تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (هذا باب آخر من أبواب إن
تقول أشهد إنه لمنطلقٌ فأشهد بمنزلة قوله والله إنه لذاهب وإن غير عاملة فيها أشهد لأن هذه اللام لا تلحق أبداً إلا في الابتداء ألا ترى أنك تقول أشهد لعبد الله خيرٌ من زيد كأنك قلت والله لعبد الله خيرٌ من زيد فصارت إن مبتدأة حين ذكرت اللام هنا كما كان عبد الله مبتدأ حين أدخلت فيه اللام فإذا ذكرت اللام ههنا لم تكن إلا مكسورةً كما أن
عبد الله لا يجوز هنا إلا مبتدأ ولو جاز أن تقول أشهد أنك لذاهبٌ لقلت أشهد بلذاك فهذه اللام لا تكون إلا في الابتداء وتكون أشهد بمنزلة والله.
ونظير ذلك قول الله عز وجل: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} وقال عز وجل: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} لأن هذا توكيد كأنه قال يحلف بالله إنه لمن الصادقين). [الكتاب: 3/146-147]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (هذا باب إن إذا دخلت اللام في خبرها
اعلم أن هذه اللام تقطع ما دخلت عليه عما قبلها. وكان حدها أن تكون أول الكلام؛ كما تكون في غير هذا الموضع. وذلك قولك: قد علمت زيداً منطلقاً. فإذا أدخلت اللام قلت: علمت لزيدٌ منطلقٌ، فتقطع بها ما بعدها مما قبلها، فيصير ابتداء مستأنفاً. فكان حدها في قولك: إن زيداً لمنطلق أن تكون قبل إن؛ كما تكون في قولك: لزيدٌ خيرٌ منك. فلما كان معناها في التوكيد ووصل القسم معنى إن لم يجز الجمع بينهما؛ فجعلت اللام في الخبر، وحدها: أن تكون مقدمة؛ لأن الخبر هو الأول في الحقيقة، أو فيه ما يتصل بالأول، فيصير هو وما فيه الأول. فلذلك قلت: إن زيداً لمنطلق؛ لأن المنطلق هو زيد.
وكذلك لو قلت: إن زيداً لفي داره عمرو، أو: لعمرو يضربه؛ لأن الذي عمروٌ يضربه هو زيدٌ. فهذا عبرة هذا.
ألا ترى أنك إذا فصلت بين إن وبين اسمها بشيءٍ جاز إدخال اللام فقلت: إن في الدار لزيداً، وإن من القوم لأخاك. فهذا يبين لك ما ذكرت.
وذلك قولك: أشهد أن زيداً منطلق، وأعلم أن زيداً خيرٌ منك. فإذا أدخلت اللام قلت أشهد إن زيداً لخيرٌ منك، وأعلم أن زيداً لمنطلق. قال الله عز وجل: {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}. فلولا اللام لم يكن إلا أن؛ كما تقول: أعلم زيداً خيراً منك. فإذا أدخلت اللام قلت: أعلم لزيدٌ خيرٌ منك. وقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور. إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير}. فهذا مجاز اللام.
ولو قال قائل: أشهد بأنك منطلق لم يكن إلا الفتح، لأنها اسم مخفوض، وعبرتها أبداً ب ذاك فيكون ذاك في أنها اسم تامٌ في موضع أن وصلتها. فإذا قلت: علمت أن زيداً منطلق فهو كقولك: علمت ذاك. وإذا قلت: بلغني أن زيداً منطلق فهو في موضع: بلغني ذاك. وإذا قلت: أشهد بأنك منطلق فمعناه: أشهد بذاك.
فإن قال قائل: فكيف أقول: أشهد بأنك لمنطلق? قيل له: هذا محال كسرت أو فتحت؛ لأن حد الكلام التقديم، فلو أدخلت حرف الخفض على اللام كان محالاً؛ لأن عوامل الأسماء لا تدخل على غيرها. لو قلت هذا لقلت أشهد يذاك.
وكذلك بلغني أنك منطلق، لا يجوز أن تدخل اللام فتقول: بلغني أنك لمنطلق: لأن إن وصلتها الفاعل، واللام تقطع ما بعدها. فلو جاز هذا لقلت: بلغني لذاك. فهذا واضح بين جداً.
فأما قوله عز وجل: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام} فمعناه: إلا وهذا شأنهم. وهو والله أعلم جواب لقولهم: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}.
وأما قوله عز وجل: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا}. ف أنهم وصلتها في موضع الفاعل. والتقدير والله أعلم: وما منعهم إلا كفرهم.
ونظير التفسير الأول قول الشاعر:
ما أعطياني ولا سألتهمـا = إلا وإني لحاجزي كرمي
يقول: إلا وهذه حالي. فعلى هذا وضعه سيبويه. وغيره ينشده:
ألا وإني لحاجزي كرمي
فهذه الرواية خارجة من ذلك التفسير، ومعناه: أن ألا تنبيه، وأراد: أنا حاجزي كرمي من أن أسأل، أو أقبل). [المقتضب: 2/343-345]
تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) }
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) }
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (ومثل الرفع: {طوبى لهم وحسن مآبٍ} يدلّك على رفعها رفع حسن مآبٍ.
وأمّا قوله تعالى جدّه: {ويل يومئذ للمكذبين} و{ويلٌ للمطففين} فإنّه لا ينبغي أن تقول إنّه دعاءٌ ههنا لأنّ الكلام بذلك قبيح واللفظ به قبيحٌ ولكنّ العباد إنّما كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنّه والله أعلم قيل لهم ويلٌ للمطففين وويل يومئذٍ للمكذبين أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم لأنّ هذا الكلام إنّما يقال لصاحب الشّر والهلكة فقيل هؤلاء ممن دخل في الشرّ والهلكة ووجب لهم هذا.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}. فالعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من اعلم وليسلهما أكثر من ذا ما لم يعلما
ومثله: {قاتلهم الله} فإنما أجرى هذا على كلام العباد وبه أنزل القرآن.
وتقول ويلٌ له ويلٌ طويلٌ فإن شئت جعلته بدلاً من المبتدأ الأوّل وإن شئت جعلته صفةً له وإن شئت قلت ويلٌ لك ويلاً طويلا تجعل الويل الآخر غير مبدول ولا موصوف به ولكنّك تجعله دائماً أي ثبت لك الويل دائما). [الكتاب: 1/331-332] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (فأما التأويل بالقرآن:
فكالبيض، يعبر بالنساء، لقول الله عز وجل: {كأنهن بيض مكنون}.
وكالخشب، يعبر بالنفاق؛ بقول الله عز وجل: {كأنهم خشب مسندة}.
وكالحجارة، تعبر بالقسوة، بقول الله عز وجل: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة}.
وكالسفينة، تعبر بالنجاة؛ لأن الله تعالى نجى بها نوحا عليه السلام ومن كان معه.
وكالماء، يعبر في بعض الأحوال بالفتنة؛ لقول الله تعالى: {لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه}.
وكاللحم الذي يؤكل، يعبر بالغيبة؛ لقول الله عز وجل: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا}.
وكالمستفتح بابا بمفتاح، يعبر بالدعاء؛ لقول الله عز وجل: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} يريد: أن تدعوا.
وكالمصيب مفتاحا في المنام –أو مفاتيح- يعبر بأنه يكسب مالا، لقوله عز وجل في قارون: {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} يريد: أمواله؛ سميت أموال الخزائن مفاتيح، لأن بالمفاتيح يوصل إليها.
وكالملك يرى في المحلة أو البلدة أو الدار، وقدرها يصغر عن قدره، وتنكر دخول مثلها مثله؛ يعبر ذلك بالمصيبة والذل ينال أهل ذلك الموضع، لقوله عز وجل: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون}.
وكالحبل، يعبر بالعهد، لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا}.
ولقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} أي: بأمان وعهد.
والعرب تسمي العهد حبلا؛ قال الشاعر:
وإذا تجوزها حبال قبيلة = أخذت من الأخرى إليك حبالها
وكاللباس، يعبر بالنساء؛ لقوله جل وعز: {هم لباس لكم وأنتم لباس لهن} ). [تعبير الرؤيا: 35-37] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (" قيل لأعرابي: ألا تغزو فإن اللّه قد أنذرك. قال: واللّه إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمضي إليه ركضًا " وقال قرواش بن حوط وذكر رجلين:
ضبعا مجاهرة وليثًا هدنة = وثعيلبا خمر إذا ما أظلما
شعر لعبد الملك بن مروان في جبن عبد اللّه بن خالد
وقال عبد الملك بن مروان في أمية بن عبد اللّه بن خالد:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده = وليثٌ حديد الناب عند الثرائد
ونحوه قول الآخر:
ولو أنهم عصفورة لحسبتهم = مسوّمة تدعو عبيد ًا وأزنما
لبعض الشطار في الجبان
وقال اللّه عز وجل: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} ). [عيون الأخبار: 2/166]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) }
تفسير قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ولو احتاج شاعر إلى فصل الألف واللام لاستقام ذلك. وكان جائزا للضرورة، كما يجوز مثله في سوف، وقلّما، وقد، ونحوها من الحروف التي تكون أصلا للأفعال كما قال حيث اضطر الشاعر:
صددت فأطولت الصدود وقلما = وصالٌ على طول الصدود يدوم
وإنما قلما للفعل. وعلى هذا قال الشاعر حيث اضطر:
دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذل = بالشحم إنا قد مللناه بجـل
ففصل الألف واللام على أنّه قد ردهما في البيت الثاني.
وقد شرحت لك أنّ هذه الألف إذا اتصلت بالاسم الذي فيه كلام قبله سقطت إذ كانت زائدة، لسكون ما بعدها. تقول: أستخرجت من زيد مالا؟ إذا كنت مستفهما؛ لأن ألف الاستفهام لما دخلت سقطت ألف الوصل، فمن ثمّ ظهرت ألف الاستفهام مفتوحة. قال الله عز وجل: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} فذهبت ألف الوصل). [المقتضب: 1/222-223]
تفسير قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) }
تفسير قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) }
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وسألت الخليل عن قوله عز وجل: {فأصدق وأكن من الصالحين} فقال: هذا كقول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى = ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
فإنما جروا هذا لأن الأول قد يدخله الباء فجاءوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول الباء فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا بالثاني وكأنهم قد جزموا قبله فعلى هذا توهموا هذا). [الكتاب: 3/100-101]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (واعلم أن قولك: أقسمت لأفعلن وأقسمت لا تفعل بمنزلة قولك: قلت: والله لا تفعل، وقلت: والله لتفعلن.
واعلم أنك إذا أقسمت على فعل ماضٍ، فأدخلت عليه اللام لم تجمع بين اللام والنون؛ لأن الفعل الماضي مبني على الفتح غير متغيرة لامه، وإنما تدخل النون على ما لم يقع كما ذكرت. فلما كانت لا تقع لما يكون في الحال كانت من الماضي أبعد. وذلك قولك: والله لرأيت زيداً يضرب عمراً، فأنكرت ذلك.
وإن وصلت اللام ب قد فجيد بالغ. تقول: والله لقد رأيت زيداً، والله لقد انطلق في حاجتك. وسنفسر الفصل بين الفعل ب قد وبين الفعل إذا لم تدخله.
أما قد فأصلها أن تكون مخاطبة لقوم يتوقعون الخبر. فإذا قلت: قد جاء زيد لم تضع هذا الكلام ابتداء على غير أمرٍ كان بينك وبينه، أو أمرٍ تعلم أنه لا يتوقعه. فإن أدخلت اللام على قد فإنما تدخلها على هذا الوجه.
فأما قولك: والله لكذب زيد كذباً ما أحسب الله يغفره له فإنما تقديره: لقد؛ لأنه الأول إلى آخر القسم على غير محلوف عليه، فكان التقدير: {والليل إذا يغشى}، ثم ترك هذا، وابتدأ {والنهار إذا تجلى}. ولكنه بمنزلة قولك: والله ثم الله لأفعلن، وإنما مثلت لك بثم؛ لأنها ليست من حروف القسم.
واعلم أن القسم قد يؤكد بما يصدق الخبر قبل ذكر المقسم عليه، ثم يذكر ما يقع عليه القسم. فمن ذلك قوله عز وجل: {والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهدٍ ومشهود} ثم ذكر قصة أصحاب الأخدود توكيداً.
وإنما وقع القسم على قوله: {إن بطش ربك لشديدٌ} وقد قال قوم: إنما وقع على {قتل أصحاب الأخدود}، وحذفت اللام لطول الكلام. وليس القول عندنا إلا الأول؛ لأن هذه الاعتراضات توكيد.
فأما قوله: {والشمس وضحاها} فإنما وقع القسم على قوله: {قد أفلح من زكاها} وحذفت اللام لطول القصة، لأن الكلام إذا طال كان الحذف أجمل.
ألا ترى أن النحويين لا يقولون: قام هند، وذهب جاريتك، ويجيزون: حضر القاضي اليوم امرأةٌ يا فتى، فيجيزون الحذف مع طول الكلام؛ لأنهم يرون ما زاد عوضاً مما حذف.
وتقول: وحق الله ثم حقك لأفعلن ثم حقك تحمله على الموضع، كان جائزاً كما قال:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وعلى هذا قرئ {فأصدق وأكن من الصالحين}؛ لأنه حمله على موضع الفاء). [المقتضب: 2/336-337] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وتقول: إن زيداً منطلق وعمراً، وإن شئت: وعمرو.
فأما الرفع فمن وجهين، والنصب من وجه واحد، وهو أن تعطفه على الاسم المنصوب؛ كما قال:
إن الربيع الجود والخريفا = يدا أبي العباس والصيوفا
وهذا على وجه الكلام، ومجراه؛ لأنك إذا عطفت شيئاً على شيء كان مثله. وأحد وجهي الرفع وهو الأجود منهما: أن تحمله على موضع إن؛ لأن موضعها الابتداء. فإذا قلت: إن زيداً منطلق، فمعناه: زيد منطلق.
ومثل إن في هذا الباب لكن الثقيلة. ونظير ذلك قولك: ليس زيد بقائم ولا قاعداً، على الموضع. ومثله: خشنت بصدره وصدر زيد.
وعلى هذا قراءة من قرأ {فأصدق وأكن من الصالحين} حمله على موضع الفاء، ولم يحمله على ما عملت فيه.
وقرئت هذه الآية على وجهين: {إن الله بريء من المشركين ورسوله} بالنصب، والرفع في الرسول). [المقتضب: 4/111-112]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (فمما جاء نعتاً على الموضع وهو ها هنا أحسن قول الله عز وجل: {ما لكم من إله غيره}. إن شئت كان غيره استثناء، وإن شئت كان نعتاً على الموضع، وإنما كان هو الوجه؛ لأن من زائدة لم تحدث في المعنى شيئاً ولا ليست كذلك؛ لأنها أزالت ما كان موجباً، فصار بها منفياً. فمن ذلك قوله:
ورد جازرهم حرفاً مصرمة = ولا كريم من الولدان مصبوح
والعطف يجري هذا المجرى. فمن جعل المعطوف على الموضع قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. حمل الثاني على الموضع.
ونظير هذا قوله:
فلسنا بالجبال، ولا الحديدا
حمل الثاني على الموضع، كأنه قال: فلسنا الجبال ولسنا الحديدا.
ومثله قول الله عز وجل: {فأصدق وأكن} لولا الفاء كان أصدق مجزوماً؛ كما أنه لولا الباء لكانت الجبال منصوبة لأنه خبر ليس.
ومثله قولك: إن زيداً منطلق وعمرو، وقول الله عز وجل: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} ). [المقتضب: 4/369-371] (م)
تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }