(فصل) "نَعم" و"نِعم" بفتح "النون" وبكسرها
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل) "نَعم" و"نِعم" بفتح "النون" وبكسرها أما الأولى فهي بفتح "العين"، وكنانة تكسرها، وبها قرأ الكسائي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحكي النضر بن شميل: أن ناسا من العرب تبدلها "حاء"، ويقال: إن بها قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وبعضهم بكسر "النون" اتباعًا لكسر "العين".
وهي حرف وليس باسم، قال سيبويه: "ليس" "بلى" و"نعم" اسمين، وهي حرف جواب معناه التصديق في الخبر والوعد بالمطلوب والإعلام بالمسئول.
فالأول: كقام زيد، أو ما قام زيد، فتقول: "نعم".
والثاني: وقوعها بعد افعل أو لا تفعل وما في معناهما، نحو: هلا تفعل، وبعد الاستفهام في نحو: هل تعطيني؟
والثالث: بعد "هل" في نحو: جاءك زيد، ونحو: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا}، وقوله تعالى: {أئن لنا لأجرًا}.
واعلم أن حروف الجواب ثلاثة:
"بلى"، وهو حرف إيجاب يوجب النفي، فلا يجاب به إلا بعد النفي، فهي لنفي النفي كما تقدم في بابه.
و "لا" حرف نفي، لنفي الإيجاب، و"نعم" صالح للأمرين:
فإذا قيل: قام زيد، فتصديقه: "نعم"، وتكذيبه: "لا"، ويمتنع "بلى" لعدم النفي.
وإذا قيل: ما قام زيد، فتصديقه: "نعم"، وتكذيبه: "بلى"، ومنه قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي}، ويمتنع دخول "لا" لعدم الإثبات.
وإذا قيل: أقام زيد؟ فهو مثل: قام زيد، وإذا قيل: ألم يقم زيد؟ فهو مثل: لم يقم زيد، تقول في إثبات القيام: "بلى"، ويمتنع دخول "لا"، وإن نفيت قلت: "نعم"، قال الله تعالى: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى}، {أو لم تؤمن قال بلى}، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أنه لو قيل: "نعم" في جواب {ألست بربكم} كان كفرًا».
وإذا تقرر هذا فقد قال سيبويه في باب التعجب في حكاية مناظرة جرت بينه وبين النحويين فيقال له: ألست تقول كذا؟ فإنه لا يجد بدًا من أن يقول: "نعم"، فيقال له: أفلست تفعل كذا؟ فإنه قائل "نعم"، فزعم ابن الطراوة أن ذلك لحن لما تقرر من القاعدة.
وقال جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين: إذا كان قبل النفي استفهام، فإن كان على حقيقة النفي فجوابه كجواب النفي المجرد، وإن كان المراد به الإيجاب فجوابه كجواب النفي مراعاة للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب مراعاة لمعناه، وعلى ذلك قول الأنصار رضي الله تعالى عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: «ألستم ترون لهم ذلك نعم»، وقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمروٍ ..... وإيانا فذاك بنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه ..... ويعلوها النهار كما علاني
وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، فالمخطئ مخطئ، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي وإن كان إيجابًا في المعنى، فإذا قيل: ألم أعطك درهمًا؟ قيل في تصديقه "نعم"، وفي تكذيبه: "بلى"، وذلك لأن المقرر قد يوافقك على ما تدعيه وقد يخالفك، فإذا قيل: "نعم" لم يعلم هل أراد: "نعم" لم تعطني، على اللفظ أو "نعم" أعطيتني على المعنى؟ فذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى، هكذا وجدت «اللفظ» في الأصل المعلق منه وهو كتاب ابن هشام ولعله انعكس على الناسخ، والصواب: فلذلك أجابوه على المعنى ولم يلتفتوا إلى اللفظ.
وأما "نعم" في بيت جحدر، فجواب لغير مذكور، وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو، وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه، وأم عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال كما تراه، وقدمه عليه، قال ابن هشام: أو لقوله: فذاك بنا تداني، قال: وهو أحسن وأما قول الأنصار، فجاز لزوال اللبس؛ لأنه قد علم أنهم يريدون: "نعم"، فعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير، انتهى. ثم قال ابن هشام رحمه الله: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب: {ألست بربكم} "بنعم"، لم يكتف به في الإقرار؛ لأن الله سبحانه أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية العبارة التي لا تحتمل غير المعنى المراد من المقر ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله، برفع «إله» لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إنما قال: «إنهم لو قالوا: "نعم"» لم يكن إقرارًا كافيًا، وجوز الشلوبين: أن يكون مراده: أنهم لو قالوا: "نعم" جوابًا للملفوظ به على ما هو الأفصح لكان كفرًا، إذ الأصل تطابق الجواب والسؤال لفظًا، قال: وفيه نظر؛ لأن التكفير لا يكون بالاحتمال.
وما قاله ابن هشام حسن ظاهر، ولكن قوله: لا يدخل في دين الإسلام بقوله لا إله إلا الله، بالرفع لاحتماله لنفي الوحدة فيه نظر، بل المعروف المشهور: إن كان يزعم أن الوثن غير شريك لله تعالى كان مؤمنًا، وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى لم يكن مؤمنًا حتى يبرأ من عبادة الوثن، ولم يفصل بما ذكرته والله أعلم).[مصابيح المغاني: 492 - 497]