تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: فما لكم في المنافقين الآية. الخطاب للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام، والمقصد منه التوبيخ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب المنافقين؟ فقال ابن عباس: هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة، وأقاموا بين أظهر الكفار، ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم: إنكم لا تخافون أصحاب محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم، فقالت طائفة: نخرج إلى أعداء الله المنافقين، وقالت طائفة: بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وقال مجاهد: بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة، فأظهروا الإسلام، ثم قالوا: لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى حتّى يهاجروا [النساء: 89]، وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عبد الله بن أبيّ وأصحابه، لأن أصحاب النبي عليه السلام اختلفوا فيهم، وقال السدي: بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا، وقالوا: إنّا اجتويناها، وقال ابن زيد: إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك، لأن الصحابة اختلفوا فيهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، حسبما وقع في البخاري، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله، وكل من قال في هذه الآية: إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله: حتّى يهاجروا [النساء: 89] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه، وترك الخلاف والنفاق، كما قال عليه السلام، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وفئتين معناه فرقتين، ونصبهما على الحال كما تقول: ما لك قائما، هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل، والتقدير ما لكم كنتم فئتين، أو صرتم، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة، كما نقول ما لك الشاتم لزيد، وخطأ هذا القول الزجّاج، لأن المعرفة لا تكون حالا، وأركسهم معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم، «والركس» الرجيع، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
فأركسوا في حميم النّار إنّهم = كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا
وحكى النضر بن شميل والكسائي، «ركس وأركس» بمعنى واحد، أي رجعهم، ومن قال من المتأولين: أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر، وبما كسبوا معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم، وقوله:
أتريدون استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون: بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله لضلالة وحتمها عليه، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده). [المحرر الوجيز: 2/619-622]
تفسير قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتّخذوا منهم أولياء حتّى يهاجروا في سبيل اللّه فإن تولّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتّخذوا منهم وليًّا ولا نصيراً (89)
الضمير في ودّوا عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية المصائب بكم، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا، فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم، ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر، وقوله: فلا تتّخذوا الآية. هذا نهي عن موالاتهم حتى يهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن الإيمان، وفي سبيل اللّه معناه في طريق مرضاة الله، لأن سبل الله كثيرة، وهي طاعاته كلها، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان فخذوهم، وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال). [المحرر الوجيز: 2/622]
تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إلاّ الّذين يصلون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء اللّه لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلم فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلاً (90)
كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسرقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه، قال عكرمة والسدي وابن زيد: ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة، وقال أبو عبيدة وغيره: يصلون في هذا الموضع معناه، ينتسبون، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
إذا اتّصلت قالت: أبكر بن وائل = وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا غير صحيح، قال الطبري: قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل، فإن قيل: إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشا إلا بعد نسخ هذه الآية، قيل: التواريخ تقضي بخلاف ذلك، لأن الناسخ لهذه الآية هي سورة براءة، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش، وقوله تعالى: أو جاؤكم عطف على يصلون، ويحتمل أن يكون على قوله: بينكم وبينهم ميثاقٌ والمعنى في العطفين مختلف وهذا أيضا حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال قومه، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه، وهذه نسخت أيضا بما في براءة. وحصرت: ضاقت وحرجت، ومنه الحصر في القول، وهو: ضيق الكلام على المتكلم، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري: وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط أو جاؤكم، وحصرت عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف، كقولك جاء زيد ركب الفرس، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبرا آخر عن زيد، لم تحتج إلى تقدير قد، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد، قال الزجاج:
حصرت خبر بعد خبر، وقال المبرد: حصرت دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال بعض المفسرين: لا يصح هنا الدعاء، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم، ذلك فاسد.
قال المؤلف: وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم، أي هم أقل وأحقر، ويستغنى عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا عليّ ولا معي أيضا، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه، واللام في قوله:
لسلّطهم جواب لو، وفي قوله: فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول: لو شاء الله لقاتلوكم، والمعنى تقرير المؤمنين على مقدار النقمة وصرفها، أي لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم، فإذ قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها، وقرأت طائفة «فلقتلوكم». وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد التاء، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل، والسّلم هنا الصلح، قاله الربيع، ومنه قول الطرماح بن حكيم:
وذاك أن تميما غادرت سلما = للأسد كل حصان رعثة الكبد
وقال الربيع: السّلم هاهنا الصلح، وكذا قرأته عامة القراء، وقرأ الجحدري «السلم» بسكون اللام، وقرأ الحسن «السّلم» بكسر السين وسكون اللام، فمعنى جملة هذه الآية، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا من دخل منهم في عداد من بينكم وبينهم ميثاقٌ والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم، لأنه لو شاء لسلط هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم فلقاتلوكم، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ اللّه يحبّ المقسطين [الممتحنة: 8] منسوخ بما في سورة براءة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما). [المحرر الوجيز: 2/622-625]
تفسير قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السّلم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً (91)
لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا: نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل:
كانت أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل بين النبي عليه السلام والكفار الأخبار، وقيل: نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه السلام رياء، يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون، ففضح الله تعالى هؤلاء، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم، وقوله:
إلى الفتنة معناه إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل: ربي الخنفساء، وربي العود، وربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى أركسوا رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ عبد الله بن مسعود، «ركسوا» بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف، والخلاف في السّلم حسبما تقدم، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال. وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين»، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا، وثقفتموهم مأخوذ من الثقاف، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان الحجة، قال عكرمة: حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة). [المحرر الوجيز: 2/625-626]