التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها...} (أو ننسئها) , (أو نُنْسِهَا), عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عبد الله: (ما ننسك من آيةٍ أو ننسخها نجئ بمثلها أو خيرٍ منها), وفي قراءة سالم مولى أبي حذيفة: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسكها)، فهذا يقوّي النّسيان, والنّسخ: أن يعمل بالآية, ثم تنزل الأخرى, فيعمل بها, وتترك الأولى.
والنّسيان ها هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك؛ نتركها فلا ننسخها، كما قال الله جل ذكره: {نسوا اللّه فنسيهم} يريد: تركوه فتركهم.
والوجه الآخر: من النّسيان الذي ينسى، كما قال الله: {واذكر ربّك إذا نسيت}, وكان بعضهم يقرأ: (أو ننسأها) يهمز، يريد: نؤخرها من النّسيئة؛ وكلٌّ حسن ...
- وحدثني قيس, عن هشام بن عروة بإسناد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا ً يقرأ, فقال: «يرحم الله هذا، هذا أذكرني آياتٍ قد كنت أنسيتهنّ». ). [معاني القرآن: 1/64-65]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ما ننسخ من آية} أي: ننسخها بأية أخرى، {أو ننسها} من النّسيان: نذهب بها, ومن همزها جعلها من "نؤخرها" من التأخير، ومن قال: تنسُوها, كان مجازها تمضيها، وقال جرير:
... ....... ولا أنسأتكم غضبي
ونسأت الناقة: سقتها، وقال طرفة:
وعنسٍ كألواح الإران نسأتُها....... على لاحبٍ كأنه ظهر برجد
يعني أنه يسوقها, ويمضيها.
{نأت بخيرٍ منها} أي: نأتيك منها بخير). [مجاز القرآن: 1 / 49-50]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
قال: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها}, وقال بعضهم: (ننسأها) أي: نؤخّرها، وهو مثل {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر}؛ لأنّه تأخير, و{النسيئة} و{النسيء} أصله واحدٌ من "أنسأت" إلاّ أنّك تقول: "أنسأت الشيء" أي: أخّرته, ومصدره: النسيء,
و"أنسأتك الدين" أي: جعلتك تؤخّره, كأنه قال: "أنسأتك" , فـ"نسأت",
و"النسيء" أنّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر, وقال بعضهم: (أو نَنْسَها) كل ذلك صواب, وجزمه بالمجازاة, و النسيء في الشهر: التأخير.
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}
قال: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}, ومن خفف قال: (سيل),
فإن قيل: كيف جعلتها بين بين وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة، والياء الساكنة لا تكون بعد ضمة، والسين مضمومة؟
قلت: أمّا في "فُعِلَ", فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة؛ لأنهم قد قالوا "قيل" و"بيع", وقد تكون الياء في بعض "فُعِلَ" واواً خالصة لانضمام ما قبلها, وهي معه في حرف واحد كما تقول: "لم توطؤ الدابّة", وكما تقول: "قد رؤس فلان"). [معاني القرآن: 1 / 110]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة سعيد بن المسيب والأعرج {أو ننسها} من النسيان، من أنسيت. أنسيت.
قراءة أبي عمرو {ننساها} بالهمز نؤخرها؛ وسنذكرها في اللغات إن شاء الله.
سعد بن أبي وقاص "ما ننسخ من ءاية أو تنسها"، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، أو تنسها يا محمد.
وقراءة قتادة "أو تنسها" من أنسيتها، لم يذكر فاعلاً). [معاني القرآن لقطرب: 256]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {أو ننسأها} فمن قرأها بالهمز - وهي قراءة أبي عمرو - عمرو - أي نؤخرها؛ وقالوا: نسأت الناقة أنسؤها أي زجرتها، ونسأتها: أخرت ظمأها، وأنسأته وأنسأته الدين من ذلك: أخرته؛ والمنسأة: العصا، وهو قوله {تأكل منسأته}؛ وبعضهم يقول: هي المنسأة، فيفتح الميم.
قال النابغة:
ولا رعيت حراما من أخي ثقة = ولا نسأت علنداة على جدد
وقال الآخر:
إذا دببت على المنساة من كبر = فقد تباعد عنك اللهو والغزل
فترك الهمز.
[معاني القرآن لقطرب: 329]
وقالوا أيضًا: نسأت اللبن نسئًا؛ إذا صببت على حليب ماء؛ ونسأت الغنم نسئًا: سمنت، وانتسأت عنك انتساء أي: تباعدت عنك.
وأما قوله عز وجل {على كل شيء قدير} فقالوا في الفعل: قدر يقدر ويقدر؛ وبعض كلب يقول: قدر عليه، وهي لغة لبعض ربيعة؛ وقالوا أيضًا: قدر عليه يقدر ويقدر قدرًا ومقدرة ومقدرة ومقدرة وقدرانًا.
ومثلها أحرف تقولها، قل أهل الحجاز: حسب يحسب، ويئس ييأس وييئس، ويبس ييبس، ونعم ينعم وينعم؛ والجيدة الفتح في هذا كله، يحسب وييأس.
وأنشد بعضهم بيت امرئ القيس:
ألا انعم صباحًا أيها الطل البالي = وهل ينعما من كان في العصر الخالي
وقال الآخر:
واعوج عودك من لحو ومن قدم = لا ينعم الغصن حتى ينعم الورق
وقال الآخر:
وكوم تنعم الأضياف عينا وتضحي في مباركها ثقالا
وقالوا أيضًا في مثل ذلك في حضر: حضر القاضي فلان، يحضر ويحضر حضرا، ونظر إليه ينظر؛ وقال بعض قيس: عرضت له الغول، تعرض وتعرض؛ وقالت هذيل: فضل عنده مال، يفضل ويفضل بالضم؛ وقريش تقول: فضل يفضل بضم الضاد، وبعض تميم يقول: سالتم فيجمع بين الساكنين.
قال الشاعر:
[معاني القرآن لقطرب: 330]
تعالوا فسالوا يعلم الناس = أينا لصاحبه في أول الدهر تابع). [معاني القرآن لقطرب: 331]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {ما ننسخ من آية أو ننسها} فهذا جزم على الجزاء، ومثله {مهما تأتنا به من آية}، و{فأينما تولوا فثم وجه الله}.
وحروف الجزاء في القرآن وجميع الكلام: إن، ومن، وما، وأنى، وأين، ومتى، وأيان، وحيثما، بإدخال "ما" مع حيث؛ وقد جازوا بحيث بغير "ما"، وهي بما أكثر؛ وكذلك: إذاما، وإذما، ومهما، من حروف الجزاء؛ وقالوا أيضًا: مهمن وهي عندنا "ما ما" مكررة، فكرهوا اتفاق اللفظين، فأبدلوا من الألف الأولى هاء كقولهم: هنرت النار، وهرحت الدابة، وهرقت الماء، يريدك أنرت النار، وأرحت، وأرقت الماء.
وأما "كم" فالجزاء بها جائز في القياس؛ وكذلك "كيف" ولم نسمعه منهم؛ وذلك أن تقول: كم تأخذ آخذ؛ لأنها حروف استفهام.
[معاني القرآن لقطرب: 434]
وأما أصل الجزاء والحرف الذي لا يفارقه الجزاء فهو "إن" وحدها؛ وهو قوله {وإن تشكروا يرضه لكم} {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم}؛ وقال بعضهم: إن تأتني أعطك؛ وهي شاذة.
وإنما أسكنوا في الجزاء؛ لأنهم احتاجوا إلى أن يثنوا الفعل مرتين؛ إذا قالوا: إن تأتني أعطك؛ لأنه لم يستغن بالأول؛ فلما كرر الفعل مرتين وكان الفعل أثقل من الاسم؛ أذهبت حركته وأسكن؛ فإذا قال: سوف تفعل، وقد تفعل وشبه ذلك، لم يكرره مرتين؛ وإن يكرر فيها مرتين ولا تكون بعدها [...] حروف الجزاء مشبهة بإن؛ لأنها ترجع إليها، وذلك قوله تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموت}، وأنى تأتني آتك، {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات} و{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فقد أبهم: ما ومن وأينما ومتى، كما أبهم "إن"؛ حيث قال: إن تأتني آتك؛ صارت مثل: متى ما تأتني آتك، في الإبهام؛ وإذا كان الكلام استفهامًا أو أمرًا أو نهيًا أو تمنيًا، كان في الجواب الجزاء.
وذلك في الاستفهام: متى تذهب أعطك، وأين تكون آتك؛ يرتفع الأول إذا أردت الاستفهام؛ كقوله:
متى أنام لا يؤرقني الكرى = ليلا ولا أسمع أجراس المطي
فرفع الأول على الاستفهام وجازى بالآخر.
وأما الأمر والنهي: فقوله عز وجل {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من} فالجزم على الجزاء كقولك: لا تذهب أحسن إليك؛ والرفع فيه على الصفة للولي؛ كأنه قال: وليا وارثا لي.
[معاني القرآن لقطرب: 435]
وأما التمني: فقوله: ألا شراب أشربه يا هذا؛ ألا دابة أركبها؛ وإن شئت قلت: أركبها وأشربه، كأنه قال: مما أركب ومما أشرب؛ ويذهب الجزاء؛ ومثل ذلك قول الله عز وجل {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى} فيجوز على: لا تخاف فيه دركا ولا تخشى، فتجعله صفة للطريق، على مثل ما ذكرنا، ويجوز على الابتداء؛ كأنه قال: أنت لا تخاف دركا على كل حال، وهذا الرفع جائز في جواب الجزاء كله على الابتداء.
قال أبو ذؤيب:
فقيل تحمل فوق طوقك إنها = مطبعة من يأتها لا يضيرها
وقال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة = يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقال الآخر في الأمر:
فقال رائدهم أرسوا نعالجها = فكل حتف امرئ يمضي بمقدار
وقال الآخر:
كونوا كمن ءاسى أخاه بنفسه = نعيش جميعا أو نموت كلانا
فرفع مثل {لا تخاف دركا ولا تخشى}.
وكذلك الرفع في: من يأتني أعطيه، ومتى تلقني أكرمك؛ ترفع الثاني فتبتدئه ولا تصيره جوابًا للجزاء.
ومثله:
[معاني القرآن لقطرب: 436]
يا أقرع بن حابس يا أقرع = إنك إن يصرع أخوك تصرع
فرفع؛ كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك
وقال زهير فرفع الثاني:
وإن أتاه خليل يوم مسألة = يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقال الآخر:
إن تحيي يحيون حياة رغدا
وأما قوله عز وجل {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} و{قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} فالمعنى: قل للمؤمنين أقيموا الصلاة، وقل للمؤمنين غضوا؛ فحمل على لفظ الجزءا، كما قالوا: كذب عليك الحج؛ فاللفظ لفظ خبر، وهو أمر؛ كأنه قال: عليك الحج، نصب.
وكذلك قول بعض العرب: لا يغفر الله له، وهو على الدعاء، وصيروه في لفظ الخبر، فشبهوه به فرفعوه على الشبه به، ومثله {لا تخاف دركا ولا تخشى} ومثله {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا} نثبك عليها ونشكرك لجزم؛ لأنه يصير جزاء وشرطًا؛ وإن رفعت الفعلين جميعًا في: من وما وأي خاصة تصيرها بمنزلة الذي فحسن؛ تقول: من يكرمني أكرمه، وما تأخذ آخذ؛ تريد: الذي يكرمني أكرمه، والذي تأخذ آخذ.
[وزاد محمد بن صالح في روايته]:
وأما قوله عز وجل {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فرفع هذا، فلهذه اللام التي اعتمد عليها في أول كلامه، دخلت على إن وقد.
[معاني القرآن لقطرب: 437]
قال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة = لا تلقنا بدماء القوم ننتفل
فجزم، وذلك لا بأس به، إلا أنه لا يقرأ به، لمخالفة الكتاب.
قال أبو علي: وجواب الجزاء بخمسة أحرف في بإن تفعل أفعل، والياء في يفعل، والنون في نفعل، والفاء في قول الله عز وجل {ومن عاد فينتقم الله منه}، وقوله {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} يرتفع ما بعدها بانقطاعه عما قبلها؛ وكذلك قوله عز وجل {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}.
وأما قوله عز وجل "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" فمن نصب - وهي قراءة ابن عباس رحمه الله - على الجواب بالفاء؛ لأن الجزاء ليس بواجب، فقرب من النفي والاستفهام؛ لأنك إذا قلت: إن تأتني أعطك، فهذا فعل لم يقع، والجزم فيه على العطف على أوله؛ والرفع أيضًا حسن على الابتداء.
فهذه جملة من الجزاء أتينا بها على جميع ما في القرآن). [معاني القرآن لقطرب: 438]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ما ننسخ من آية أو ننساها}: نؤخرها، ومنه: البيع بنسيئة أي: بتأخير، ومنه: نسأ الله في أجلك.
ومن قال: (نَنْسَها) فمعنى نتركها من النسيان ومنه {نسوا الله فنسيهم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} أراد: أو ننسكها, من النسيان.
ومن قرأها: (أو ننسأها) بالهمز؛ أراد: نؤخّرها فلا ننسخها إلى مدة، ومنه: النّسيئة في البيع، إنما هو: البيع بالتّأخير.
ومنه: النّسيء في الشهور، إنما هو: تأخير تحريم «المحرّم».
{نأت بخيرٍ منها} أي: بأفضل منها, ومعنى فضلها: سهولتها وخفتها). [تفسير غريب القرآن: 60-61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير (106)}
في {ننسها} غير وجه قد قرئ به: (أو نُنْسِهَا)، و(نَنْسَهَا)، و(نَنْسَؤُها).
فأما النسخ في اللغة؛ فإبطال شيء, وإقامة آخر مقامه، العرب تقول: نسخت الشمس الظل، والمعنى: أذهبت الظل, وحلّت محلّه،
وقال أهل اللغة في معنى {أو ننسها} قولين:-
1- قال بعضهم: (أو ننسها) من النسيان، وقالوا: دليلنا على ذلك قوله عزّ وجلّ: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه}, فقد أعلم اللّه أنه يشاء أن ينسى، وهذا القول عندي ليس بجائز؛ لأن اللّه عزّ وجل قد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} أنّه لا يشاء أن يذهب بالذي أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله {فلا تنسى * إلا ما شاء اللّه} قولان يبطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة:-
أحدهما: {فلا تنسى} أي: لست تترك إلا ما شاء اللّه أن تترك،
ويجوز أن يكون: إلا ما شاء الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.
2- وقيل في {أو ننسها} قول آخر, وهو خطأ أيضاً, قالوا: أو نتركها, وهذا يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت أي: تركت، وإنما معنى {أو ننسها}: أو نتركها, أي: نأمر بتركها،
فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ؟ وما الفرق بين الترك والنسخ؟
فالجواب في ذلك: أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية , فتبطل الثانية العمل بالأولى.
ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل , فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تأتي ناسخة للتي قبلها، نحو: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}, ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المحنة, فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيّنّاه, فهذا هو الحق.
ومن قرأ (أو ننسؤها) أراد: نؤخرها, والنّسء في اللغة التأخير، يقال: نسأ اللّه في أجله, وأنسأ اللّه أجله, أي: أخر أجله.
وقوله: {نأت بخير منها}المعنى: بخير منها لكم ، {أو مثلها}، فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ , فتمام الصيام الذي نسخ الإباحة في الإفطار لمن استطاع الصيام, ودليل ذلك قوله: {ولتكملوا العدّة}, فهذا هو خير لنا كما قال اللّه عزّ وجلّ.
وأمّا قوله {أو مثلها} أي: نأتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ أسهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ, والناس إليه أسرع نحو القبلة التي كانت على جهة, ثم أمر اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بجعل البيت قبلة المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب, وغيرهم إلى الإسلام). [معاني القرآن: 1 / 190-191]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (و{ننسها} أي: ننسكها يا محمد، من النسيان.
ومن قرأ (ننسأها) فهو من التأخير، أي: نؤخرها ولا ننسخها إلى مدة، ومنه النسأة في البيع أي: التأخير، والنسيء في الشهور: تأخيرها عن وقتها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( (نَنْسَأَهَا): نؤخرها. (نَنْسَاهَا): نتركها). [العمدة في غريب القرآن: 81]
تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
لفظ {ألم} ههنا لفظ استفهام, ومعناه: التوقيف، وجزم {ألم} ههنا كجزم "لم"؛ لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله،
ومعنى الملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها, فما كان مما يقال فيه ملك سمي: الملك، وما نالته القدرة مما يقال فيه مالك, فهو ملك، تقول: ملكت الشيء أملكه ملكا.
وكقوله تعالى {على ملك سليمان} أي: في سلطانه وقدرته.
وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين أملكه إذا بالغت في عجنه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا "إملاك" فلان، أي: شهدنا عقد أمر نكاحه, وتشديده.
ومعنى الآية: إن اللّه يملك السّماوات والأرض, ومن فيهن, فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ , ومنسوخ, ومتروك, وغيره.
وقوله عزّ وجلّ: {وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللّه جلّ وعزّ ناصرهم، والفائدة فيه: أنه بنصره إياهم, يغلبون من سواهم). [معاني القرآن: 1 / 191]
تفسير قوله تعالى:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم...}
{أم} في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛
إحداهما: أن تفرّق معنى "أيّ",
والأخرى: أن يستفهم بها, فتكون على جهة النسق، والذي ينوى بها الابتداء إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام, فلو ابتدأت كلاماً ليس قبله كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألف أو بهل؛ ومن ذلك قول الله: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين * أم يقولون افتراه}، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه,
وأمّا قوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام, فردّ عليه؛ وهو قول الله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير},
وكذلك قوله: {ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم مّن الأشرار * اتّخذناهم سخريًّا أم زاغت عنهم الأبصار} فإن شئت جعلته استفهاماً مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردوداً على قوله: {مالنا لا نرى رجالاً}, وقد قرأ بعض القرّاء: {أتّخذناهم سخرياً} يستفهم في {أتّخذناهم سخرياً} بقطع الألف لينسّق عليه "أم" ؛ لأن أكثر ما تجيء مع الألف؛ وكلٌّ صواب,
ومثله: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}, ثم قال: {أم أنا خيرٌ من هذا} والتفسير فيهما واحد, وربّما جعلت العرب "أم" إذا سبقها استفهام لا تصلح "أي" فيه على جهة "بل"؛ فيقولون: هل لك قبلنا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم, يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظّلم؛ وقال الشاعر:
فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت ....... أم النّوم أم كلٌّ إليّ حبيبٌ
معناه: بل كلّ إليّ حبيب.
وكذلك تفعل العرب في "أو" فيجعلونها نسقاً مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه "أحدٌ"، و"إحدى" كقولك: اضرب أحدهما زيداً أو عمراً, فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحدٌ , وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك في الكلام: اذهب إلى فلانٍ , أو دع ذلك, فلا تبرح اليوم, فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل , وجعل "أو" في معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}, وأنشدني بعض العرب:
بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى ....... وصورتها أو أنت في العين أملح
يريد: بل أنت). [معاني القرآن: 1 / 71-72]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل...} و "سواء" في هذا الموضع قصد، وقد تكون "سواء" في مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سواء السّبيل} أي: وسطه،
قال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي: أي: وسطي،
وقال حسّان بن ثابت يرثى عثمان بن عفّان:
يا ويح أنصار النبي ونسله....... بعد المغيّب في سواء الملحد
). [مجاز القرآن: 1 / 50]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة العامة {كما سئل} بالهمز - وهي الأصل - من سألت؛ وهي أحسن.
[معاني القرآن لقطرب: 256]
قراءة الحسن "كما سيل" بغير همزة؛ وسنخبر عن الهمز إن شاء الله؛ إلا أن سلت تسال لغة عليها قراءة الحسن.
قال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة = ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
فلم يهمز). [معاني القرآن لقطرب: 257]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فقد ضل سواء السبيل} فالسواء: الوسط، وكقوله {في سواء الجحيم} أي في وسطها
قال الشاعر وهو كعب بن زهير:
ومشجع أما سواء قذاله = فيدا وغير ساره المعزاء
يريد: سائره.
وقال حسان بن ثابت:
............... = حتى أغي بفي سواء الملحد
أي وسطه). [معاني القرآن لقطرب: 331]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {كما سئل موسى من قبل} فقد ذكرناه في القراءة ما فيه.
ونخبر عن جملة من الهمز نأتي على ما في القرآن إن شاء الله.
الهمزة على ثلاثة أوجه: على التحقيق، والتخفيف، والبدل.
فالتحقيق الغالب على اللغة والقرآن، وذلك قول الله عز وجل {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم} وكقوله {فلما أنبأهم بأسمائهم} و{كما بدأكم تعودون} وثمل: قرأ وخبأ، وثمل {يخرج الخبء}
[معاني القرآن لقطرب: 438]
و{لكم فيها دفء} و{فأرسله معي ردءا يصدقني} و{إن قتلهم كان خطئا كبيرا}.
وأما التخفيف في الهمزة، وإنما خففت من بين حروف المعجم؛ لأنها كالتهوع من صاحبها، تخرج من صدره كالسعلة، إذا قال: أكرم أو أحسن؛ فثقلت عليهم فخففوها وأبدلوها.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وما قبلها مفتوح صارت بين بين؛ بين الهمزة المخففة والألف الساكنة؛ لأنها تذهب نبرتها، ويبقى تحركها، فتكون بين الألف وبين الهمزة؛ لأن الهمزة فيها نبرتها، والألف الساكنة لا تتحرك، فقربت من الهمزة لتحركها ومن الألف لذهاب نبرتها التي تكون مع الهمزة المخففة؛ وذلك قول الله عز وجل في التخفيف "فقراه عليهم"، بغير نبرة متحركة، و"كما بداكم تعودون"، و"فلما أنباهم بأسمائهم"، وقرا وخبا ورفا.
فإذا كانت الهمزة مضمومة وما قبلها مفتوح، صارت الهمزة في لفظ الواو إذا خففت؛ للضمة فيها؛ وذلك قول الله عز وجل {يبدوا الخلق}، {يتفيوا ظلاله} كالواو المتحركة لا نبرة فيها.
وكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، صارت ياء؛ للكسرة فيها؛ وذلك مثل: لم يبري الرجل، وريمت الناقة ولدها؛ يريد: رئمت، وبرا الرجل.
فإذا كانت مفتوحة وما قبلها مضموم، فهي كالواو أيضًا؛ وذلك قولك: جون، وسور جمع سؤرة.
[معاني القرآن لقطرب: 439]
وإن كانت مكسورًا ما قبلها صارت كالياء، وذلك مثل {وإذا قرئ القرآن} مفتوحة غير مهموزة، وبين القوم مير؛ تريد: مئر من العداوة.
وإذا كانت مضمومة وما قبلها مكسور، مثل: هو ينبيك عنه، على مثال: يقضئك؛ صارت ياء للكسرة قبلها؛ وكذلك: "يبدي الله الخلق ثم يعيده" وهو يقريك السلام، بغير همز؛ وعلى هذا القول إذا انضم ما قبلها وانكسرت هي أن تكون واوًا؛ تتبع ما قبلها من الضمة؛ وذلك مثل: "كما سيل موسى"، كالواو المنكسرة وقد ريم الفصيل، ولم يبري الرجل من مرضه، ولم توضو الجارية؛ من وضؤت؛ أي حسنت؛ وكذلك القياس إذا انكسر ما قبله وانضم هو؛ وذلك مثل: سيل؛ ولو كانت كلامًا لصارت ياء للكسرة؛ تجتذب الياء إليها؛ ولم تجتذب الفتحة الهمزة المضمومة ولا المكسورة فتصير ألفًا لأن الألف بعيدة من الضمة والكسرة؛ لأن حركتها الفتح.
وإذا كانت الهمزة ما قبلها ساكن، ولم يكن ما قبلها واوًا ولا ياء ولا ألفًا، فأردت التخفيف حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها؛ ليدل على حذفها؛ وذلك قول الله عز وجل {لكم فيها دفء ومنافع} يقول: دف؛ و{يخرج الخبء في السماوات} يقول: الخب في السماوات؛ و{إن قتلهم كان خطئا كبيرا}، يقول: خطا؛ و{ردءًا يصدقني} يقول: {ردا} وهي قراءة الأعرج بغير همز، وقراءة شيبة ونافع.
وكذلك قوله: يسئل عنه ومسئلة واسئل؛ إذا خففت قلت: سل؛ وإنما صارت "سل" بغير همز حيث حذفت الهمزة فتحركت السين فحذفت الألف لتحرك السين؛ لأن الألف جاءت ليسكن بها ما بعدها؛ كما تقول: ابن وبني، واسم وسمي؛ فحذفوا حيث تحركت الباء والسين؛ وذلك قوله {سل بني إسرائيل} هي في الأصل: اسئل؛ لأنها من سألت، وكذلك {والملك على أرجائها} الأصل: المألك، وقد فسرنا ذلك في صدر الكتاب.
[معاني القرآن لقطرب: 440]
ومن ذلك قوله عز وجل {وهم ينهون عنه وينأون عنه} إذا خففت قلت: وينون عنه؛ وكذلك قوله عز وجل {أفلم ييأس الذين آمنوا} تقول إذا خففت: أفلم ييس الذين آمنوا؛ تلقي حركة الهمزة على ما قبلها؛ وكذلك قوله عز وجل {فإليه تجأرون}: تجرون؛ مثل: تسلون، والأكثر الهمزة والأصل.
فإذا كان قبل الهمزة الألف أو الياء أو الواو الزوائد كانت الياء مكسورًا ما قبلها فأردت التخفيف، فليس إلا أن تدغم الهمزة في الياء؛ وكذلك الواو المضموم ما قبلها، وتخفف في الألف لا تدغم في شيء قبلها من حروف المعجم.
وذلك في الياء كقول الله عز وجل {وأحاطت به خطيئته} تقول: خطيته، فتدغم ولا تهمز، و{النبي أولى بالمؤمنين} تقول: {النبي أولى} فتدغم، وكذلك {أولئك هم خير البرية} تقول: {البرية}، و{إني برئ مما تعلمون} تقول: "بري مما"؛ فتدغم ولا تهمز؛ كرهوا أن يحركوها وهي حروف مد ولين، فيذهب اللين؛ وإنما هي كالألف في فعال، كقول الله عز وجل {براءة من الله ورسوله} إذا خففت قلت: براة من الله؛ ولم تدغم لما ذكرنا.
وأما الواو فقولك: هذا كتاب مقروء، وشيء مشنوء، ومخبوء، تدغم إذا خففت، ولا تحذف الهمزة كما ذكرنا.
وإذا كانت الياء والواو من نفس الكلمة كقول الله عز وجل {حتى تفيء إلى أمر الله} و{لتنوء بالعصبة أولي القوة} و{إني أريد أن تبوء بإثمي} و{ليسوءوا وجوهكم} ومثل ذلك؛ فإن يونس أجاز الإدغام في مثله، قال: هو يجي، في يجيء؛ وأجاز: هذا مسو، ومفي؛ يريد: هذا مسوء، ومفيء؛ من سؤت وفئت.
وقد قال بعضهم: هو يجيك فحذف الهمزة وأسكن الياء؛ وأريد أن أجيك؛ فعلى هذا إذا أردت التخفيف قلت: حتى تفي إلى أمر الله؛ فأدغمت؛ وإن شئت - على قولهم يجيك -: حتى تفي إلى أمر الله.
[معاني القرآن لقطرب: 441]
والقول الثالث حسن في القياس؛ يعني: يجيك ويسوك؛ تلقي الحركة عليه، تقول: "لتنو بالعصبة"، و"حتى تفي إلى أمر الله" بغير همزة، و"أن تبو بإثمي وإثمك"، قالوا: قد جيء به، فحذفوا الهمزة؛ على هذا: "سيت وجوه الذين كفروا" يريد: {سيئت}، وقد قالوها في كلامهم، وكذلك "سيء بهم" يريد: {سيء بهم}.
وقال يونس أيضًا: رأيت شيا، فرمى بالهمزة وحرك الياء بحركة الهمزة؛ وقال أيضًا: رأيت شيا؛ فأدغم كما ذكرنا في يجي، وكذلك "إن هذا لشيء عجيب" و"شيء عجيب" كل لا بأس به، والأصل الهمز، وهو الذي نستحسن في القراءة.
وقالوا: سوة لك؛ فأدغموا، وضو يا هذا، وقد قالوا: سوة له؛ فحذفوا والقوا الحركة على ما قبلها؛ وكذلك "هيئة" في القياس كسوءة، وكذلك قوله: {فبدت لهما سواتهما} على هذه اللغة {سواتهما}؛ هذا كله جوازه في تخفيف الهمز على اللغة.
وإذا كانت الهمة ساكنة وما قبلها مفتوح، صارت كالألف؛ وإن كان مضمومًا صارت كالواو؛ وإن كان مكسورًا صارت كالياء؛ وذلك قوله عز وجل {يطاف عليهم بكأس من معين}، ورأس، و{فيه بأس شديد} كقولك: كاس وباس وراس؛ وكذلك {فإذا قرأت القرآن} {قرات}، و{إن نسينا أو أخطانا} وكذلك {يا نساء النبي من يأت منكن} من أتيت، {حتى يأذن لي أبي} من أذنت، وتقول في هذا كله: {فإذا قرات} و{إن نسينا أو أخطانا}.
وأما المضموم فهو قولك: {إن كنتم للرويا تعبرون} والرؤية، و{يؤتها أجرها مرتين} من: آتيت؛ أي أعطيت، و{إن ذلكم كان يؤذي النبي}
[معاني القرآن لقطرب: 442]
من آذى، و{إن كنتم تؤمنون} من: آمن؛ فيجوز في هذا ترك الهمزة تقول: {نوتها} و{الرويا}.
وأما المكسورة فقوله {أحسن أثاثا ورئيا} {فأكله الذئب} كذلك {وبئر معطلة} و{اعملوا ما شئتم} و{ما جئتم به آالسحر} تقول: بير وذيب وريا وشيتم.
وأما التقاء الهمزتين فقد قلنا في ذلك في صدر الكتاب، مثل: {جاء أشراطها} {جاء أحدهمه الموت} وشبه ذلك، قلنا في تخفيفه وحذفه.
وقد حذفوا أيضًا - لثقل الهمزة - ما لا يحذف في القياس، مما تحرك ما قبله، على مثل قراءة عيسى بن عمر {أريتم} بحذف الهمزة، وما قبلها متحرك.
ومثله قول الراجز:
أريت إن جئت به أملودا = مرجلا ويلبس البرودا
وقال بعض بكر بن وائل:
من را مثل سعدان بن ليلى = إذا ما النسع طال عن المطيه
ومن را مثل سعدان بن ليلى = إذا شبت شآمية عريه
وقالوا ذلك في الكلام: را زيد عمرا، بغير همز؛ وقد ري الهلال، بحذف الهمزة.
وأما قوله {فانظر ماذا ترى}، و{إني أرى في المنام}، و{سيرى الله عملكم}؛ فهذا الحذف حسن هاهنا؛ لأنه ألقى الحركة على الساكن؛ والأصل: يرى وترأى، إلا أن الحذف كثر في كلامهم في هذه الأحرف؛ لكثرة استعمالهم لترى وأرى ونرى؛ وقد جاءوا به على الأصل.
قال الأعلم بن جرادة:
[معاني القرآن لقطرب: 443]
ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر = ومن تيمل الدهر يرأ ويسمع
وقال سراقة البارقي:
أري عيني ما لم ترأياه = كلانا عالم بالترهات
وأما البدل:
فإن قريشًا وكنانة وأسدًا وكثيرًا من العرب يدعون الهمز؛ وحكي لنا بشار الناقط: قريت، وأخطيت، على البدلن وقالوا ايضًا: خببت الشيء، وتوضيت؛ يريد: خبأت وتوضأت، وداب يداب؛ يريد: يدأب، ولام يلوم من اللؤم؛ يريد: لؤم يلؤم.
وحى يونس أيضًا: اتكيت، وتوضيت، وأخطيت، يخطي مثل: يقضي غير مهموز، وهذا على قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع، والمستهزون، و{الخاطون} والمتكون؛ والمتكون؛ وقد ذكرناها في القراءة، جعلوها من: استهزيت، واتكيت.
قال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة = ضلت هذيل بما سالت ولم تصب.
فترك الهمز، وأبدل.
وقال حسان أيضًا:
ولو سئلت بدر بحسن بلائنا = فأنبت بما فينا إذا حمدت بدر.
فقال: أنبت؛ فترك الهمز وأبدل.
[معاني القرآن لقطرب: 444]
وقال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية = فارعى فزار فلا هناك المرتع
فقال: هناك؛ وهي من: هنأني الشيء.
وقال حسان بن ثابت:
جعلتم فخركم فيه لعبد = لألأم من يطا عفر التراب
فقال: يطا؛ وهي من وطئت، أطأ يا فتى.
وقال أمية:
تدافع درة في كل فج = كذلكم تداب ولا تقيم
فلم يهمز، وأسكن الألف.
وقال حسان بن ثابت:
فدابت سراها ليلة ثم عرست = بيثرب والأعراب باد وحاضر). [معاني القرآن لقطرب: 445]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سواء السبيل}: وسطه وقصده، ومثله {في سواء الجحيم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: ضلّ عن وسط الطريق، وقصده). [تفسير غريب القرآن: 61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108)}
أجود القراءة بتحقيق الهمزة، ويجوز جعلها بين بين، يكون بين الهمزة والياء فيلفظ بها (سُيل), وهذا إنما تحكمه المشافهة؛ لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المتحقق والمليّن, وما جعل ياء خالصة، ويجوز (كما سِيلَ موسى من قبل), من قولك: سِلْت أَسَال، في معنى: سُئِلت أُسْأَل, وهي لغة للعرب حجاها جميع النحويين، ولكن القراءة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل هذا الوجه من تحقيق الهمزة, وتليينها.
ومعنى {أم} ههنا, وفي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف الاستفهام إلا أنها لا تكون مبتدأة, أنها تؤذن بمعنى بل,
ومعنى ألف الاستفهام، المعنى "بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل",
فمعنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا خير لهم في السؤال عنه , وما يكفّرهم، وإنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم , وإقامتها على مخالفتهم , وقد شرحنا ذلك في قوله: {فتمنّوا الموت}, وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه, فأعلم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر، كما قال عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}, وقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: من يسأل عما لا يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحق , فقد ضل سواء السبيل, أي: قصد السبيل).
[معاني القرآن: 1 / 192-193]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( "السَوَاء": الوسط, {السَّبِيلِ}: الطريق). [العمدة في غريب القرآن: 82]
تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كفّاراً...} ها هنا انقطع الكلام، ثم قال: {حسداً} كالمفسّر لم ينصب على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسداً وبغياً). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مّن عند أنفسهم...} من قبل أنفسهم لم يؤمروا به في كتبهم). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فاعفوا واصفحوا} عن المشركين، وهذا قبل أن يؤمر بالهجرة والقتال؛ فكل أمر نهى عنه عن مجاهدة الكفار فهو قبل أن يؤمر بالقتال، وهو مكي). [مجاز القرآن: 1 / 50]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيء قدير}
يعني به: علماء اليهود.
وقوله: {حسداً من عند أنفسهم} موصول بـ{ود الذين كفروا}، لا بقوله {حسداً}؛ لأن حسد الإنسان لا يكون من عند نفسه،
ولكن المعنى: مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، الدليل على ذلك قوله: {من بعد ما تبيّن لهم الحق}.
وقوله عزّ وجلّ: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإنما كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد وضوح الحق عندهم , فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه على كلّ شيء قدير} أي: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم والأبلغ,
ويقال: أَقدر على الشيء, قَدْراً, وقَدَرًا, وقُدْرة، وقُدْرَانا، ومَقْدِرَة , ومقدُرة , ومقدَرة.
هذه سبعة أوجه, مروية كلها، وأضعفها مقدِرة بالكسر). [معاني القرآن: 1 / 193-194]
تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وآتوا الزّكاة} أي: أعطوا). [مجاز القرآن: 1 / 51]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({آتوا الزكاة} أي: أعطوا).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({آتُوا}: أعطوا). [العمدة في غريب القرآن: 82]