء قوته من أعظم النعمة، وأصل هذا كله من القصد، يقال أممت الشيء إذا قصدته، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد، ومعنى الأمة في الرجل المنفرد الذي لا نظير له، أن قصده منفرد من قصد سائر الناس.
ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده وإنما ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فمات موحدا فهذا أمة في وقته لانفراده، وبيت النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة... وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع
ويروى ذو أمة، وذو إمة، ويحتمل ضربين من التفسير: ذو أمة: ذو دين وذو أمة: ذو نعمة أسديت إليه، ومعنى الأمة القامة: سائر مقصد الجسد.
فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت، ويقال إمامنا هذا حسن الأمة أي يقوم بإمامته بنا في صلاته ويحسن ذلك.
وقالوا في معنى الآية غير قول:
1- قالوا كان الناس فيما بين آدم ونوح عليهما السلام - كفارا، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع بالجنة، وينذرون من عصي بالنار،
2- وقال قوم: معنى كان الناس أمّة واحدة، كان كل من بعث إليه الأنبياء كفارا:
{فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين}
ونصب (مبشّرين ومنذرين) على الحال، فالمعنى أن أمم الأنبياء الذين بعث إليهم الأنبياء كانوا كفارا - كما كانت هذه الأمة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقوله عزّ وجلّ: {ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه}أي: ليفصل بينهم بالحكمة.
وقوله عزّ وجلّ: ({وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه} أي: ما اختلف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الذين أعطوا علم حقيقته.
وقوله: {بغيا بينهم} نصب (بغيا) على معنى مفعول له، المعنى لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون حقيقة أمره في كتبهم.
وقوله عزّ وجلّ: {فهدى اللّه الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ} أي: للحق الذي اختلف فيه أهل الزيغ.
وقوله عزّ وجلّ: {بإذنه} أي: بعلمه، أي: من الحق الذي أمر به.
وقوله عزّ وجلّ: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}أي: إلى طريق الدين الواضح، ومعنى (يهدي من يشاء): يدله على طريق الهدى إذا طلبه غير متعنت ولا باغ). [معاني القرآن: 1/282-285]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة}
قال مجاهد: آدم أمة واحدة.
وروى سعيد بن جبير عن قتادة قال يقول كانوا على شريعة من الحق كلهم ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم يعمل بطاعة الله على الهدى وعلى شريعة الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحا
قال أبو جعفر أمة من قولهم أممت كذا أي قصدته
فمعنى أمة: أن مقصدهم واحد، ويقال للمنفرد أمة، أي: مقصده غير مقصد الناس.
الأمة القامة كأنها مقصد سائر البدن الإمة بالكسر النعمة لأن الناس يقصدون قصدها وقيل إمام لأن الناس يقصدون قصد ما يفعل). [معاني القرآن: 1/159-160]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}أي: يفصل الكتاب بالحكم.
وقرأ الجحدري (ليحكم) بضم الياء وفتح الكاف وقال الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها = وقضى عليك به الكتاب المنزل). [معاني القرآن: 1/160-161]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه} أي: وما اختلف في الكتاب إلا الذين أعطوه.
قال أبو إسحاق: أي: وما اختلف في حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا الذين أعطوا علم حقيقته عليه الصلاة والسلام
بغيا بينهم أي للبغي أي لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي). [معاني القرآن: 1/161-162]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}
وروى أبو مالك عن ابن عباس اختلف الكفار فيه فهدى الله الذين آمنوا للحق من ذلك
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخول الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى))
وفي بعض الحديث ((هدانا الله ليوم الجمعة))
وقال زيد بن أسلم: اختلفوا فاتخذت اليهود السبت والنصارى الأحد فهدى الله أمة محمد للجمعة.
واختلفوا في القبلة واختلفوا في الصلاة والصيام فمنهم من يصوم عن بعض الطعام ومنهم من يصوم بعض النهار.
واختلفوا في إبراهيم فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
قال أبو زيد: واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى ربا فهدى الله المؤمنين.
قال أبو إسحاق: {بإذنه} أي: بعلمه). [معاني القرآن: 1/162-163]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أُمَّــــةً}: ................). [العمدة في غريب القرآن: 90]

تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أم حسبتم...}
استفهم بأم في ابتداءٍ ليس قبله ألف فيكون أم ردّاً عليه، فهذا مما أعلمتك أنه يجوز إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام؛ كقولك للرجل: أعندك خير؟ لم يجز ها هنا أن تقول: أم عندك خير. ولو قلت: أنت رجل لا تنصف أم لك سلطان تدلّ به، لجاز ذلك؛ إذ تقدّمه كلام فاتّصل به.
وقوله: {أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مّثل الّذين خلوا من قبلكم} [معناه: أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب الذين قبلكم] فتختبروا.
ومثله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}
وكذلك في التوبة {أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم}).
[معاني القرآن: 1/132]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وزلزلوا حتّى يقول الرّسول...}
قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما رفعاها. ولها وجهان في العربية: نصب، ورفع.
فأمّا النصب: فلأن الفعل الذي قبلها مما يتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نصب بعده بحتّى وهو
في المعنى ماضٍ.
فإذا كان الفعل الذي قبل حتى لا يتطاول وهو ماضٍ رفع الفعل بعد حتّى إذا كان ماضيا.

فأمّا الفعل الذي يتطاول وهو ماضٍ فقولك: جعل فلان يديم النظر حتى يعرفك؛ ألا ترى أن إدامة النظر تطول. فإذا طال ما قبل حتّى ذهب بما بعدها إلى النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدني [بعض العرب وهو] المفضّل:
مطوت بهم حتّى تكلّ غزاتهم * وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان
فنصب (تكلّ) والفعل الذي أدّاه قبل حتّى ماض؛ لأنّ المطو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض أنك تقول: مطوت بهم حتى كلّت غزاتهم. فبحسن فعل مكان يفعل تعرف الماضي من المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فعل؛ ألا ترى أنك لا تقول: أضرب زيدا حتى أقرّ، لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.
وإنما رفع مجاهد لأنّ فعل يحسن في مثله من الكلام؛ كقولك: زلزلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكسائيّ قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب. وهي في قراءة عبد الله: "وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول" وهو دليل على معنى النصب.
ولحتى:
ثلاثة معان في يفعل.
وثلاثة معان في الأسماء.
فإذا رأيت قبلها فعل ماضيا وبعدها يفعل في معنى مضي وليس ما قبل (حتّى يفعل) يطول فارفع يفعل بعدها؛ كقولك جئت حتى أكون معك قريبا. وكان أكثر النحويين ينصبون الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلها زيد، فزعم الكسائيّ أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلع لنا الشمس بزبالة، فرفع والفعل للشمس، وسمع: إنا لجلوس فما نشعر حتى يسقط حجر بيننا، رفعا. قال: وأنشدني الكسائي:

وقد خضن الهجير وعمن حتى * يفرّج ذاك عنهنّ المساء
وأنشد (قول الآخر):
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا * من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
فنصب ها هنا؛ لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثاني من باب حتى.
وذلك أن يكون ما قبل حتى وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماضٍ في المعنى أحسن من فعل، فنصب وهو ماضٍ لحسن يفعل فيه.
قال الكسائيّ: سمعت العرب تقول: إنّ البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجّه. وهو أمر قد مضى، و(يجعل) فيه أحسن من (جعل). وإنما حسنت
لأنها صفة تكون في الواحد على معنى الجميع، معناه: إنّ هذا ليكون كثيراً في الإبل.
ومثله: إنّ الرجل ليتعظّم حتى يمرّ فلا يسلم على الناس. فتنصب (يمرّ) لحسن يفعل فيه وهو ماضٍ؛ وأنشدني أبو ثروان:

أحبّ لحبّها السودان حتى * أحبّ لحبّها سود الكلاب
ولو رفع لمضيه في المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه بعض بني أسد رفعا. فإذا أدخلت فيه "لا" اعتدل فيه الرفع والنصب؛ كقولك: إنّ الرجل ليصادقك حتى لا يكتمك سرّا، ترفع لدخول "لا" إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت "لا" في قول الله تبارك وتعالى: {وحسبوا ألاّ تكون فتنة} رفعا ونصبا. ومثله: "أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرّا ولا نفعا" ينصبان ويرفعان، وإذا ألقيت منه "لا" لم يقولوه إلاّ نصبا؛ وذلك أنّ "ليس" تصلح مكان "لا" فيمن رفع بحتّى وفيمن رفع بـ "أن"؛ ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول في "أن": حسبت أن لست تذهب فتخلّفت. وكلّ موضع حسنت فيه "ليس" مكان "لا" فافعل به هذا: الرفع مرّة، والنصب مرّة. ولو رفع الفعل في "أن" بغير "لا" لكان صوابا؛ كقولك حسبت أن تقول ذاك؛ لأنّ الهاء تحسن في "أن" فتقول حسبت أنه يقول ذاك؛ وأنشدني القاسم بن معنٍ:
إني زعيم يا نويـ * قة إن نجوت من الزواح
وسلمت من عرض الحتو * ف من الغدوّ إلي الرواح
أن تهبطين بلاد قو * م يرتعون من الطلاح
فرفع (أن تهبطين) ولم يقل: أن تهبطي.
فإذا كانت "لا" لا تصلح مكانها "ليس" في "حتى" ولا في "أن" فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم أمرك. ومثله في "أن": أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز ههنا الرفع.
والوجه الثالث: في يفعل من "حتى" أن يكون ما بعد "حتى" مستقبلا، - ولا تبال كيف كان الذي قبلها - فتنصب؛ كقول الله جل وعز {لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى}، و{فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي} وهو كثير في القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة في الأسماء:
1- فإن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شيء يشاكله يصلح عطف ما بعد حتّى عليه، أو أن ترى بعدها اسما وليس قبلها شيء.

فالحرف بعد حتّى مخفوض في الوجهين؛ من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {تمتّعوا حتى حينٍ} و{سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر} لا يكونان إلا خفضا؛ لأنه ليس قبلهما اسم يعطف عليه ما بعد حتى، فذهب بحتى إلى معنى "إلى".
والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاء أو الخميس، خفضا لا غير، وأضمن القوم حتى الأربعاء.
والمعنى: أن أضمن القوم في الأربعاء؛ لأنّ الأربعاء يوم من الأيام، وليس بمشاكل للقوم فيعطف عليهم.

والوجه الثاني: أن يكون ما قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتي بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء. فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى؛ فإن كانت الأسماء التي بعدها قد وقع عليها من الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل حتى؛ من ذلك: قد ضرب القوم حتى كبيرهم، وحتى كبيرهم، وهو مفعول به، في الوجهين قد أصابه الضرب. وذلك أنّ إلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه؛ من ذلك أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى: الأيام تصام كلها حتى يوم الفطر وأيام التشريق. معناه يمسك عن هذه الأيام فلا تصام. وقد حسنت فيها إلى.
والوجه الثالث: أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شيء مما أصاب ما قبل حتّى؛ فذلك خفض لا يجوز غيره؛ كقولك: هو يصوم النهار حتى الليل، لا يكون الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا خفضا.
وأمّا قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبّني * كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم؛ لأنّ الأسماء التي تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت؛ كقولك: أقم حتى الليل. ولا تقول أضرب حتى زيدٍ؛ لأنه ليس بوقت؛ فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهه، فرفع بفعله، فكأنه قال: يا عجبا أتسّبني اللئام حتى يسبني كليبيّ. فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله. والذين خفضوا توهموا في كليبٍ ما توهموا في المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد كليبٍ، كأنه قال: قد انتهى بي الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال: تسبني). [معاني القرآن: 1/132-138]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة} أي أحسبتم {أن تدخلوا الجنّة}.
{خلوا من قبلكم}أي: مضّوا.
{وزلزلوا} أي: خوّفوا). [مجاز القرآن: 1/72]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({مسّتهم البأساء}: الشدة. {والضّرّاء}: البلاء.
{وزلزلوا}: خوّفوا وأرهبوا). [تفسير غريب القرآن: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضّرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إنّ نصر اللّه قريب}
معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم}.
معنى {مثل الذين} أي: صفة الذين، أي ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين خلوا من قبلكم، و{خلوا} - مضوا.
{مسّتهم البأساء والضّرّاء} البأساء والضراء: القتل والفقر.
و {زلزلوا} معنى {زلزلوا} - خوّفوا وحركوا بما يؤذي،.
وأصل الزلزلة في اللغة: من زل الشيء عن مكانه فإذا قلت زلزلة فتأويله كررت زلزلته من مكانه، وكل ما فيه ترجع كررت فيه فاء التفعيل، تقول أقل فلان الشيء إذا رفعه من مكانه فإذا كرر رفعه ورده قيل قلقله، وكذا صل، وصلصل وصر وصرصر، فعلى هذا قياس هذا الباب.

فالمعنى أنه يكرر عليهم التحريك بالخوف.
وقوله عزّ وجلّ: {حتى يقول الرسول}. قرئت حتى يقول الرسول - بالنصب - ويقول - بالرفع.
وإذا نصبت بحتى فقلت سرت حتى أدخلها.
فزعم سيبويه والخليل وجميع أهل النحو الموثوق بعلمهم أن هذا ينتصب على وجهين:
فأحد الوجهين: أن يكون الدخول غاية السير، والسير والدخول قد نصبا جميعا، فالمعنى: سرت إلى دخولها، وقد مضى الدخول، فعلى هذا نصبت الآية: المعنى وزلزلوا إلى أن يقول الرسول. وكأنه حتى قول الرسول.
ووجهها الآخر: في النصب أعني سرت حتى أدخلها أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع، ويكون المعنى سرت كي أدخلها - وليس هذا وجه نصب الآية.

ورفع ما بعد حتى على وجهين، فأحد الوجهين هو وجه الرفع في الآية.
والمعنى سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول كأنّه بمنزلة قولك سرت فأدخلها. بمنزلة: (سرت) فدخلتها، وصارت حتى ههنا مما لا يعمل في الفعل شيئا، لأنها تلي الجمل، تقول سرت حتى أني داخل – وقول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبّني... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع
فعملها في الجمل في معناها لا في لفظها.
والتأويل سرت حتى دخولها وعلى هذا وجه الآية.
ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن وقد انقطع السير، تقول سرت حتى أدخلها الآن ما أمنع فهذه جملة باب حتى..

ومعنى الآية: أن الجهد قد بلغ بالأمم التي قبل هذه الأمة حتى استبطأوا النصر، فقال الله عزّ وجلّ: {ألا إنّ نصر اللّه قريب}.
فأعلم أولياءه أنّه ناصرهم لا محالة، وأن ذلك قريب منهم كما قال: {فإنّ حزب اللّه هم الغالبون}). [معاني القرآن: 1/285-287]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة}
(أم) ههنا للخروج من حديث إلى حديث). [معاني القرآن: 1/163]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم}
حكى النضر بن شميل أن مثل يكون بمعنى صفه.
ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم وخلوا، أي: مضوا.
{مستهم البأساء والضراء} أي: الفقر والمرض.
{وزلزلوا} خوفوا وحركوا بما يؤذي.
قال أبو إسحاق: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلزلته من مكانه). [معاني القرآن: 1/164]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} أي: بلغ الجهد بهم حتى استبطأوا النصر). [معاني القرآن: 1/164]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقال تعالى: {ألا إن نصر الله قريب} أي: هو ناصر أوليائه لا محالة). [معاني القرآن: 1/165]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وزلزلوا} خوفوا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {يسألونك ماذا ينفقون...}
تجعل "ما" في موضع نصب وتوزقع عليها "ينفقون"، ولا تنصبها بـ (يسألونك) لأنّ المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين؛
أحدهما: أن تجعل "ذا" اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الذي ينفقون. والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي؛ فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟ في معنى: من الذي يقول ذاك؟ وأنشدوا:

عدس ما لعبّادٍ عليك إمارة * أمنت وهذا تحملين طليق
كأنه قال: والذي تحملين طليق.
والرفع الآخر: أن تجعل كلّ استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا؛ لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الذي؛ إذ لم يعمل فيه الفعل الذي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت أخوك، فيكون الذي في موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الذي يليها عليها. فإذا نويت ذلك رفعت قوله: {قل العفو كذلك}؛ كما قال الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول * أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل
رفع النحب؛ لأنه نوى أن يجعل "ما" في موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين في كلام العرب.
وأكثر العرب تقول: وأيّهم لم أضرب وأيّهم إلاّ قد ضربت رفع؛ للعلّة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألاّ يسبقها شيء.

ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخّر عنه الفعل الذي يقع عليه قولهم: كلّ الناس ضربت. وذلك أن في (كلّ) مثل معنى هل أحدٌ [إلاّ] ضربت، ومثل معنى أي رجل لم أضرب، وأيّ بلدة لم أدخل؛ ألا ترى أنك إذا قلت: كلّ الناس ضربت؛ كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدني أبو ثروان:
وقالوا تعرّفها المنازل ممن منىً * وما كلّ من يغشى منىً أنا عارف
رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:
وما كلّ من يظّنّني أنا معتب * وما كلّ ما يروى عليّ أقول
ولا تتوهّم أنهم رفعوه بالفعل الذي سبق إليه؛ لأنهم قد أنشدونا:
قد علقت أمّ الخيار تدّعي * عليّ ذنبا كلّه لم أصنع
رفعا. وأنشدني أبو الجراح:
أرجزا تريد أم قريضا * أم هكذا بينهما تعريضا
* كلاهما أجد مستريضا *
فرفع كلاّ وبعدها (أجد)؛ لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هيّنا مستريضا. ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قول الشاعر:
فكلهم جاشاك إلا وجدته * كعين الكذوب جهدها واحتفالها). [معاني القرآن: 1/138-140]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يسألونك ما ذا ينفقون} أي: ماذا يعطون ويتصدقون؟
{قل ما أنفقتم}: ما أعطيتم.
{من خيرٍ}أي: من مال).
[تفسير غريب القرآن: 81]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل وما تفعلوا من خير فإنّ اللّه به عليم}
قيل إنهم كانوا سألوا: على من ينبغي أن يفضلوا - فأعلم اللّه عزّ وجل أن أول من تفضّل عليه الوالدان والأقربون، فقال: {قل ما أنفقتم من خير} أي: من مال: {فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل وما تفعلوا من خير فإنّ اللّه به عليم} أي: يحصيه، وإذا أحصاه جازى عليه، كما قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} أي: يرى المجازاة عليه، لأن رؤية فعله الماضي لا فائدة فيه.
ولا يرى لأنه قد مضى.
ومعنى " ماذا " في اللغة على ضربين:
فأحدهما: أن يكون " ذا " في معنى الذي، ويكون ينفقون من صلته، المعنى يسألونك أي شيء الذي ينفقون كأنه أي شيء وجه الذي ينفقون، لأنهم يعلمون ما المنفق ولكنهم أرادوا علم اللّه وجهه.

ومثل جعلهم " ذا " في معنى الذي قول الشاعر:
عدس ما لعبّاد عليك إمارة... أمنت وهذا تحملين طليق
والمعنى: والذي تحملينه طليق، فيكون ما رفعا بالابتداء، ويكون ذا خبرها.
وجائز أن يكون: " ما " " مع " " ذا " بمنزلة اسم واحد، ويكون الموضع نصبا بـ (ينفقون).
المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون، وهذا إجماع النحويين، وكذلك الوجه الأول إجماع أيضا، ومثل جعلهم ذا بمنزلة اسم واحد، قول
الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه... ولكن بالمغيب فنبئيني
كأنه بمنزلة: دعي الذي علمت.
وجزم (وما تفعلوا) بالشرط، واسم الشرط " ما " والجواب (فإنّ اللّه به عليم) وموضع " ما " نصب بقوله (تفعلوا) ). [معاني القرآن: 1/287-288]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون} أي: يتصدقون ويعطون {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}
قيل كانوا سألوا على من ينبغي أن يفضلوا؟
فقيل أولى من أفضل عليه هؤلاء ثم قال تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} أي: يحصيه وإذا أحصاه جازى عليه).[معاني القرآن: 1/165-166]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ماذا ينفقون} أي: يعطون ويتصدقون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]

تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لّكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لّكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لّكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون}
قال: {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لّكم}.
وقال بعضهم {حملته أمه كرها}.
وقال بعضهم: {كرها} وهما لغتان: مثل "الغسل" و"الغسل"، و"الضعف" و"الضّعف" إلا أنه قد قال بعضهم أنه إذا كان في موضع المصدر كان "كرهاً" كما تقول: "لا تقوم إلا كرهاً" وتقول: "لا تقوم إلا على كرهٍ" وهما سواء مثل "الرّهب" و"الرّهب".
وقال بعضهم: "الرّهب" كما قالوا: "البخل" و"البخل" و"البخل".
وإنما قال: {كرهٌ لكم} أي: ذو كرهٍ وحذف "ذو".
كما قال: {وسئل القرية}).
[معاني القرآن: 1/137-138]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم القتال} أي: فرض عليكم الجهاد،
{وهو كرهٌ لكم} أي: مشقّة).
[تفسير غريب القرآن: 82]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون}
معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم، والكره يقال فيه كرهت الشيء كرها وكرها، وكراهة، وكراهية، وكل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من الكره فالفتح جائز فيه، تقول الكره والكره إلا أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدة - أن الناس مجمعون على ضمه، كذلك قراءة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعا {وهو كره لكم} فضموا هذا الحرف.
ارتفع (كره) لأنه خبر الابتداء - وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال أنهم إنما كرهوه على جنس غلظه عليهم ومشقته، لا أن المؤمنين يكرهون فرض اللّه - عزّ وجلّ - لأن اللّه - عزّ وجلّ - لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح.
وقوله: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}.
{وهو خير لكم} يعني به ههنا القتال، فمعنى الخير فيه، أن من قتل فهو شهيد وهذا غاية الخير، وهو إن قتل مثاب (أيضا) وهادم أمر الكفر.
وهو مع ذلك يغنم، وجائز أن يستدعي دخول من يقاتله في الإسلام، لأن أمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي تثبت أمر النبوة - والإسلام، لأن الله أخبر أنّه ينصر دينه، ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلب العدد الكثير فهذا ما في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه.
ومعنى: {وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم}أي: عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصف من الخير الذي في القتال). [معاني القرآن: 1/288-289]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}
أكثر أهل التفسير على أن: الجهاد فرض وأن المعنى فرض عليكم القتال إلا أن بعضهم يكفي من بعض.
قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}
قال أبو طلحة في قوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا} ما سمعت الله عذر أحدا.
إلا أن سفيان الثوري قال: الجهاد تطوع ومعنى {كتب عليكم القتال} على تفضيله.
ثم قال: {وهو كره لكم}
قال أبو إسحاق: التأويل وهو ذو كره لكم وكرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية.
وقال الكسائي: كأن الكره من نفسك والكره بالفتح ما أكرهت عليه.
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}أي: إن قتل كان شهيد وإن قتل أثيب وغنم وهدم أمر الكفر واستدعى بالقتال دخول من يقاتله في الإسلام.
{وعسى أن تحبوا شيئا} القعود عن القتال). [معاني القرآن: 1/166-167]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كتب عليكم القتال} أي: فرض عليكم. و(الكره) بالضم: المشقة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 39]

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه...}
وهي في قراءة عبد الله "عن قتال فيه" فخفضته على نيّة (عن) مضمرة.
{قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه}
ففي الصدّ وجهان:
1- إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به.
2- وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا؛ تريد: قل القتال فيه كبير؛ وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به.

{والمسجد الحرام} مخفوض بقوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد. فقال الله تبارك وتعالى: {وإخراج أهله}، أهل المسجد {منه أكبر عند اللّه} من القتال في الشهر الحرام. ثم فسّر فقال تبارك وتعالى: {والفتنة} - يريد الشرك - أشدّ من القتال فيه). [معاني القرآن: 1/141]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه}مجرور بالجوار لما كان بعده (فيه) كنايةٌ للشهر الحرام، وقال الأعشى:
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته... تقضّى لباناتٍ ويسأم سائم
{حبطت أعمالهم} أي: بطلت وذهبت). [مجاز القرآن: 1/72-73]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولـئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولـئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}
قال: {وصدٌّ عن سبيل اللّه}.
وقال: {وكفرٌ به والمسجد الحرام} على "وصدٌّ عن المسجد الحرام".
ثم قال: {وإخراج أهله منه أكبر} على الابتداء.
وقال: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولـئك حبطت أعمالهم} فضعّف لأن أهل الحجاز إذا أسكنت لام الفعل ساكنة ضعفوا وهي ههنا ساكنة أسكنها بالجزاء.
وقال: {ومن يرتدّ منكم عن دينه فسوف} فلم يضاعف في لغة من لا يضاعف لأن من لا يضاعف كثير).
[معاني القرآن: 1/138]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({حبطت أعمالهم}: بطلت أعمالهم). [غريب القرآن وتفسيره: 92]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام: هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر الحرام.
{قل قتالٌ فيه كبيرٌ} أي: القتال فيه عظيم عند اللّه. وتم الكلام.
ثم قال {وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام} وخفض المسجد الحرام نسقا على سبيل اللّه. فكأنه قال: صدّ عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام، وكفر به، أي: باللّه.

{وإخراج أهله منه} أي: أهل المسجد منه، {أكبر عند اللّه} يريد: من القتال في الشهر الحرام.
{والفتنة أكبر من القتل} أي: الشرك أعظم من القتل.
{حبطت أعمالهم} أي: بطلت). [تفسير غريب القرآن: 82]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}
{قتال} مخفوض على البدل من الشهر الحرام.
المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وقد فسرنا ما في هذه الآية فيما مضى من الكتاب.
ورفع {قل قتال فيه كبير} {قتال} مرتفع بالابتداء، و {كبير} خبره.
ورفع {وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به} على الابتداء، وخبر هذه الأشياء {أكبر عند اللّه} والمعنى: وصد عن سبيل اللّه، وكفر به، وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند اللّه، أي: أعظم إثما.
{والفتنة أكبر من القتل}أي: والكفر أكبر من القتل، المعنى وهذه الأشياء كفر، والكفر أكبر من القتل.
وقوله عزّ وجلّ: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر}.
يرتدد جزم بالشرط، والتضعيف يظهر مع الجزم، لسكون الحرف الثاني - وهو أكثر في اللغة - وقرئ: {يا أيها الذين امنوا من يرتدّ} بالإدغام والفتح وهي قراءة الناس إلا أهل المدينة فإن في مصحفهم من يرتدد وكلاهما صواب، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من يرتدد لإطباق أهل الأمصار على إظهار التضعيف وكذلك هو في مصاحفهم، والقراءة سنة لا تخالف، إذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءة بغيره.
ويجوز أن تقول: من يرتدّ منكم فتكسر لالتقاء السّاكنين إلا أن الفتح أجود لانفتاح التاء، وإطباق القراء عليه). [معاني القرآن: 1/289-290]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير}.
روى سعيد عن قتادة قال: فكان القتال فيه كبيرا كما قال تعالى ثم نسخ في براءة: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.
روى أبو السيار عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال: ((لا تكرهن أصحابك على المسير)) فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال: سمعا وطاعة لله ورسوله، قال: فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون: قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام} الآية.
وقيل إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر فأنزل الله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله} إلى آخر الآية.
قال مجاهد: {قل قتال فيه كبير} أي: عظيم.
وتم الكلام ثم ابتداء فقال: {وصد عن سبيل الله وكفر به} أي: بالله.
{والمسجد الحرام} أي: وصد عن المسجد الحرام

{وإخراج أهله منه} يعني: المسجد الحرام {أكبر عند الله} من القتل في الشهر الحرام {والفتنة أكبر من القتل}
قال الشعبي: أي: الكفر والمعنى أفعالكم هذه كفر والكفر أكبر من القتل في الشهر الحرام). [معاني القرآن: 1/168-170]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}
قال مجاهد: يعني كفار قريش). [معاني القرآن: 1/170]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حبطت أعمالهم} أي: بطلت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({حَبِطَتْ}: بطلت). [العمدة في غريب القرآن: 90]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمت اللّه واللّه غفور رحيم}
{الذين} نصب بأنّ، و {أولئك} رفع بالابتداء، و {يرجون} خبر {أولئك} و{أولئك يرجون} خبر {إنّ الذين} - وإنما قيل في المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إنما يرجون رحمة اللّه لأنهم عند أنفسهم غير بالغين ما يجب للّه عليهم، ولا يعملون ما يختمون به أمرهم.
وجملة ما أخبر الله به عن المؤمنين العاملين الصالحات أنّهم يجازون بالجنة.
قال الله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك هم خير البريّة (7) جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن} ). [معاني القرآن: 1/290-291]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {أولئك يرجون رحمة الله}
ومعنى يرجون رحمة الله وقد مدحهم أنهم لا يدرون ما يختم لهم به). [معاني القرآن: 1/170]


رد مع اقتباس
  #22  
قديم 24 ذو الحجة 1431هـ/30-11-2010م, 03:03 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 219 إلى 225]

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {قل العفو...}
وجه الكلام فيه النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فضل المال [قد] نسخته الزكاة [تقول: قد عفا]). [معاني القرآن: 1/141]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {الميسر} القمار.
{قل العفو}أي: الطاقة التي تطيقها والقصد، تقول: خذ ما عفا لك، أي: ما صفا لك). [مجاز القرآن: 1/73]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نّفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
قال: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} إذا جعلت {ماذا} بمنزلة (ما).
وإن جعلت {ماذا} بمنزلة "الذي" قلت: {قل العفو} والأولى منصوبة وهذا مرفوعة كأنه قال: {ما الذي ينفقون} فقال: "الذي ينفقون العفو".
وإذا نصبت فكأنه قال: "ما ينفقون" فقال: "ينفقون العفو" لأن (ما) إذا لم تجعل بمنزلة "الذي" فـ"العفو" منصوب بـ"ينفقون".
وإن جعلت بمنزلة "الذي" فهو مرفوع بخبر الابتداء كما قال: {مّاذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين} جعل {مّاذا} بمنزلة "الذي"
وقال: {ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً} جعل {ماذا} بمنزلة "ما".
وقد يكون إذا جعلها بمنزلة "ما" وحدها الرفع على المعنى. لأنه لو قيل له: "ما صنعت"؟ فقال: "خيرٌ"، أي: الذي صنعت خيرٌ، لم يكن به بأس. ولو نصبت إذا جعلت "ذا" بمنزلة "الذي" كان أيضاً جيدا لأنه لو قيل لك: "ما الذي صنعت" فقلت: "خيراً" أي: صنعت خيراً. كان صوابا. قال الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتّقيه = ولكن بالمغيّب نبئّيني
جعل "ما" و"ذا" بمنزلة "ما" وحدها، ولا يجوز أن يكون "ذا" بمنزلة "الذي" في هذا البيت لأنك لو قلت: "دعي ما الذي علمت" لم يكن كلاما.
وقال أهل التأويل في قوله: {ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين} لأن الكفار جحدوا أن يكون ربهم أنزل شيئا فقالوا لهم: "ما تقولون أنتم أساطير الأوّلين" أي: "الذي تقولون أنتم أساطير الأولين" ليس على "أنزل ربّنا أساطير الأولين". وهذا المعنى فيما نرى والله أعلم - كما قال: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم).
[معاني القرآن: 1/139-140]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الميسر}: القمار كله.
{قل العفو}: العفو في التفسير ما فضل عن أهلك، وقال بعضهم: هو ما أطقته منن غير أن تجهد نفسك). [غريب القرآن وتفسيره: 92]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({والميسر}: القمار.
وقد ذكرناه في سورة المائدة، وذكرنا النفع به.

{ويسألونك ماذا ينفقون}؟ أي: ماذا يتصدقون ويعطون؟
{قل العفو} يعني: فضل المال. يريد: أن يعطي ما فضل عن قوته وقوت عياله. ويقال: «خذ ما عفا لك» أي ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة.
ومنه قوله عز وجل: {خذ العفو وأمر بالعرف} [الأعراف:199]، أي: اقبل من الناس عفوهم، وما تطوعوا به: من أموالهم، ولا تستقص عليهم). [تفسير غريب القرآن:82-83]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
{الخمر} المجمع عليه، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر.
وأن يكون في التحريم بمنزلتها.
وتأويل الخمر في اللغة: أنه كل ما ستر العقل، يقال لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر، وما ستره من شجر خاصة ضرى، " مقصور "، ويقال دخل فلان في خمار أي في الكثير الذي يستتر فيه وخمار المرأة قناعها، وإنما قيل له خمار لأنه يغطي، والخمرة التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العجين وخمرته، وفطرته وأفطرته.
فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه، وليس يقول أحد للشارب إلا مخمور - من كل سكر - وبه خمار، فهذا بيّن واضح.
وقد لبّس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له: إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له، ثم قاده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد، فقال:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني... رأيت أخاها مجزيا لمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه... أخوها غذته أمها بلبانها
وقال أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ: {قل فيهما إثم كبير} وقرئت " كثير " قال قوم زهّد فيها في هذا الموضع وبين تحريمها في سورة المائدة في قوله: {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون (90) إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون (91)}.
ومعنى{فهل أنتم منتهون}: التحضيض على الانتهاء والتفديد على ترك الانتهاء.
وقال قوم: لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع آخر.
لأنه قال: {إثم كبير} وقد حرم الله الإثم نصّا فقال: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ}.
وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعا عليه ليعلم أن نص ذلك في الكتاب.
فأما الإثم الكبير الذي في الخمر: فبين، لأنها توقع العداوة والبغضاء وتحول بين المرء وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه.
والقمار: يورث العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه،
وأما المنافع للناس فيه: فاللذة في الخمر والربح في المتجّر فيها، وكذلك المنفعة في
القمار، يصير الشيء إلى الإنسان بغير كد ولا تعب فأعلم اللّه أن الإثم فيهما {إثم} أكبر من نفعهما.
وقوله عزّ وجلّ: {ويسألونك ماذا ينفقون}.
النصنب والرفع في {العفو} جميعا، من " جعل {ماذا} اسما واحدا رد العفو عليه ومن جعل " ما " اسما و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي رد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفو، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسما فتحمل العفو علي ينفقون، كأنه قيل أنفقوا العفو.
ويجوز أيضا أن ترفع - وإن جعلت {ماذا} بمنزلة شيء واحد على "قل هو العفو".
والعفو في اللغة: الفضل والكثرة، يقال عفا القوم إذا كثروا.
فأمروا أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير، والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها.

وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يبين اللّه لكم الآيات} أي: مثل هذا البيان في الخمر والميسر {يبين الله لكم الآيات}: لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال عزّ وجلّ: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء}
ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الإجماع بذلك، وذلكم أكثر في اللغة، وقد أتي في القرآن في غير " ذلك " للجماعة - قال اللّه تعالى:
{يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيرا } -
والأصل ذلكن، إلا أن الجماعة في معنى القبيل.
وقوله عز وجل: {لعلّكم تتفكّرون (219) في الدّنيا والآخرة}يجوز أن يكون:
(تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة -،
ويجوز أن يكون في الدنيا والآخرة من صلة كذلك يبين الله لكم الآيات).

أي: يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة لعلكم تتفكرون). [معاني القرآن: 1/291-294]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} ثم أنزل {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكانوا يدعونها فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون حتى يذهب عنهم السكر فإذا صلوا الغداة شربوها فما يأتي الظهر حتى يذهب عنهم السكر ثم إن ناسا شربوها فقاتل بعضهم بعضا وتكلموا بما لا يرضي الله فأنزل الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} فحرم الله الخمر ونهى عنها وأمر باجتنابها كما أمر باجتناب الأوثان
وروى أبو توبة عن ابن عمر أنزلت {إنما الخمر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حرمت)).
وقال عمرو بن شرحبيل: فقال عمر: انتهينا فإنها تذهب المال والعقل.
وأهل التفسير يذهبون إلى أن المحرم لها هذا.
وقال بعض الفقهاء: المحرم لها آيتان:
إحداهما: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم}.
قال أبو إسحاق: الخمر هذه المجمع عليها وقياس كل ما تحمل عملها أن يقال له خمر وأن يكون بمنزلتها في التحريم لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة وكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها
وتأويل الخمر في اللغة: أنه ما ستر على العقل يقال لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر وما ستر من شجر خاصة الضرا مقصور
ودخل في خمار الناس، أي: الكثير الذي يستتر فيه
وخمار المرأة: قناعها لأنه يغطي الرأس.
والخمرة: التي سجد عليها لأنها تستر الوجه عن الأرض وكل مسكر خمر لأنه يخالط العقل ويغطيه وفلان مخمور من كل مسكر.

قال سعيد بن جبير ومجاهد: الميسر القمار كله
فأما الإثم الذي في الخمر فالعداوة والبغضاء وتحول بين الإنسان وبين عقله الذي يميز به ويعرف به ما يجب لخالقه
والقمار يورث العداوة لأن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يأخذه عليه
والمنافع لذة الخمر والربح فيها ومصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد
وقال الضحاك: منافعهما قبل التحريم وإثمهما بعد التحريم). [معاني القرآن: 1/170-174]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
قال طاووس: اليسير من كل شيء .
وقال خالد بن أبي عمران سألت القاسم وسالما فقالا فضل المال ما يصدق به عن ظهر غنى.
وقال قتادة: هو الفضل.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد لأن العفو في اللغة ما سهل يقال خذ ما عفا لك أي ما سهل لك وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى))
فعلى هذا تأويل قول القاسم وسالم وفي المعنى قول آخر.
قال مجاهد: هي الصدقة المفروضة والظاهر يدل على القول الأول). [معاني القرآن: 1/174-176]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}
قال أبو جعفر: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قول الله تعالى: {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}
قال: يقول لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.
قال أبو جعفر: والتقدير على قول قتادة لعلكم تتفكرون في أمر الدنيا والآخرة
وقيل هو على التقديم أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون). [معاني القرآن: 1/176]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({والميسر}: القمار). [ياقوتة الصراط:179-180]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({والميسر} القمار.
{قل العفو} أي: يعطي ما فضل عن قوته وقوت عياله...). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمَيْسِرِ}: القمار.
{الْعَفْوَ}:
ما عفي عنه ولم يطالبه به).
[العمدة في غريب القرآن: 90]

تفسير قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ويسألونك عن اليتامى...}
يقال للغلام يتم ييتم يتماً ويتماً. قال: وحكي لي يتم ييتم.
{وإن تخالطوهم فإخوانكم} ترفع الإخوان على الضمير (فهم)؛ كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته كان صوابا؛ يريد: فإخوانكم تخالطون، ومثله {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} ولو نصبت ههنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم).
وفي قراءة عبد الله "إن تغذّبهم فعبادك" وفي قراءتنا "فإنّهم عبادك" وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فيه "هو" مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه "هو" أجريته على ما قبله؛ فقلت: إن اشتريت طعاما فجيّدا، أي فاشتر الجّيد، وإن لبست ثيابا فالبياض؛ تنصب لأن "هو" لا يحسن ههنا، والمعنى في هذين ههنا مخالف للأوّل؛ ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا، ولا تجد كلّ ما يلبس بياضا، ولا كلّ ما يشترى جيّدا. فإن نويت أن ما ولي شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض. وكذلك قول الله {فإن خفتم فرجالا} نصب؛ لأنه شيء ليس بدائم، ولا يصلح فيه "هو" ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تصلّوا قياما فصلّوا رجالا أو ركبانا [رجالا يعني: رجّالة] فنصبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.

{واللّه يعلم المفسد من المصلح} المعنى في مثله من الكلام: الله يعلم أيّهم يفسد وأيّهم يصلح. فلو وضعت أيّا أو من مكان الأوّل رفعته، فقلت: أنا أعلم أيّهم قام من القاعد،
قال [الفرّاء] سمعت العرب تقول: ما يعرف أي من أيّ. وذلك أن (أيّ) و(من) استفهامان، والمفسد خبر.
ومثله ما أبالى قيامك أو قعودك، ولو جعلت في الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت: ما أبالي أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب.
والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به).
[معاني القرآن: 1/141-142]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولو شاء اللّه لأعنتكم...} يقال: قد عنت الرجل عنتا، وأعنته الله إعناتا). [معاني القرآن: 1/143]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {لأعنتكم} أي: لأهلككم، من العنت). [مجاز القرآن: 1/73]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({ولو شاء الله لأعنتكم}: أهلككم. والعنت الهلاك). [غريب القرآن وتفسيره: 92]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ} أي: تثمير أموالهم، والتنزّه عن أكلها لمن وليها - خير.
{وإن تخالطوهم} فتوآكلوهم {فإخوانكم} فهم إخوانكم، حكمهم في ذلك حكم إخوانكم من المسلمين.
{واللّه يعلم المفسد من المصلح} أي: من كان يخالطهم على جهة الخيانة والإفساد لأموالهم، ومن كان يخالطهم على جهة التنزه والإصلاح.
{ولو شاء اللّه لأعنتكم} أي: ضيق عليكم وشدّد. لكنه لم يشأ إلّا التسهيل عليكم. ومنه يقال: أعنتني فلان في السؤال، إذا شدّد عليّ وطلب عنتي، وهو الإضرار. يقال: عنتت الدابة، وأعنتها البيطار، إذا ظلعت). [تفسير غريب القرآن: 83]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيز حكيم}
هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساء إن شاء الله، إلا أن جملته أنهم كانوا يظلمون اليتامى، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع أموالهم، فشدّد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزويج بنساء اليتامى ومخالطتهم، فأعلمهم اللّه أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع تحري الإصلاح فقال: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم.
فالرفع على هذا. والنصب جائز {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: فإخوانكم تخالطون، ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا تقرأنّ بها إلا أن تثبت رواية صحيحة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لأعنتكم}
قال أبو عبيدة معناه: لأهلككم، وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم فتعنتون،
وأصل العنت في اللغة: من قولهم عنت البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها، ويقال أكمة غنوت إذا كان لا يمكن أن يحازيها إلا بمشقة عنيفة.

وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه عزيز حكيم} أي: يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه دافع.
{حكيم} أي: ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره). [معاني القرآن: 1/294-295]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} إلى آخرها قالوا هذه موجبة فاعتزلوهم وتركوا خلطتهم فشق ذلك عليهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الغنم قد بقيت ليس لها راع والطعام ليس له من يصنعه فنزلت: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} إلى آخرها). [معاني القرآن: 1/177]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} أي: يعلم من يخالطهم للخيانة ومن لا يريد الخيانة). [معاني القرآن: 1/177]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ولو شاء الله لأعنتكم}
قال مجاهد: أي لو شاء لم يطلق لكم مخالطتهم في الأدم والمرعى.
وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس ولو شاء الله لأعنتكم قال: لو شاء لجعل ما أحببتم من أموال اليتامى موبقا.
وقال أبو عبيدة: لأعنتكم لأهلككم.
وقال أبو إسحاق: حقيقته لكلفكم ما يشتد عليكم فتعنتون.
قال: وأصل العنت في اللغة: من قولهم عنت البعير عنتا إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها
{إن الله عزيز} أي: يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه أحد.
{حكيم} ذو الحكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره). [معاني القرآن: 1/177-179]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ): (والإعنات: تكليف غير الطاقة). [ياقوتة الصراط: 180]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لأعْنَتَكُـــمْ}: لأهلككــم). [العمدة في غريب القرآن: 90]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولا تنكحوا المشركات...}
يريد: لا تزوّجوا، والقرّاء على هذا، ولو كانت: ولا تنكحوا المشركات أي: لا تزوّجوهن المسلمين كان صوابا.
ويقال: نكحها نكحا ونكاحا.

وقوله: {ولو أعجبتكم...}
كقوله: وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان في المعنى.
ولذلك جاز أن يجازى لو بجواب إن، إن بجواب لو في قوله: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلّوا من بعده يكفرون}. وقوله: "فرأوه" يعني بالهاء الزّرع).
[معاني القرآن: 1/143]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} أي: لا تتزوجوا الإماء المشركات.
{ولا تنكحوا المشركين} [أي لا تزوجوا المشركين] {حتّى يؤمنّ}). [تفسير غريب القرآن:83-84]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون}
معنى {لا تنكحوا}: لا تتزوجوا المشركات، ولو قرئت ولا تنكحوا المشركات كان وجها، ولا أعلم أحدا قرأ بها، والمعنى في هذا: ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن،
ومعنى المشركات: ههنا لكل من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين، ثم أحل تزويج نساء أهل الكتاب من بينهم. فقال اللّه - عزّ وجلّ: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم}

فإن قال قائل: من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك وإن قال إن اللّه عزّ وجل واحد؟
فالجواب: في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللّه - جل ثناؤه - والقرآن إنما هو من عند اللّه - عزّ وجلّ - لأنه يعجز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إلا اللّه - عزّ وجلّ - فقد أشرك به غيره.
{ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون}
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} أي: لا تزوجوهم مسلمة.
وقوله: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} معناه: وإن أعجبكم، إلا أن " لو " تأتي فتنوب عن أن في الفعل الماضي.
ومعنى الكلام: أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم أمره في باب الدنيا، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي يعملان بأعمال أهل النار - فكأن نسلكم يتربى مع من هذه حاله.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} أي: يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصل لكم إلى الجنة.
ومعنى {بإذنه} أي: بعلمه الذي أعلم إنّه وصلة لكم إليها.

{ويبيّن آياته} أي: علاماته، يقال آية وآي، وآيات أكثر وعليها أتى القرآن الكريم.
وقوله عزّ وجلّ: {لعلّهم يتذكّرون}
معنى لعل ههنا: الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللّه أعلم أيتذكرون أم لا، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم). [معاني القرآن: 1/295-296]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}
أكثر أهل العلم على هذه الآية: منسوخة نسخها {اليوم أحل لكم الطيبات} إلى قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}
هذا قول ابن عباس ومكحول وهو مذهب الفقهاء مالك وسفيان والأوزاعي
وروى سفيان عن حماد قال سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس به قال قلت فإن الله يقول {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} فقال: أهل الأوثان والمجوس.
وروى معمر عن قتادة ولا تنكحوا المشركات قال: المشركات ممن ليس من أهل الكتاب وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية
فأما المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فقيل هن العفائف والإماء). [معاني القرآن: 1/179-180]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} أي: لا تزوجوهم بمسلمات ولو أعجبكم أي وإن أعجبكم أمره في الدنيا فمصيره إلى النار
{أولئك يدعون إلى النار} أي: يعملون بأعمال أهلها فيكون نسلكم يتربى مع من هذه حاله {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه}أي: يدعوكم إلى أعمال أهل الجنة.
{والمغفرة بإذنه} أي: بعلمه قيل أي يعلمه أي ما دعاكم إليه وصلة إليهما.
وقيل بما أمركم به ويبين آياته أي علاماته
{لعلهم يتذكرون} ليكونوا على رجاء التذكر). [معاني القرآن: 1/180-181]

تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {حتّى يطهرن...}
بالياء. وهي في قراءة عبد الله إن شاء الله "يتطهرن" بالتاء، والقرّاء بعد يقرءون "حتى يطهرن، ويطّهّرن" [يطهرن]: ينقطع عنهن الدم، ويتطهرن: يغتسلن بالماء. وهو أحبّ الوجهين إلينا: يطّهّرن.
{فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه} ولم يقل: في حيث، وهو الفرج. وإنما قال: من حيث كما تقول للرجل: ايت زيدا من مأتاه من الوجه الذي يؤتى منه. فلو ظهر الفرج ولم يكن عنه قلت في الكلام: ايت المرأة في فرجها. {فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه} يقال: ايت الفرج من حيث شئت). [معاني القرآن: 1/143]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النّساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه إنّ اللّه يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين}
قال: {ويسألونك عن المحيض} وهو: الحيض. وإنما أكثر الكلام في المصدر إذا بني هكذا أن يراد به "المفعل" نحو قولك: "ما في برّك مكالٌ" أي: كيلٌ. وقد قيلت الأخرى أي: قيل "مكيلٌ" وهو مثل "محيضٍ" من الفعل إذا كان مصدرا للتي في القرآن وهي أقل. قال الشاعر:
بنيت مرافقهنّ فوق مزلّةٍ = لا يستطيع بها القراد مقيلا
يريد: "قيلولةً". وتقول: "جئت مجيئاً حسناً". فبنوه على "مفعل" وهو مصدره.
وقال: {ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن} لأنك تقول: "طهرت المرأة" فـ"هي تطهر".
وقال بعضهم "طهرت".
وقالوا: "طلقت" "تطلق" "و "طلقت" "تطلق" أيضا.
ويقال للنفساء إذا أصابها النفاس: "نفست" فإذا أصابها الطلق [قيل]: طلقت").
[معاني القرآن: 1/140-141]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن} أي: ينقطع عنهن الدم.
يقال: طهرت وطهرت، إذا رأت الطّهر، وإن لم تغتسل بالماء.
ومن قرأ (يطّهرن) أراد: يغتسلن بالماء.
والأصل: «يتطهرون». فأدغم التاء في الطاء).
[تفسير غريب القرآن: 84]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النّساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه إنّ اللّه يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين}
يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا،
وعند النحويين أن المصدر في هذا الباب "المفعل"، و "المفعل" جيّد بالغ فيه يقال ما في برّك "مكال" أي كيل ويجوز ما فيه "مكيل".

قال الشاعر وهو الراعي:
بنيت مرافقهن فوق مزلّة... لا يستطيع بها القراد مقيلا
أي: قيلولة،
ومعنى الآية: أن العرب كانت تفعل في أمر الحائض ما كانت تفعل المجوس، فكانوا يجتنبون تكليفها عمل أي شيء وتجتنب في الجماع وسائر ما تكلّفه النساء، يريدون أنها نجس، فأعلم اللّه أن الذي ينبغي أن يجتنب منها بضع فقط، وأنها لا تنخس شيئا، وأعلم أن المحيض أذى،
أي: مستقذر، ونهى أن تقرب المرأة حتى تتطهر من حيضها - بالماء بعد أن تطهر من الدم أي تنقى منه، فقال: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} -
المعنى يتطهرن أي: يغتسلن بالماء، بعد انقطاع الدم - وقرئت حتى يطهّرن " ولكن {فإذا تطهّرن} يدل على {ولا تقربوهن حتى يطهرن}
وكلاهما (يطهرن) ويطهّرن - وقرئ بهما - جيّدان.
ويقال طهرت وطهرت جميعا وطهرت أكثر.
وقوله عزّ وجلّ: {فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه} أي: من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يجب، أعني ولا تقربوهن صاحبات ولا عشيقات،
وقد قيل في التفسير: {من حيث أمركم اللّه} في الفروج، ولا يجوز أن يقربن في الدبر، والذي يروى عن مالك ليس بصحيح لأن إجماع المسلمين أن الوطء، حيث يبتغى
النسل، وأن أمر الدّبر فاحشة، وقد جاء الحديث أن محاشّ النساء حرام.
ويكنى به عن الدبر). [معاني القرآن: 1/296-298]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى}
قال قتادة: أي قذر.
وروى ثابت عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة أخرجوها من البيت فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في بيت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل: {يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح))
فتبين بهذا الحديث معنى فاعتزلوا النساء في المحيض أن معناه فاعتزلوهن في الجماع). [معاني القرآن: 1/181-182]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} أي: حتى ينقطع الدم عنهن.
وقرأ أهل الكوفة (يطهرن) أي: يغتسلن.
وكذا معنى يتطهرن قرأ به ابن مسعود وأبي وقد عاب قوم يطهرن بالتخفيف قالوا لأنه لا يحل المسيس حتى يغتسلن.
قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم
فيجوز أن يكون معناه كمعنى يطهرن.
ويجوز أن يكون معناه حتى يحل لهن أن يتطهرن كما يقال للمطلقة إذا انقضت عدتها قد حلت للرجال وقد بين ذلك بقوله: {فإذا تطهرن}). [معاني القرآن: 1/182-183]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فأتوهن من حيث أمركم الله}
قال مجاهد: من حيث نهوا عنه في محيضهن.
وقال إبراهيم: في الفرج.
وقال ابن الحنيفة: من قبل التزويج من قبل الحلال.
وقال أبو رزين: من قبل الطهر.
وقال أبو العالية: ويحب المتطهرين من الذنوب.
وقال عطاء: بالماء.
قال أبو جعفر: وقول عطاء أولى للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مسجد قباء: ((إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني)) قالوا: يا رسول الله نجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء
وهذا لما نزل {فيه رجال يحبون أن يتطهروا}). [معاني القرآن: 1/183-184]

تفسير قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ:(ت:207هـ): (وقوله: {فأتوا حرثكم أنّى شئتم...}
[أي] كيف شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني شيخ عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عباس: إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها في قبلها خرج الولد أحول، قال: فقال ابن عباس: كذبت يهود {نساؤكم حرثٌ لّكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم} يقول: ايت الفرج من حيث شئت). [معاني القرآن: 1/144]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {نساؤكم حرثٌ لكم} كنايةٌ، وتشبيه، قال: {فأتوا حرثكم أنّى شئتم}). [مجاز القرآن: 1/73]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({نساؤكم حرثٌ} لكم كناية.
وأصل الحرث: الزّرع، أي: هنّ للولد كالأرض للزرع.

{فأتوا حرثكم أنّى شئتم} أي: كيف شئتم.
{وقدّموا لأنفسكم}: في طلب الولد). [تفسير غريب القرآن:84-85]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم وقدّموا لأنفسكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}
زعم أبو عبيدة أنه كناية، والقول عندي فيه أن معناه أن نساءكم حرث لكم منهن تحرثون الولد واللذة.
وقوله عزّ وجلّ: {فأتوا حرثكم أنّى شئتم}أي: كيف شئتم، أي ائتوا موضع حرثكم كيف شئتم، وإنما قيل لهم كيف شئتم، لأن اليهود كانت تقول: إذا جامع الرجل المرأة من خلف خرج الولد أحول، فأعلم اللّه أن الجماع إذا كان في الفرج حلال على كل جهة.
وقوله عزّ وجلّ: {وقدّموا لأنفسكم واتّقوا اللّه} أي: اتقوا الله فيما حدّ لكم من الجماع وأمر الحيض،
{وقدّموا لأنفسكم}
أي: قدموا طاعته واتباع أمره، فمن اتبع ما أمر الله به فقد قدّم لنفسه خيرا). [معاني القرآن: 1/298]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم}أي: موضع حرث لكم كما تقول هذه الدار منفعة لك أي مكان نفع لك فالمعنى أنكم تحرثون منهن الولد). [معاني القرآن: 1/185]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}
أصح ما روي في هذا أن مالك بن أنس وسفيان وشعبة رووا عن محمد بن المنكدر عن جابر أن اليهود قالوا من أتى امرأة في فرجها من دبرها خرج ولدها أحول فأنزل الله: {نساوكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}.
وكذلك قال مجاهد: قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في الفرج .
وروى أبو إسحاق عن زايدة عن عميرة قال: سألت ابن عباس عن العزل فقال: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} إن شئت فاعزل وإن شئت فلا تعزل.
قال أبو جعفر وقال الضحاك: {أنى شئتم} متى شئتم.
ومعناه: من أين شئتم، أي: من أي الجهات شئتم
قال أبو جعفر: وأصل الحرث ما يخرج مما يزرع والله تعالى يخلق من النطفة الولد). [معاني القرآن: 1/185-186]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {واتقوا الله} فدل على العظة في أن لا يجاوزوا هذا). [معاني القرآن: 1/186]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وقدموا لأنفسكم} أي: الطاعة. وقيل في طلب الولد). [معاني القرآن: 1/186]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({نساؤكم حرث لكم} أي: هن لكم للولد بمنزلة الأرض للزارع.
{أنى شئتم} أي: كيف شئتم في موضع الولد). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولا تجعلوا اللّه عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا...}
يقول: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا معترضا {أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين النّاس} يقول: لا يمتنعنّ أحدكم أن يبرّ ليمين إن حلف عليها، ولكن ليكفّر يمينه ويأت الذي هو خير). [معاني القرآن: 1/144]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم) (224) أي نصباً). [مجاز القرآن: 1/73]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({عرضة لأيمانكم}: نصبا كقولك جعلت فلانا عرضة للناس). [غريب القرآن وتفسيره: 92]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ولا تجعلوا اللّه عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا وتتّقوا} يقول لا تجعلوا اللّه بالحلف به - مانعا لكم من أن تبروا وتتقوا. ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحما، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر -: فكفّروا، أوتوا الذي هو خير). [تفسير غريب القرآن: 85]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين النّاس واللّه سميع عليم}
موضع " أن " نصب بمعنى عرضة المعنى لا تعرضوا باليمين باللّه في أن تبروا - فلما سقطت " في " أفضى لمعنى الاعتراض، فنصب أن.
وقال غير واحد من النحويين إن موضعها جائز أن يكون خفضا وإن سقطت " في " لأن " أن " الحذف معها مستعمل، تقول جئت لأن تضرب زيدا، وجئت أن تضرب زيدا، فحذفت اللام مع " أن " ولو قلت جئت ضرب زيد تريد لضرب زيد لم يجز كما جاز مع " أن " لأن " أن " إذا وصلت - دل ما بعدها على الاستقبال.
والمعنى: كما تقول: جئتك أن ضربت زيدا، وجئتك أن تضرب زيدا، فلذلك جاز حذف اللام.
وإذا قلت: جئتك ضرب زيد لم يدل الضرب على معنى الاستقبال.

والنصب في " أن " في هذا الموضع هو الاختيار عند جميع النحويين.
ومعنى الآية: أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم حلفوا، فأعلم اللّه أن الإثم إنما هو في الإقامة على ترك البر والتقوى، وإن اليمين إذا كفرت فالذنب فيها مغفور، فقال عزّ وجلّ: {لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم واللّه غفور حليم}). [معاني القرآن: 1/298-299]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس}
قال سعيد بن جبير ومجاهد وهذا لفظ سعيد وهو الرجل يحلف أن لا يبر ولا يصلي ولا يصلح فيقال له بر فيقول قد حلفت
والتقدير في العربية كراهة أن تبروا). [معاني القرآن: 1/187]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} أي: لا تجعلوا يمينكم به مانعا لكم {أن تبروا وتتقوا}، ولكن إذا حلفتم على ألا تطيعوا، أو على أن تعصوا، فكفروا وأطيعوا، ولا تعصوا. وقيل {عرضة} نصبا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({عُرْضَــةً}: حجة تصدون بها). [العمدة في غريب القرآن: 90]

تفسير قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {لاّ يؤاخذكم اللّه بالّلغو في أيمانكم...}
فيه قولان:
يقال: هو ممّا جرى في الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله.
والقول الآخر: الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفّارة والاستغفار، وهو قولك: والله لا أفعل، ثم تفعل، ووالله لأفعلنّ ثم لا تفعل. ففي هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما مستقبل]. واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك: والله ما فعلت وقد فعلت، وقولك: والله لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو؛ إذ لم تكن فيهما كفّارة. وكان القول الأوّل - وهو قول عائشة: إن اللغو ما يجرى في الكلام على غير عقد - أشبه بكلام العرب). [معاني القرآن: 1/144]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ):{اللّغو}: لا والله، وبلى والله، وليس بيمينٍ تقتطع بها مالاً أو تظلم بها). [مجاز القرآن: 1/73]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({لاّ يؤاخذكم اللّه بالّلغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم واللّه غفورٌ حليمٌ}
قال: {لاّ يؤاخذكم اللّه بالّلغو في أيمانكم} نقول: "لغوت في اليمين" فـ"أنا ألغو" "لغواً" ومن قال: "هو يمحا" قال: "هو يلغا" "لغواً" و"محواً".
وقد سمعنا ذلك من العرب. وتقول: "لغيت باسم فلان" فـ"أنا ألغى به" "لغى" أي: أذكره). [معاني القرآن: 1/141]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}: ذكر بعض الفقهاء أنه لا والله وبلى والله وكل يمين لا تقتطع بها مالا ولا تظلم بها أحدا، وقال آخرون هو أن يحلف الرجل على اليمين لا يرى أنه كما حلف. وقال بعضهم هو الحلف على المعصية). [غريب القرآن وتفسيره: 93]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم}،
واللغو في اليمين:
ما يجري في الكلام على غير عقد. ويقال: اللغو أن تحلف على الشيء ترى أنه كذلك وليس كذلك، يقول: لا يؤاخذكم اللّه بهذا، {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي: بما تحلفون عليه وقلوبكم متعمدة، وتعلمون أنكم فيه كاذبون). [تفسير غريب القرآن: 85]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم واللّه غفور حليم}
فقيل في معنى اللغو غير قول،
1- قال بعضهم معناه:
" لا واللّه " و " بلى واللّه "
2- وقيل: إن معنى اللغو الإثم - فالمعنى لا يؤاخذكم اللّه بالإثم في الحلف إذا كفرتم.

وإنّما قيل له لغو لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}أي: بعزمكم على ألا تبروا وألا تتقوا، وأن تعتلوا في ذلك بأنكم قد حلفتم، ويقال: لغوت ألغو لغوا، ولغوت ألغى لغوا، مثل محوت أمحو محوا، وأمحى، ويقال لغيت في الكلام ألغى لغى، إذا أتيت بلغو، وكل ما لا خير فيه مما يؤثم فيه أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو ولغى.
قال العجاج:
عن اللّغا ورفث التكلم
وجملة الحلف أنه على أربعة أوجه،
فوجهان: منها الفقهاء يجمعون أن
الكفارة فيهما واجبة، وهو قولك: واللّه لا أفعل أو واللّه لأفعلنّ، ففي هاتين الكفارة إذا آثر أن يخالف ما حلف عليه، إذا رأى غيره خيرا منه فهذا فيه الكفارة لا محالة.
ووجهان: أكثر الفقهاء لا يرون فيهما الكفارة، وهما قولك: " واللّه ما قد فعلت "،. وقد فعل أو " واللّه لقد فعلت " ولم يفعل.
فهذا هو كذب أكّده بيمين، فينبغي أن يستغفر اللّه منه، فهذا جملة ما في اليمين.
ويجوز أن يكون موضع " أن ": رفعا، فيكون المعنى: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، أن تبروا وتتقوا وتصلحوا أولى، أي البر والتقى أولى، ويكون أولى محذوفا كما جاء حذف أشياء في القرآن.
لأن في الكلام دليلا عليها، يشبه هذا منه: {طاعة وقول معروف} أي: طاعة وقول معروف أمثل.
والنصب في أن والجر مذهب النحويين ولا أعلم أحدا منهم ذكر هذا المذهب ونحن نختار ما قالوه لأنه جيد، ولأن الاتباع أحب وإن كان غيره جائزا.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه سميع عليم}معناه: في هذا الموضع يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها). [معاني القرآن: 1/299-300]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}
فيه أقوال:
قال أبو هريرة وابن عباس وهذا لفظ أبي هريرة لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه كما حلف عليه فإذا هو غير ذلك.
وقال الحسن بهذا القول ومجاهد ومنصور ومالك.
وروى مالك وشعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله، وقال بهذا الشعبي.
وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف في الأمر الحلال يحرمه.
وقال زيد بن أسلم قولا رابعا: قال وهو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا فلو أخذه بهذا لم يترك له شيئا
{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}
قال نحو الرجل هو كافر هو مشرك لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قبله.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال قول عائشة لأن يحيى القطان قال حدثنا هشام بن عروة قال أخبرني أبي عن عائشة في قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} قالت: نزلت في قول الرجل لا والله وبلى والله.
فهذا إخبار منها عن علمها بحقيقة ما نزلت فيه هذه الآية.
واللغو في اللغة: ما يلغى فيقول الرجل عند الغضب والعجلة لا والله وبلى والله مما يعقده عليه قلبه.
وقول أبي هريرة وابن عباس: غير خارج من ذا أيضا لأن الحالف إذا حلف على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه فلم يقصده إلى غير ما حلف عليه فيحلف على ضده واليمينان لغو والله أعلم.
فأما قول سعيد بن جبير: فبعيد لأن ترك ما حلف عليه من حلال يحرمه إذا كفر فليس مذنبا معفوا عنه بل مثابا قابلا أمر الله.
وقول زيد بن أسلم: محال لأن قول الرجل أعمى الله بصري دعاء وليس بيمين
وقيل اللغو قد ألغي إثمه.
ثم قال تعالى: {والله غفور رحيم}أي: غفر لكم يمين اللغو فلم يأمركم فيها بكفارة ولا ألزمكم عقوبة {حليم} في تركه المعاجلة بالعقوبة لمن حلف كاذبا والله أعلم). [معاني القرآن: 1/187-191]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}
قال ابن جريج: قلت لعطاء قلت لشيء أعمده والله لا أفعله ولم أعقده قال وذلك أيضا مما كسبت قلوبكم وتلا {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}
قال عطاء: والتعقيد والله الذي لا إله إلا هو.

ففسر عطاء أن قوله والله لا أفعل مما اكتسبه القلب وفيه الكفارة وأن اليمين والله الذي لا إله إلا هو
وروى ابن نجيح عن مجاهد بما كسبت قلوبكم قال: بما عقدتم عليه). [معاني القرآن: 1/191-192]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{اللغو}: ما لم يكن باعتقاد منه). [ياقوتة الصراط: 180]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): (واللغو في اليمين: أن يحلف على الشيء بتحققه، ثم يظهر له أنه بخلاف ذلك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({اللَّغْـــوِ}: ما لم تعقــده). [العمدة في غريب القرآن: 90]


رد مع اقتباس
  #23  
قديم 26 ذو الحجة 1431هـ/2-12-2010م, 09:08 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 226 إلى 232]

{الَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}

تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {تربّص أربعة أشهرٍ...}
التربّص إلى الأربعة, وعليه القرّاء, ولو قيل في مثله من الكلام: تربّصٌ أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا "أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيما ذا مقربة" وكما قال {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتا} والمعنى تكفتهم أحياء وأمواتا.
ولو قيل في مثله من الكلام: كفات أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا.
ولو قيل: تربصٌ: أربعة أشهر كما يقال في الكلام: بيني وبينك سير طويل: شهر أو شهران؛ تجعل السير هو الشهر، والتربّص هو الأربعة.
ومثله {فشهادة أحدهم أربع شهادات} وأربع شهادات.
ومثله {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثل ما قتل. قال: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله "فجزاؤه" بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النّعم.

{فإن فاءوا} يقال: قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء: أن يرجع إلى أهله فيجامع). [معاني القرآن: 1/145]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {يولون}: يولى يحلف، من الأليّة وهي اليمين، ألوة، وأليّة اليمين قال أوس بن حجر:
علىّ أليّةٌ عتقت قديماً... فليس لها وإن طلبت مرام). [مجاز القرآن: 1/73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فإن فاؤوا} أي: رجعوا عن اليمين). [مجاز القرآن: 1/73]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({لّلّذين يؤلون من نّسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رّحيمٌ}
قال: {لّلّذين يؤلون من نّسائهم} تقول: "آلى من امرأته" "يؤلي" "إيلاءً" و"ظاهر منها" "ظهاراً" كما تقول: "قاتل" "قتالاً".
{تربّص أربعة أشهرٍ}{لّلّذين يؤلون}
جعل ذلك لهم أجلا {فإن فاءوا} يعني: "فإن رجعوا" لأنك تقول: "فئت إلى الحقّ"). [معاني القرآن: 1/141]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({فاؤوا}: رجعوا عن اليمين). [غريب القرآن وتفسيره: 93]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({يؤلون من نسائهم}: يحلفون. يقال: أليت من امرأتي أولي إيلاء، إذا حلف أن لا يجامعها. والاسم الأليّة.
{فإن فاؤوا} أي: رجعوا إلى نسائهم). [تفسير غريب القرآن:85-86]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم}
معنى (يؤلون): يحلفون، ومعناه في هذا الموضع: أن الرجل كان لا يريد المرأة فيحلف ألا يقربها أبدا، ولا يحب أن يزوجها غيره، فكان يتركها لا أيما ولا ذات زوج، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية والإسلام، فجعل اللّه الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر، فإذا تمت أربعة أشهر ثم لم يفئ الرجل إلى امرأته، أي لم يرجع إليها، فإن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قد بانت منه، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره.
وقال قوم: يؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق أو يفيء.
ويقال آليت أولي إيلاء والية، والوّة، وإلوّة، و (إيل).
" والكسر أقل اللغات، ومعنى التربص في اللغة الانتظار.
وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزّ وجلّ: {وإن عزموا الطلاق فإن اللّه سميع عليم}.
وقالوا {سميع} يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع، وهذا في اللغة غير ممتنع، وجائز أن يكون إنما ذكر {سميع} ههنا من أجل حلفه.
أي: اللّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده، وكلا الوجهين في اللغة محتمل). [معاني القرآن: 1/300-301]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}
قال أبو جعفر: والتقدير في العربية للذين يؤلون من اعتزال نسائهم، أي: أن يعدلوا نسائهم.
روى عطاء عن ابن عباس قال: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنين وأكثر من ذلك فوقت الله لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاءه منهم أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء.
وفي حديث ابن عباس أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا لم يريدوا المرأة وكرهوا أن يتزوجها غيرهم ألوا أي حلفوا أن لا يقربوها فجعل الله الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر وإذا تمت ولم يفئ أي لم يرجع إلى وطء امرأته فقد طلقت في قول ابن مسعود وابن عباس.
وقرأ أبي بن كعب (فإن فاءوا فيهن)
وقال قوم: لا يكون موليا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر فإذا تمت له أربعة ولم يجامع فيحنث في يمينه أخذ بالجماع أو الطلاق.
وروي هذا عن عمر وعلي وأبي الدرداء رواه مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقال مسروق والشعبي: الفيء الجماع.
قال أبو جعفر: والفيء في اللغة: الرجوع فهو على هذا الرجوع إلى مجامعتها والطلاق مأخوذ من قولهم أطلقت الناقة فطلقت إذا أرسلتها من عقال أو قيد وكان ذات الزوج موثقة عند زوجها فإذا فارقها أطلقها من وثاق
ويدل على هذا أن أملك فلان معناه صير يملك المرأة إلا أن المستعمل أطلقت الناقة فطلقت وطلقت المرأة فطلقت وطلقت). [معاني القرآن: 1/192-194]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({يؤلون} يحلفون ألا يقربوا نساءهم، والاسم الألية.
{فإن فاءوا} رجعوا إلى وطء نسائهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 40]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({يُؤْلُونَ}: يحلفون.
{فَاؤُوا}: رجعوا). [العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}

تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ...}وفي قراءة عبد الله "بردتهن"). [معاني القرآن: 1/145]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {يتربّصن}: والتّربّص (أن) لا تقدم على زوج حتى تقضى ثلاثة قروءٍ؛ واحدها: قرءٌ،
فجعله بعضهم (الحيضة)،
وقال بعضهم: الطهر، قال الأعشى:

وفي كل عام أنت جاشم غزوةٍ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مؤرّثةٍ مالاً وفي الأصل رفعةً... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وكل قد أصاب، لأنه خروج من شيء إلى شيء فخرجت من الطهر إلى الحيض،
ومن قال: بل هو الطهر فخرجت من الحيض إلى الطهر. وأظنه أنا من قولهم: قد أقرأت النجوم، إذا غابت.

{وبعولتهنّ}: الأزواج، واحدها بعل.
{درجةٌ}: منزلة). [مجاز القرآن: 1/74]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجةٌ واللّه عزيزٌ حكيمٌ}
قال: {ثلاثة قروءٍ} ممدودة مهموزة وواحدها "القرء" خفيفة مهموزة مثل: "القرع" وتقول: "قد أقرأت المرأة" "إقراءً" بالهمز، إذا صارت صاحبة حيض. وتقول: "ما قرأت حيضةً قط" مثل: "ما قرأت قرآناً". و: "قد قرأت حيضةً أو حيضتين" بالهمز، و"ما قرأت جنينا قطّ" مثلها. أي: ما حملت. و"القرء": انقطاع الحيض.
وقال بعضهم: "ما بين الحيضتين قال الشاعر:

ذراعي بكرةٍ أدماء بكرٍ = هجان اللّون لم تقرأ جنينا
وأما قول الشاعر:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها = لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل
فإن "المقراة": المسيل وليس بمهموز). [معاني القرآن: 1/141-142]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({ثلاثة قروء}: واحدها قرء.
وقال بعضهم: هو الحيض.
وقال آخرون: هو الطهر من الحيض وهما جميعا في اللغة،
يقال أقرت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت.
{وبعولتهن}: أزواجهن). [غريب القرآن وتفسيره:93-94]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ} وهي الحيض: وهي: الأطهار أيضا. واحدها قرء. ويجمع على أقراء أيضا.
قال الأعشى:

وفي كلّ عم أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا فالقروء في هذا البيت الأطهار. لأنه لما خرج للغزو: لم يغش نساءه، فأضاع قروءهنّ، أي أطهارهن.
وقال النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم في المستحاضة: ((تقعد عن الصلاة أيام أقرائها))، يريد أيام حيضها قال الشاعر:
يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض له قروء كقروء الحائض
فالقروء في هذا البيت: الحيض. يريد: أن عدواته تهيج في أوقات معلومة، كما تحيض المرأة لأوقات معلومة.
وإنما جعل الحيض قرأ والطهر قرأ: لأن أصل القرء في كلام العرب: الوقت. يقال: رجع فلان لقرئه، أي لوقته الذي كان يرجع فيه. ورجع لقارئه أيضا. قال الهذليّ:
كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبّت لقارئها الرّياح
أي لوقتها. فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت.
{ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ} يعني: الحمل.
{وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ} في ذلك، يريد: الرجعة ما لم تنقض الحيضة الثالثة.
{ولهنّ على الأزواج مثل الّذي عليهنّ} للأزواج.
{وللرّجال عليهنّ} في الحق.
{درجةٌ} أي: فضيلة).
[تفسير غريب القرآن:86-87]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجة واللّه عزيز حكيم}
يقال طلقت المرأة طلاقا فهي طالق، وقد حكوا طلقت وقد زعم قوم أن تاء التأنيث حذفت من " طالقة " لأنه للمؤنث لاحظ للذكر فيه، وهذا ليس بشيء، لأن في الكلام شيئا كثيرا يشترك فيه المذكر والمؤنث لا تثبت فيه الهاء في المؤنث، نحو تولهم بعير ضامر، وناقة ضامر، وبعير ساعل وناقة ساعل، وهذا أكثر من أن يحصى.
وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث لأن المعنى شيء طالق، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو قولهم امرأة مذكار ورجل مذكار، وامرأة مئناث ورجل مئناث، وإنما معناه ذات ذكران وذات إناث، وكذلك مطفل ذات طفل.
وكذلك طالق معناه ذات طلاق.
فإذا أجريته على الفعل قلت طالقة.
قال الأعشى:
أيا جارتا بيني فإنك طالقة... كذاك امور النّاس غاد وطارقة
وأما {ثلاثة قروء} فقد اختلف الفقهاء وأهل اللغة في تفسيرها وقد ذكرنا في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة:
فأما أهل الكوفة فيقولون: الأقراء الحيض،
وأما أهل الحجاز ومالك فيقولون: الأقراء الطهر،
وحجة أهل الكوفة في أن الأقراء و (القراء) والقروء الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت
مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم - ((تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك)) فهذا يعني أنّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيض، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال: ((إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر فتطهّري)).
وصلّي ما بين القرء إلى القرء، فهذا مذهب الكوفيين، والذي يقويه من مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول: القرء الحيض، ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت.
وقال الكسائي والقراء جميعا: أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ،
وقال القراء: أقرأت الحاجة إذا تأخرت.

وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه:
له قروء كقروء الحائض فهذا؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء، وما احتج به أهل اللغة مما يقوي مذهبهم،
وقال الأخفش أيضا: أقرأت المرأة إذا حاضت، وما قرأت حيضة ما ضمّت رحمها على حيضة.

وقال أهل الحجاز: الأقراء والقروء واحد، وأحدهما قرء، مثل قولك: فرع، وهما الأطهار، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت: الأقراء الأطهار، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك، وفقهاء أهل المدينة، والذي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراء الأطهار.
قول الأعشى:
مورّثة مالا وفي الأصل رفعة... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.
وفي هذا مذهب آخر، وهو أن القرء الطهر، والقرء الحيض.
قال أبو عبيدة: إن القرء يصلح للحيض والطهر، قال وأظنه من أقرأت النجوم إذا غابت، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى يونس أن الإقراء عنده يصلح للحيض والطهر، وذكر أبو عمرو بن العلاء أن القرء - الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر، ويقال: " هذا قارئ الرّياح ": لوقت هبوبها.
وأنشد أهل اللغة:
شنئث العقر عقر بني شليل... إذا هبت لقاريها الرياح
أي: لوقت هبوبها، وشدة بردها، ويقال " ما قرأت الناقة سلا قط! أي لم تضم رحمها على ولد، وقال عمرو بن كلثوم:
نريك إذا دخلت على خلاء... وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر... هجين اللون لم تقرأ جنينا
وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها: لم تجمع ولدا قط في رحمها وذكر قطرب هذا القول أيضا، وزاد في لم تقرأ جنينا أي لم تلقه مجموعا.
فهذا جميع ما قال الفقهاء وأهل اللغة في القرء.
والذي عندي أن القرء في اللغة الجمع، " وأن قولهم قريت الماء في الحوض من هذا، وإن كان قد ألزم الماء - فهو جمعته، وقولك قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعا، والقرد يقرئ، أي: يجمع ما يأكل في بيته، فإنما القرء اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاء، بل هو تحقيق المذهبين، والمقرأة الحوض الذي يقرأ فيه الماء أي يجمع، والمقرأ الإناء الذي يقرأ فيه الضيف.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ}.
قيل فيه: لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إن فعلن ذلك فإنما يقصدن إلى إلزامه غير أبيه.
وقد قال قوم هو الحيض. وهو بالولد أشبه لأن ما خلق الله في أرحامهن أدل على الولد، لأن اللّه جلّ وعزّ قال: {هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء}
وقال: (ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) فوصف خلق الولد.
ومعنى: (إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر).
تأويله إن كن يصدقن باللّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل الكبائر فلا يكتمن، كما تقول لرجل يظلم إن كنت مؤمنا فلا تظلم، لا إنّه يقول له هذا مطلقا الظلم لغير المؤمن.
ولكن المعنى: إن كنت مؤمنا فينبغي أن يحجزك إيمانك عن ظلمي.
وقوله عزّ وجلّ: (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك).
بعولة جمع بعل، مثل ذكر وذكورة، وعم وعمومة أشبه ببعل وبعولة.
ويقال في جمع ذكر ذكارة وحجر حجارة.
وإنما هذه الهاء زيادة مؤكدة معنى تأنيث الجماعة، ولكنك لا تدخلها إلا في الأمكنة التي رواها أهل اللغة، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كلابة، لأن القياس في هذه الأشياء معلوم، وقد شرحنا كثيرا مما فيه فيما تقدم من الكتاب.

ومعنى (في ذلك) أي: في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه، فأزواج قبل انقضاء القروء الثلاثة أحق بردهن إن ردّوهنّ على جهة الإصلاح، ألا ترى قوله: (إن أرادوا إصلاحا).
ومعنى قوله عزّ وجلّ: (ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف) أي: للنساء مثل الذي عليهنّ بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة.
وهو معنى (بالمعروف).
وقوله عزّ وجلّ: (وللرّجال عليهنّ درجة)معناه: زيادة فيما للنساء عليهن كما قال تعالى: (الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).
والمعنى: أن المرأة تنال من اللّذة من الرجل كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها.
وقوله عزّ وجلّ: (واللّه عزيز حكيم):معناه ملك يحكم بما أراد، ويمتحن بما أحب، إلا أن ذلك لا يكون إلا بحكمة بالغة - فهو عزيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك). [معاني القرآن: 1/301-307]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}
وقال عمر وعلي ومعاذ وأبو الدرداء وأبو موسى: ثلاث حيض.
وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر: ثلاثة أطهار.
ويحتج للقول الأول بان: عدة الأمة حيضتان وإنما عليها نصف ما على الحرة وقد قال عمر لو قدرت أن أجعلها حيضة ونصف حيضة لفعلت
والقرء عند أهل اللغة: الوقت فهو يقع لهما جميعا.
قال الأصمعي ويقال أقرأت الريح إذا هبت لوقتها
وحدثني أحمد بن محمد بن سلمة قال حدثنا محمود بن حسان النحوي قال حدثنا عبد الملك بن هشام عن أبي يزيد النحوي عن أبي عمرو بن العلاء قال من العرب من يسمي الحيض قرءا ومنهم من يسمي الطهر قرءا ومنهم من يجمعهما جميعا فيسمي الحيض مع الطهر قرءا). [معاني القرآن: 1/195-196]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن}
وقال ابن عمر وابن عباس: يعني الحبل والحيض.
وقال قتادة: علم أن منهن كواتم يكتمن ويذهبن بالولد إلى غيره فنهاهن الله عن ذلك). [معاني القرآن:1/196]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} فليس هذا على أنه أبيح لمن لا يؤمن أن يكتم وإنما هذا كقولك إن كنت مؤمنا فاجتنب الإثم أي فينبغي أن يحجزك الإيمان عنه لأنه ليس من فعل أهل الإيمان). [معاني القرآن:1/196-197]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} وقال إبراهيم وقتادة في الإقراء الثلاثة والتقدير في العربية الأجل). [معاني القرآن: 1/197]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {إن أرادوا إصلاحا} أي: إن أراد الأزواج بردهن الإصلاح لا الإضرار
وروى يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس إن أرادوا إصلاحا وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}). [معاني القرآن: 1/197-198]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} روى عكرمة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي.
وقال ابن زيد: يتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيهم
ثم قال تعالى: {وللرجال عليهن درجة}
قال مجاهد: هو ما فضل الله به عليها من الجهاد وفضل ميراثه على ميراثها وكل ما فضل به عليها.
وقال أبو مالك: له أن يطلقها وليس لها من الأمر شيء). [معاني القرآن: 1/198-199]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):(القُرُوءٍ): الأوقات، الواحد: قرء، وهو: الوقت يكون حيضا ، ويكون طهرا). [ياقوتة الصراط: 180]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ( (والقروء) الحيض،
وقال مالك: هي الأطهار،
وقال أهل اللغة: هو من الأضداد، وأصله الوقت.

{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} يعني: لهم الرجعة ما لم تدخل في الحيضة الثالثة.
{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} أي: لهن على الأزواج مثل الذي للأزواج عليهن.
{وللرجال عليهن درجة} أي: فضيلة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 41]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({القرْء}: الحيض، الأطهار.
{بُعُولَتُهُنَّ}
: أزواجهن).
[العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود اللّه...}
وفي قراءة عبد الله "إلا أن تخافوا" فقرأها حمزة على هذا المعنى "ألا أن يخافا" ولا يعجبني ذلك.
وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة.
وهي في قراءة أبّي
"إلا أن يظنّا ألاّ يقيما حدود الله" والخوف والظنّ متقاربان في كلام العرب.
من ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:

أتاني كلام عن نصيب بقوله * وما خفت يا سلاّم أنك عائبي
وقال الآخر:
إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة * تروّي عظامي بعد موتى عروقها
[ولا تدفننّي في الفلاة فإنني * أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها]
والخوف في هذا الموضع كالظنّ. رفع "أذوقها" كما رفعوا {وحسبوا ألا تكون فتنة} وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ((أمرت بالسواك حتى خفت لأدردنّ)) كما تقول: ظنّ ليذهبنّ.
وما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن؛ ألا ترى أن اسمهما في الخوف مرفوع بما لم يسمّ فاعله. فلو أراد ألاّ يخاف على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير اعتبار قول عبد الله [كان] جائزا؛ كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
وقوله: {فإن خفتم ألاّ يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما} يقال كيف قال: فلا جناح عليهما، وإنما الجناح - فيما يذهب إليه الناس - على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟ ففي ذلك وجهان:
1- أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا؛ في سورة الرحمن {يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه "نسيا حوتهما" وإنما الناسي صاحب موسى وحده.
ومثله في الكلام أن تقول: عندي دابّتان أركبهما وأستقى عليهما، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى؛ وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها. ومثله من كتاب الله {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} فيستقيم في الكلام أن تقول: قد جعل الله لنا ليلا ونهارا نتعيّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيّش إلى النهار.

والوجه الآخر: أن يشتركا جميعا في ألاّ يكون عليهما جناح؛ إذ كانت تعطي ما قد نفى عن الزوج فيه الإثم، أشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هي إلى مثل ذلك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه} وإنما موضع طرح الإثم في المتعجّل، فجعل للمتأخّر - وهو الذي لم يقصّر - مثل ما جعل على المقصّر. ومثله في الكلام قولك: إن تصدّقت سرّاً فحسن [وإن تصدّقت جهرا فحسن].
وفي قوله: {ومن تأخّر فلا إثم عليه} وجه آخر؛ وذلك أن يريد: لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصّر، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله: {فلا إثم عليه} أي: فلا يؤثّمنّ أحدهما صاحبه.
وقوله: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} يريد: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا، (أن) في موضع نصب إذا نزعت الصفة، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائيّ يقول: موضعه خفض. قال الفرّاء: ولا أعرف ذلك.
وقوله: {إن ظنّا أن يقيما} (أن) في موضع نصب لوقوع الظنّ عليها). [معاني القرآن: 1/145-148]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله} معناها: إلاّ أن يوقنا.
{فإن خفتم} ها هنا: فإن أيقنتم). [مجاز القرآن: 1/74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({الطّلاق مرّتان} يقول: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان.
{فإمساكٌ} بعد ذلك {بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} أي: تطليق الثالثة بإحسان.
{إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه} أي: يعلمان أنهما لا يقيمان حدود اللّه.
{فإن خفتم ألّا يقيما حدود اللّه} أي: علمتم ذلك، {فلا جناح عليهما} أي: لا جناح على المرأة والزوج {فيما افتدت به} المرأة نفسها من الزوج). [تفسير غريب القرآن: 88]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألّا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون}
{الطلاق} رفع بالابتداء، و {مرتان} الخبر، والمعنى الطلاق الذي تملك فيه الرجعة مرتان، يدل عليه {فإمساك بمعروف} المعنى: فالواجب عليكم إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
ولو كان في الكلام فإمساكا بمعروف كان جائزا.
على فأمسكوهن إمساكا بمعروف كما قال عزّ وجلّ: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}، ومعنى {بمعروف} بما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا} أي: مما أعطيتموهن من مهر وغيره.
وقوله عزّ وجلّ: {إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه}.
قرئت {يخافا}، ويحافا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة وغيره: معنى {إلّا أن يخافا} إلا أن يوقنا، وحقيقة قوله: {إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه} أن يكون الأغلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر منهما من أسباب التباعد الخوف في أن لا يقيما حدود اللّه - ومعنى {حدود اللّه} ما حدّه الله جلّ وعزّ مما لا تجوز مجاوزته إلى غيره، وأصل الحدّ في اللغة المنع، يقال حددت الدار.
وحددت حدود الدار، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل فيها.
وحددت الرجل أقمت عليه الحد، والحد هو الذي به منع الناس من أن يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة، ويقال أحدت المرأة على زوجها وحدت فهي حادّ ومحدّ، إذا امتنعت عن الزينة، وأحددت إليه النظر إذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إليه، وأحددت السكين إحدادا.
قال الشاعر:
إن العبادي أحدّ فأسه... فعاد حدّ فأسه برأسه
وإنّما قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به، والعرب تقول للحاجب والبواب وصاحب السجن: الحدّاد، وإنما قيل له حداد لأنه يمنع من يدخل ومن يخرج، وقول الأعشى:
فقمنا ولمّا يصح ديكنا... إلى خمرة عند حدّادها
أي: عند ربها الذي منع منها إلا بما يريد.
ومعنى: (فلا تعتدوها) أي: لا تجاوزوها). [معاني القرآن: 1/307-308]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {الطلاق مرتان}
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الطلاق مرتان} قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في التطليقة الثالثة فإما يمسكها بمعروف فيحسن صحبتها وإما يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا.
وقال عروة بن الزبير: كان الرجل يطلق امرأته ويرتجعها قبل أن تنقضي عدتها وكان ذلك له ولو فعله ألف مرة ففعل ذلك رجل مرارا فأنزل الله تعالى: {الطلاق مرتان} فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان منهم طلق أو لم يطلق.
والتقدير في العربية الطلاق الذي لا يملك مع أكثر منه الرجعة مرتان.
ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟: فقال: ((التسريح بإحسان))
ثم قال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أي: فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق {أو تسريح بإحسان} أي: يستهل أمرها بأن يطلقها الثالثة
والسرح في كلام العرب السهل). [معاني القرآن: 1/199-201]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} هذا في الخلع الذي بين الزوجين
قال أبو عبيدة: الخوف ههنا بمعنى اليقين.
قال أبو إسحاق: حقيقته عندي أن يكون الغالب عليهما الخوف من المعاندة.
قال ابن جريج: كان طاووس يقول يحل الفداء قال الله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ولم يكن يقول قول السفهاء لا تحل حتى تقول لا أغتسل من جنابة ولكنه كان يقول إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة.
والمعنى على هذه القراءة: إلا أن يخاف الزوج والمرأة
وقرأ الأعمش وأبو جعفر وابن وثاب والأعرج وحمزة (إلا أن يخافا) بضم الياء.
وفي قراءة (عبد الله إلا أن تخافوا) بالتاء.
وقيل المعنى على هاتين القراءتين: إلا أن يخاف السلطان ويكون الخلع إلى السلطان.
وقد قال بهذا الحسن قال شعبة قلت لقتادة عن من أخذ الحسن قوله لا يكون الخلع دون السلطان فقال: أخذه عن زياد وكان وليا لعمر وعلي رضي الله عنهما.
قال أبو جعفر: وأكثر العلماء على أن ذلك إلى الزوجين). [معاني القرآن: 1/201-203]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقد قال في موضع آخر {فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وآثما مبينا}
وروى معمر عن الزهري قال: لا يحل لرجل أن تختلع امرأته إلا أن يؤتى ذلك منها فإما أن يكون يؤتى ذلك منه يضارها حتى تختلع منه فإن ذلك لا يصلح.
وقال أهل الكوفة: حظر عليه ما كان ساقه إلى المرأة من الصداق في قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} ثم أطلقه {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} فلا يحل له أن يأخذ أكثر مما ساقه إليها
وليس في الآية ما يدل على أنه لا يحل له أكثر مما أعطاها
وقول الزهري بين ويكون قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} يبين قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا}أي: لا تأخذوا منهن شيئا غصبا.
ومعنى {حدود الله}: ما منع منه والحد مانع من الاجتراء على الفواحش وأحدت المرأة امتنعت من الزينة ورجل محدود ممنوع من الخير والبواب حداد أي مانع ومعنى {فلا تعتدوها} فلا تتجاوزها). [معاني القرآن: 1/203-205]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({الطلاق مرتان} أي: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان، والثالثة هي قوله: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 41]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إن ظنّا أن يقيما حدود الله)} أي: أيقنا). [مجاز القرآن: 1/74]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} يريد: إن علما أنهما يقيمان حدوده). [تفسير غريب القرآن: 88]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقوم يعلمون} أي: فإن طلقها الثالثة، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما، أي: فلا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره، وفعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل، فحرم عليه التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق، وأن يتثبتوا.
وقوله عزّ وجلّ: (بعد ذلك أمرا) يدل على ما قلناه.
وقوله عزّ وجلّ: {فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} أي: فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، وموضع أن نصب، المعنى لا يأثمان في أن يتراجعا.
فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون موضع أن خفضا على إسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام.
وكذلك قال الكسائي.
والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف، ويكون جعلها موصولة عوضا مما حذف، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما الرجوع لم يصلح.
والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضع جر على إرادة في.

ومعنى (إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه)أي: إن كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللّه.
وقوله عزّ وجلّ: (وتلك حدود اللّه يبيّنها لقوم يعلمون).
ويقرأ "نبينها" بالياء والنون جميعا.
(لقوم يعلمون) أي: يعلمون أن وعد اللّه حق وأن ما أتى به رسوله صدق). [معاني القرآن: 1/308-309]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} المعنى: فإن طلقها الثالثة.
وأهل العلم على أن: النكاح ههنا الجماع لأنه قال زوجا غيره فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح ههنا التزويج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.
قال أبو جعفر: ويقوي القول الأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له حتى تذوق العسيلة
وعن علي حتى يهزها به). [معاني القرآن: 1/205-207]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}
روى منذر الثوري عن محمد بن علي عن علي رضوان الله عليه قال: ما أشكل علي شيء ما أشكلت هذه الآية في كتاب الله {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} فمازلت أدرس كتاب الله حتى فهمت فعرفت أن الرجل الآخر إذا طلقها رجعت إلى زوجها الأول إن شاء الله). [معاني القرآن: 1/207]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {إن ظنا أن يقيما حدود الله}
قال طاووس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه
وقال مجاهد: إن علما أن نكاحهما على غير دلسة). [معاني القرآن: 1/207-208]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}أي: يعلمون أن أمر الله حق لا ينبغي أن يتجاوز). [معاني القرآن: 1/208]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولا تمسكوهنّ ضراراً لّتعتدوا...}
كان الرجل منهم إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة ثم يراجعها، ويفعل ذلك في التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها). [معاني القرآن: 1/148]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا}، كانوا إذا طلق أحدهم امرأته: فهو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فإذا أراد أن يضر بامرأته: تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة، ثم راجعها. ويفعل ذلك من التطليقة الثالثة. فتطويله عليها هو: الضّرار). [تفسير غريب القرآن: 88]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف ولا تمسكوهنّ ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا واذكروا نعمت اللّه عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بكلّ شيء عليم} أي: وقت انقضاء عدتهن.
{فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف} أي: اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تمسكوهنّ ضرارا} أي: لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن، وقيل إنه كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء أجلها ثم يراجعها إضرارا بها، فنهاهم الله عن هذا الإضرار بهن.
وقوله عزّ وجلّ: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}أي: عرّضها لعذاب اللّه عزّ وجلّ: لأن إتيان ما نهى اللّه عنه تعرض لعذابه، وأصل الظلم وضع الشيء - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا} أي: ما قد بينه لكم من دلالاته، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره.
وقيل في هذا قولان:
1- قال بعضهم: كان الرجل يطلّق ويعتق ويقول: كنت لاعبا، فأعلم الله عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها،
2- وقال قوم: معنى {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا} أي: لا تتركوا العمل بما حدّد اللّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه، - ويتوانى فيه: إنما أنت لاعب).
[معاني القرآن: 1/309-310]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} أجلهن وقت انقضاء العدة
ومعنى {فبلغن أجلهن}: على قرب البلوغ كما تقول إذا بلغت مكة فاغتسل قبل أن تدخلها). [معاني القرآن: 1/208]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}
روى أبو الضحاك عن مسروق ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا .
قال يطلقها حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها أيضا ولا يريد إمساكها ويحبسها فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا .
وقال مجاهد وقتادة نحوه). [معاني القرآن: 1/209]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي: عرضها لعذاب الله). [معاني القرآن: 1/210]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا}
يروى عن الحسن أن الرجل كان يطلق ثم يقول إنما كنت لاعبا فنزل هذا.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والعتاق والرجعة))
وقيل من طلق امرأته فوق ثلاثة فقد اتخذ آيات الله هزوا.
وروي عن عائشة أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك وكيف ذاك وقال إذا كدت تقضين عدتك راجعتك فنزلت: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا}
قال أبو جعفر: وهذا من أجود هذه الأقوال لمجيئها بالعلة التي أنزلت من أجلها الآية والأقوال كلها داخلة في معنى الآية لأنه يقال لمن سخر من آيات الله اتخذوها هزوا ويقال ذلك لمن كفر بها ويقال ذلك لمن اطرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية
وآيات الله دلائله وأمره ونهيه). [معاني القرآن: 1/210-212]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فلا تعضلوهنّ...}
يقول: فلا تضيّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها، وكانت هذه أخت معقل، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعدما انقضت عدّتها فقال معقل لها: وجهي من وجهك حرام إن راجعته، فأنزل الله عز وجل: {فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ}.
وقوله: {ذلك يوعظ به} ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم "بذلك" لأنه حرف قد كثر في الكلام حتى توهّم بالكاف أنها (من الحرف) وليست بخطاب.
ومن قال "ذلك" جعل الكاف منصوبة وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة.
ومن قال "ذلكم" أسقط التوهّم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلك الرجل، وذلك الرجلان، وأولئك الرجال. [و] يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول في سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج المخاطب في الاثنين والجميع والمؤنّث؛ كقولك للمرأة: غلامك فعل ذلك؛ لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها في الغلام؛ لأن الكاف ههنا لا يتوهّم أنها من الغلام. ويجوز أن تقول: غلامك فعل ذاك وذاك، على ما فسّرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم).
[معاني القرآن: 1/148-149]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فبلغن أجلهنّ}: منتهى كل قرءٍ أو شهر، فإذا فبلغن أجلهن {فلا تعضلوهنّ}في هذا الموضع: منتهى العدّة الوقت الذي وقّت الله؛ ثم قال: {تراضوا بينهم بالمعروف} أي تزويجاً صحيحاً؛ {لا تعضلوهنّ} أي لا تحبسوهن، ونرى أن أصله من التعضيل). [مجاز القرآن: 1/75]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر ذالكم أزكى لكم وأطهر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون}
قال: {فلا تعضلوهنّ} ينهى أزواجهن أن يمنعوهن من الأزواج.
وقال: {ذلك يوعظ به} و{ذالكم أزكى لكم وأطهر} لأنه خاطب رجالا،
وقال في موضع آخر "ذلكنّ الذي لمتنّني فيه" لأنه خاطب نساء، ولو ترك "ذلك " ولم يلحق فيها أسماء الذين خاطب كان جائزا. وقال: {من يأت منكنّ بفاحشةٍ مّبيّنةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيراً} ولم يقل {ذلكنّ}
وقال: {فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}.
وقال في المجادلة {ذلك خيرٌ لّكم وأطهر} وليس بأبعد من قوله: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} فخاطب ثم حدّث عن غائب لأن الغائب هو الشاهد في ذا المكان.
وقال: {هل أنبّئكم بشرٍّ مّن ذلك مثوبةً}).
[معاني القرآن: 1/142-143]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({فلا تعضلوهن} أي: تمنعوهن من التزويج). [غريب القرآن وتفسيره: 94]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ} أي: لا تحبسوهن. يقال: عضل الرجل أيّمه، إذا منعها من التزويج. {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} يعني: تزويجا صحيحا). [تفسير غريب القرآن: 88]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون}
{فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ}
هذا مخاطبة للأولياء، وفي هذا دليل أن أمر الأولياء بين.
لأنّ المطلّقة التي تراجع إنما هي مالكة بضعها إلا أن الولي لا بد منه، ومعنى {تعضلوهنّ}: تمنعوهنّ وتحبسوهنّ، من أن ينكحن أزواجهنّ.
والأصل في هذا: فيما روي أن معقل بن يسار طلق أخته زوجها، فأبى معقل بن يسار أن يزوجها إيّاه، ومنعها بحقّ الولاية من ذلك، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقل: رغم أنفي لأمر اللّه.
وأصل العضل من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي معضل، إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج، ويقال عضلت الناقة أيضا، فهي معضل إذا احتبس ما في بطنها...
وقوله عزّ وجلّ: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر}أي: بأمر الله الذي تلا عليكم، {يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر}، أي: من صدق بأمر اللّه ووعيده والبعث وأطاع اللّه في هذه الحدود.
وقال {ذلك يوعظ به} وهو يخاطب جميعا، وقد شرحنا القول فيه فيما تقدم.
وقال بعض أهل اللغة: إنه توهّم أنّ ذا مع المعارف كلمة واحدة.
ولا أدري - من غير قائل هذا - بهذا التوهم. الله خاطب العرب بما يعقلونه وخاطبهم بأفصح اللغات، وليس في القرآن توهم، تعالى اللّه - عن هذا، وإنما حقيقة ذلك وذلكم مخاطبة الجميع، فالجميع لفظه لفظ واحد، فالمعنى ذلك أيها القبيل يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه، وقوله عزّ وجلّ بعد هذا.
{ذلكم أزكى لكم وأطهر}
يدل على أنّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة.
ومعنى {واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم). [معاني القرآن: 1/310-311]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}
روى سماك بن حرب عن ابن أخي معقل عن معقل بن سنان أو يسار وقال لي الطحاوي وهو معقل بن سنان أن أخته كانت عند رجل فطلقها ثم أراد أن يرجعها فأبى عليه معقل فنزلت هذه الآية: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف}.
قال أبو جعفر: ومعنى لا تعضلوهن في اللغة لا تحسبوهن.
وحكى الخليل دجاجة معضل، أي: قد احتبس بيضها .
وقد قيل في معنى هذه الآية أن انهي للأزواج لأن المخاطبة لهم مثل قوله: {ولا تمسكوهن ضرارا}
وقد يجوز أن يكون:للأولياء وخوطبوا بهذا لأنهم ممن يقع لهم هذا وقد تقدم أيضا نهي الأزواج.
والأجود: أن يكون لهما جميعا ويكون الخطاب عاما أي يا أيها الناس إذا طلقتم النساء فلا تعضلوهن.
قال أبو جعفر: وحقيقة فلا تعضلوهن فلا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء في مراجعة أزواجهن.
وتقول عضل يعضل وعضل يعضل ومنه الداء العضال الذي لا يطاق علاجه لضيقه عن العلاج
ومعنى والله يعلم أي ما لكم فيه الصلاح). [معاني القرآن: 1/212-214]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تعضلوهن} أي: تحبسوهن عن التزويج). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 41]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تَعْضُلُوهُـــنَّ}: تمنعوهـــن). [العمدة في غريب القرآن: 91]


رد مع اقتباس
  #24  
قديم 26 ذو الحجة 1431هـ/2-12-2010م, 09:11 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 233 إلى 245]

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}

تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {الرّضاعة...}
القرّاء تقرأ بفتح الراء.
وزعم الكسائيّ أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر.
فإن كانت فهي بمنزلة الوكالة والوكالة، والدّلالة والدّلالة، ومهرت الشيء مهارة ومهارة؛ والرّضاع والرّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحصاد والحصاد).
[معاني القرآن: 1/149]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {لا تضارّ والدةٌ بولدها} يريد: لا تضارّر، وهو في موضع جزم. والكسر فيه جائز "لا تضارّ والدة" ولا يجوز رفع الراء على نيّة الجزم، ولكن نرفعه على الخبر.
وأمّا قوله: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا} فقد يجوز أن يكون: رفعا على نيّة الجزم؛ لأن الراء الأوّلى مرفوعة في الأصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز {لا تضارّ} بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهي مفتوحة، وإن كانت تفاعل فهي مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون في معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطّاب "ولا يضار كاتب ولا شهيد".

ومعنى {لا تضارّ والدةٌ بولدها} يقول: لا ينزعنّ ولدها منها وهي صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها.
{ولا مولودٌ لّه بولده}
يعني الزوج. يقول: إذا أرضعت صبيّها وألفها وعرفها فلا تضارّنّ الزوج في دفع ولده إليه).
[معاني القرآن: 1/149-150]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {لا تضارّ والدةٌ بولدها} رفعٌ، خبر، ومن قال: {لا تضارّ} بالنصب؛ فإنما أراد {لا تضارر}، نهىٌ). [مجاز القرآن: 1/75]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف لا تكلّف نفسٌ إلاّ وسعها لا تضارّ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ لّه بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ مّنهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما وإن أردتّم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم مّا آتيتم بالمعروف واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ}
قال: {حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة} لأنه يقول: "بيني وبينك رضاعةٌ" و"رضاعٌ" وتقول: "اللّؤم والرّضاعة" وهي في كل شيء مفتوحة.
وبعض بني تميم يكسرها إذا كانت في الارتضاع يقول "الرّضاعة".

وقال: {لا تكلّف نفسٌ إلاّ وسعها لا تضارّ والدةٌ} رفع على الخبر يقول: "هكذا في الحكم أنه لا تضارّ والدةٌ بولدها" يقول: "ينبغي" فلما حذف "ينبغي" وصار "تضارّ" في موضعه صار على لفظه. ومثله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً} فخبر {والّذين يتوفّون}{يتربّصن} بعد موتهم" ولم يذكر "بعد موتهم" كما يحذف بعض الكلام يقول: "ينبغي لهنّ أن يتربّصن" فلما حذف "ينبغي" وقع "يتربّصن" موقعه. قال الشاعر:
على الحكم المأتيّ يوماً إذا قضى = قضيّته أن لا يجور ويقصد
فرفع "ويقصد" على قوله: "وينبغي". ومن جعل {لا تضارّ} على النهي قال: {لا تضارّ} على النصب وهذا في لغة من لم يضعف فأما من ضعف فإنه يقول {لا تضارر} إذا أراد النهي لأن لام الفعل ساكنة إذا قلت "لا تفاعل" وأنت تنهي. إلا أن "تضار" ههنا غير مضعفة لأن ليس في الكتاب إلا راء واحدة). [معاني القرآن: 1/143-144]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف} أي: على الزوج إطعام المرأة والوليد، والكسوة على قدر الجدة.
{لا تكلّف نفسٌ إلّا وسعها} أي: طاقتها.
{لا تضارّ والدةٌ بولدها} بمعنى: لا تضارر. ثم أدغم الراء في الراء. أي: لا ينزع الرجل ولدها منها فيدفعه إلى مرضع أخرى، وهي صحيحة لها لبن.
{ولا مولودٌ له بولده}يعني: الأب. يقال: إذا أرضعت المرأة صبيها وألفها، دفعته إلى أبيه: تضارّه بذلك.
{وعلى الوارث مثل ذلك} يقول: إذا لم يكن للصبي أب، فعلى وارثه نفقته.
و(الفصال): الفطام. يقال: فصلت الصبيّ، إذا فطمته. ومنه قيل للحوار - إذا قطع عن الرضاع -: فصيل. لأنه فصل عن أمه.
وأصل الفصل: التفريق).
[تفسير غريب القرآن: 89]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف لا تكلّف نفس إلّا وسعها لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بما تعملون بصير}
اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر كما تقول: حسبك درهم فلفظه لفظ الخبر، ومعناه اكتف بدرهم، وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات يقال أرضعت المرأة فهي مرضعة،
(قولهم) امرأة مرضع بغير هاء، معناه ذات إرضاع، فإذا أردتم اسم الفاعل على أرضعت قلت مرضعة لا غير.

ويقال: رضع المولود يرضع، ورضع يرضع، والأولى أكثر وأوضح.
ويقال: الرضاعة والرضاعة - بالفتح والكسر - والفتح أكثر الكلام وأصحه، وعليه القراءة {لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة}.
وروى أبو الحسن الأخفش أن بعض بني تميم تقول الرضاعة بكسر الراء،
وروى الكسر أيضا غيره، ويقال: الرّضاع والرضاع
ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح لا غير ههنا.

ويقال: ما حمله عليه إلا اللؤم والرضع مثل. الحلف والرضع، يقالان جميعا.
ومعنى {حولين كاملين}: أربعة وعشرون شهرا، من يوم يولد إلى يوم يفطم، وإنما قيل: {كاملين} لأن القائل يقول: قد مضى لذلك عامان وسنتان فيجيز أن السنتين قد مضتا، ويكون أن تبقى منهما بقية، إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم فإذا قال: {كاملين} لم يجز أن تنقصا شيئا،
وتقرأ (لمن أراد أن تتم الرضاعة) و {لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة} وهذا هو الحقّ في الرضاعة إلا أن يتراضيا - أعني الوالدين - في الفطام بدون الحولين ويشاورا في ذلك.

ومعنى {وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ} أي: على الزوج رزق المرأة المطلقة إذا أرضعت الولد وعليه الكسوة.
ومعنى {بالمعروف} أي: بما يعرفون أنه العدل على قدر الإمكان.
ومعنى {لا تكلّف نفس إلّا وسعها}أي: لا تكلف إلا قدر إمكانها.
وقوله عزّ وجلّ: {لا تضارّ والدة بولدها}قرئت على ضربين:
1- لا تضارّ والدة برفع الراء على معنى: لا تكلف نفس، على الخبر الذي فيه معنى الأمر،
2- ومن قرأ: {لا تضارّ والدة} بفتح الراء، فالموضع موضع جزم على النهي.

الأصل: لا تضارر، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء السّاكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إذا كان قبله فتح أو ألف الاختيار عضّ يا رجل، وضارّ زيدا يا رجل، ويجوز: لا تضار والدة بالكسر، ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا تقرأنّ بها، وإنما جاز الكسر لالتقاء السّاكنين لأنه الأصل في تحريك أحد السّاكنين.
ومعنى {لا تضارّ والدة بولدها}: لا تترك إرضاع ولدها غيظا على أبيه فتضرّ به لأن الوالدة، أشفق على ولدها من الأجنبية.
{ولا مولود له بولده}أي: لا يأخذه من أمه للإضرار بها فيضر بولده.
{وعلى الوارث مثل ذلك} أي: عليه ترك الإضرار.
وقوله عزّ وجلّ: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور}أي: فطاما وتراضيا بذلك بعد أن تشاورا وعلما أن ذلك غير مدخل على الولد ضررا.
{فلا جناح عليهما} أي: فلا إثم عليهما في الفصال على ما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم}معناه: تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة، فلا إثم عليكم.
{فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} قيل فيه: إذا سلمتم الأمر إلى المسترضعة وقيل إذا أسلمتم ما أعطاه بعضكم لبعض من التراضي في ذلك). [معاني القرآن: 1/311-314]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}
لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر لما فيه من الإلزام
وروى ابن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن بعجة الجهني قال: تزوج رجل امرأة فولدت لستة أشهر فأتى عثمان بن عفان فذكر ذلك له فأمر برجمها فأتاه علي رضي الله عنه وقال إن الله يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال {وفصاله في عامين}.
وقال ابن عباس: فإذا ذهبت رضاعته فإنما الحمل في ستة أشهر.
والفائدة في {كاملين}: أن المعنى كاملين للرضاعة.
كما قال تعالى: {تلك عشرة كاملة} أي: من الهدي.
وقال تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} لأنه قد كان يجوز أن يأتي بعد هذا شيء آخر أو تكون العشرة ساعات.
ثم قال تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} أي: ذلك وقت لتمام الرضاعة وليس بعد تمام الرضاعة رضاع). [معاني القرآن: 1/214-216]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وعلى المولود له} أي: على الأب الذي ولد له {رزقهن وكسوتهن} أي: رزق الأمهات وكسوتهن {بالمعروف} أي: لا تقصير في النفقة والكسوة ولا شطط). [معاني القرآن: 1/216]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {لا تضار والدة بولدها} على النهي
وقرا أبان عن عاصم {لا تضارر والدة} بكسر الراء الأولى.
وقيل المعنى: لا تدع رضاع ولدها لتضربه غيظا على أبيه.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {لا تضار والدة} بالرفع على الخبر الذي فيه معنى الإلزام.
وروى يونس عن الحسن قال: يقول لا تضار زوجها فتقول لا أرضعه ولا يضارها فينزعه منها وهي تقول أنا أرضعه.
ثم قال تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}
روى مجاهد عن ابن عباس قال: {وعلى الوارث} أن لا يضار.
وكذلك روي عن الشعبي والضحاك.
وروي عن عمر والحسين بن صالح وابن شبرمة وعلى الوارث مثل ذلك أي الكسوة والرضاع.
وروي عن الضحاك الوارث الصبي فإن لم يكن له مال فعلى عصبته وإلا أجبرت المرأة على رضاعه.
قال أبو جعفر: وزعم محمد بن جرير الطبري أن أولى الأقوال بالصواب قول قبيصة بن ذؤيب ومن قال بقوله أنه يراد بالوارث المولود وأن يكون مثل ذلك معنى مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف وإن كانت من أهل الحاجة وهي ذات زمانة ولا احتراف لها ولا زوج وإن كانت من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان على والده لها من أجر الرضاعة ولا يكون غير هذا إلا بحجة واضحة لأن الظاهر كذا
قال أبو جعفر: والقول الأول أبين لأن الأب هو المذكور بالنفقة في المواضع كما قال: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن} وكذا تجب عليه النفقة على ولده ما دام صغيرا كما تجب عليه ما دام رضيعا
ثم قال أبو حنيفة وأصحابه: {وعلى الوارث مثل ذلك} أي: الرضاع والكسوة والرزق إذا كان ذا رحم محرمة وليس ذلك في القرآن). [معاني القرآن: 1/217-220]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور}
قال مجاهد وقتادة: أي فطاما دون الحولين.
قال أبو جعفر: وأصل الفصال في اللغة التفريق والمعنى عن تراض من الأبوين ومشاورة ليكون ذلك عن غير إضرار منهما بالولد.
ثم قال: {فلا جناح عليهما} أي: فلا إثم). [معاني القرآن: 1/220-221]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} أي: تسترضعوهم قوما
قال أبو إسحاق: أي: لأولادكم غير الوالدة.
{فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم} أي: سلمتم ما أعطيتم من ترك الإضرار.
وقال مجاهد: إذا سلمتم حساب ما أرضع به الصبي). [معاني القرآن: 1/221-222]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({وسعها} طاقتها.
(والفصال) الفطام). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 41]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن...}
يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغي أن يكون الخبر عن (الذين)؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك؛ لأن المعنى - والله أعلم - إنما أريد به: ومن مات عنها زوجها تربصت. فترك الأوّل بلا خبر،
وقصد الثاني؛ لأن فيه الخبر والمعنى.
قال: وأنشدني بعضهم:

بني أسد إنّ ابن قيس وقتله * بغير دم دار المذلّة حلّت
فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذلّ. ومثله:
لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة * على ابن أبي ذبّان أن يتندّما
فقال: لعلّي ثم قال: أن يتندما؛ لأن المعنى: لعلّ ابن أبي ذبّان أن يتندّم إن مالت بي الريح. ومثله قوله: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصيّةً لأزواجهم} إلا أن الهاء من قوله: {وصيّة لأزواجهم} رجعت على {الذين} فكان الإعراب فيها أبين؛ لأن العائد من الذّكر قد يكون خبرا؛ كقولك: عبد الله ضربته.
وقال: {وعشراً} ولم يقل: "عشرة" وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلّبوا عليه الليالي حتى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام.
فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدّكران بالهاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوما} فأدخل الهاء في الأيام حين ظهرت، ولم تدخل في الليالي حين ظهرن. وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلّبت الليالي أيضا على الأيّام. فإن اختلطا فكانت ليالي وأيام غلّبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد: أيام فيها برد شديد. وأمّا المختلط فقول الشاعر:

أقامت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضيف وتجارا
فقال: ثلاثا وفيها أيام.
وأنت تقول: عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث؛ لأن الليالي من الأيام تغلب الأيام.
ومثل ذلك في الكلام أن تقول:
عندي عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر.
وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندي عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسّر من النوعين قبل صاحبة أجريت العدد فقلت: عندي خمس عشرة ناقة وجملا، فأنّثت لأنك بدأت بالناقة فغلّبتها. وإن بدأت بالجمل قلت: عندي خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسّرة غلّبت التأنيث، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة؛ فقلت: عندي خمس عشرة بين جمل وناقة.
ولا يجوز أن تقول: عندي خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلاّ بالتذكير؛ لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكّر لهذه الهاء التي لزمت المذكّر والمؤنّث.

وقوله: {من خطبة النّساء} الخطبة مصدر بمنزلة الخطب، وهو مثل قولك: إنه لحسن القعدة والجلسة؛ يريد القعود والجلوس، والخطبة مثل الرسالة التي لها أوّل وآخر، قال: سمعت بعض العرب [يقول]: اللهم ارفع عنا هذه الضغطة، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخرا، ولو أراد مرّة لقال: الضغطة، ولو أراد الفعل لقال الضغطة؛ كما قال المشية.
وسمعت آخر يقول: غلبني [فلان] على قطعةٍ لي من أرضي؛ يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شيء [قطع منه] قلت: قطعة.

وقوله: {أو أكننتم} للعرب في أكننت الشيء إذا سترته لغتان: كننته وأكننته، قال: وأنشدوني قول الشاعر:
ثلاثٌ من ثلاث قدامياتٍ * من اللاتي تكنّ من الصقيع
وبعضهم [يرويه] تكنّ من أكننت. وأمّا قوله: "لؤلؤ مكنون" و"بيض مكنون" فكأنه مذهب للشيء يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى). [معاني القرآن: 1/150-153]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فإذا بلغن أجلهنّ} أي: منتهى العدة.
{فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف} أي: لا جناح عليهن في التزويج الصحيح). [تفسير غريب القرآن: 89]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف واللّه بما تعملون خبير}
هذا للمتوفى عنها زوجها، عليها أن تنتظر بعد وفاته إذا كانت غير ذات حمل أربعة أشهر وعشرا لا تتزوج فيهن ولا تستعمل الزينة.
وقال النحويون في خبر (الذين) غير قول:
1- قال أبو الحسن الأخفش المعني يتربصن بعدهم أو بعد موتهم،
2- وقال غيره من البصريين أزواجهم يتربصن، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلا عليه، وهذا إطباق البصريين وهو صواب.

3- وقال الكوفيون: وهذا القول قول الفراء وهو مذهبه أنّ الأسماء إذا كانت مضافة إلى شيء، وكان الاعتماد في الخبر الثاني، أخبر عن الثاني وترك " الإخبار عن الأول، وأغنى الإخبار عن الثاني عن الإخبار عن الأول.
قالوا: فالمعنى: وأزواج الذين يتوفون يتربصن.
وأنشد الفراء:
لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة... على ابن أبي ذبّان أن يتقدما
المعنى: لعل ابن أبي ذبّان أن يتقدم إليّ مالت بي الريح ميلة عليه.
وهذا القول غير جائز. لا يجوز أن يبدأ اسم ولا يحدّث عنه لأن الكلام إنما وضع للفائدة، فما لا يفيد فليس بصحيح، وهو أيضا من قولهم محال، لأن الاسم إنما يرفعه اسم إذا ابتدئ مثله أو ذكر عائد عليه، فهذا على قولهم باطل، لأنه لم يأت اسم يرفعه ولا ذكر عائد عليه.
والذي هو الحق في هذه المسألة عندي أن ذكر (الذين) قد جرى ابتداء وذكر الأزواج قد جرى متصلا بصلة الذين، فصار الضمير الذي في (يتربّصن) يعود على الأزواج مضافات إلى الّذين.. كأنك قلت: يتربّص أزواجهم، ومثل هذا من الكلام قولك الذي يموت ويخلف ابنتين ترثان الثلثين، المعنى ترث ابنتاه الثلثين.
ومعنى قوله عزّ وجلّ: {وعشرا} يدخل فيها الأيام.
زعم سيبويه أنك إذا قلت " لخمس بقين " فقد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي، وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلّب في هذا الباب.
وحكى الفرّاء صمنا عشرا من شهر رمضان، فالصوم إنّما يكون في الأيّام ولكن التأنيث مغلّب في الليالي - لإجماع أهل اللغة " سرنا خمسا بين يوم وليلة "
أنشد سيبوبه:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة... يكون النكير أن تصيح وتجأرا
قال سيبوبه: هذا باب المؤنث الذي استعمل للتأنيث والتذكير، والتأنيث أصله، قال تقول: عندي ثلاث بطات ذكور وثلاث من الإبل ذكور، قال لأنك تقول: هذه إبل، وكذلك ثلاث من الغنم ذكور.
(قال) فإن قلت عندي ثلاثة ذكور من الإبل لم يكن إلا التّذكير، لأنك إنما ذكرت ذكورا ثم جئت تقول من الإبل بعد أن مضى - الكلام على التذكير، وليس بين النحويين البصريين والكوفيين خلاف في الذي ذكرنا من باب تأنيث هذه الأشياء فإن قلت عندي خمسة بين رجل وامرأة غلبت التذكير لا غير.
وقوله عزّ وجلّ: {فإذا بلغن أجلهنّ} أي: غاية هذه الأشهر والعشر.
{فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف}أي: لا جناح عليكم في أن تتركوهن - إذا انقضت هذه المدة – أن يتزوجن، وأن يتزين زينة لا ينكر مثلها.
وهذا معنى {بالمعروف} ). [معاني القرآن: 1/314-317]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا}
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ {والذين يتوفون منكم} بفتح الياء فيهما جميعا ومعناه يتوفون أعمارهم أي يستوفونها والله أعلم). [معاني القرآن: 1/222]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}
العشر: عدد الليالي إلا أنه قد علم أن مع كل ليلة يومها.
قال محمد بن يزيد: المعنى وعشر مدد وتلك المدة يوم وليلة.
وقيل إنما جعلت العدة للمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا لأنه يتبين حملها إن كانت حاملا.
قال الأصمعي: ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض.
وقال غيره: أركضت فهي مركض وأنشد:

ومركضة صريحي أبوها = تهان له الغلامة والغلام). [معاني القرآن: 1/222-223]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن}
قال الضحاك: أجلهن انقضاء العدة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} قال: النكاح الحلال الطيب). [معاني القرآن: 1/223-224]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولكن لاّ تواعدوهنّ سرّاً} يقول: لا يصفنّ أحدكم نفسه في عدّتها بالرغبة في النكاح والإكثار منه.
حدّثنا محمد بن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني حبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: السرّ في هذا الموضع النكاح.
وأنشد عنه بيت امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألاّ يشهد السرّ أمثالي
قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى الله عنه قال: "أو جاء احد منكم من الغائط"). [معاني القرآن: 1/153]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} أي: في عدّتهن أن تقول: إني أريد أن أتزوجك وإن قضى شيء كان.
{لا تواعدوهنّ سرّاً} السّر: الإفضاء بالنكاح، قال الحطيئة:
ويحرم سرّ جارتهم عليهم... ويأكل جارهم أنف القصاع
أي: ما استأنفت؛ وقال رؤبة بن العجّاج:
فعفّ عن إسرارها بعد العسق
يعني: غشيانها، أراد الجماع. قال امرؤ القيس بن حجر الكنديّ:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني... كبرت وألاّ يحسن السرّ أمثالي). [مجاز القرآن: 1/75-76]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لاّ تواعدوهنّ سرّاً إلاّ أن تقولوا قولاً مّعروفاً ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ}
قال: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} فـ"الخطبة" الذكر، و"الخطبة": التشهّد.
وقال: {ولكن لاّ تواعدوهنّ سرّاً} لأنه لما قال: {لا جناح عليكم} كأنه قال: "تذكرون {ولكن لاّ تواعدوهنّ سرّاً إلاّ أن تقولوا} استثناء خارج على "ولكن"). [معاني القرآن: 1/144-145]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({لا تواعدهن سرا}: ذكر الفقهاء أنه كناية عن الفجور). [غريب القرآن وتفسيره: 94]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} وهو: أن يعرّض للمرأة في عدتها بتزويجه لها، من غير تصريح بذلك. فيقول لها: واللّه إنك لجميلة، وإنك لشابّة. وإن النساء لمن حاجتي، ولعل اللّه أن يسوق إليك خيرا. هذا وما أشبهه.
{ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} أي: نكاحا.
يقول: لا تواعدوهن بالتزويج - وهن في العدة - تصريحا بذلك.
{إلّا أن تقولوا قولًا معروفاً}
: لا تذكرون فيه نكاحا ولا رفثا.

{ولا تعزموا عقدة النّكاح} أي: لا تواقعوا عقدة النكاح {حتّى يبلغ الكتاب أجله}، يريد: حتى تنقضي العدة التي كتب على المرأة أن تعتدّها. أي فرض عليها.
{واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} أي: يعلم ما تحتالون به في ذلك على مخالفة ما أراد، فاحذروه). [تفسير غريب القرآن: 89-90]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ : {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرّا إلّا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفور حليم} المعنى: أنه لا جناح على الرجل أن يعرّض للمرأة التي هي في عدّة بالتزويج. والتعريض أن يقول إني فيك لراغب.
وإن قضى الله أمرا كان، وما أشبه هذا من القول.
ولا يجوز أن: يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من عدتها، ومعنى خطبة كمعنى خطب، أما خطبة فهو ماله أول وآخر نحو الرسالة، وحكي عن بعض العرب " اللهم ارفع عنا هذه الضغطة " فالضغطة ضغط له أول وآخر متصل.
ومعنى{أو أكننتم في أنفسكم}: يقال في كل شيء تستره أكننته وكننته، وأكننته فيما يستره أكثر، وما صنته تقول فيه كننته فهو مكنون.
قال اللّه عزّ وجلّ: {كأنّهنّ بيض مكنون} أي: مصون، وكل واحدة منهما قريبة من الأخرى.
وقوله عزّ وجلّ: {ولكن لا تواعدوهنّ سرّا}.
قال أبو عبيدة: السّر الإفصاح بالنكاح وأنشد:
ويحرم سرّ جارتهم عليهم... ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال غيره: كأن السّر كناية عن الجماع - كما أن الغائط كناية عن الموضع وهذا القول عندي صحيح.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعزموا عقدة النّكاح} معناه: لا تعزموا على عقد النكاح، وحذف " على " استخفافا كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه على الظهر والبطن،
وقال سيبويه: إن الحذف في هذه الأشياء لا يقاس.

وقوله عزّ وجلّ: {حتّى يبلغ الكتاب أجله} فعناه: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله،
ويجوز أن يكون: الكتاب نفسه في معنى الفرض، فيكون المعنى حتى يبلغ الفرض أجله - كما قال: عزّ وجلّ: (كتب عليكم الصّيام) أي: فرض عليكم، وإنّما جاز أن يقع {كتب} في معنى فرض، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثبت، ومعنى هذا الفرض الذي يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها).
[معاني القرآن: 1/317-318]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء}
روى مجاهد عن ابن عباس قال: هو أن يقول أريد أن أتزوج وكره أن يقول لا تسبقيني بنفسك في العدة.
وقال القاسم بن محمد: هو أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك علي لكريمة وإني فيك لراغب وإن الله لسائق إليك خيرا ورزقا ونحو هذا من القول.
وقالت: سكينة بنت حنظلة وكانت تحت ابن عم لها فتوفي فدخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فسلم ثم قال: كيف أصبحت فقلت: بخير جعلك الله بخير فقال: أنا من قد علمت قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته من علي وحقي في الإسلام وشرفي في العرب قالت: فقلت له غفر الله لك يا أبا جعفر أنت رجل يؤخذ منك ويروى عنك تخطبني في عدتي قال: ما فعلت إنما أخبرتك بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية وتأيمت من أبي سلمة بن عبد الأسد وهو ابن عمها فلم يزل يذكر منزلته من الله حتى أثر الحصير في يده من شدة ما يعتمد عليه بيده فما كانت تلك خطبة.
ثم قال تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} قيل: من أمر النكاح.
ثم قال تعالى: {علم الله أنكم ستذكرونهن}
قال الحسن: أي في الخطبة.
وقال مجاهد: أي في نفسه.
ثم قال تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرا}
قال سعيد بن جبير: السر أن يعاقدها على أن لا تتزوج غيره.
وقال مجاهد: هو أن يقول لا تفوتيني بنفسك.
وقال أبو مجلز وإبراهيم والحسن هو الزنا
وقال أبو عبيدة هو الإفصاح في النكاح
قال محمد بن يزيد: قوم يجعلون السر زنا وقوم يجعلونه الغشيان وكلا القولين خطأ إنما هو الغشيان من غير وجهه قال الله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرا} فليس هذا موضع الزنا
قال أبو جعفر: الذي قال محمد بن يزيد من أن السر الغشيان من غير وجهه عند أهل اللغة كما قال إلا أن الأشبه في الآية ما قال سعيد بن جبير أن المعنى لا تواعدوهن نكاحا فسمي النكاح سرا لأن الغشيان يكون فيه وزعم محمد بن جرير أن أولى الأقوال بالصواب أن السر الزنا ولا يصح قول من قال السر أن يقول لها لا تسبقيني بنفسك لأنه قول علانية فإن أراد أن يقال سرا قيل له فهو إذا مطلق علانية وهذا لا يقوله أحد ولا يكون السر النكاح الصحيح لأنه لا يكون إلا بولي وشاهدين وهذا علانية
ومعنى {ستذكرونهن}: ستذكرون خطبتهن ولكن لا تواعدوهن سرا يقال لها قد ذكرتك في نفسي وقد صرت زوجتي فيغرها بذلك حتى يصل إلى جماعها زنا.
ثم قال تعالى: {إلا أن تقولوا قولا معروفا}
قال مجاهد: هو التعريض.
وقال سعيد بن جبير: أن يقول لها إني لأرجو أن نجتمع وإني إليك لمائل.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضي العدة.
والتقدير في اللغة: حتى يبلغ فرض الكتاب ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الفرض تمثيلا.
ثم قال تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}أي: يعلم ما تحتالون به). [معاني القرآن: 1/224-230]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا تواعدهن سرا} نكاحا في العدة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 41]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({سِــــرّاً}: الزنـا النكــاح). [العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت:207هـ): (قوله: {ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره...}
بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيّة، أي: ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره.
وهو مثل قول العرب: أخذت صدقاتهم، لكل أربعين شاةً شاة؛ ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.

وقوله: {متاعاً بالمعروف} منصوب خارجا من القدر؛ لأنه نكرة والقدر معرفة. وإن شئت كان خارجا من قوله "ومتّعوهنّ" متاعاً ومتعة.
فأمّا {حقّاً} فإنه نصب من نيّة الخبر لا أنه من نعت المتاع.
وهو كقولك في الكلام: عبد الله في الدار حقاً.
إنما نصب الحق من نيّة كلام المخبر؛ كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا؛ وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات؛ لأن الحق والباطل لا يكونان في أنفس الأسماء؛ إنما يأتي بالأخبار.
من ذلك أن تقول: لي عليك المال حقّا، وقبيح أن تقول: لي عليك المال الحق، أو: لي عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لي عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.

وكل ما كان في القرآن مما فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان في معنى الحق فوجه الكلام فيه النصب؛ مثل قوله "وعد الحق" و"وعد الصدق" ومثل قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقاً} هذا على تفسير الأوّل.
وأمّا قوله: {هنالك الولاية للّه الحقّ} فالنصب في الحقّ جائز؛ يريد حقّا، أي أخبركم أن ذلك حقّ.
وإن شئت خفضت الحقّ، تجعله من صفة الله تبارك وتعالى.
وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية.
وكذلك قوله: {وردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ} تجعله من صفة الله عز وجلّ. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نيّة الاستئناف كان صوابا؛ كما قال {الحقّ من ربّك
فلا تكوننّ من الممترين} وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقّا أي] قلت حقا، والحقّ، أي ذلك الحقّ.
وأمّا قوله في ص {قال فالحقّ والحقّ أقول} فإن الفرّاء قد رفعت الأوّل ونصبته.
وروي عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا تفسيره: الحقّ مني، وأقول الحق؛ فينصبان الثاني بـ "أقول". ونصبهما جميعا كثير منهم؛ فجعلوا الأوّل على معنى: والحقّ "لأملأنّ جهنّم" وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ} رفعه حمزة والكسائيّ، وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى، لأنها في حرف عبد الله " ذلك عيسى بن مريم قال اللّه" كقولك: كلمة الله، فيجعلون (قال) بمنزلة القول؛ كما قالوا: العاب والعيب. وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عيسى ابن مريم قولا حقّا).
[معاني القرآن: 1/153-155]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {المقتر} يقال: قد أقتر فلان، إذا كان كان مقّلاً، قال الشاعر:
ولا من ربيع المقترين رزئته... بذي علقٍ فاقنى حياءك واصبري). [مجاز القرآن: 1/76]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({وعلى المقتر قدره}: المقتر المقل). [غريب القرآن وتفسيره: 94]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({أو تفرضوا لهنّ فريضةً} يعني: المهر.
{ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} أي: أعطوهن متعة الطلاق على قدر الغنى والفقر). [تفسير غريب القرآن: 90]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقّا على المحسنين}
فقد أعلم الله في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لا إثم على من طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إثم على من طلق من تزوج بمهر، وأمر بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل بها فقال الله عزّ وجلّ: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.
و{قدره}، يقرآن جميعا، فقالوا إن التمتّع يكون بأشياء بأن تخدم المرأة وبأن تكسى، وبأن تعطى ما تنفقه، أيّ ذلك فعل يمتع، فذلك جائز له على قدر إمكانه.
وقوله عزّ وجلّ: {متاعا بالمعروف} أي: بما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان، ويجوز أن يكون نصب {متاعا بالمعروف}، على قوله: ومتعوهن متاعا، يجوز أن يكون: منصوبا على الخروج من قوله: على الموسع قدره متاعا أي ممتّعا متاعا.
وقوله عزّ وجلّ: {حقا على المحسنين}.
منصوب على حق ذلك عليهم حقا، كما يقال حققت عليه القضاء وأحققته، أي أوجبته). [معاني القرآن: 1/318-319]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن}
قال ابن عباس: الجماع.
{أو تفرضوا لهن فريضة} الفريضة ههنا المهر
قال أبو جعفر: وأصل الفرض الواجب كما قال كانت فريضة ما تقول قطيعتي ومنه فرض السلطان لفلان.
ثم قال تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره} وهو الغني {وعلى المقتر قدره} وهو الفقير.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك: وهذا معنى قولهم في المطلقة قبل الدخول بها ولم يفرض لها صداق لها المتعة واجبة.
وقال شريح: لا يقضى عليه لأنه قال {حقا على المحسنين}). [معاني القرآن: 1/230-231]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({الْمُقْتـــِرِ}: المقــل). [العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ...}
تماسّوهن وتمسّوهن واحد، وهو الجماع؛ المماسّة والمسّ.
وإنما قال {إلاّ أن يعفون} بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون في كل حال.
يقال: هنّ يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن؛ لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب "لن يعفوا" للقوم، و"لن يعفوا" للرجلين لأنهم زادوا للاثنين في الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلّت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدلّ على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا.
{أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح}
وهو الزوج).
[معاني القرآن: 1/155]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إلاّ أن يعفون} هن: يتركن، يهبن، عفوت لك عن كذا وكذا: تركته لك). [مجاز القرآن: 1/76]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم إلاّ أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ}
قال: {فنصف ما فرضتم}أي: فعليكم نصف ما فرضتم {إلاّ أن يعفون} وإن شئت نصبت {نصف ما فرضتم} على الأمر.
وقال: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}
وقال بعضهم (ولا تناسوا)، وكلٌّ صوابٌ.
وقال بعضهم {ولا تنسوا الفضل} فكسر الواو لاجتماع الساكنين كما قال: {اشتروا الضّلالة}).
[معاني القرآن: 1/145]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فنصف ما فرضتم}: من المهر، أي: فلهن نصف ذلك {إلّا أن يعفون} أي: يهبن، {أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح} يعني: الزوج.
وهذا في المرأة تطلّق من قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها المهر فلها نصف ما فرض لها، إلّا أن تهبه، أو يتمم لها الزوج الصداق كاملا.
وقد قيل: إن الذي بيده عقدة النكاح: الأب. يراد: إلّا أن يعفو النساء عما يجب لهن من نصف المهر، أو يعفو الأب عن ذلك، فيكون عفوه جائزا عن ابنته.
{وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} حضّهم اللّه على العفو). [تفسير غريب القرآن:90-91]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم إلّا أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصير}أي: فعليكم نصف ما فرضتم، ويجوز النصب - {فنصف ما فرضتم}.
المعنى: فأدّوا نصف ما فرضتم، ولا أعلم أحدا قرأ بها فإن لم تثبت بها رواية فلا تقرأنّ بها.
وقوله عزّ وجلّ: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النّكاح} المعنى: إلا أن يعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج أو الولي إذا كان أبا.
ومعنى عفو المرأة: - أن تعفو عن النصف المواجب لها من المهر فتتركه للزوج، أو يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل.
وموضع {أن يعفون} نصب بأن، إلا أن جماعة المؤنث في الفعل المضارع تستوي في الرفع والنصب، والجزم، وقد بيّنّا ذلك فيما سلف من الكتاب.
وقوله عزّ وجلّ: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}.
ظاهر هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساء، وهو محتمل أن يكون للفريقين لأن الخطاب إذا وقع على مذكرين ومؤنثين غلب التذكير لأن الأول أمكن.
والأجود في قوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} الضم.
ويجوز {ولا تنسوا الفضل بينكم} - وقد شرحنا العلة فيه). [معاني القرآن: 1/319-320]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}
فقال قوم لها المتعة مع ذلك كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وسعيد بن جبير:لكل مطلقة متعة.
وقال آخرون: لا متعة لها.
روي ذلك عن عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وعطاء والشعبي.
ثم قال تعالى: {إلا أن يعفون} قال الزهري والضحاك: المرأة إذا طلقت تدع النصف الذي جعل لها.
ثم قال تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}
حدثنا محمد بن إدريس بن أسود قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد قال حدثنا جرير وهو ابن حازم قال حدثنا عيسى بن عاصم عن شريح قال: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح، قال: قلت هو الولي قال لا بل الزوج
وكذلك قال جبير بن مطعم وسعيد بن جبير ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب.
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم: هو الولي يعنون الأب خاصة.
قال أبو جعفر: حديث علي إنما رواه عن شريح عيسى بن عاصم ورواه الجلة عن شريح من قوله منهم الشعبي وابن سيرين والنخعي.
وأصح ما روي فيه عن صحابي قول ابن عباس.
قرئ على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر أحمد بن الأزهر قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس إن الله رضي العفو وأمر به فإن عفت فذلك وإن عفا وليها الذي بيده عقدة النكاح وضنت جاز وإن أبت.
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه سياق الكلام واللغة أنه الولي وهو الذي يجوز أن يعقد النكاح على المرأة بغير أمرها كما قال {ولا تعزموا عقدة النكاح} وإنما بيد الزوج أن يطلق
فإن قيل بيده عقدة نكاح نفسه فذا لا يناسب الكلام الأول وقد جرى ذكر الزوج في قوله: {وقد فرضتم لهن فريضة} فلو كان للزوج لقيل أو تعفو وهذا أشبه بسياق الكلام وإن كان يجوز تحويل المخاطبة إلى الإخبار عن غائب
فأما اللغة فتوجب: إذا أعطي الصداق كاملا أن لا يقال له عاف ولكن يقال له واهب لأن العفو إنما هو ترك الشيء وإذهابه ومنه عفت الديار والعافية دروس البلاء وذهابه ومنه عفا الله عنك.
ثم قال جل وعز: {وأن تعفو أقرب للتقوى} قيل يعنى به:الأزواج وقيل يعني به الذي بيده عقدة النكاح والنساء جميعا
هذا قول ابن عباس وهو حسن لأنه يقل وأن تعفون فيكون للنساء وأن يعفو فيكون للذي بيده عقدة النكاح). [معاني القرآن: 1/231-237]

تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى...}
في قراءة عبد الله "وعلى الصلاة الوسطى" فلذلك آثرت القرّاء الخفض، ولو نصب على الحثّ عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا.
وهو كقولك في الكلام: عليك بقرابتك والأمّ، فخصّها بالبرّ).
[معاني القرآن: 1/156]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({قانتين}: مطيعين). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({الصّلاة الوسطى} صلاة العصر. لأنها بين صلاتين في النهار، وصلاتين في الليل.
{وقوموا للّه قانتين} أي: مطيعين. ويقال: قائمين. ويقال: ممسكين عن الكلام.
والقنوت يتصرف على وجوه قد بينتها في «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 91]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين}
قالوا: {الصلاة الوسطى} العصر - وهو أكثر الرواية، وقيل إنها الغداة وقيل إنها الظهر.
واللّه قد أمر بالمحافظة على جميع الصلوات إلا أن هذه الواو إذا جاءت مخصصة فهي دالة على الفضل للذي تخصصه كما قال: عز وجل: {من كان عدوّا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال} فذكرا مخصوصين لفضلهما على الملائكة، وقال يونس النحوي في قوله عزّ وجلّ: {فيهما فاكهة ونخل ورمّان} إنما خص النخل والرمان وقد ذكرت الفاكهة لفضلها على سائرها.
وقوله عزّ وجلّ: {وقوموا للّه قانتين}.
القانت المطيع والقانت - الذاكر اللّه، كما قال عزّ وجلّ: {أمّن هو قانت آناء اللّيل ساجدا وقائما} وقيل القانت العابد - وقالوا في قوله عزّ وجلّ: (وكانت من القانتين) أي: العابدين.
والمشهور في اللغة والاستعمال: أن القنوت الدعاء في القيام، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر اللّه، فالداعي إذا كان قائما خص بأن يقال له قانت،
لأنه ذاكر الله عزّ وجلّ وهو قائم على رجليه. فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله في حال القيام.
ويجوز أن: يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياما بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية). [معاني القرآن: 1/320-321]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم وقوله عز وجل: {حافظوا على الصلوات} قال مسروق: على وقتها.
{والصلاة الوسطى}
روى جابر بن زيد ومجاهد وأبو رجاء عن ابن عباس قال: هي صلاة الصبح.
وكذا روى عنه عكرمة إلا أنه زاد عنه يصلي بين سواد الليل وبياض النهار.
وقيل: لأنها بين صلاتين من صلاة الليل وصلاتين من صلاة النهار.
وروى قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن بن زيد بن ثابت قال: هي الظهر.
وفيها قول ثالث هو: أولاها.
حدثنا محمد بن جعفر ألا نباري قال حدثنا حاجب بن سليمان قال حدثنا محمد بن مصعب قال حدثنا أبو جزء عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله جل وعز: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} ((هي صلاة العصر))
وروى عبدة ويحيى بن الجزار وزر عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن العصر حتى كربت الشمس أن تغيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا واملأ بيوتهم نارا واملأ قبورهم نارا))
قال زر: قال علي: كنا نرى أنها صلاة الفجر.
وقيل لها الوسطى: لأنها بين صلاتين من صلاة الليل وصلاتين من صلاة النهار.
ثم قال تعالى: {وقوموا لله قانتين}
قال ابن عباس والشعبي: القنوت الطاعة.
وقال مجاهد: القنوت السكوت.
قال أبو جعفر: وهذان القولان يرجعان إلى شيء واحد لأن السكوت في الصلاة طاعة.
وحدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا عبد الله بن يحيى قال حدثنا يحيى أخبرنا يعلى هو ابن عتبة قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة فيكلم أحدنا صاحبه فيما بينه وبينه حتى نزلت هذه الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}فأمرنا بالسكوت.
وقيل: هو القنوت في الصبح وهو طول القيام.
وروى الجعفي عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد يعني الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل حرف في القرآن من القنوت فهو الطاعة)) ). [معاني القرآن: 1/237-242]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({قَانِتِيـــنَ}: طائعين قائمين). [العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فرجال}: واحدها: راجل، مثل قيام وقائم). [مجاز القرآن: 1/76]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علّمكم مّا لم تكونوا تعلمون}
قال: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} يقول: "صلّوا رجالاً أو صلّوا ركبانا"). [معاني القرآن: 1/145]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}: الرجال الرجالة واحدها راجل مثل قائم وقيام). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فإن خفتم} يريد: إن خفتم عدوا، {فرجالًا} أي: مشاة، جمع راجل، مثل قائم وقيام. {أو ركباناً} يقول: تصلي ما أمنت قائما، فإذا خفت صلّيت: راكبا، وماشيا. والخوف هاهنا بالتّيقن، لا بالظن). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (ومعنى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي: فصلوا ركبانا أو رجالا، ورجال جمع راجل ورجال، مثل صاحب وصحاب، أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قانتين أي عابدين موفّين الصّلاة حقها لخوف ينالكم، فصلوا رجالا أو ركبانا.
وقوله عزّ وجلّ: {فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي: فإذا أمنتم فقوموا قانتين مؤدّين للفرض). [معاني القرآن: 1/321]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}
روى أبو مالك عن ابن عباس أما رجالا فعلى أرجلكم إذا قاتلتم يصلي الرجل يومي برأسه أينما توجه.
وقال مجاهد: وكيف قدر). [معاني القرآن: 1/242]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَرِجَالاً}: رجالــة). [العمدة في غريب القرآن: 91]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت:207هـ): (وقوله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً...}
وهي في قراءة عبد الله: "كتب عليهم الوصية لأزواجهم" وفي قراءة أبيّ: "يتوفون منكم ويذرون أزواجا فمتاع لأزواجهم" فهذه حجّة لرفع الوصيّة.
وقد نصبها قوم منهم حمزة على إضمار فعل كأنه أمر؛ أي ليوصوا لأزواجهم وصيّة. ولا يكون نصبا في إيقاع "ويذرون" عليه.

{غير إخراجٍ} يقول: من غير أن تخرجوهن؛ ومثله في الكلام: أتيتك رغبة إليك.
ومثله: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوءٍٍ} لو ألقيت "من" لقلت: غير سوء. والسوء ههنا البرص.
حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء، قال حدثنا شريك عن يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: من غير برص.
قال الفراء كأنه قال: تخرج بيضاء غير برصاء).
[معاني القرآن: 1/156]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم مّتاعاً إلى الحول غير إخراجٍ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهنّ من مّعروفٍ واللّه عزيزٌ حكيمٌ}
قال: {وصيّةً لأزواجهم} كأنه [قال]: "لأزواجهم وصيّةٌ {مّتاعاً إلى الحول} ونصب {متاعاً} لأنه حين قال: {لأزواجهم}{وصيّةً} فكأنه قد قال: "فمتّعوهنّ" {متاعاً} فعلى هذا انتصب قوله: {مّتاعاً إلى الحول غير إخراجٍ} يقول "لا إخراجاً" أي: "متاعاً لا إخراجاً" أي: لا تخرجوهن إخراجاً. وزعموا أنها في حرف ابن مسعود {كتب عليكم وصيّةٌ لأزواجكم}). [معاني القرآن: 1/145-146]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): (وقال بعضهم {وصيّةٌ لأزواجهم}(240) فنصب على الأمر [ورفع] أي: عليكم وصيةٌ بذلك " [و] "أوصوا لهنّ وصيّةً"). [معاني القرآن: 1/146]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا وصيّة لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهنّ من معروف واللّه عزيز حكيم}
{وصيّة لأزواجهم} و {وصية لأزواجهم} يقرءان جميعا.
فمن نصب أراد فليوصوا وصية لأزواجهم.
ومن رفع فالمعنى فعليهم وصية لأزواجهم.
{متاعا إلى الحول غير إخراج}أي: متعوهنّ متاعا إلى الحول، ولا تخرجوهن، وهذا منسوخ بإجماع.
نسخه ما قبله وقد بيناه.
وقيل إنه نسخته آية المواريث وكلاهما - أعني ما أمر الله به من تربص أربعة أشهر وعشرا، وما جعل لهن من المواريث قد نسخه). [معاني القرآن: 1/321]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}
روى حبيب بن الشهيد عن ابن أبي ملكية عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان الآية التي في البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} لم أثبتها وقد نسختها الآية الأخرى قال يا ابن أخي لا أغير شيئا عن مكانه.
وروى حميد عن نافع عن زينب بنت أم سلمة كانت المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر سنة ثم تعطى بعرة فترمي بها فأنزل الله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} يعني لنسائهم وكان للمرأة أن تسكن في بيت زوجها سنة وإن شاءت خرجت فاعتدت في بيت أهلها أو سكنت في وصيتها إلى الحول ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر
وروى يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} فنسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله من الربع والثمن ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشر.
وفي حديث الفريعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((امكثي في منزلك حتى يبلغ الكتاب أجله)) ). [معاني القرآن: 1/242-244]

تفسير قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف}: كانوا إذا طّلقوا يمتعونها من المقنعة فما فوق ذلك؛ متعها وحمّمها، أي: أعطاها). [مجاز القرآن: 1/76]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ):
({وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقّاً على المتّقين}

قال: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقّاً} أي: أحقّ ذلك حقّاً). [معاني القرآن: 1/146]

تفسير قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يبيّن اللّه لكم آياته لعلّكم تعقلون}
آياته علاماته ودلالاته على ما فرض عليكم، أي: مثل هذا البيان يبين لكم ما هو فرض عليكم، وما فرض عليكم.
ومعنى {لعلّكم تعقلون}: معنى يحتاج إلى تفسير يبالغ فيه، لأن أهل اللغة والتفسير أخبروا في هذا بما هو ظاهر، وحقيقة هذا أن العاقل ههنا أهو، الذي يعمل بما افترض عليه، لأنه إن فهم الفرض ولم يعمل به فهو جاهل ليس بعاقل، وحقيقة العقل هو استعمال الأشياء المستقيمة متى علمت، ألا ترى إلى قوله عزّ وجلّ: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب}، لو كان هؤلاء جهالا غير مميزين ألبتّة لسقط عنهم التكليف، لأن الله لا يكلف من لا يميز، ويقال جهال وإن كانوا مميزين. لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق). [معاني القرآن: 1/321-322]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}أي: لعلكم تتجنبون ما ليس بمستقيم كان العاقل الذي يعقل نفسه عما ليس بمستقيم). [معاني القرآن: 1/244]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم} على جهة التعجب.
كما تقول: ألا ترى ما يصنع فلان!!). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثمّ أحياهم إنّ اللّه لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون}
معنى {ألم تر}: ألم تعلم، أي ألم ينته علمك إلى خبر هؤلاء وهذه الألف ألف التوقيف، و {تر} متروكة الهمزة، وأصله ألم ترء إلى الذين.
والعرب مجمعة على ترك الهمزة في هذا.

ونصب {حذر الموت} على أنه مفعول له والمعنى خرجوا لحذر الموت، فلما سقطت اللام نصب على أنه مفعول له وجاز أن يكون نصبه على المصدر، لأن خروجهم يدل على حذر الموت حذرا.
وقيل في تفسير الآية: إنهم كانوا ثمانية ألوف، أمروا في أيام بني إسرائيل إسرائيل أن يجاهدوا العدوّ، فاعتلوا بأن الموضع الذي ندبوا إليه ذو طاعون.
{فقال لهم اللّه موتوا} معناه: فأماتهم اللّه، ويقال إنهم أميتوا ثمانية أيام ثم أحيوا، وفي ذكر هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتجاج على مشركي العرب وعلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أنه أنبأ أهل الكتاب بما لا يدفعون صحته، وهو لم يقرأ كتابا - صلى الله عليه وسلم -.
فالذين تلا عليهم يعلمون إنّه لم يقرأ كتابا وأنه أمي، فلا يعلم هذه الأقاصيص إلا بوحي، إذ كانت لم تعلم من كتاب فعلم مشركو العرب أن كل من قرأ الكتب يصدقه - صلى الله عليه وسلم - في إخباره أنها كانت في كتبهم، ويعلم العرب الذين نشأ معهم مثل ذلك وأنه ما غاب غيبة يعلّم في مثلها أقاصيص الأمم وأخبارها على حقيقة وصحة، وفي هذه الآية أيضا معنى الحث على الجهاد وأن الموت لا يدفع بالهرب منه.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لذو فضل على النّاس} أي: تفضل على هؤلاء بأن أحياهم بعد موتهم فأراهم البصيرة التي لا غاية بعدها.
وقوله عزّ وجلّ: يعقب هذه الآية:
{وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أنّ اللّه سميع عليم}). [معاني القرآن: 1/322-323]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}
قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله فمر بهم نبي ودعا الله فأحياهم.
وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام.
قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.
وقال الضحاك: خرجوا فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم ثم أمرهم أن يرجعوا إلى الجهاد.
وذلك قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}
قال أبو جعفر: وفي رواية ابن جريج وهم ألوف أنهم أربعون ألفا وهذا أشبه لأن ألوفا للكثير وآلافا للقليل وإن كان يجوز في كل واحد منهما ما جاز في الآخر.
وأما قول ابن زيد {ألوف} مؤتلفة قلوبهم فليس بمعروف.
والقياس في جمع ألف: أألف كأفلس إلا أنهم يشبهون فعلا بفعل فيما كان في أوله ألف أو واو نحو وقت وأوقات
وكذلك الياء نحو يوم وأيام وقد قيل أألف). [معاني القرآن: 1/244-247]

تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أنّ اللّه سميع عليم} أي: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء الذين سمعتم خبرهم، فلا ينفعكم الهرب.
ومعنى قوله عزّ وجلّ مع ذكر القتال: {واعلموا أنّ اللّه سميع عليم} أي: إن قلتم كما قال الذين تقدم ذكرهم بعلة الهرب من الموت سمع قولكم وعلم ما تريدون). [معاني القرآن: 1/323-324]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}
قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله فمر بهم نبي ودعا الله فأحياهم.
وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام.
قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.
وقال الضحاك: خرجوا فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم ثم أمرهم أن يرجعوا إلى الجهاد.
وذلك قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}
قال أبو جعفر: وفي رواية ابن جريج وهم ألوف أنهم أربعون ألفا وهذا أشبه لأن ألوفا للكثير وآلافا للقليل وإن كان يجوز في كل واحد منهما ما جاز في الآخر.
وأما قول ابن زيد {ألوف} مؤتلفة قلوبهم فليس بمعروف.
والقياس في جمع ألف: أألف كأفلس إلا أنهم يشبهون فعلا بفعل فيما كان في أوله ألف أو واو نحو وقت وأوقات
وكذلك الياء نحو يوم وأيام وقد قيل أألف). [معاني القرآن: 1/244-247] (م)

تفسير قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {مّن ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له...}
تقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل الفاء منسوقة على صلة (الذي)، ومن نصب أخرجها من الصلة وجعلها جوابا لـ (من)؛ لأنها استفهام، والذي في الحديد مثلها). [معاني القرآن: 1/157]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({مّن ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً واللّه يقبض ويبسط وإليه ترجعون}
قال: {مّن ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له}
وقال بعضهم {فيضعّفه له}.
وتقرأ نصبا أيضاً إذا نويت بالأول الاسم لأنه لا يكون أن تعطف الفعل على الاسم، فأضمر في قوله: {فيضاعفه} "أن" حتى تكّون اسما فتجريه على الأوّل إذا نوى به الاسم.
والرفع لغة بني تميم لأنهم لا ينوون بالأول الاسم فيعطفون فعلا على فعل. وليس قوله: {يقرض اللّه} لحاجة بالله ولكن هذا كقول العرب: "لك عندي قرض صدقٍ" و"قرض سوءٍ" لأمر تأتي فيه مسرّته أو مساءته. قال الشاعر:

لا تخلطنّ خبيثاتٍ بطيّبةٍ = واخلع ثيابك منها وانج عريانا
كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسناً = أو سيّئاً أو مدينا مثل ما دانا
فـ"القرض": ما سلف من صالح أو من سيء). [معاني القرآن: 1/146]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة واللّه يقبض ويبسط وإليه ترجعون}
معنى القرض في اللغة: البلاء السيئ، والبلاء الحسن، والعرب تقول: لك عندي قرض حسن وقرض سيئ، وأصله ما يعطيه الرجل أو يعمله ليجازى عليه، واللّه عزّ وجلّ: لا يستقرض من عوز ولكنه يبلو الأخبار، فالقرض كما وصفنا، قال أمية بن أبي الصلت:
لا تخلطن خبيثات بطيبة... وأخلع ثيابك منها وانج عريانا
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا... أو سيئا أو مدينا كالذي دانا
وقال الشاعر:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
فمعنى القرض ما ذكرناه.
فأعلم اللّه أن ما يعمل وينفق يراد به الجزاء فاللّه يضاعفه أضعافا كثيرة.
والقراءة فيضاعفه، و(قرأوا): فيضاعفه، بالنّصب والرفع فمن رفع عطف على يقرض، ومن عطف نصب على جواب الاستفهام وقد بينا الجواب بالفاء - ولو كان قرضا ههنا مصدرا لكان إقراضا، ولكن قرضا ههنا اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء.
فأما قرضته أقرضه قرضا: فجاوزته، وأصل القرض في اللغة القطع.
والقراض من هذا أخذ، فإنما أقرضته قطعت له قطعة يجازى عليها.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه يقبض ويبسط}قيل في هذا غير قول:
1-
قال بعضهم: معناه يقتر ويوسع،
2- وقال بعضهم يسلب قوما ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين (وقيل معنى - يقبض) أي يقبض الصدقات ويخلفها، وإخلافها:
-جائز أن يكون ما يعطي من الثواب في الآخرة،
-وجائز أن يكون مع الثواب أن يخلفها في الدنيا).
[معاني القرآن: 1/324-325]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال جل وعز: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} أصل القرض: ما يفعل ليجازى عليه كما قال:
وإذا أجزيت قرضا فاجزه = إنما يجزي الفتى غير الجمل
ثم قال تعالى: {والله يقبض ويبسط} أي: يقتر ويوسع.
وقيل: يسلب قوما ما أنعم به عليهم ويوسع على آخرين.
وقيل: يقبض الصدقات ويخلفها بالثواب أو في الدنيا). [معاني القرآن: 1/248]


رد مع اقتباس
  #25  
قديم 26 ذو الحجة 1431هـ/2-12-2010م, 09:21 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي [الآيات من 246 إلى 252]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ابعث لنا ملكاً نّقاتل في سبيل اللّه...}
{نقاتل} مجزومة لا يجوز رفعها. فإن قرئت بالياء "يقاتل" جاز رفعها وجزمها. فأمّا الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأمّا الرفع فإن تجعل (يقاتل) صلة للملك؛ كأنك قلت: ابعث لنا الذي يقاتل.
فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم؛ تقول في الكلام: علّمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الذي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت "به" لم يكن إلا جزما؛ لأن الضمير لا يجوز في (انتفع)؛ ألا ترى أنك لا تقول: علّمني علما انتفعه.
فإن قلت: فهلاّ رفعت وأنت تريد إضمار (به)؟
قلت: لا يجوز إضمار حرفين، فلذلك لم يجز في قوله (نقاتل) إلا الجزم.
ومثله {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم} لا يجوز إلا الجزم لأن "يخل" لم يعد بذكر الأرض، ولو كان "أرضا تخل لكم" جاز الرفع والجزم؛ كما قال: {ربّنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم} وكما قال الله تبارك وتعالى: {خذ من أموالهم
صدقة تطهّرهم وتزكّيهم} ولو كان جزما كان صوابا؛ لأن في قراءة عبد الله "أنزل علينا مائدة من السماء تكن لنا عيدا" وفي قراءتنا بالواو "تكون".
ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن؛ وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يجزم ويرفع في آية،
والاسم الذي يكون الفعل صلة له في الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته؛ من ذلك: {فهب لي من لدنك وليّاً. يرثني} جزمه يحيى ابن وثّاب والأعمش -
ورفعه حمزة "يرثني" لهذه العلّة، وبعض القراء رفعه أيضا - لمّا كانت {وليا} رأس آية انقطع منها قوله {يرثني}، فحسن الجزم.
ومن ذلك قوله: {وابعث في المدائن حاشرين. يأتوك} على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة "الحاشرين" قلت: يأتوك.

فإذا كان الاسم الذي بعده فعل معرفةً يرجع بذكره، مما جاز في نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إليّ أخاك يصب خبرا، لم يكن إلا جزما؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} الهاء معرفة و"غدا" معرفة فليس فيه إلا الجزم، ومثل قوله: {قاتلوهم يعذّبهم الله} جزم لا غير.
ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعلٌ لها جاز فيه الرفع والجزم؛ مثل قوله: {فذروها تأكل في أرض الله} وقوله: {ذرهم يأكلوا} ولو كان رفعا لكان صوابا؛ كما قال تبارك وتعالى: {ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون} ولم يقل: يلعبوا. فأمّا رفعه فأن تجعل "يلعبون" في موضع نصب كأنك قلت في الكلام: ذرهم لاعبين.
وكذلك دعهم وخلّهم واتركهم.
وكلّ فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام؛ لأن الشرط يحسن فيه، ولأن الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك.
فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه محنة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: "ذرهم يأكلون ويتمتّعون ويلهيهم الأمل".

وفيه وجه آخر يحسن في الفعل الأوّل من ذلك: أوصه يأت زيدا، أو مره، أو أرسل إليه فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجدّدا.
وإنما يجزم على أنه شرط لأوّله. من ذلك قولك: مر عبد الله يذهب معنا؛ ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع في موضع (مر)، وقال الله تبارك وتعالى: {قل للّذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله} فـ "يغفروا" في موضع جزم، والتأويل - والله أعلم -: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للأمر فيه تأويل الحكاية.
ومثله: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فتجزمه بالشرط "قل"، وقال قوم: بنيّه الأمر في هذه الحروف: من القول والأمر والوصيّة. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل في وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.

فإن قلت: فقد قال الشاعر:
فلا تستطل منّي بقائي ومدّتي * ولكن يكن للخير فيك نصيب
قلت: هذا مجزوم بنيّة الأمر؛ لأن أوّل الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب. فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:
من كان لا يزعم أنى شاعر * فيدن مني تنهه المزاجر
فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضّمن (فيدن) لاما يجزم [بها]. وقال الآخر:
فقلت ادعي وأدع فإنّ أندى * لصوتٍ أن ينادي داعيان
أراد: ولأدع.
وفي قوله (وأدع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوّله على آخره. وهو مثل قول الله عزّ وجلّ: {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} والله أعلم. وأما قوله: {ذروني أقتل موسى وليدع ربّه} فليس تأويل جزاء، إنما هو أمر محض؛ لأن إلقاء الواو وردّه إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء)؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول ذروني أقتله يدع؛ كما حسن "اتّبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم"، والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر، وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود، وإنما يجيبونه بالفاء وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس وما وأخواتهن من الجحود.
فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل فتقول: لا تدعنّه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوّله؛ إذ كان في أوّله جحد وليس في آخره جحد، فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع؛ إذ كان أوّله كآخره؛ كما تقول في الأمر: دعه ينام، ودعه ينم؛ إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت في الفعل (لا) رفعت؛ لاختلافهما
أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك؛ كقول الله تبارك وتعالى: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا} [لمّا كان] أوّل الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت.
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلاّ نفسك}
وقوله: {يأيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم} رفع،
ومنه قوله: {فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه} ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز في قياس النحو.
وقد قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبساً لا تخف دركا ولا تخشى" بالجزاء المحض.

فإن قلت: فكيف أثبتت الياء في (تخشى)؟ قلت: في ذلك ثلاثة أوجه؛
1- إن شئت استأنفت "ولا تخشى" بعد الجزم،
2- وإن شئت جعلت (تخشى) في موضع جزم وإن كانت فيها الياء؛ لأن من العرب من يفعل ذلك؛ قال بعض بني عبس:

ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد
فأثبتت الياء في (يأتيك) وهي في موضع جزم؛ لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونا؛ كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:
قال لها من تحتها وما استوى * هزّي إليك الجذع يجنيك الجنى
وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم في الواو:
هجوت زبّان ثم جئت معتذرا * من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع
والوجه الثالث: أن يكون الياء صلة لفتحة الشين؛ كما قال امرؤ القيس:
* ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي *
فهذه الياء ليست بلام الفعل؛ هي صلة لكسرة اللام؛ كما توصل القوافي بإعراب رويّها؛ مثل قول الأعشى:
* بانت سعاد وأمسى حبلها انقطاعا *
وقول الآخر:
* أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلمي *
وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه (لا) على نيّة النهي وفيه معنىً من الجزاء؛ كما كان في قوله: {ولنحمل خطاياكم} طرف من الجزاء وهو أمر.
فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده} المعنى والله أعلم: إن؟ تدخلن حطّمتنّ، وهو نهي محض؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة؛ ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنّك إلا في ضرورة شعر؛ كقوله:

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم * ومهما تشأ منه فزارة تمنعا). [معاني القرآن: 1/157-162]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وما لنا ألاّ نقاتل...}
جاءت (أن) في موضع، وأسقطت من آخر؛ فقال في موضع آخر: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم}، وقال في موضع آخر: {وما لنا ألاّ نتوكّل على الله} فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربيّة التي لا علة فيها، والفعل في موضع نصب؛ كقول الله - عزّ وجل -: {فما للّذين كفروا قبلك مهطعين} وكقوله: {فما لكم في المنافقين فئتين} فهذا وجه الكلام في قولك: مالك؟ وما بالك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ كقول الشاعر:
* مالك ترغين ولا ترغو الخلف *
الخلفة: التي في بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مما ذهب إلى المعنى الذي يحتمل دخول (أن)؛ ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلي في الجماعة؟ بمعنى: ما يمنعك أن تصلي، فأدخلت (أن) في (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع والدليل على ذلك قول الله عزّ وجلّ: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وفي موضع آخر: {مالك ألاّ تكون مع الساجدين} وقصة إبليس واحدة، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا. ومثله ما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في اللفظ قول الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت * ألا هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم
فأدخل الباء في (هل) وهي استفهام، وإنما تدخل الباء في ما الجحد؛ كقولك: ما أنت بقائل. فلمّا كانت النيّة في (هل) يراد بها الجحد أدخلت لها الباء.
ومثله قوله في قراءة عبد الله "كيف يكون للمشركين عهدٌ": ليس للمشركين. وكذلك قول الشاعر:

فاذهب فأيّ فتىً في الناس أحرزه * من يومه ظلمٌ دعج ولا جبل
(رد عليه بلا) كأن معنى أي فتى في الناس أحرزه معناه: ليس يحرز الفتى من يومه ظلم دعج ولا جبل.
وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: أين كنت لتنجو مني! لأن المعنى: ما كنت لتنجو مني، فأدخل اللام في (أين) لأن معناها جحد: ما كنت لتنجو مني.
وقال الشاعر:

فهذي سيوف يا صديّ بن مالك * كثير ولكن أين بالسيف ضارب
أراد: ليس بالسيف ضارب، ولو لم يرد (ليس) لم يجز الكلمة؛ لأن الباء من صلة (ضارب) ولا تقدّم صلة اسم قبله؛ ألا ترى أنك لا تقول: ضربت بالجارية كفيلا، حتى تقول: ضربت كفيلا بالجارية.
وجاز أن تقول: ليس بالجارية كفيل؛ لأن (ليس) نظيرة لـ (ما)؛ لأنها لا ينبغي لها أن ترفع الاسم كما أن (ما) لا ترفعه.

وقال الكسائي في إدخالهم (أن) في (مالك): هو بمنزلة قوله: "مالكم في ألا تقاتلوا" ولو كان ذلك على ما قال لجاز في الكلام أن تقول: مالك أن قمت، ومالك أنك قائم؛ لأنك تقول: في قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتي بالاستقبال؛ تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمت. فلذلك جاءت في (مالك) في المستقبل ولم تأت في دائم ولا ماض فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك.
وقد قال بعض النحويين: هي مما أضمرت فيه الواو، حذفت من نحو قولك في الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن في الأسماء.

فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال]: لأن القيام اسم صحيح و(أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم.
فردّ ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة في (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل، تريد: وأنت كفيل بالجارية، وأنك تقول: رأيتك وإيّانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيّانا وتريد؛ قال الشاعر:

فبح بالسرائر في أهلها * وإيّاك في غيرهم أن تبوحا
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (في غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو في (أن) لا يجوز.
وأمّا قول الشاعر: * فإياك المحاين أن تحينا *
فإنه حذّره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحاين، ولو أراد مثل قوله: (إيّاك والباطل) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أتبع اسما في نصبه، فكان بمنزلة قوله في [غير] الأمر: أنت ورأيك وكلّ ثوب وثمنه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كلّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إيّاك الباطل) وأنت تريد: إيّاك والباطل). [معاني القرآن: 1/163-166]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {الملإ من بني إسرائيل}: وجوههم، وأشرافهم، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من بدر سمع رجلاً من الأنصار يقول: إنما قتلنا عجائز صلعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أولئك الملأ من قريشٍ لو احتضرت فعالهم))، أي: حضرت، احتقرت فعالك مع فعالهم). [مجاز القرآن: 1/77]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {هل عسيتم}: هل تعدون أن تفعلوا ذلك). [مجاز القرآن: 1/77]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍّ لّهم ابعث لنا ملكاً نّقاتل في سبيل اللّه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا قالوا وما لنا ألاّ نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلاّ قليلاً مّنهم واللّه عليمٌ بالظّالمين}
قال: {وما لنا ألاّ نقاتل في سبيل اللّه} فـ{أن} ههنا زائدة كما زيدت بعد "فلما" و"لما" و"لو" فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه "ومالنا لا نقاتل" فأعمل "أن" وهي زائدة كما قال: "ما أتاني من أحدٍ" فأعمل "من" وهي زائدة قال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها = إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
المعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب. و"لا" زائدة وأعملها). [معاني القرآن: 1/147]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({الملأ من بني إسرائيل}: وجوههم وأشرافهم). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّا تقاتلوا قالوا وما لنا ألّا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كتب عليهم القتال تولّوا إلّا قليلا منهم واللّه عليم بالظّالمين}
{الملأ}: أشراف القوم ووجوههم، ويروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول: ما قتلنا إلا عجائز ضلعا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أولئك الملاء من قريش، لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك))،
والملأ في اللغة: الخلق، يقال أحسنوا ملأكم، أي: أخلاقكم قال الشاعر:

تنادوا يآل بهثة إذ رأونا... فقلنا أحسني ملأ جهينا
أي: خلقا، ويقال: أحسني ممالأة أي معاونة، ويقال رجل مليء - مهموز - أي: بين الملآء يا هذا - وأصل هذا كله في اللغة من شيء واحد.
فالملأ الرؤساء إنما سمّوا بذلك لأنهم ملء بما يحتاج إليه منهم. والملأ الذي في الخلق، إنما هو الخلق المليء بما يحتاج إليه، والملا: المتسع من الأرض غير مهموز، يكتب بالألف - والياء في قول قوم - وأما البصريون فيكتبون بالألف، قال الشاعر في الملا المقصور الذي يدل على المتسع من الأرض:
ألا غنياني وارفعا الصوت بالملا... فإن الملا عندي يزيد المدى بعدا
وقوله عزّ وجلّ: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه}.
الجزم في {نقاتل في سبيل اللّه} الوجه على الجواب للمسألة الّتي في لفظ الأمر، أي: ابعث لنا - ملكا نقاتل، أي: إن تبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، ومن قرأ " ملكا يقاتل " بالياء، فهو على صفة الملك ولكن نقاتل هو الوجه الذي عليه القراء، والرفع فيه بعيد، يجوز على معنى فإنا نقاتل في سبيل الله، وكثير من النّحوّيين، لا يجيز الرفع في نقاتل. -
وقوله عزّ وجلّ: {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّا تقاتلوا} أي: لعلكم أن تجبنبوا عن القتال،
وقرأ بعضهم: هل عسيتم بكسر السين إن كتب عليكم القتال، وهي قراءة نافع،
وأهل اللغة كلهم يقولون عسيت أن أفعل ويختارونه، وموضع {ألّا تقاتلوا} نصب أعني موضع " أن " لأن (أنّ) وما عملت فيه كالمصدر، إذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك قلت عسيت فعل ذلك.

وقوله عزّ وجلّ: {قالوا وما لنا ألّا نقاتل في سبيل اللّه}.
زعم - أبو الحسن الأخفش أن " أن " ههنا زائدة - قال: المعنى وما لنا لا نقاتل في سبيل اللّه،
وقال غيره: وما لنا في ألا نقاتل في سبيل اللّه
وأسقط " في "
وقال بعض النحويين: إنما دخلت " أن" لأنّ " ما " معناه ما يمنعنا فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا.

والقول الصحيح عندي: أنّ " أن " لا تلغى ههنا، وأن المعنى وأي شي لنا في أن لا نقاتل في سبيل اللّه، أي: أي شيء لنا في ترك القتال.
{وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}
ومعني {وأبنائنا} أي: سبيت ذرارينا.

ولكنّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعل مستعمل مع أن دالا على وقت معلوم،
فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول: هربت أن أقول لك كذا وكذا، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا.

وقوله عزّ وجلّ؛ {تولّوا إلّا قليلا منهم}
{قليلا} منصوب على الاستثناء، فأما - من روى " تولوا إلا قليل منهم " فلا أعرف هذه القراءة، ولا لها عندي وجه، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها، لأن الاستثناء - إذا كان أول الكلام إيجابا - نحو قولك جاءني القوم إلا زيدا - فليس في زيد المستثنى إلا النصب - والمعنى تولوا أستثني قليلا منهم - وإنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه إلا قليل منهم " وهذا عندي ما لا وجه له). [معاني القرآن: 1/325-327]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى}
قال مجاهد: هم الذين قال الله فيهم {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم}
قال الضحاك: وأما قوله: {ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} فذلك حين رفعت التوراة واستخرج الإيمان وسلط على بني إسرائيل عدوهم فبعث طالوت ملكا فقالوا: {أنى يكون له الملك علينا} لأن الملك كان في سبط بعينه لا يكون في غيره ولم يكن طالوت منه فلذلك وقع الإنكار). [معاني القرآن: 1/248-249]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{الملا}: الرؤساء من الناس). [ياقوتة الصراط: 181]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({الملأ من بني إسرائيل} وجوههم وأشرافهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {بسطةً في العلم والجسم} أي: زيادة، وفضلاً وكثرة.
{إنّ في ذلك لآياتٍ}: علامات، وحججاً). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({وزاده بسطة في العلم والجسم}: يقال فلان بسيط اللسان). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وزاده بسطةً في العلم والجسم} أي: سعة في العلم والجسم. وهو من قولك: بسطت الشيء، إذا كان مجموعا: ففتحته ووسعته). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وقال لهم نبيّهم إنّ اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إنّ اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم واللّه يؤتي ملكه من يشاء واللّه واسع عليم} أي: قد أجابكم إلى ما سألتم. من بعث ملك يقاتل، وتقاتلون معه وطالوت وجالوت وداود. لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة، وأما جاموس فلو سميت به رجلا لانصرف، وإن كان عجميا لأنه قد تمكن في العربية لأنك تدخل عليه الألف واللام، فتقول الجاموس والراقود.
فعلى هذا (قياس جميع) الباب.
وقوله عزّ وجلّ: {أنّى يكون له الملك علينا} أي: من أي جهة يكون ذلك.
{ولم يؤت سعة من المال} أي: لم يؤت ما تتملّك به الملوك.
فأعلمهم اللّه أنه {اصطفاه} ومعناه: اختاره، وهو " افتعل " من الصفوة.
والأصل: اصتفاه فالتاء إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء من مخرج الطاء، والطاء مطبقة، كما أن الصاد مطبقة، فأبدلوا الطاء من التاء، ليسهل النطق بما بعد الصاد، وكذلك افتعل من الضرب: اضطرب، ومن الظلم اظطلم، ويجوز في اظطلم وجهان آخران:
1- يجوز اطّلم بطاء مشددة غير معجمة
2- واظّلم بظاء مشددة قال زهير:

هو الجواد الذي يعطيك نائله... عفوا ويظلم أحيانا فيظطلم
و " فيطّلم " و " فيظّلم ".
أعلمهم الله أنه اختاره، وأنه قد زيد في العلم والجسم بسطة، وأعلمهم أن العلم أهو، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللّه - جلّ وعزّ -:
لا يملك إلا ذا مال، وأعلم أن الزيادة في الجسم مما يهب به العدو، وأعلمهم أنه يؤتي ملكه من يشاء، وهو جلّ وعزّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه واسع عليم}أي: يوسع على من يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة). [معاني القرآن: 1/327-329]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بسطة} أي: سعة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({بَسْطَـــةً}: في اللسان والعلم بالحرب). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينةٌ مّن رّبّكم وبقيّةٌ مّمّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إنّ في ذلك لآيةً لّكم إن كنتم مّؤمنين}
قال: {فيه سكينةٌ مّن رّبّكم}. و"السّكينة" هي: الوقار.
وأما الحديد فهو: "السّكّين، مشدد الكاف.
وقال بعضهم: "هي السّكّين" مثلها في التشديد إلا أنّها مؤنثة فأنث. والتأنيث ليس بالمعروف وبنو قشير يقولون: "سخّين" للسكين وقال: {وآتت كلّ واحدةٍ مّنهنّ سكّيناً}).
[معاني القرآن: 1/147]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({إنّ آية ملكه} أي: علامة ملكه.
{فيه سكينةٌ} السّكينة فعيلة: من السكون.
{وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون}، يقال: شيء من المنّ الذي كان ينزل عليهم، وشيء من رضاض الألواح). [تفسير غريب القرآن: 92]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينة من ربّكم وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}أي: علامة تمليك اللّه إياه {أن يأتيكم التّابوت}.
وموضع (أن) رفع المعنى: إن آية ملكه إتيان التابوت أتاكم.
وقوله عزّ وجلّ: {فيه سكينة من ربّكم}أي: فيه ما تسكنون به إذا أتاكم، وقيل في التفسير إن السكينة لها رأس كرأس الهر من زبرجد أو ياقوت، ولها جناحان.
وقوله عزّ وجلّ: {وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون}.
قيل في تفسيره: البقية رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب آخر جمع التوراة وعصا موسى. فهذا ما روي مما فيه، والظاهر، أن فيه (بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن يكون البقية من العلم، وجائز أن يتضمنها جميعا.
والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - كانت تستفتح به في الحروب، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإذا سمع من جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللّه أعلم بحقيقة ذلك.
وروي في التفسير: أنه كان من خشب الشمشار وكان قد غلب جالوت وأصحابه عليه فنزلهم بسببه داء، قيل هو الناسور الذي يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت، فوضعوه على ثورين فيما يقال،
وقيل معنى {تحمله الملائكة}: إنها كانت تسوق الثورين.
وجائز أن يقال في اللغة: تحمله الملائكة، وإنما كانت تسوق ما يحمله، كما تقول حملت متاعي إلى مكة، أي كنت سببا لحمله إلى مكة.

ومعنى {إنّ في ذلك لآية لكم}أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله ملك طالوت عليكم إذ أنبأكم في قصته بغيب.
{إن كنتم مؤمنين} أي: إن كنتم مصدقين). [معاني القرآن: 1/329-330]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم}
حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان وهي بعد ريح هفافة.
وروى خالد بن عرعرة عن علي قال: أرسل الله السكينة إلى إبراهيم وهي ريح خجوج لها رأس.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: السكينة دابة قدر الهر لها عينان لهما شعاع فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها ونظرت إليهم فينهزم الجيش من ذلك الرعب.
وقال الضحاك: السكينة الرحمة والبقية القتال.
وروي عن ابن عباس السكينة طست من ذهب الجنة كانت تغسل فيها قلوب الأنبياء.
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} قال: عصا موسى وثياب هارون ولوحان من التوراة.
وقال أبو مالك: السكينة طست من ذهب ألقى فيها موسى الألواح والتوراة وعصاه والبقية رضاضة الألواح التي كتب فيها التوراة.
وقرئ على عبد الله بن أحمد بن عبد السلام عن أبي الأزهر عن روح بن عبادة قال حدثنا محمد بن عبد الملك عن أبيه قال: قال مجاهد: أما السكينة فما تعرفون من الآيات التي تسكنون إليها قال والبقية العلم والتوراة.
وقال أبو جعفر: وهذا القول من أحسنها وأجمعها لأن السكينة في اللغة فعيلة من السكون أي آية يسكون إليها.
وبين معنى تحمله الملائكة أنه روي إن جالوت وأصحابه كان التابوت عندهم فابتلاهم الله بالناسور فعلموا أنه من أجل التابوت فحملوه على ثور فساقته الملائكة فهذا مثل قولهم حملت متاعي إلى موضع كذا
ثم قال تعالى: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي: إن في رد التابوت بعد أن أخذه عدوكم لآية لكم إن كنتم مصدقين). [معاني القرآن: 1/249-252]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ( {والسكينة} فعيلة من السكون: وهو ما تسكن إليه النفس إذا رأته.
{وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} يقال: هي شيء من المن الذي كان ينزل، وشيء من رضاض، الألواح). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فشربوا منه إلاّ قليلاً مّنهم...}
وفي إحدى القراءتين: "إلا قليلٌ منهم".
والوجه في (إلاّ) أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلاّ فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها؛ معرفة كان أو نكرة.
فأمّا المعرفة: فقولك ما ذهب الناس إلا زيد.
وأمّا النكرة: فقولك ما فيها أحدٌ إلاّ غلامك، لم يأت هذا عن العرب إلا بإتباع ما بعد إلا ما قبلها.
وقال الله تبارك تعالى: {ما فعلوه إلاّ قليل منهم} لأن في {فعلوه} اسما معرفة، فكان الرفع الوجه في الجحد الذي ينفي الفعل عنهم، ويثبته لما بعد إلاّ.
وهي في قراءة أبيّ "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلاّ كالمنقطع عن أوّل الكلام؛ كقولك: ما قام القوم، اللهم إلاّ رجلا.

فإذا نويت الانقطاع نصبت وإذا نويت الاتّصال رفعت.
ومثله قوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} فهذا على هذا المعنى،
ومثله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ ينهون عن الفساد في الأرض} ثم قال: {إلا قليلا ممن أنجينا منهم} فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد؛ لأن لولا بمنزلة هلاّ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هلاّ قمت) أنّ معناه: لم تقم. ولو كان ما بعد (إلاّ) في هاتين الآيتين رفعا على نيّة الوصل لكان صوابا؛
مثل قوله: {لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا} فهذا نيّة وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقف على ما قبل (إلا).

وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمل ما قبلها فيما بعدها فتقول: (ما قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام)؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها، وكذلك: ما ضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الذي قبل (إلا) نكرة مع جحد فإنك تتبع ما بعد إلا ما قبلها؛ كقولك: ما عندي أحد إلاّ أخوك فإن قدّمت إلاّ نصبت الذي كنت ترفعه؛ فقلت: ما أتاني ألا أخوك أحد. وذلك أن (إلاّ) كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه، فلما قدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا الاستثناء.
ومثله قول الشاعر:

لميّة موحشاً طللٌ * يلوح كأنه خلل
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أتبع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز أن يتبع الطلل وهو قبله.
وقد يجوز رفعه عل أن تجعله كالاسم يكون الطلل ترجمة عنه؛ كما تقول: عندي خراسانيّةٌ جاريةٌ، والوجه النصب في خراسانية. ومن العرب من يرفع ما تقدّم في إلاّ على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:

بالثنى أسفل من جمّاء ليس له * إلاّ بنيه وإلا عرسه شيع
وينشد: إلا بنوه وإلاّ عرسه. وأنشد أبو ثروان:
ما كان منذ تركنا أهل أسمنةٍ * إلا الوجيف لها رعىٌ ولا علف
ورفع غيره.
وقال ذو الرّمة:

مقزّعٌ أطلس الأطمار ليس له * إلا الضراء وإلا صيدها نشب
ورفعه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا الضراء وإلا صيدها، ثم ذكر في آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه في أوّل الكلام.
{كم مّن فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةًً} وفي قراءة أبيّ "كأيّن من فئةٍ قليلة غلبت" وهما لغتان.
وكذلك {وكأيّن من نبي} هي لغات: كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا ألقيت (من) كان في الاسم النكرة النصب والخفض.
من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رأيت، وكم جيشا جرّارا قد هزمت. فهذان وجهان، ينصبان ويخفضان والفعل في المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا
والخفض. وجاز أن تعمل الفعل فترفع به النكرة، فتقول: كم رجلٌ كريمٌ قد أتاني، ترفعه بفعله، وتعمل فيه الفعل إن كان واقعا عليه؛ فتقول: كم جيشا جرّارا قد هزمت، نصبته بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمّة لك يا جرير وخالة * فدعاء قد حلبت عليّ عشاري
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها من النكرة مفسّر كتفسير العدد، فتركناها في الخبر على جهتها وما كانت عليه في الاستفهام؛ فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات؛ كما تقول: عندي كذا وكذا درهما، ومن خفض قال: طالت صحبة من للنكرة في كم، فلمّا حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا، كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير. وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم.
وقال امرؤ القيس:

تبوص وكم من دونها من مفازةٍ * وكم أرض جدب دونها ولصوص
فرفع على نيّة تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدّما في النية لأن النكرات لا تسبق أفاعيلها؛ ألا ترى أنك تقول: ما عندي شيء، ولا تقول ما شيء عندي). [معاني القرآن: 1/166-169]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {مبتليكم بنهرٍ}: مختبركم.
{غرفةً} الغرفة مصدر، والغرفة: ملء الكف.
{يظنّون أنّهم ملاقوا الله} يوقنون.
{فئةٍ}: جماعة). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({يظنون أنهم ملاقو الله}: يستيقنون.
{الفئة}: الجماعة). [غريب القرآن وتفسيره: 95]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({مبتليكم بنهرٍ} أي: مختبركم.
{قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} أي: يعلمون {كم من فئةٍ} الفئة: الجماعة). [تفسير غريب القرآن:92-93]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلّا قليلا منهم فلمّا جاوزه هو والّذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصّابرين}
{إنّ اللّه مبتليكم بنهر} معناه: مختبركم وممتحنكم بنهر، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي، لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلّا من ارتضى من رسول} ومعنى الاختبار بهذا النهر: كان ليعلم طالوت من له نيّة القتال معه ومن ليست له نيّة. فقال: {فمن شرب منه فليس مني} أي: ليس من أصحابي ولا ممن تبعني، ومن لم يطعمه.
{ومن لم يطعمه فإنه منّي} أي: لم يتطعم به.
{إلّا من اغترف غرفة بيده}، غرفة وغرفة قرئ بهما جميعا فمن قال غرفة كان معناه غرفة واحدة باليد.
ومن قال غرفة كان معناه مقدار ملء اليد.
ومعنى {فشربوا منه إلا قليلا منهم}: شربوا منه ليرجعوا عن الحرب، لأنه قد أعلمهم ذلك.
وذكر في التفسير: أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدد أهل بدر.
وقوله عزّ وجلّ؛ {فلمّا جاوزه} أي: جاوز النهر هو والّذين معه.
قيل لما رأوا قلتهم، قال بعضهم لبعض: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي: لا قوة، يقال أطقت الشيء إطاقة وطوقا، مثل أطعت طاعة وإطاعة وطوعا.
وقوله عزّ وجلّ: {قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} قيل فيه قولان:
1- قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين يوقنون أنهم ملاقو اللّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضلالا كافرين وظننت في اللغة بمعنى أيقنت موجود.

قال الشاعر - وهو دريد:
فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجّج... سراتهم في الفارسيّ المسرّد
أي أيقنوا.
2- وقال أهل التفسير: معنى {يظنّون أنّهم ملاقو اللّه} أي: أنهم كانوا يتوهمون أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل الله لقلّة عددهم، وعظم عدد عدوهم وهم أصحاب جالوت.
وقوله عزّ وجلّ: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه} أي: كم من فرقة، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه بالعصا.
وفأيت إذا شققته، فالفئة الفرقة من هذا.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه مع الصّابرين} أي: أن اللّه ينصر الصّابرين، إذا صبروا على طاعته، وما يزلف عنده). [معاني القرآن: 1/330-332]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {إن الله مبتليكم بنهر} معناه: مختبركم والفائدة في ذلك أن يعلم من يقاتل ممن لا يقاتل.
قال عكرمة وقتادة: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
وقال قتادة: كان الكفار يشربون فلا يرون وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزئهم ذلك.
قال أبو جعفر: الغرفة في اللغة: ملء الكف أو المغرفة والغرفة الفعلة الواحدة.
ومعنى {فإنه مني}: فإنه من أصحابي
وحكى سيبويه أنت مني فرسخين
ثم قال تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم}
روى أبو إسحاق عن البراء كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت ممن جاز معه النهر يوم جالوت وما جاز معه إلا مؤمن فلما جازوه يعني النهر ورأوا كثرة أصحاب جالوت وقلتهم قالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله} أي: يوقنون
وقيل يتوهمون أنهم يقتلون في هذه الواقعة لقلتهم
و{الفئة}: الفرقة من فأوت رأسه وفاأيته). [معاني القرآن: 1/252-254]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والطاقة: القوة). [ياقوتة الصراط: 181]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({مبتليكم بنهر} مختبركم وممتحنكم به). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 42]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَظُنُّونَ}: يوقنون.
{فِئَةٍ}: جماعة). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {أفرغ علينا صبراً}: أنزل علينا). [مجاز القرآن: 1/77]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({أفرغ علينا صبرا}: أنزل والإفراغ الصب. يقال أفرغ عليك الماء وأفرغ عليك الكوز). [غريب القرآن وتفسيره: 96]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({أفرغ علينا صبراً} أي: صبّه علينا، كما يفرغ الدّلو). [تفسير غريب القرآن: 93]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبرا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}
{ربّنا أفرغ علينا صبرا} أي: أصبب علينا الصبر صبّا، كما تقول: أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه). [معاني القرآن: 1/332]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({أَفْرِغْ}: صُبَّ). [العمدة في غريب القرآن: 92]

تفسير قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({فهزموهم بإذن اللّه وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض ولكنّ اللّه ذو فضلٍ على العالمين}
قال: {ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ} فنصبت {النّاس} على إيقاعك الفعل بهم ثم أبدلت منهم {بعضهم} للتفسير). [معاني القرآن: 1/148]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{فهزموهم بإذن اللّه وقتل داوود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ اللّه ذو فضل على العالمين}
{فهزموهم بإذن اللّه}معناه: كسروهم وردوهم،
وأصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثنى بعضه على بعض، يقال سقاء مهزوم، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع جفاف، وقصب متهزّم، ومهزوم، قد كسر وشقق، والعرب تقول هزمت على زيد أي عطفت عليه.

قال الشاعر:
هزمت عليك اليوم يا بنت مالك... فجودي علينا بالنوال وأنعمي
ويقال: سمعت هزمة الرعد
قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق: وقوله عزّ وجلّ: {وآتاه اللّه الملك والحكمة} أي: آتى داود - عليه السلام - الملك لأنه ملك بعد قتله جالوت وأوتي العلم.
ومعنى {وعلّمه ممّا يشاء}: قيل ممّا علّمه عمل الدروع، ومنطق الطير.
وقوله عزّ وجلّ: {ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أي: لولا ما أمر الله به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض وقيل أيضا: لولا دفع اللّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكفر فنزلت بالناس السخطة واستؤصل أهل الأرض.
ويجوز {ولولا دفع اللّه}، ولولا دفاع اللّه.
ونصب {بعضهم} بدلا من الناس، المعنى: ولولا دفع اللّه بعض الناس ببعض، و (دفع) مرفوع بالابتداء، وقد فسرنا هذا فيما مضى). [معاني القرآن: 1/332-333]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): ({فهزموهم} أي: كسروهم وردوهم يقال سقاء مهزوم إذا كان منثنيا جافا). [معاني القرآن: 1/254]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: يقول لولا دفع الله بالمؤمنين الفجار ودفعه بتقية أخلاق الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها.
قال أبو جعفر: وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير، أي: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عن من لا يصلي وبمن يتقي عن من لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم.
وقيل لولا أن الله أمر بحرب الكفار لعم الكفر فأهلك جميع الناس
وذا راجع إلى الأول
وقيل لولا أن الله أمر بحرب الكفار لكان إفسادهم على المسلمين أكثر
ويقرأ {ولولا دفاع الله}
حكى أبو حاتم أن العرب تقول: أحسن الله عنك الدفاع والمدافعة مثل ناولتك الشيء). [معاني القرآن: 1/255-256]

تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين} أي: هذه الآيات التي أنبأت بها وأنبئت، آيات الله، أي: علاماته التي تدل على توحيده، وتثبيت رسالات أنبيائه، إذ كان يعجز عن الإتيان بمثلها المخلقون.
وقوله عزّ وجل: {وإنّك لمن المرسلين} أي: وأنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم، لأنك قد أعطيت من الآيات مثل الذي أعطوا وزدت على ما أعطوا.
ونحن نبين ذلك في الآية التي تليها إن شاء اللّه). [معاني القرآن: 1/333]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:09 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة