العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة آل عمران

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 09:08 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة آل عمران[من الآية (118) إلى الآية (120) ]

تفسير سورة آل عمران
[من الآية (118) إلى الآية (120) ]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 ربيع الثاني 1434هـ/7-03-2013م, 11:13 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف


جمهرة تفاسير السلف

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]

قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}
يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيّها الّذين صدقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به نبيّهم من عند ربّهم، {لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} يقول: لا تتّخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملّتكم، يعني من غير المؤمنين، وإنّما جعل البطانة مثلاً لخليل الرّجل فشبّهه بما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه على أسراره، وما يطويه عن أباعده وكثيرٍ من أقاربه، محلّ ما ولي جسده من ثيابه.
فنهى اللّه المؤمنين به أن يتّخذوا من الكفّار به أخلاّء وأصفياء ثمّ عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغشّ والخيانة، وبغيهم إيّاهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم ومن مخالفتهم، فقال تعالى ذكره: {لا يألونكم خبالاً} يعني لا يستطيعون شرًّا، من ألوت آلو ألوًّا، يقال: ما ألا فلانٌ كذا، أي ما استطاع، كما قال الشّاعر:
جهراء لا تألو إذا هي أظهرت = بصرًا ولا من عيلةٍ تغنيني
يعني لا تستطيع عند الظّهر إبصارًا. وإنّما يعني جلّ ذكره بقوله: {لا يألونكم خبالاً} البطانة الّتي نهى المؤمنين عن اتّخاذها من دونهم، فقال: إنّ هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً: أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال
وأصل الخبال، والخبال: الفساد، ثمّ يستعمل في معانٍ كثيرةٍ يدلّ على ذلك الخبر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: من أصيب بخبلٍ أو جراحٍ.
وأمّا قوله: {ودّوا ما عنتّم} فإنّه يعني: ودّوا عنتكم، يقول: يتمنّون لكم العنت والشّرّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم.
ذكر أنّ هذه الآية نزلت في قومٍ من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النّفاق منهم، ويصافونهم المودّة بالأسباب الّتي كانت بينهم في جاهليّتهم قبل الإسلام، فنهاهم اللّه عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيءٍ من أمورهم.
ذكرالخبربذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، قال: قال محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان رجالٌ من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهليّة، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم، فنهاهم عن مباطنتهم تخوّف الفتنة عليهم منهم: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} إلى قوله: {وتؤمنون بالكتاب كلّه}.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً} في المنافقين من أهل المدينة، نهى اللّه عزّ وجلّ المؤمنين أن يتولّوهم.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم} نهى اللّه عزّ وجلّ المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم، أو يتولّوهم من دون المؤمنين.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه عن ابن عبّاسٍ، قوله: {لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} هم المنافقون.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً} يقول: لا تستدخلوا المنافقين، تتولّوهم دون المؤمنين.
- حدّثنا أبو كريبٍ، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا العوّام بن حوشبٍ، عن الأزهر بن راشدٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تستضيئوا بنار أهل الشّرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا قال: فلم ندر ما ذلك حتّى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أمّا قوله: لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا، فإنّه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمّدٌ؛ وأمّا قوله: ولا تستضيئوا بنار أهل الشّرك، فإنّه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شيءٍ من أموركم، قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب اللّه، ثمّ تلا هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم}.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} أمّا البطانة: فهم المنافقون.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} الآية، قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قوله: {قد بدت البغضاء من أفواههم} الآية
واختلفوا في تأويل قوله {ودّوا ما عنتّم} فقال بعضهم معناه: ودّوا ما ضللتم عن دينكم.
- ذكر من قال ذلك:
حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ودّوا ما عنتّم} يقول: ما ضللتم.
وقال آخرون بما:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {ودّوا ما عنتّم} يقول في دينكم، يعني: أنّهم يودّون أن تعنتوا في دينكم فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {ودّوا ما عنتّم} فجاء بالخبر عن البطانة بلفظ الماضي في محلّ الحال والقطع بعد تمام الخبر، والحالات الّتي لا تكون إلاّ بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها؟
قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله: {ودّوا ما عنتّم} حالٌ من البطانة، وإنّما هو خبرٌ عنهم ثانٍ، منقطعٌ عن الأوّل غير متّصلٍ به.
وإنّما تأويل الكلام: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةٌ صفتهم كذا صفتهم كذا، فالخبر عن الصّفّة الثّانية غير متّصلٍ بالصّفة الأولى، وإن كانتا جميعًا من صفة شخصٍ واحدٍ.
وقد زعم بعض أهل العربيّة أنّ قوله: {ودّوا ما عنتّم} من صلة البطانة،وان معنى ذللك لاتتخذو بطانة ودوا اى احبو ما عنتم
وليس لهذا القول الذى قاله صاحب هذه المقاله وجه معروف وذلك ان البطانه وصلت بقوله: {لا يألونكم خبالاً} فلا وجه لصلةٍ أخرى بعد تمام البطانة بصلته، ولكنّ القول في ذلك كما بيّنّا قبل من أنّ قوله: {ودّوا ما عنتّم} خبرٌ مبتدأٌ عن البطانة غير الخبر الأوّل، وغير حالٍ من البطانة ولا قطعٍ منها). [جامع البيان: 5/707-712]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الّذين نهيتكم أيّها المؤمنون أن تتّخذوهم بطانةً من دونكم لكم بأفواههم، يعني بألسنتهم، والّذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم، وعدواتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضّلالة، فذلك من أوكد الأسباب من معاداتهم أهل الإيمان؛ لأنّ ذلك عداوةٌ على الدّين، والعداوة على الدّين العداوة الّتي لا زوال لها إلاّ بانتقال أحد المتعاديين إلى ملّةٍ الآخر منهما، وذلك انتقالٌ من هدًى إلى ضلالةٍ كانت عند المنتقل إليها ضلالةً قبل ذلك، فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدّلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه لهم من البغضاء والعداوة.
وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قد بدت البغضاء من أفواههم} قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك.
وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الّذين عنوا بهذه الآية أهل النّفاق، دون من كان مصرّحًا بالكفر من اليهود وأهل الشّرك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يقول: قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفّار، من غشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إيّاهم.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يقول: من أفواه المنافقين
وهذا القول الّذي ذكرناه عن قتادة قولٌ لا معنى له، وذلك أنّ اللّه تعالى ذكره إنّما نهى المؤمنين أن يتّخذوا بطانةً ممّن قد عرفوه بالغشّ للإسلام وأهله، والبغضاء إمّا بأدلّةٍ ظاهرةٍ دالّةٍ على أنّ ذلك من صفتهم، وإمّا بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشّنآن والمناصبة لهم، فأمّا من لم يثبتوه معرفةً أنّه الّذي نهاهم اللّه عزّ وجلّ عن مخالّته ومباطنته، فغير جائزٍ أن يكونوا نهوا عن مخالّته ومصادقته إلاّ بعد تعريفهم إيّاهم، إمّا بأعيانهم وأسمائهم، وإمّا بصفاتٍ قد عرفوهم بها.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفّار، غير مدركٍ به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتّودّد إليهم، كان بيّنّا أنّ الّذي نهى اللّه المؤمنين عن اتّخاذهم لأنفسهم بطانةً دونهم، هم الّذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم اللّه عزّ وجلّ به، فعرفهم المؤمنون بالصّفة الّتي نعتهم اللّه بها، وأنّهم هم الّذين وصفهم تعالى ذكره بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون ممّن كان له ذمّةٌ وعهدٌ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه من أهل الكتاب؛ لأنّهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر فيهم على ما قد بيّنّا، ولو كانوا الكفّار ممّن قد ناصب المؤمنين الحرب، لم يكن المؤمنون متّخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنّهم الّذين كانوا بين أظهر دور المؤمنين من أهل الكتاب أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ممّن كان له من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ وعقدٌ من يهود بني إسرائيل.
والبغضاء: مصدرٌ، وقد ذكر أنّها في قراءة عبد اللّه بن مسعود: قد بدا البغضاء من أفواههم، على وجه التّذكير، وإنّما جاز ذلك بالتّذكير ولفظه لفظ المؤنّث؛ لأنّ المصادر تأنيثها ليس بالتّأنيث اللاّزم، فيجوز تذكير ما خرج منها على لفظ المؤنّث وتأنيثه، كما قال عزّ وجلّ: {وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة} وكما قال: {فقد جاءكم بيّنةٌ من ربّكم} وفي موضعٍ آخر: {وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة}، {قد جاءتكم بيّنةٌ من ربّكم}
وقال: {من أفواههم} وإنّما بدا ما بدا من البغضاء منهم بألسنتهم؛ لأنّ المعنيّ به الكلام الّذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم. فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم). [جامع البيان: 5/712-715]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما تخفي صدورهم أكبر}
يعني تعالى ذكره بذلك: والّذي تخفي صدورهم، يعني صدور هؤلاء الّذين نهاهم عن اتّخاذهم بطانةً فتخبنه عنكم أيّها المؤمنون أكبر، يقول: أكبر ممّا قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم.
- كما: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وما تخفي صدورهم أكبر} يقول: وما تخفي صدورهم أكبر ممّا قد أبدوا بألسنتهم.
- حدّثت عن عمّارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {وما تخفي صدورهم أكبر} يقول: ما تكنّ صدورهم أكبر ممّا قد أبدوا بألسنتهم). [جامع البيان: 5/715]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: قد بيّنّا لكم أيّها المؤمنون الآيات، يعني بالآيات العبر، قد بيّنّا لكم من أمر هؤلاء اليهود الّذين نهيناكم أن تتّخذوهم بطانةً من دون المؤمنين ما تعتبرون وتتّعظون به من أمرهم، {إن كنتم تعقلون} يعني إن كنتم تعقلون عن اللّه مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته عليكم). [جامع البيان: 5/715]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالًا ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو بدرٍ عبّاد بن الوليد الغبريّ، ثنا محمّد بن عبّادٍ الهنائيّ، ثنا حميد بن مهران المالكيّ الخيّاط قال: سألت أبا غالبٍ يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم قال: حدّثني أبو أمامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: هم الخوارج.
والوجه الثّاني:
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ ثنا أبي ثنا عمّي الحسين حدّثني أبي عن جدّي عن ابن عبّاسٍ قوله: لا تتّخذوا بطانةً من دونكم فهم المنافقون
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم في المنافقين من أهل المدينة، نهى المؤمنين أن يتولوهم.
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ فيما كتب إليّ، ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ، ثنا شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة قوله: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم قال: نهى اللّه تعالى المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، وأن يؤاخوهم وأن يتولّوهم دون المؤمنين.
وروي عن الحسن والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان قالوا: المنافقون.
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا ابن الطّبّاع، ثنا هشيمٌ عن العوّام بن حوشبٍ، عن الأزهار بن راشدٍ، عن أنس بن مالكٍ يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم يقول: لا تستشيروا المشركين في شيءٍ من أموركم.
والوجه الرّابع:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق قال: قال محمّد بن أبي محمّدٍ: وكان رجالٌ من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهليّة، فأنزل اللّه تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوّف الفتنة عليهم منهم: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم
والوجه الخامس:
- حدّثنا أبي، حدّثني أيّوب بن محمّدٍ الوزّان، ثنا عيسى بن يونس، عن أبي حيّان التّيميّ، عن أبي الزّنباع، عن أبي دهقانة قال: قيل لعمر بن الخطّاب أنّ هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظاً كاتباً فلو اتّخذته كاتباً قال: قد اتّخذت إذاً بطانةً من دون المؤمنين
قوله تعالى: لا يألونكم خبالا
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: لا يألونكم خبالا يقول: يضلّونكم كما ضلّوا فنهاهم أن يستدخلوا، المنافقين دون المؤمنين، أو يتّخذوهم أولياء.
قوله تعالى: ودّوا ما عنتّم
- حدّثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ، ثنا أحمد بن المفضّل، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ ودّوا ما عنتّم قال: ما عنتم: ما ظللتم.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: ودّوا ما عنتّم يقول ودّ المنافقون ما عنت المؤمنين في دينهم.
قوله تعالى: قد بدت البغضاء من أفواههم
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ فيما كتب إليّ ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ، ثنا شيبان، عن قتادة قوله: قد بدت البغضاء من أفواههم يقول: من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفّار، غشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إيّاه
وروي عن الرّبيع بن أنسٍ: أنّه قال: من أفواه المنافقين.
قوله تعالى: وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه عن الرّبيع بن أنسٍ في قوله: وما تخفي صدورهم أكبر يقول: ما تكنّ صدورهم أكبر ممّا قد أبدوا بألسنتهم.
وروي عن قتادة أنّه قال: أكبر ممّا بدا من ألسنتهم.
قوله تعالى: إن كنتم تعقلون
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، أنبأ أصبغ بن الفرج قال:
سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم لعلّكم تعقلون
قال: تتفكّرون). [تفسير القرآن العظيم: 2/742-744]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله لا تتخذوا بطانة من دونكم قال نزلت في المنافقين من أهل المدينة). [تفسير مجاهد: 134]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} [آل عمران: 118].
- عن أبي أمامة عن النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - «في قوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالًا ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} [آل عمران: 118]، قال: هم الخوارج».
رواه الطّبرانيّ، وإسناده جيّدٌ). [مجمع الزوائد: 6/327]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 118 - 120.
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {لا تتخذوا بطانة من دونكم} قال: هم المنافقون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: نزلت في المنافقين من أهل المدينة، نهى المؤمنين أن يتولوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند جيد عن حميد بن مهران المالكي الخياط قال: سألت أبا غالب عن قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية، قال: حدثني أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: هم الخوارج.
وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين، فذكر ذلك للحسن فقال: نعم، لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا ولا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، أنه قيل له: إن هنا غلاما من أهل الحيرة حافظا كاتبا فلو اتخذته كاتبا قال: قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين.
وأخرج ابن جرير عن الربيع {لا تتخذوا بطانة} يقول: لا تستدخلوا المنافقين تتولوهم دون المؤمنين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي {ودوا ما عنتم} يقول: ما ضللتم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل {ودوا ما عنتم} يقول: ود المنافقون ما عنت المؤمنون في دينهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة {قد بدت البغضاء من أفواههم} يقول: من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار من غشهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم {وما تخفي صدورهم أكبر} يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم). [الدر المنثور: 3/736-741]

تفسير قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ها أنتم أيّها المؤمنون الّذين تحبّونهم، يقول: تحبّون هؤلاء الكفّار الّذين نهيتكم عن اتّخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، فتودّونهم وتواصلونهم، وهم لا يحبّونكم، بل ينتطئوون لكم على العداوة والغشّ، وتؤمنون بالكتاب كلّه.
ومعنى الكتاب في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال: أكثر الدّرهم في أيدي النّاس، بمعنى الدّراهم، فكذلك قوله: {وتؤمنون بالكتاب كلّه}، إنّما معناه: بالكتب كلّها كتابكم الّذي أنزل اللّه إليكم، وكتابهم الّذي أنزله إليهم، وغير ذلك من الكتب الّتي أنزلها اللّه على عباده.
يقول تعالى ذكره: فأنتم إذ كنتم أيّها المؤمنون تؤمنون بالكتب كلّها، وتعلمون أنّ الّذين نهيتكم عن أن تتّخذوهم بطانةً من دونكم كفّارٌ بذلك كلّه، بجحودهم ذلك كلّه ما في ذلك كله من عهود اللّه إليهم وتبديلهم ما فيه من أمر اللّه ونهيه، أولى بعداوتكم إيّاهم، وبغضائهم وغشّهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها.
- كما: حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم منهم لكم.
وقال: {ها أنتم أولاء} ولم يقل: هؤلاء أنتم، ففرّق بين ها، وأولاء بكناية اسم المخاطبين لأنّ العرب كذلك تفعل في هذا إذا أرادت به التّقريب ومذهب النّقصان للّذي يحتاج إلى تمام الخبر، وذلك مثل أن يقال لبعضهم: أين أنت؟ فيجيب المقول ذلك له: ها أنا ذا، فيفرّق بين التّنبيه وذا بمكنيّ اسم نفسه، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، ثمّ يثنّى ويجمع على ذلك، وربّما أعادوا حرف التّنبيه مع ذا، فقالوا: ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلاّ فيما كان تقريبًا، فأمّا إذا كان على غير التّقريب والنّقصان، قالوا: هذا هو، وهذا أنت، وكذلك يفعلون مع الأسماء الظّاهرة، يقولون: هذا عمرٌو قائمًا، إن كان هذا تقريبًا، وإنّما فعلوا ذلك في المكنيّ مع التّقريب تفرقةً بين هذا إذا كان بمعنى النّاقص الّذي يحتاج إلى تمامٍ، وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصّحيح.
وقوله: {تحبّونهم} خبرٌ للتّقريب.
وفي هذه الآية إبانةٌ من اللّه عزّ وجلّ عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان.
- كما: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه} فواللّه إنّ المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: المؤمن خيرٌ للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه لأباد خضراءه.
وكان مجاهدٌ يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين
- حدّثني بذلك محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ). [جامع البيان: 5/716-718]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ}
يعني بذلك تعالى ذكره أنّ هؤلاء الّذين نهى اللّه المؤمنين أن يتّخذوهما بطانةً من دونهم، ووصفهم بصفتهم إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أعطوهم بألسنتهم تقيّةً، حذرًا على أنفسهم منهم، فقالوا لهم: قد آمنّا وصدّقنا بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاءٍ حيث لا يراهم المؤمنون، عضّوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، أناملهم، وهي أطراف أصابعهم، تغيّظًا ممّا بهم من الموجدة عليهم، وأسًى على ظهرٍ يسندون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة.
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنّا ليس بهم إلاّ مخافةً على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك {وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} يقول: ممّا يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، فهم كما نعت اللّه تبارك وتعالى
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، بمثله، إلاّ أنّه قال: من الغيظ لكراهتهم الّذي هم عليه ولم يقل: لو يجدون ريحًا وما بعده.
- حدّثنا عبّاس بن محمّدٍ، قال: حدّثنا مسلمٌ، قال: حدّثني يحيى بن عمرو بن مالكٍ النكريّ قال: حدّثنا أبي، قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية: {وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} قال: هم الاباضيّة
القول في التويل الانامل
والأنامل: جمع أنملةٍ، ويقال أنملةٌ، وربّما جمعت أنملاً قال الشّاعر:
أوفيّكما ما بلّ حلقي ريقتي = وما حملت كفّاي أنملي العشرا
وهي أطراف الأصابع.
- كما: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، الأنامل: أطراف الأصابع
- حدّثت عن عمّارٍ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، بمثله.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل الأصابع.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن إسرائيل عن ابى اسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد اللّه، قوله: {عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} قال: عضّوا على أصابعهم). [جامع البيان: 5/718-720]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: قل يا محمّد لهؤلاء اليهود الّذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنّهم إذا لقوا أصحابك، قالوا آمنّا، وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ: موتوا بغيظكم اى موتو بالغيظ الّذي بكم على المؤمنين، لاجتماع كلمتهم، وائتلاف جماعتهم.
وخرج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاءٌ من اللّه نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم اللّه كمدًا ممّا بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنّون لهم من العنت في دينهم، والضّلالة بعد هداهم، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قل يا محمّد: اهلكوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٍ بذات الصّدور، يعني بذلك أنّ اللّه ذو علمٍ بالّذي في صدور هؤلاء الّذين إذا لقوا المؤمنين، قالوا: آمنّا، وما ينطوون لهم عليه من الغلّ والغمّر، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبما في صدور جميع خلقه، حافظٌ على جميعهم ما هو عليه منطوٍ من خيرٍ وشرٍّ، حتّى يجازى جميعهم على ما قدّم من خيرٍ وشرٍّ، واعتقد من إيمانٍ وكفرٍ، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحةٍ أو غلٍّ وغمرٍ). [جامع البيان: 5/721]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119)
قوله تعالى: ها أنتم أولاء
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان ها أنتم أولاء معشر الأنصار
قوله تعالى: تحبّونهم ولا يحبّونكم
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محكمٍ، ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ ثنا عبّاد بن منصورٍ قال: سألت الحسن عن قوله: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم قال: هم المنافقون يجامعونكم بألسنتهم على الإيمان، ويحبّونكم على ذلك.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد عن سعيدٍ عن قتادة ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم فو الله إنّ المؤمن ليحسن إلى المنافق، ويأوي له، ويرحمه ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن غالبٍ البغداديّ، ثنا سعيد بن أشعث، ثنا يحيى بن عمرو بن مالكٍ النّكريّ قال: سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء في قوله: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم قال: هم الأباضيّة.
والوجه الثّالث:
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان تحبّونهم يعني اليهود ولا يحبّونكم
قوله تعالى: وتؤمنون بالكتاب
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: وتؤمنون بالكتاب كلّه كتاب محمّدٍ والكتاب الّذي كان من قبل محمّدٍ.
قوله تعالى: وإذا لقوكم قالوا آمنا
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن غالبٍ، ثنا سعيد يعني ابن أشعث، ثنا يحيي بن عمرو ابن مالكٍ قال: سمعت أبي يحدّث، عن أبي الجوزاء كان إذا تلا هذه الآية وإذا لقوكم قالوا آمنا قال: نزلت هذه الآية في الأباضيّة.
والوجه الثّاني:
- قرأت على محمّدٍ، ثنا محمّدٌ، عن بكيرٍ عن مقاتلٍ قوله: وإذا لقوكم قالوا آمنّا يعني: المنافقين إذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان فيحبّونهم على ما أظهروا لهم، ويرون أنّهم صادقون بما يقولون ولا يعلمون بما في قلوبهم من الشّكّ والكفر بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ قوله: وإذا لقوكم يعني أهل النّفاق إذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنّا ليس بهم إلا مخافةٌ على دمائهم وأموالهم.
قوله تعالى: وإذا خلوا
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباطٍ عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ قوله: خلوا يعني: مضوا.
قوله تعالى: عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ
- حدّثنا أبي ثنا مقاتل بن محمّدٍ، ثنا وكيعٌ، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قال:
عضّوا على أطراف أصابعهم. وروي عن الضّحّاك، والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتلٍ نحو ذلك.
- حدّثنا محمّد بن غالبٍ، ثنا سعيد بن أشعث، ثنا يحيى بن عمرو بن مالكٍ النّكريّ قال: سمعت أبي يحدّث، عن أبي الجوزاء في قوله: وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قال: نزلت هذه الآية في الأباضيّة.
قوله تعالى: من الغيظ
- ثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد عن سعيدٍ عن قتادة وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ يقول: ممّا يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهية للّذي هم عليه، لو يجدون ريحاً لكانوا على المؤمنين. فهم كما نعت اللّه.
قوله تعالى: قل موتوا بغيظكم
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: قل موتوا بغيظكم يعني أهل النّفاق.
قوله تعالى: إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور بما في قلوبهم). [تفسير القرآن العظيم: 2/744-746]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم}
قال المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه في الدنيا، لو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر عليه منه لأباد خضراءه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة، مثله.
وأخرج إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله {وتؤمنون بالكتاب كله} أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود {وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل} قال: هكذا ووضع أطراف أصابعه في فيه
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {وإذا لقوكم} الآية، قال: إذا لقوا المؤمنين {قالوا آمنا} ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم فصانعوهم بذلك {وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحا لكانوا على المؤمنين.
وأخرج ابن جرير عن السدي {عضوا عليكم الأنامل} قال: الأصابع.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء قال: نزلت هذه الآية في الإباضية). [الدر المنثور: 3/736-741]

تفسير قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ}
يعني بقوله تعالى ذكره: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم} إن تنالوا أيّها المؤمنون سرورًا بظهوركم على عدوّكم، وتتابع النّاس في الدّخول في دينكم، وتصديق نبيّكم، ومعاونتكم على أعدائكم، يسؤهم. فيحزنو لذلك يقول وإن تنلكم مساءةٌ بإخفاق سريّةٍ لكم، أو بإصابة عدوٍّ لكم منكم، أو اختلافٍ يكون بين جماعتكم يفرحوا بها.
- كما: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها}، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفةً وجماعةً وظهورًا على عدوّهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقةً واختلافًا أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به، فهو دائبهم كلّما خرج منهم قرنٌ أكذب اللّه أحدوثته وأوطأ محلّته، وأبطل حجّته، وأظهر عورته، فذاك قضاء اللّه فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها} قال: هم المنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعةٌ وظهورًا على عدوّهم، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقةً واختلافًا، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين، سرّهم ذلك وأعجبوا به قال اللّه عزّ وجلّ: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم} قال: إذا رأوا من المؤمنين جماعةً وألفةً ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقةً واختلافًا فرحوا
وأمّا قوله: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا} فإنّه يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصبروا أيّها المؤمنون على طاعة اللّه، واتّباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه، من اتّخاذ بطانةٍ لأنفسكم من هؤلاء اليهود الّذين وصف اللّه صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم، وتتّقوا ربّكم، فتخافوا التّقدّم بين يديه فيما ألزمكم، وأوجب عليكم من حقّه وحقّ رسوله، لا يضرّكم كيدهم شيئًا: أي كيد هؤلاء الّذين وصف صفتهم.
ويعني بكيدهم غوائلهم الّتي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحقّ.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: {لا يضرّكم} فقرأ ذلك جماعةٌ من أهل الحجاز وبعض البصريّين: (لا يضركم) مخفّفةً بكسر الضّاد من قول القائل: ضارني فلانٌ فهو يضيرني ضيرًا وقد حكي سماعًا من العرب: ما ينفعني ولا يضورني، فلو كانت قرئت على هذه اللّغة لقيل: لا يضركم كيدهم شيئًا، ولكنّي لا أعلم أحدًا قرأ به.
وقرأ ذلك جماعةٌ من أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل الكوفة: {لا يضرّكم كيدهم شيئًا} بضمّ الضّاد وتشديد الرّاء من قول القائل: ضرّني فلانٌ فهو يضرّني ضرًّا.
وأمّا الرّفع في قوله: {لا يضرّكم} فمن وجهين: أحدهما على اتّباع الرّاء في حركتها، إذ كان الأصل فيها الجزم، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الحروف الّتي قبلها، وذلك حركة الضّاد، وهي الضّمّة، فألحقت بها حركة الرّاء لقربها منها، كما قالوا: مدّ يا هذا، والوجه الآخر من وجهي الرّفع في ذلك: أن تكون مرفوعةً على صحّةٍ، وتكون لا بمعنى ليس وتكون الفاء الّتي هي جوّاب الجزاء متروكةً لعلم السّامع بموضعها.
وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضرّكم كيدهم شيئًا، ثمّ تركت الفاء من قوله: {لا يضرّكم كيدهم} ووجّهت لا إلى معنى ليس، كما قال الشّاعر:
فإن كان لا يرضيك حتّى تردّني = إلى قطريٍّ لا إخالك راضيا
ولو كانت الرّاء محرّكةً إلى النّصب والخفض كان جائزًا، كما قيل: مدّ يا هذا، ومدّ.
وقوله: {إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ} يقول جلّ ثناؤه: إنّ اللّه بما يعمل هؤلاء الكفّار في عباده وبلاده من الفساد والصّدّ عن سبيله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي اللّه محيطٌ بجميعه، حافظٌ له لا يعزب عنه شيءٌ منه، حتّى يوفّيهم جزاءهم على ذلك كلّه ويذيقهم عقوبته عليه). [جامع البيان: 5/721-724]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)
قوله تعالى: إن تمسسكم حسنةٌ
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محكمٍ، ثنا أبو بكرٍ الحنفيّ، ثنا عبّاد بن منصورٍ قال: سألت الحسن في قوله: إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم قال: أنبأ اللّه المؤمنين بعدّوهم فقال: إن تصبكم حسنةٌ يسؤهم ذلك.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم إذا رأوا من أهل الإسلام ألفةً وجماعةً وظهوراً على عدوّهم غاظهم ذلك وساءهم.
قوله تعالى: تسؤهم
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: إن تمسسكم حسنةٌ يعني: النّصر على العدو والرّزق والخير يسوء ذلك اليهود. يعني أهل قريضة والنّضير.
قوله تعالى: وإن تصبكم سيّئةٌ
- قرأت على محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس الوليد، ثنا يزيد عن سعيدٍ عن قتادة قوله: وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها قال: إذا رأوا من أهل الإسلام فرقةً واختلافاً، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين سرّهم ذلك، أعجبوا وابتهجوا به فهم كما رأيتم كلّما خرج منهم قرنٌ أكذب اللّه أحدوثته، وأوطأ محلّته، وأبطل حجّته وأظهر عورته فذلك قضاء اللّه فيمن مضى منهم، وفيمن بقى إلى يوم القيامة.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: وإن تصبكم سيّئةٌ هي القتل والهزيمة، والجهد.
قوله تعالى: يفرحوا بها
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: يفرحوا بها يعني اليهود.
قوله تعالى: وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا يقول: لا يضرّكم قولهم شيئاً.
قوله تعالى: إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ يقول:
أحاط علمه بأعمالهم، ومنهم من يقول: أنزلت في المنافقين). [تفسير القرآن العظيم: 2/746-748]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل {إن تمسسكم حسنة} يعني النصر على العدو والرزق والخير يسؤهم ذلك {وإن تصبكم سيئة} يعني القتل والهزيمة والجهد
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: إذا رأوا من أهل الإسلام إلفة وجماعة وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وابتهجوا به.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم} مشددة برفع الضاد والراء). [الدر المنثور: 3/736-741]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 6 جمادى الآخرة 1434هـ/16-04-2013م, 09:57 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم...}
وفي قراءة عبد الله "وقد بدا البغضاء من أفواههم" ذكّر لأنّ البغضاء مصدر، والمصدر إذا كان مؤنّثا جاز تذكير فعله إذا تقدّم؛ مثل {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} و{قد جاءكم بينة من ربكم} وأشباه ذلك). [معاني القرآن: 1/231]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} البطانة: الدّخلاء من غيركم.
{لا يألونكم خبالاً} أي: لا تألوكم هذه البطانة خبالاً، أي: شّراً.
{قد بيّنّا لكم الآيات} أي: الأعلام). [مجاز القرآن: 1/103]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً مّن دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}
قال تعالى: {لا يألونكم خبالاً} لأنها من "ألوت" و"ما آلو" "ألواً".
وقال تعالى: {ودّوا ما عنتّم} يقول {لا تتّخذوا بطانةً} {ودّوا} أي: أحبّوا {ما عنتّم} جعله من صفة "البطانة"، جعل {ما عنتّم} في موضع "العنت"). [معاني القرآن: 1/181]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({لا تخذوا بطانة من دونكم}: دخلاء من غيركم). [غريب القرآن وتفسيره: 109]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} أي: دخلاء من دون المسلمين، يريد من غيرهم {لا يألونكم خبالًا} أي: شرا.
{ودّوا ما عنتّم}
أي: ودوا عنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضر). [تفسير غريب القرآن: 109]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} البطانة: الدخلاء الذين يستبطنون ويتبسط إليهم، يقال فلان بطانة لفلان أي مداخل له ومؤانس، فالمعنى: أن المؤمنين أمروا ألا يداخلوا المنافقين ولا اليهود، وذلك أنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين. فأمروا بألا يداخلوهم لئلا يفسدوا عليهم دينهم.
وأخبر اللّه المؤمنين بأنهم لا يألونهم خبالا، أي لا يبقون غاية في إلقائهم فيما يضرهم.
وأصل الخبال في اللغة: ذهاب الشيء قال الشاعر:
ابني سليمي لستم ليد... إلا يدا مخبولة العضد
أي: قد ذهبت عضدها.
{ودّوا ما عنتم} أي: ودوا عنتكم، ومعنى العنت: إدخال المشقة على الإنسان، يقال فلان متعنت فلانا، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، ويقال قد عنت العظم يعنت عنتا إذا أصابه شيء بعد الجبر، وأصل هذا كله مرق قولهم: (أكمة عنوت) إذا كانت طويلة شاقة المسلك، فتأويل أعنتّ فلانا، حملته على المشقة). [معاني القرآن: 1/461-462]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا}
البطانة خاصة الرجل الذين يطلعهم على الباطن من أمره
والمعنى: لا تتخذوا بطانة من دون أهل دينكم، ونظير هذا {فاقتلوا أنفسكم} وكذلك {فسلموا على أنفسكم} أي: على أهل دينكم ومن يقوم مقامكم.
ومعنى قوله تعالى: {لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في السوء}
وأصل الخبال في اللغة: من الخبل والخبل ذهاب الشيء وإفساده). [معاني القرآن: 1/465-466]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {ودوا ما عنتم} أي: ما شق عليكم واشتد
وأصل هذا: أنه يقال عنت العظم يعنت عنتا إذا انكسر بعد جبر.
ومن هذا قوله تعالى: {ذلك لمن خشي العنت منكم} أي: المشقة). [معاني القرآن: 1/466]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (وقوله - تبارك وتعالى: {لا يألونكم خبالا} أي: لا يقصرون. و{خبالا} فسادا). [ياقوتة الصراط: 191]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُم} أي: دخلا من [غيركم]
{وَدُّواْمَا عَنِتُّمْ} ودوا ما أعنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه أو شر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 51]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بِطَانَةً}: دخلا ليس منكم.
{يَأْلُونَكُمْ}: يدعوكم). [العمدة في غريب القرآن:101-102]

تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ها أنتم أولاء...}
العرب إذا جاءت إلى اسم مكنيّ قد وصف بهذا وهذان وهؤلاء فرّقوا بين (ها) وبين (ذا) جعلوا المكنّى بينهما، وذلك في جهة التقريب لا في غيرها، فيقولون: أين أنت؟ فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، وكذلك التثنية والجمع، ومنه {ها أنتم أولاء تحبّونهم} وربما أعادوا (ها) فوصلوها بذا وهذان وهؤلاء؛ فيقولون: ها أنت هذا، وها أنتم هؤلاء، وقال الله تبارك وتعالى في النساء: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم}.
فإذا كان الكلام على غير تقريب أو كان مع اسم ظاهر جعلوا (ها) موصولة بذا، فيقولون: هذا هو، وهذان هما، إذا كان على خبر يكتفي كلّ واحد بصاحبه بلا فعل، والتقريب لا بدّ فيه من فعل لنقصانه، وأحبوا أن يفرقوا بذلك بين معنى التقريب وبين معنى الاسم الصحيح). [معاني القرآن: 1/231-232]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إنّ الله عليمٌ بذات الصّدور} أي: بما في الصدور). [مجاز القرآن: 1/103]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ها أنتم أولاء تحبّونهم} أي: ها أنتم يا هؤلاء تحبّونهم). [تفسير غريب القرآن: 109]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليم بذات الصّدور}
خطاب للمؤمنين، أعلموا فيه أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصحبون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة التي يفعلها المحب وأن المنافقين على ضد ذلك.
فأعلم اللّه جلّ وعزّ المؤمنين ما يسرّه المنافقون وهذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعض النحويين: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف (بهذا) جعلته بين (ها) و (ذا)، فيقول القائل أين أنت فيقول المجيب: هأنذا، قال وذلك إذا أرادوا جهة التقريب، قال فإنما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التقريب وغيره.
ومعنى التقريب عنده: أنك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم فتقول هذا زيد.
والقول في هذا عندنا: أن الاستعمال في المضمر أكثر فقط، أعني أن يفصل بين " ها " و " ذا" لأن التنبيه أن يلي المضمر أبين.
فإن قال قائل: ها زيد ذا، وهذا زيد، جاز، لا اختلاف بين الناس في ذلك، وهذا عندنا على ضربين: - جائز أن يكون " أولا " في معنى الذين كأنه قيل: هأنتم الذين تحبونهم ولا يحبونكم، وجائز أن يكون {تحبونهم} منصوبة على الحال و {أنتم} ابتداء، و {أولاء} الخبر.
المعنى: انظروا إلى أنفسكم محبين لهم.
نهوا في حال محبتهم إياهم.
ولم يشرحوا لم كسرت {أولاء}، وألاء أصلها السكون لأنها للإشارة.
ولكن الهمزة كسرت لسكونها وسكون الألف {وتؤمنون} عطف على تحبون.
ومعنى {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: تصدقون بكتب الله كلها. -
{وإذا لقوكم قالوا آمنّا} أي: نافقوكم.
{وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم}
فأنبأ اللّه عزّ وجلّ - بنفقاتهم ههنا كما أنبأ به في قوله تعالى:
{وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم}
ويقال عضضت أعضّ، ويقال رجل عض إذا كان ملازم خصم، أي يصر على المخاصمة، والفعل منه عضضت. والعضّ علف الأمصار الذي.
تعلفه الإبل نحو النوى والقت والكسب، وإنما قيل له عض لأنه أكثر لبثا في المال وأبقى شحما.
والأنامل: واحدها أنملة وهي أطراف الأصابع ولم يأت على هذا المثال بغير هاء ما يعني غير الواحد إلا قولهم قد بلغ أشده.
أما الجمع فكثير فيه أو نحو أكعب وأفلس وأيمن وأشمل). [معاني القرآن: 1/462-464]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله}أي: تحبون المنافقين ولا يحبونكم
والدليل على أنه يعني المنافقين قوله عز وجل: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}
قال ابن مسعود: يعضون أطراف الأنامل من الغيظ). [معاني القرآن: 1/466-467]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً...}
إن شئت جعلت جزما وإن كانت مرفوعة، تكون كقولك للرجل: مدّ يا هذا، ولو نصبتها أو خفضتها كان صوابا؛ لأن من العرب من يقول مدّ يا هذا، والنصب في العربية أهيؤها، وإن شئت جعلته رفعا وجعلت (لا) على مذهب ليس فرفعت وأنت مضمر للفاء؛ كما قال الشاعر:
فإن كان لا يرضيك حتى تردّني * إلى قطري لا إخالك راضيا
وقد قرأ بعض القراء "لا يضركم" تجعله من الضير، وزعم الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك وما يضورني، فلو قرئت "لا يضركم" على هذه اللغة كان صوابا). [معاني القرآن: 1/232]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ}
قال: {لا يضركم كيدهم} لأنه من "ضار" "يضير" و"ضرته" خفيفة "فأنا أضيره"، قال بعضهم {لا يضرّكم} جعله من "ضرّ" "يضرّ" وحرّك للسكون الذي قبله لأن الحرف الثقيل بمنزلة حرفين الأول منهما ساكن. وقال بعضهم {لا يضركم} جعلها من "ضار" "يضور" وهي لغة). [معاني القرآن: 1/181]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم} أي: نعمة.
{وإن تصبكم سيّئةٌ} أي: مصيبة ومكروه.
{لا يضرّكم كيدهم} أي: مكره). [تفسير غريب القرآن: 109]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا إنّ اللّه بما يعملون محيط} أي: إن تظفروا وتخصبوا ساءهم ذلك.
{وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها} أي: إن نالكم ضد ذلك فرحوا، {(وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا}
ضمن اللّه - جلّ وعزّ - للمؤمنين النصر إن صبروا وأعلمهم أن عدوانهم وكيدهم غير ضار لهم.
و {لا يضرّكم} الأجود فيه: الضم لالتقاء الساكنين الأصل لا يضرركم، ولكن كثيرا من القراء والعرب يدغم في موضع الجزم.
وأهل الحجاز يظهرون التضعيف وهذه الآية جاءت فيها اللغتان جميعا:
1-فقوله تعالى: {إن تمسسكم} على لغة أهل الحجاز.
2-وقوله: {لا يضرّكم}
على لغة غيرهم من العرب وكلا الوجهين حسن،
ويجوز {لا يضرّكم} (ولا يضركم) فمن فتح فلأن الفتح خفيف مستعمل في التقاء السّاكنين في التضعيف، ومن كسر فعلى أصل التقاء السّاكنين، وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب.

وقرئت: لا يضركم من الضير، والضير والضّر جميعا بمعنى واحد.
وكذلك الضر - وقد جاء في القرآن: {قالوا لا ضير إنّا إلى ربّنا منقلبون}.
وجاء: {وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلّا إيّاه}.
وقد ذكر الفراء أن الكسائي سمع بعض أهل العالية يقول: (ما تضورّني) فلو قرئت على هذا لا يضركم جاز.
وهذا غير جائز ولا يقرأ حرف من كتاب الله مخالف فيه الإجماع على قول رجل من أهل العالية). [معاني القرآن: 1/464-465]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}أي: إن غنمتم أو ظفرتم ساءهم ذلك وان أصابكم ضد ذلك فرحوا به.
ثم خبر أنهم إن صبروا على ذلك لم يضرهم شيئا فقال {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط}). [معاني القرآن: 1/467]

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 9 جمادى الآخرة 1434هـ/19-04-2013م, 09:03 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عياض بن أبي موسى أن عمر بن الخطّاب قال لأبي موسى: ادع لي كاتبك ليقرأ لنا صحفًا جاءت من الشأم.

فقال أبو موسى: إنه لا يدخل المسجد. قال عمر: أبه جنابة؟ قال: لا، ولكنّه نصراني. قال: فرفع يده فضرب فخذه حتى كاد يكسرهم ثم قال: ما لك! قاتلّك اللّه! أما سمعت قول اللّه عز وجل: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنّصارى أولياء}! ألا اتخذت رجلاً حنيفيًا! فقال أبو موسى: له دينه ولي كتابته. فقال عمر: " لا أكرمهم إذ أهانهم اللّه ولا أعزّهم إذ أذلّهم اللّه ولا أدنيهم إذ أقصاهم اللّه ".
لعمر بن الخطاب في عدم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين
حدّثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا عيسى بين يونس قال: حدّثنا أبو حيّان التّيمي عن أبي زنباع عن أبي الدّهقانة قال: ذكر لعمر بن الخطّاب غلام كاتب حافظ من أهل الحيرة وكان نصرانيًا، فقيل له: لو اتخذته كاتبًا. فقال " لقد اتخذت إذًا بطانةً من دون المؤمنين "). [عيون الأخبار: 1/43]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
ممن تركن فؤاده مخبولا
يريد: الخبل، وهو الجنون، ولو قال: محبولا لكان حسنًا يريدُ مصيدًا واقعًا في الحبالةِ، كما قال الأعشى:


فلكنـا هـائـم فــي إثــر صاحـبـهِدانٍ وناءٍ ومحبولٌ ومحتبلُ ).

[الكامل: 2/867]

تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقال رجل - واعتل في غربةٍ فتذكر أهله:


لو أن سلمى أبصرت تخـدديودقـةً فـي عـظـم سـاقـي ويــدي
وبــعــد أهــلــي وجــفــاء عـــــوديعضت من الوجد بأطراف اليد

قوله: "أبصرت تخددي"، يريد ما حدث في جسمه من النحول، وأصل الخد ما شققته في الأرض، قال الشماخ:


فقلت لهم خدوا له برماحكمبطامسـة الأعـلام خفاقـة الآل

ويقال للشيخ: قد تخدد، يراد قد تشنج جلده، وقال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، وقيل في التفسير: هؤلاء قوم خدوا أخاديد في الأرض، وأشعلوا فيها نيرانًا فحرقوا بها المؤمنين.
وقوله:
عضت من الوجد بأطراف اليد
فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعًا، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}.
وفي مثل ما ذكرنا من تخدد لحم الشيخ، يقول القائل:


يـــا مـــن لـشـيـخ قـــد تـخــدد لـحـمـهأفــــنــــى ثــــــــلاث عـــمـــائـــم ألــــوانـــــا
ســــوداء حـالـكــةً وســحـــق مــفـــوفٍوأجـــــــد لـــونًــــا بـــعــــد ذاك هــجــانـــا
صحب الزمان على اختلاف فنونهفـــــــــأراه مــــنـــــه كــــراهـــــةً وهـــــوانـــــا
قــصـــر الـلـيــالــي خـــطـــوة فــتــدانــىوحـــنـــون قـــائـــم صــلــبــه فـتـحــانــى
والــمــوت يــأتــي بــعــد ذلــــك كــلـــهوكــأنــمــا يــعــنـــى بـــــــذاك ســـوانــــا).

[الكامل: 1/263-264] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
عضت من الوجد بأطراف اليد
فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعًا، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}). [الكامل: 1/264]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328هـ): (والأنامل: أطراف الأصابع واحدتها أُنْمُلَة وأَنْمَلة وحكى ابن الأعرابي أَنْمُلة). [شرح المفضليات: 692]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}
[لا يوجد]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:38 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:38 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله: من دونكم يعني من دون المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله، وقوله: لا يألونكم خبالًا معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم، تقول: ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير:
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم = فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا
أي لم يقصروا، والخبل والخبال: الفساد، وقال ابن عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال أيضا ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: نزلت في المنافقين: نهى الله المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فسره الحسن بن أبي الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم (محمدا).
قال القاضي: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل لعمر:
إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين، وما في قوله، ما عنتّم مصدرية، فالمعنى: ودّوا عنتكم، و «العنت»: المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله تعالى: ذلك لمن خشي العنت [النساء: 35] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي: معناه «ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى «ودوا» أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى: قد بدت البغضاء من أفواههم يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همسا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، وقوله: وما تخفي صدورهم أكبر إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء» بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون تحذيرا وتنبيها، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا). [المحرر الوجيز: 2/330-332]

تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119)
تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفا: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ [آل عمران: 66] والضمير في تحبّونهم لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله: بطانةً من دونكم [آل عمران: 118] والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم، وقوله تعالى: عضّوا عليكم الأنامل عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب: [الطويل]
... ... ... ... = (يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل)
ومنه قول الآخر:
وقد شهدت قيس فما كان نصرها = قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع، وقوله وتؤمنون بالكتاب كلّه يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم: آمنّا معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم آمنّا، «عض الأنامل من الغيظ»، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
قل موتوا بغيظكم، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة، قال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:
وننمي في ارومتنا = ونفقأ عين من حسدا
وينظر إلى هذا المعنى في قوله، موتوا بغيظكم قوله تعالى: فليمدد بسببٍ إلى السّماء ثمّ ليقطع [الحج: 15]، وقوله: إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في موتوا بغيظكم و «ذات الصدور»: ما تنطوي عليه، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ومنه قولهم: الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات»: لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه). [المحرر الوجيز: 2/333-335]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)
«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر: [البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى إزالتها = إلّا عداوة من عاداك من حسد
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، وأوجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى: وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «لا يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة، وحكى الكسائي: ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب الله لا ضير [الشعراء: 50] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها = مطبّعة من يأتها لا يضيرها
يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير:
وقال أناس لا يضيرك نأيها = بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «لا يضرّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر يضر، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت الراء للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فأما الكسر فلا أعرفها قراءة، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه، ويجوز أيضا أن يكون إعراب قوله، «لا يضركم»، رفعا إما على تقدير، فليس يضركم، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله]: [الرجز]
يا أقرع بن حابس يا أقرع = إنّك إن يصرع أخوك تصرع
المراد أنك تصرع، وقرأ أبي بن كعب: «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها قوله تعالى في الآية إن تمسسكم ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و «الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: وأكيد كيداً [الطارق: 16] إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى: إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد). [المحرر الوجيز: 2/335-337]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 10:39 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119) إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)}
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتّخاذ المنافقين بطانةً، أي: يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرّهم بكلّ ممكنٍ، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويخرجهم ويشقّ عليهم.
وقوله: {لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرّجل: هم خاصّة أهله الّذين يطّلعون على داخل أمره.
وقد روى البخاريّ، والنّسائيّ، وغيرهما، من حديث جماعةٍ، منهم: يونس، ويحيى بن سعيدٍ، وموسى بن عقبة، وابن أبي عتيقٍ -عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي سعيدٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالخير وتحضّه عليه، وبطانةٌ تأمره بالسّوء وتحضّه عليه، والمعصوم من عصم الله ".
وقد رواه الأوزاعيّ ومعاوية بن سلّامٍ، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة [عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه فيحتمل أنّه عند الزّهريّ عن أبي سلمة] عنهما. وأخرجه النسائي عن الزهري أيضًا وعلّقه البخاريّ في صحيحه فقال: وقال عبيد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن أبي سلمة، عن أبي أيّوب الأنصاريّ، فذكره. فيحتمل أنّه عند أبي سلمة عن ثلاثةٍ من الصّحابة واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو أيّوب محمّد بن الوزّان، حدّثنا عيسى بن يونس، عن أبي حيّان التّيميّ عن أبي الزّنباع، عن ابن أبي الدّهقانة قال: قيل لعمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة، حافظٌ كاتبٌ، فلو اتّخذته كاتبًا؟ فقال: قد اتّخذت إذًا بطانةً من دون المؤمنين.
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالةٌ على أنّ أهل الذّمّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، الّتي فيها استطالةٌ على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم الّتي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: {لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتّم}.
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا إسحاق بن إسرائيل، حدّثنا هشيم، حدّثنا العوّام، عن الأزهر بن راشدٍ قال: كانوا يأتون أنسًا، فإذا حدّثهم بحديثٍ لا يدرون ما هو، أتوا الحسن -يعني البصريّ-فيفسّره لهم. قال: فحدّث ذات يومٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لا تستضيؤوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له: إنّ أنسًا حدّثنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستضيؤوا بنار الشّرك ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فقال الحسن: أمّا قوله: "ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم. وأما قوله: "لا تستضيؤوا بنار الشّرك" يقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثمّ قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم}.
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى، رحمه اللّه، وقد رواه النّسائيّ عن مجاهد بن موسى، عن هشيمٍ. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصريّ.
وهذا التّفسير فيه نظرٌ، ومعناه ظاهرٌ: "لا تنقشوا في خواتيمكم عربيّا أي: بخطٍّ عربيٍّ، لئلّا يشابه نقش خاتم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّه كان نقشه محمّدٌ رسول اللّه؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحدٌ على نقشه. وأمّا الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه: لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم؛ ولهذا روى أبو داود [رحمه اللّه] لا تتراءى ناراهما" وفي الحديث الآخر: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله"؛ فحمل الحديث على ما قاله الحسن، رحمه اللّه، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظرٌ، واللّه أعلم.
ثمّ قال تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} أي: قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيبٍ عاقلٍ؛ ولهذا قال: {قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/106-108]

تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: أنتم -أيّها المؤمنون-تحبّون المنافقين ممّا يظهرون لكم من الإيمان، فتحبّونهم على ذلك وهم لا يحبّونكم، لا باطنًا ولا ظاهرًا {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: ليس عندكم في شيءٍ منه شكٌّ ولا ريب، وهم عندهم الشّكّ والرّيب والحيرة.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. رواه ابن جريرٍ.
{وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} والأنامل: أطراف الأصابع، قاله قتادة.
وقال الشّاعر:
أودّ كما ما بلّ حلقي ريقتى = وما حملت كفّاي أنملي العشرا
وقال ابن مسعودٍ، والسّدّي، والرّبيع بن أنسٍ: {الأنامل} الأصابع.
وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كلّ وجهٍ، كما قال تعالى: {وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} وذلك أشدّ الغيظ والحنق، قال اللّه تعالى: {قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور} أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أنّ اللّه متمّ نعمته على عباده المؤمنين ومكملٌ دينه، ومعلٍ كلمته ومظهرٌ دينه، فموتوا أنتم بغيظكم {إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور} أي: هو عليمٌ بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنّه سرائركم من البغضاء والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدّنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشّديد في النّار الّتي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها). [تفسير القرآن العظيم: 2/108]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها} وهذه الحال دالّةٌ على شدّة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنّه إذا أصاب المؤمنين خصبٌ، ونصرٌ وتأييدٌ، وكثروا وعزّ أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة -أي: جدب-أو أديل عليهم الأعداء، لما للّه في ذلك من الحكمة، كما جرى يوم أحد، فرح المنافقون بذلك، قال اللّه تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين: {وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا [إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ]} يرشدهم تعالى إلى السّلامة من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، باستعمال الصّبر والتّقوى، والتّوكّل على اللّه الّذي هو محيطٌ بأعدائهم، فلا حول ولا قوّة لهم إلّا به، وهو الّذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيءٌ إلّا بتقديره ومشيئته، ومن توكّل عليه كفاه). [تفسير القرآن العظيم: 2/108-109]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:38 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة