تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إلهٍ غيره أفلا تتّقون}.
يقول تعالى ذكره: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} داعيهم إلى طاعتنا وتوحيدنا والبراءة من كلّ معبودٍ سوانا {فقال} لهم نوحٌ: {يا قوم اعبدوا اللّه} يقول: قال لهم: ذلّوا يا قوم للّه بالطّاعة. {ما لكم من إلهٍ غيره} يقول: ما لكم من معبودٍ يجوز لكم أن تعبدوه غيره. {أفلا تتّقون} يقول: أفلا تخشون بعبادتكم غيره عقابه أن يحلّ بكم). [جامع البيان: 17/34]
تفسير قوله تعالى: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فقال الملأ الّذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء اللّه لأنزل ملائكةً ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين}.
يقول تعالى ذكره: فقالت جماعة أشراف قوم نوحٍ، الّذين جحدوا توحيد اللّه وكذّبوه، لقومهم: ما نوح أيّها القوم إلاّ بشرٌ مثلكم، إنّما هو إنسانٌ مثلكم وكبعضكم، {يريد أن يتفضّل عليكم} يقول: يريد أن يصير له الفضل عليكم، فيكون متبوعًا وأنتم له تبعٌ. {ولو شاء اللّه لأنزل ملائكةً} يقول: ولو شاء اللّه أن لا نعبد شيئًا سواه لأنزل ملائكةً، يقول: لأرسل بالدّعاء إلى ما يدعوكم إليه نوحٌ ملائكةً تؤدّي إليكم رسالته.
وقوله: {ما سمعنا بهذا} الّذي يدعونا إليه نوحٌ من أنّه لا إله لنا غير اللّه في القرون الماضية، وهي آباؤهم الأوّلون). [جامع البيان: 17/34]
تفسير قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إن هو إلاّ رجلٌ به جنّةٌ فتربّصوا به حتّى حينٍ (25) قال ربّ انصرني بما كذّبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التّنّور فاسلك فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الّذين ظلموا إنّهم مغرقون}.
يعني تعالى ذكره بقوله مخبرًا عن قيل الملأ الّذين كفروا من قوم نوحٍ {إن هو إلاّ رجلٌ به جنّةٌ} ما نوحٌ إلاّ رجلٌ به جنونٌ.
وقد يقال أيضًا للجنّ جنّةٌ، فيتّفق الاسم والمصدر، وهو من قوله: {إن هو} كناية اسم نوحٍ.
وقوله: {فتربّصوا به حتّى حينٍ} يقول: فتلبّثوا به، وتنظّروا به حتّى حينٍ؛ يقول: إلى وقتٍ ما. ولم يعنوا بذلك وقتًا معلومًا، إنّما هو كقول القائل: دعه إلى يومٍ ما، أو إلى وقتٍ ما). [جامع البيان: 17/35]
تفسير قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {قال ربّ انصرني بما كذّبون} يقول: قال نوحٌ داعيًا ربّه مستنصرًا به على قومه، لمّا طال أمره وأمرهم، وتمادوا في غيّهم: {ربّ انصرني} على قومي {بما كذّبون} يعني بتكذيبهم إيّاي، فيما بلّغتهم من رسالتك، ودعوتهم إليه من توحيدك). [جامع البيان: 17/35]
تفسير قوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى وفار التنور قال كانت آية لهم إذا رأوا التنور قد فار منها الماء أن يسلك فيها من كل زوجين اثنين). [تفسير عبد الرزاق: 2/45]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحمدَ بنِ نَصْرٍ الرَّمْلِيُّ (ت:295هـ): (ثنا يوسف بن عديٍّ، قال: ثنا رشدين بن سعدٍ، عن يونس بن يزيد، عن عطاءٍ الخراساني في قول الله عز وجل: {بأعيننا} قال: بعين اللّه بوجهه). [جزء تفسير عطاء الخراساني: 107] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك} يقول: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك، وهي السّفينة {بأعيننا} يقول: بمرأًى منّا ومنظرٍ، {ووحينا} يقول: وبتعليمنا إيّاك صنعتها. {فإذا جاء أمرنا} يقول: فإذا جاء قضاؤنا في قومك، بعذابهم وهلاكهم؛ وقوله: {وفار التّنّور} وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة التّنّور والصّواب عندنا من القول فيه بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {فاسلك فيها من كلٍّ زوجين اثنين} يقول: فأدخل في الفلك واحمل. والهاء والألف في قوله {فيها} من ذكر الفلك {من كلّ زوجين اثنين}.
يقال: سلكته في كذا، وأسلكته فيه؛ ومن سلكته قول الشّاعر:
وكنت لزاز خصمك لم أعرّد = وقد سلكوك في يومٍ عصيب
وبعضهم يقول: أسلكت بالألف؛ ومنه قول الهذليّ:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ = شلًّا كما تطرد الجمّالة الشّردا
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه عن ابن عبّاسٍ، قوله: {فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين} يقول لنوحٍ: اجعل في السّفينة من كلّ زوجين اثنين.
{وأهلك} وهم ولده ونساؤهم. {إلاّ من سبق عليه القول} من اللّه بأنّه هالكٌ فيمن يهلك من قومك، فلا تحمله معك، وهو يام الّذي غرق ويعني بقوله: {منهم} من أهلك، والهاء والميم في قوله {منهم} من ذكر الأهل.
وقوله: {ولا تخاطبني} الآية، يقول: ولا تسألني في الّذين كفروا باللّه أن أنجّيهم. {إنّهم مغرقون} يقول: فإنّي قد حتّمت عليهم أن أغرق جميعهم). [جامع البيان: 17/36-37]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله {وعلى الفلك} قال: السفن). [الدر المنثور: 10/569]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فاسلك فيها} الآية، يقول: اجعل معك في السفينة من كل زوجين اثنين). [الدر المنثور: 10/569]
تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد للّه الّذي نجّانا من القوم الظّالمين}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} فإذا اعتدلت في السّفينة أنت ومعك ممّن حملته معك من أهلك، راكبًا فيها عاليًا فوقها؛ {فقل الحمد للّه الّذي نجّانا من القوم الظّالمين} يعني من المشركين). [جامع البيان: 17/37]
تفسير قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقل ربّ أنزلني منزلاً مباركًا وأنت خير المنزلين (29) إنّ في ذلك لآياتٍ وإن كنّا لمبتلين}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه نوحٍ عليه السّلام: وقل إذا سلّمك اللّه وأخرجك من الفلك فنزلت عنها: {ربّ أنزلني منزلاً} من الأرض {مباركًا وأنت خير} وأنت خير من أنزل عباده المنازل.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {منزلاً مباركًا} قال: لنوحٍ حين نزل من السّفينة.
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك. فقرأته عامّة قرّاء الأمصار: {ربّ أنزلني منزلاً مباركًا} بضمّ الميم، وفتح الزّاي. بمعنى: أنزلني إنزالاً مباركًا. وقرأه عاصمٌ: (منزلاً) بفتح الميم، وكسر الزّاي. بمعنى: أنزلني مكانًا مباركًا وموضعًا). [جامع البيان: 17/37-38]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقل رب أنزلني منزلا مباركا يقول الرب عز وجل لنوح عليه السلام حين نزل من السفينة). [تفسير مجاهد: 430]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {وقل رب أنزلني منزلا مباركا} قال لنوح حين أنزل من السفينة). [الدر المنثور: 10/569]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد عن عاصم رضي الله عنه أنه قرأ (أنزلني منزلا) بنصب الميم وخفض الزاي). [الدر المنثور: 10/569]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} قال: يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم وكيف تقولون إذا نزلتم أما عند الركوب {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} الزخرف الآية 13 {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} هود الآية 41 وعند النزول {رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} ). [الدر المنثور: 10/569-570]
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {إنّ في ذلك لآياتٍ} يقول تعالى ذكره: إنّ فيما فعلنا بقوم نوحٍ يا محمّد من إهلاكناهم إذ كذّبوا رسلنا، وجحدوا وحدانيّتنا، وعبدوا الآلهة والأصنام، لعبرًا لقومك من مشركي قريشٍ، وعظاتٍ، وحججًا لنا، يستدلّون بها على سنّتنا في أمثالهم، فينزجروا عن كفرهم، ويرتدعوا عن تكذيبك، حذرًا أن يصيبهم مثل الّذي أصابهم من العذاب.
وقوله: {وإن كنّا لمبتلين} يقول تعالى ذكره: وكنّا مختبريهم بتذكيرنا إيّاهم بآياتنا، لننظر ما هم عاملون قبل نزول عقوبتنا بهم). [جامع البيان: 17/38]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين.
أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين} قال: أي ابتلى الناس قبلكم). [الدر المنثور: 10/570]