قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("لعلّ"
حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، قال بعض أصحاب الفراء وقد ينصبهما، وزعم يونس أن ذلك لغة لبعض العرب، وحكى "لعلّ"
أباك منطلقًا، وتأويله عندنا على إضمار يوجد، وعند الكسائي على إضمار يكون.
وقد مر أن عقيلا يخفضون بها المبتدأ، كقوله:
... لعلّ أبي المغوار منك قريب
وزعم الفارسي أنه لا دليل في ذلك؛ لأنّه يحتمل أن الأصل "لعلّه" لأبي المغوار منك جواب قريب، فحذف موصوف قريب، وضمير الشّأن، و"لام" "لعلّ" الثّانية تخفيفًا، وأدغم الأولى في "لام" الجرّ، ومن ثمّ كانت مكسورة، ومن فتح فهو على لغة من يقول المال لزيد بالفتح، وهذا تكلّف كثير، ولم يثبت تخفيف "لعلّ"، ثمّ هو محجوج بنقل الأئمّة أن الجرّ بـ "لعلّ" لغة قوم بأعيانهم.
واعلم أن مجرور "لعلّ" في موضع رفع بالابتداء لتنزيل "لعلّ" منزلة الجار الزّائدة، نحو: بحسبك درهم بجامع ما بينهما من عدم التّعلّق بعامل، وقوله قريب هو خبر ذلك المبتدأ، ومثله "لولاي" لكان كذا على قول سيبويه: إن "لولا" جارة، وقولك: "رب" رجل يقول ذلك، ونحوه قوله: ... وجيران لنا كانوا كرام
على قول سيبويه إن "كان" زائدة، وقول الجمهور إن الزّائد لا تعمل شيئا، فقيل الأصل هم لنا، ثمّ وصل الضّمير "بكان" الزّائدة إصلاحا للفظ؛ لئلّا يقع الضّمير المرفوع المنفصل إلى جانب الفعل، وقيل بل الضّمير توكيد للمستتر في "لنا" على أن "لنا" صفة لجيران، ثمّ وصل لما ذكر، وقيل بل هو معمول "لكانط بالحقيقة، فقيل على أنّها ناقصة، و"لنا" الخبر، وقيل بل على أنّها زائدة، وأنّها تعمل في الفاعل كما يعمل فيه العامل الملغى، نحو: زيد ظننت عالم، وتتصل "بلعل" "ما" الحرفية، فتكفها عن العمل لزوال اختصاصها حينئذٍ بدليل قوله:
لعلما ... أضاءت لك النّار الحمار المقيدا
وجوز قوم إعمالها حينئذٍ حملا على "ليت"؛ لاشتراكهما في أنّهما يغيران معنى الابتداء، وكذا قالوا في "كأن"، وبعضهم خص "لعلّ" بذلك لأشدية التشابه؛ لأنّها و"ليت" للانشاء، وأما "كأن" فللخبر.
قيل وأول لحن سمع بالبصرة:
... لعلّ لها عذر وأنت تلوم
وهذا محتمل لتقدير ضمير الشّأن كما تقدم في "إن" من أشد النّاس عذابا يوم القيامة المصورون.
وفيها عشر لغات مشهورة، ولها معان:
أحدها: التوقع، وهو ترجي المحبوب، والإشفاق من المكروه، نحو: "لعلّ" الحبيب واصل، و"لعلّ" الرّقيب حاصل، وتختص بالممكن، وقول فرعون:{لعلي أبلغ الأسباب أسباب السّماوات}، إنّما قاله جهلا أو مخرقة وإفكا.
والثّاني: التّعليل، أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائيّ: وحملوا عليه {فقولا له قولا لينًا لعلّه يتذكّر أو يخشى}، ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرّجاء، ويصرفه للمخاطبين، أي: اذهبا على رجائكما.
والثّالث: الاستفهام، أثبته الكوفيّون، ولهذا علق بها الفعل في نحو: {لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا}،ونحو:{وما يدريك لعلّه يزكّى}.
قال الزّمخشريّ: وقد أشربها معنى "ليت" من قرأ {فاطلع} انتهى.
وفي الآية بحث سيجيء، ويقترن خبرها بـ "أن" كثيرا حملا على "عسى"، كقوله:
لعلّك يومًا أن تلم ملمة ...
وبحرف التّنفيس قليلا، كقوله:
فقولا لها قولا رقيقا لعلّها ... سترحمني من زفرة وعويل
وخرج بعضهم نصب {فاطلع} على تقدير "أن" مع أبلغ، كما خفض المعطوف من بيت زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
على تقدير "الباء" مع مدرك، ولا يمتنع كون خبرها فعلا ماضيا خلافًا للحريري.
وفي الحديث: «وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
وقال الشّاعر:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... لعلّ منايانا تحولن أبؤسا
وأنشد سيبويه:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النّار الحمار المقيدا
فإن اعترض بأن "لعلّ" هنا مكفوفة بما فالجواب أن شبهة المانع أن "لعلّ" للاستقبال، فلا تدخل على الماضي، ولا فرق على هذا بين كون الماضي معمولا لها، أو معمولا لما في حيزها، وممّا يوضح بطلان قوله ثبوت ذلك في خبر "ليت"، وهي بمنزلة "لعلّ"، نحو: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}،{يا ليتني كنت ترابا}،{يا ليتني قدمت لحياتي}،{يا ليتني كنت معهم}.
تنبيه
من مشكل باب "ليت" وغيره، قول يزيد بن الحكم:
فليت كفافا كان خيرك كله ... وشرك عني ما ارتوى الماء مرتو
وإشكاله من أوجه:
أحدها: عدم ارتباط خبر "ليت" باسمها، إذ الظّاهر أن كفافا اسم "ليت"، وأن "كان" تامّة، وأنّها وفاعلها الخبر، ولا ضمير في هذه الجملة.
والثّاني: تعليقه عن بمرتو.
والثّالث: إيقاعه الماء فاعلا بارتوى، وإنّما يقال ارتوى الشّارب، والجواب عن الأول: أن كفافا إنّما هو خبر لـ "كان" مقدم عليها، وهو بمعنى كاف، واسم "ليت" محذوف للضّرورة، أي: "فليتك"، أو "فليته"، أي: "فليت" الشّأن، ومثله قوله:
فليت دفعت الهم عني ساعة ...
وخيرك اسم "كان"، وكله توكيد له، والجملة خبر "ليت"، وأما وشرك فيروى بالرّفع عطفا على خيرك، فخبره إمّا محذوف تقديره كفافا، فمرتو فاعل بارتوى، وإمّا مرتو على أنه سكن للضّرورة ،كقوله:
ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
ويروى بالنّصب إمّا على أنه اسم لـ "ليت" محذوفة، وسهل حذفها تقدم ذكرهان كما سهل ذلك حذف "كل"، وبقاء الخفض في قوله:
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد باللّيل نارا
وإمّا على العطف على اسم "ليت" المذكورة، إن قدر ضمير المخاطب، فأما ضمير الشّأن فلا يعطف عليه لو ذكر، فكيف وهو محذوف،
ومرتو على الوجهين مرفوع، إمّا لأنّه خبر "ليت" المحذوفة، أو لأنّه عطف على خبر "ليت" المذكورة.
وعن الثّاني: بأنّه ضمن مرتو معنى كاف؛ لأن المرتوي يكف عن الشّرب، كما جاء: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره}؛لأن {يخالفون} في معنى يعدلون ويخرجون، وإن علقته بـ كفافا محذوفا على وجه مر ذكره فلا إشكال.
وعن الثّالث: أنه إمّا على حذف مضاف، أي: شارب الماء، وإمّا على جعل الماء مرتويا مجازًا، كما جعل صاديا، في قوله:
... وجبت هجيرا يترك الماء صاديا
ويروى الماء بالنّصب على تقدير "من"، كما في قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا}، ففاعل ارتوى على هذا مرتو، كما تقول "ما" شرب الماء شارب).[مغني اللبيب: 3 / 516 - 540]