قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فنخبر بتأويلهما, واشتقاقهما، ونتبع ذلك ألفاظا كثر تردادها في الكتاب, لم نر بعض السّور أولى بها من بعض، ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن، دون تأويل مشكله: إذ كنا قد أفردنا للمشكل كتابا جامعا كافيا، بحمد اللّه.
وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا: أن نختصر ونكمل، وأن نوضّح ونجمل، وأن لا نستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدّلالة على الحرف المستعمل، وأن لا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد, فإنّا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث: لاحتجنا إلى أن نأتي بتفسير السلف - رحمة اللّه عليهم - بعينه، ولو أتينا بتلك الألفاظ كان كتابنا, كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث، ولو تكلّفنا بعد اقتصاص اختلافهم، وتبيين معانيهم، وفتق جملهم بألفاظنا، وموضع الاختيار من ذلك الاختلاف، وإقامة الدلائل عليه، والإخبار عن العلة فيه -: لأسهبنا في القول، وأطلنا الكتاب، وقطعنا منه طمع المتحفّظ وباعدناه من بغية المتأدّب، وتكلّفنا من نقل الحديث، ما قد وقيناه وكفيناه.
وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين؛ لم نخرج فيه عن مذاهبهم، ولا تكلّفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة، وأشبهها بقصة الآية.
ونبذنا منكر التأويل، ومنحول التفسير, فقد نحل قوم ابن عباس، أنه قال في قول اللّه جل وعز: {إذا الشّمس كوّرت}: إنها غوّرت، من قول الناس بالفارسية: كوربكرد.
وقال آخر في قوله: {عيناً فيها تسمّى سلسبيلًا}: أراد سلني سبيلاً إليها يا محمد.
وقال الآخر في قوله:{ويل للمطففين}: إن الويل: واد في جهنم.
وقال الآخر في قوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}: إن الإبل: السحاب.
وقال الآخر في قوله: {ثمّ لتسئلنّ يومئذٍ عن النّعيم}: إن النعيم: الماء الحار في الشتاء.
وقال الآخر في قوله: {خذوا زينتكم عند كلّ مسجدٍ}: إن الزينة: المشط.
وقال آخر في قوله: {وأنّ المساجد لله}: إنها الآراب التي يسجد عليها المرء، وهي جبهته ويداه، وركبتاه وقدماه.
وقال الآخر في قوله: {أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى}: أن تجعل كلّ واحدة منهما ذكرا، يريد: أنهما يقومان مقام رجل، فإحداهما تذكّر الأخرى.
مع أشباه لهذا كثيرة، لا ندري: أمن جهة المفسرين لها وقع الغلط؟, أو من جهة النقلة؟
وباللّه نستعين، وإيّاه نسأل التوفيق للصواب.
اشتقاق اسماء اللّه وصفاته، وإظهار معانيها:-
1 - {الرحمن الرحيم}:صفتان مبنيتان من «الرحمة», قال أبو عبيدة: وتقديرهما: ندمان، ونديم.
2 - ومن صفاته: «السّلام»: قال: {السّلام المؤمن المهيمن} , ومنه سمي الرجل: عبد السلام، كما يقال: عبد اللّه.
ويرى أهل النظر - من أصحاب اللغة -: أن «السلام» بمعنى السلامة، كما يقال: الرّضاع والرّضاعة، واللّذاذ واللّذاذة، قال الشاعر:
تحيّي بالسلامة أمّ بكر = فهل لك -بعد قومك- من سلام؟
فسمى نفسه - جل ثناؤه - «سلاما»: لسلامته ممّا يلحق الخلق: من العيب والنقص، والفناء والموت.
قال اللّه جل وعز: {واللّه يدعوا إلى دار السّلام}, فالسلام: اللّه، وداره.: الجنة, يجوز أن يكون سماها «سلاما»:
= لأن الصائر إليها يسلم فيها من كل ما يكون في الدنيا: من مرض ووصب، وموت وهرم، وأشباه ذلك, فهي دار السلام, ومثله: {لهم دار السّلام عند ربّهم}.
ومنه يقال: السلام عليكم. يراد: اسم السلام عليكم, كما يقال: اسم اللّه عليكم.
وقد بيّن ذلك لبيد ، فقال:
إلى الحولثم اسم السلام عليكما = ومن يبك حولا كاملا، فقد اعتذر
ويجوز أن يكون معنى : «السلام عليكم»: السلامة لكم, وإلى هذا المعنى، يذهب من قال: «سلام اللّه عليكم، وأقرئ فلاناً سلام الله».
وقال: {وأمّا إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك من أصحاب اليمين}، يريد: فسلامة لك منهم، أي: يخبرك عنهم بسلامة. وهو معنى قول المفسرين, ويسمّى الصواب من القول «سلاما»: لأنه سلم من العيب والإثم.
قال: {وإذا خاطبهم الجاهلون، قالوا سلاماً}, أي: سدادا من القول.
3 - ومن صفاته: «القيّوم» , و«القيّام», وقرئ بهما جميعا, وهما «فيعول» و«فيعال» من «قمت بالشيء»: إذا وليته, كأنه القيّم بكل شيء, ومثله في التقدير قولهم: ما فيها ديّور وديار.
4 - ومن صفاته: «سبّوح»: وهو حرف مبنى على «فعول»، من «سبّح اللّه»: إذا نزّهه , وبرّأه من كل عيب, ومنه قيل: سبحان اللّه، أي: تنزيهاً للّه، وتبرئة له من ذلك.
ومنه قوله: {يسبّح للّه ما في السّماوات، وما في الأرض}
وقال الأعشى:
... = أقول لمّا جاءنا فخره سبحان من علقمة الفاخر
أراد: التبرؤ من علقمة, وقد يكون تعجب بالتسبيح من فخره، كما يقول القائل إذا تعجب من شيء: سبحان اللّه, فكأنه قال: عجبا من علقمة الفاخر.
5 - ومن صفاته: «قدّوس»: وهو حرف مبنى على «فعول»، من «القدس» وهو: الطهارة, ومنه قيل: «الأرض المقدّسة»، يراد: المطهّرة بالتبريك, ومنه قوله حكاية عن الملائكة: {ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك}، أي: ننسبك إلى الطهارة, و«نقدّسك ونقدّس لك», و«نسبح لك ونسبحك» بمعنى واحد.
وحظيرة القدس -فيما قاله أهل النظر- هي: الجنة, لأنها موضع الطهارة من الأدناس التي تكون في الدنيا: من الغائط والبول والحيض، وأشباه ذلك.
6 - ومن صفاته: «الرّب»: والرب: المالك. يقال: هذا ربّ الدار، وربّ الضّيعة، وربّ الغلام. أي: مالكه، قال اللّه سبحانه: {ارجع إلى ربّك}, أي: إلى سيدك, ولا يقال لمخلوق: هذا الرب، معرّفاً بالألف واللام، كما يقال للّه.
إنما يقال: هذا ربّ كذا, فيعرّف بالإضافة؛ لأن اللّه مالك كل شيء, فإذا قيل: الربّ، دلّت الألف واللام على معنى العموم, وإذا قيل لمخلوق: ربّ كذا وربّ كذا، نسب إلى شيء خاص, لأنه لا يملك شيئاً غيره.
ألا ترى أنه قيل: «اللّه»، فألزم الألف واللام: ليدلّ بها على أنه إله كل شيء. وكان الأصل: «الالاه». فتركت الهمزة: لكثرة ما يجري ذكره -عز وجل- على الألسنة، وأدغمت لام المعرفة في اللام التي لقيتها، وفخّمت وأشبعت حتى طبّق اللسان بها الحنك: لفخامة ذكره تبارك وتعالى: وليفرق أيضا -عند الابتداء بذكره- بينه وبين اللّات والعزّى].
7 - ومن صفاته: «المؤمن»: وأصل الإيمان: التصديق, قال: {وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين}, أي: وما أنت بمصدّق ولو كنا صادقين, ويقال في الكلام: ما أومن بشيء مما تقول، أي: ما أصدق بذلك.
فإيمان العبد باللّه: تصديقه قولاً وعملاً وعقداً, وقد سمى اللّه الصلاة - في كتابه - إيماناً, فقال: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}, أي: صلاتكم إلى بيت المقدس, فالعبد مؤمن، أي: مصدّق محقّق. واللّه مؤمن، أي: مصدّق ما وعده ومحقّقه، أو قابل إيمانه.
وقد يكون «المؤمن» من «الأمان»، لاي لا يأمن إلا من أمنه اللّه, وقد ذكرت الإيمان ووجوهه، في كتاب «تأويل المشكل».
وهذه الصفة -من صفات اللّه جل وعزّ- لا تتصرّف تصرّف غيرها، لا يقال: أمن اللّه، كما يقال: تقدّس اللّه. ولا يقال: يؤمن اللّه، كما يقال: يتقدّس اللّه.
وكذلك يقال: «تعالى اللّه»: وهو تفاعل من «العلو», و«تبارك اللّه»: هو تفاعل من «البركة» , و«اللّه متعال», ولا يقال: متبارك, لم نسمعه.وإنما ننتهي في صفاته إلى حيث انتهى، فإن كان قد جاء من هذا شيء عن الرسول صلّى اللّه عليه , وعلى آله، أو عن الأئمة : جاز أن يطلق، كما أطلق غيره.
8 - ومن صفاته: «المهيمن»: وهو: الشهيد, قال اللّه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه}, أي: شاهدا عليه, هكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه, وروى عنه -من غير هذه الجهة- أنه قال: «أمينا عليه», وهذا أعجب إليّ، وإن كان التفسيران متقاربين؛ لأن أهل النظر -من أصحاب اللغة- يرون: أن «مهيمنًا» اسم مبنى من «آمن»، كما بني «بطير» , ومبيطر , و«بيطار» من «بطر» قال الطّرمّاح:
... = كبزغ البطير الثقف رهص الكوادن
وقال النابغة:
... = شكّ المبيطر إذ يشفي من العضد
وكان الأصل، «مؤيمن»، ثم قلبت الهمزة هاء: لقرب مخرجهما، كما تقلب في «أرقت الماء»، فيقال: هرقت الماء, وقالوا: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق, وقالوا: «إبرية وهبرية، وأيهات وهيهات، وإيّاك وهياك», فأبدلوا من الهمز هاء, وأنشد الأخفش:
فهياك والأمر الذي إن توسعت = موارده ضاقت عليك مصادره
و«آمين»: اسم من أسماء اللّه, وقال قوم من المفسرين في قول المصلي بعد فراغه من قراءة أمّ الكتاب: {آمين}: أمين قصر من ذلك، كأنه قال: يا اللّه، وأضمر «استجب لي»؛ لأنه لا يجوز أن يظهر هذا في هذا الموضع من الصلاة، إذ كان كلاما, ثم تحذف ياء النداء.
تباعد مني فطحل إذ سألته = أمين، فزاد اللّه ما بيننا بعدا
ويفتحونها: لانفرادها، وانقطاعها يضمر فيها: من معنى النداء حتى صارت عندهم معنى «كذلك فعل اللّه», وقد أجازوا أيضاً, «آمين» مطوّلة الألف, وحكوها عن قوم فصحاء, وأصلها: «يا أمين» بمعنى: يا اللّه, ثم تحذف همزة «أمين» استخفافا ًلكثرة ما تجري هذه الكلمة على ألسنة الناس, ومخرجها مخرج «آزيد», يريد: يا زيد, و«آ راكب» يريد: يا راكب, وقد سمعنا من فصحاء العرب: «آ خبيث»، يريدون: يا خبيث.
وفي ذلك قول آخر، يقال: إنما مدت الألف فيها، ليطول بها الصوت,كما قالوا: أوه, مقصورة الألف، ثم قالوا: «آوه», ممدودة.
يريدون تطويل الصوت بالشكاية, وقالوا: «سقط على حاق رأسه»، أي: على حقّ رأسه, وكذلك «آمين»: أرادوا تطويل الصوت بالدعاء, وهذا أعجب إليّ.
وأما قول العباس بن عبد المطّلب، في مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سلم:
حتى احتوى بيتك المهيمن من = خندف، علياء تحتها النّطق
فإنه أراد: حتى احتويت - يا مهيمن - من خنف علياء، فأقام البيت مقامه: لأن بيته إذا حلّ بهذا المكان، فقد حل هو به, وهو كما يقال: بيته أعزّ بيت, وإنما يراد: صاحبه, قال النابغة:
وحلت بيوتي في يفاع ممنع = تخال به راعي الحمولة طائرا
ولم يكن بيته في جبل بهذه الصفة، إنما أراد: أني ممتنع على من أرادني، فكأني حللت في يفاع ممنّع.
9 - ومن صفاته: «الغفور»: وهو من قولك: «غفرت الشيء» إذا غطيته, كما يقال: «كفرته»: إذا غطّيته, ويقال: كذا أغفر من كذا، أي: أستر, و«غفر الخزّ والصوف»: ما علا فوق الثوب منها: كالزّئبر, سمي «غفرا»: لأنه ستر الثوب, ويقال لجنّة الرأس: «مغفر»: لأنها تستر الرأس, فكأن «الغفور»: الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوبه, ونحو منه قولهم: «تغمدني برحمتك»، أي: ألبسني إياها, ومنه قيل: «غمد السيف»، لأنه يغمد فيه، أي: يدخل.
10 - ومن صفاته: «الواسع»: وهو الغنيّ, والسعة: الغنى,قال اللّه:{لنفق ذو سعة من سعته}, أي: يعط من سعته.
11 - ومن صفاته: «البارئ»: ومعنى البارئ: الخالق, يقال: برأ اللّه الخلق يبرؤهم, و«البريّة»: الخلق.
وأكثر العرب والقراء: على ترك همزها، لكثرة ما جرت على الألسنة, وهي «فعيلة» بمعنى «مفعولة».
ومن الناس من يزعم: أنها مأخوذة من «بريت العود».
ومنهم من يزعم: أنها من «البرى»، وهو: التراب أي: خلق من التراب. وقالوا: لذلك لم يهمز, وقد بينت هذا في كتاب «القراءات»، وذكرت موضع الأخبار منه.
12 - ومثل البارئ: «الذّاريّ»: وهو: الخالق. يقال: ذرأ اللّه الخلق, وقال: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً}, أي: خلقنا, و«الذّرية» منه، لأنها خلق اللّه من الرجل.
وأكثر القراء والعرب: على ترك همزها، لكثرة ما يتكلم بها, ومنهم من يزعم: أنها من «ذروت» أو «ذريت».
13 - ومن صفاته ما جاء على «فعيل» بمعنى «فاعل»، نحو: «قدير» بمعنى «قادر»، و«بصير» بمعنى «باصر»، و«سميع» بمعنى «سامع»، و«حفيظ» بمعنى «حافظ» , و«بدىء» بمعنى «بادئ الخلق»، و«شهيد» بمعنى «شاهد»، و«عليم» بمعنى «عالم»، و«رقيب» بمعنى «راقب», وهو: الحافظ, و«كفيل» بمعنى «كافل»، و«خبير» بمعنى «خابر»، و«حكيم» بمعنى «حاكم»، و«مجيد» بمعنى «ماجد» وهو: الشريف.
14 - ومن صفاته ما جاء على «فعيل» بمعنى «مفعل»، نحو: «بصير» بمعنى «مبصر»، و«بديع الخلق» بمعنى «مبدع الخلق», كما قالوا: «سميع» بمعنى «مسمع», قال عمرو بن معديكرب:
... = أمن ريحانة الداعي السّميع.
و«عذاب أليم» أي: مؤلم، و«ضرب وجيع» أي: موجع.
ومنه: {إنّ اللّه كان على كلّ شيءٍ حسيباً} , أي: كافياً, من قولك: «أحسبني هذا الشيء»، أي: كافني. و«اللّه حسيبي وحسيبك» أي: كافينا، أي: يكون حكما بيننا كافيا. قال الشاعر:
ونقفي وليد الحيإن كان جائعا = ونحسبه إن كان ليس بجائع
أي: نعطيه ما يكفيه، حتى يقول: حسبي.
وقال بعض المفسرين في قوله: {إنّ اللّه كان على كلّ شيءٍ حسيباً}: أي: محاسباً, وهو -على هذا التأويل- في مذهب «جليس» , و«أكيل» , و«شريب» , و«نديم» , و«قعيد».
15 - ومن صفاته ما جاء على «فعيل», لا يكون منها غير لفظها، نحو: «قريب», و«جليل», و«حليم» ,و«عظيم», و«كبير», و«كريم» -وهو الصّفوح عن الذنوب-, و«وكيل», وهو الكفيل, قال: {واللّه على ما نقول وكيلٌ}, {وكفى باللّه وكيلًا}, {وتوكّل عليه}, أي: اجعله كافلك، واعتمد على كفالته لك, ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله له، وقام به.
16 - ومن صفاته: «الودود»: وفيه قولان، يقال: هو «فعول» بمعنى «مفعول»، كما يقال: رجل هيوب، أي: مهيب، يراد به: مودود.
ويقال: هو «فعول» بمعنى «فاعل», كقولك: غفور، بمعنى : غافر؛ أي: يودّ عباده الصالحين, وقد تأتى الصفة بالفعل للّه ولعبده، فيقال: «العبد شكور للّه» أي: يشكر نعمه, و«اللّه شكور للعبد» أي: يشكر له عمله, و«العبد توّاب إلى اللّه من الذنب»، و«اللّه توّاب عليه».
17 - و«كبرياء اللّه»: شرفه, وهو من «تكبّر»، إذا أعلا نفسه.
18 - و«جدّ اللّه»: عظمته, ومنه قوله: {تعالى جدّ ربّنا}, ومنه يقال في افتتاح الصلاة: «تبارك اسمك، وتعالى جدّك».
يقال: جدّ الرجل في صدور الناس وفي عيونهم، إذا عظم, ومنه قول أنس: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جدّ فينا»، أي: عظم.
19 - و«مجد اللّه»: شرفه، وكرمه.
20 - و«جبروته»: تجبره، أي: تعظّمه.
21 - و«ملكوته»: ملكه, ويقال: دار ملكه, وزيدت التاء فيهما، كما زيدت في «رهبوت» و«رحموت», تقول العرب: «رهبوت خير من رحموت»، أي: أن ترهب خير من أن ترحم.
22 - و«فضل اللّه»: عطاؤه, وكذلك «منه» هو: عطاؤه, يقال: اللّه ذو منّ عظيم. ومنه قوله: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ}, أي: أعط , أو أمسك, وقوله: {ولا تمنن تستكثر}, أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.
23 - و«حمد اللّه»: الثناء عليه بصفاته الحسننى, و«شكره»: الثناء عليه بنعمه وإحسانه، تقول: «حمدت الرجل»: إذا أثنيت عليه بكرم, وحسب, وشجاعة: وأشباه ذلك، و«شكرت له»: إذا أثنيت عليه بمعروف أولاكه, وقد يوضع الحمد موضع الشكر, ولا يوضع الشكر موضع الحمد.
24 - و«أسماء اللّه الحسنى»: الرحمن، والرحيم، والغفور، والشكور، وأشباه ذلك.
25 - والإلحاد في أسمائه: الجور عن الحق, والعدول عنه، وذكر اللّات والعزّى، وأشباه ذلك.
26 - و«مثله الأعلى»: لا إله إلّا اللّه, ومعنى المثل - هاهنا - معنى الصفة، أي: هذه صفته, وهي أعلى من كل صفة: إذ كانت لا تكون إلّا له, ومثل هذا - مما المثل فيه بمعنى الصفة - قوله في صفة أصحاب رسوله: {ذلك مثلهم في التّوراة}, أي: صفتهم, وقوله: {مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون}, أي: صفتها, وقد بينت هذا في كتاب «المشكل».
باب تأويل حروف كثرت في الكتاب
1 - الجنّ: من «الاجتنان»، وهو الاستتار, يقال للدرع: جنّة، لأنها سترت, ويقال: أجنّة الليل، أي: جعله من سواده في جنة، وجنّ عليه الليل.
وإنما سموا جنّا: لاستتارهم عن أبصار الإنس.
وقال بعض المفسرين في قوله: {فسجدوا إلّا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه} , أي، من الملائكة., فسمهاهم جنّا: لاجتنانهم , واستتارهم عن الأبصار.
وقال الأعشى يذكر سليمان النبيّ، عليه السلام:
وسخّر من جنّ الملائكة تسعة = قياما لديه يعملون بلا أجر
2 - وسمي الإنس إنساً: لظهورهم، وإدراك البصر إياهم, وهو من قولك: آنست كذا، أي: أبصرته, قال اللّه جل ثناؤه: {إنّي آنست ناراً} , أي: أبصرت.
وقد روي عن ابن عباس، أنه قال: "إنما سمي إنسانا: لأنه عهد إليه, فنسى", وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة, واحتجوا في ذلك بتصغير إنسان، وذلك: أن العرب تصغره «أنيسيان»: بزيادة ياء، كأن مكبره «إنسيان» - إفعلان - من النّسيان، ثم تحذف الياء من مكبّره استخفافا: لكثرة ما يجري على اللسان، فإذا صغر رجعت الياء وردّ إلى أصله، لأنه لا يكثر مصغّرا كما يكثر مكبّرا.
والبصريون يجعلونه «فعلانا» على التفسير الأول, وقالوا: زيدت الياء في تصغيره، كما زيدت في تصغير ليلة، فقالوا: لييلة, وفي تصغير رجل، فقالوا: رويجل.
3 - وهما الثّقلان: يعني: الجن والإنس, سميا بذلك؛ لأنهما ثقل الأرض، إذ كانت تحملهم أحياء وأمواتاً,ومنه قول اللّه: {وأخرجت الأرض أثقالها},أي: موتاها.
وقالت الخنساء ترثي أخاها:
أبعد ابن عمرو من آل الشّريـ = ـد حلت به الأرض أثقالها
قالوا: حلّت من التحلية، لا من الحلّ الذي هو ضد العقد, أي: حلّت به موتاها؛ كأنها زينتهم به.
4 - (والملائكة): من الألوك, وهي الرسالة, وهي المأْلُكَة, والمأْلَكَة، ومنه قالت الشعراء: ألكنني, أي: أرسلنني, وبمعنى كن رسولي، واحدهم ملك - بترك الهمزة - ؛ لكثرة ما يجري في الكلام، والهمزة في الجمع مؤخرة؛ لأنهم رسل اللّه.
5 - و(إبليس): فيه قولان: قال أبو عبيدة: هو اسم أعجمي, ولذلك لا يصرف, وقال غيره: «إفعيل» من أبلس الرجل إذا يئس, قال اللّه جل ثناؤه: {أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون}, أي: يائسون, كذلك قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه, قال: ولما لعنه اللّه, وغضب عليه, أبلس من رحمته, أي: يئس منها, فسماه اللّه عز وجل إبليس,وكان اسمه عزازيل, قال: ولم يصرف؛ لأنه لا سميّ له, فاستثقل.
6 - و(الشّيطان): تقديره: فيعال, والنون من نفس الحرف, كأنه من شطن, أي: بعد, ومنه يقال "شطنت داره"؛ أي: بعدت, وقذفته نوى شطون, أي: بعيدة, وشياطين الجن: مردتهم, وكذلك شياطين الإنس: مردتهم أيضاً.
كأن المارد منهم يخرج عن جملتهم , ويبعد منهم, لتمرده, ومثله قولهم: شاطر وشطّار؛ لأنهم كانوا يبعدون عن منازلهم, فسمّي بذلك كلّ من فعل مثل فعلهم , وإن لم يعزب عن أهله, قال طرفة:
... في القوم الشّطر = ...
أي: البعداء.
والدليل على أن النون من شيطان من نفس الحرف: قول أمية بن أبي الصلت في وصف سليمان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم:
أيّما شاطن عصاه عكاه = ثم يلقى في السجن والأغلال
فجاء به على فاعل من شطن.
7 - وقوله: {يتوفّى الأنفس}: هو من استيفاء العدد, واستيفاء الشيء إذا استقصيته كله, يقال: توفيته واستوفيته.
كما يقال: تيقنت الخبر, واستيقنته، وتثبت في الأمر, واستثبته, وهذا هوالأصل, ثم قيل للموت: وفاة , وتوف, والعرب تسمى الدم نفسًا, لاتصال النفس به على مذهبهم في تسمية الشيء بما اتصل به, أو جاوره , أو كان سبباً له.
ويقولون: نفست المرأة: إذا خاضت؛ كأنها دميت, وقال أصحاب اللغة: وإنما سميّت المرأة نفساء؛ لسيلان الدم.
وقال إبراهيم: كل شيء ليست له نفس سائلة, فإنه لا ينجس الماء إذا سقط فيه, يريد كل شيء ليس له دم سائل, وتسمى العرب النفس نسمة, وأصل النسمة النفس, وروي في بعض الحديث: «تنكبوا الغبار, فإن منه تكون النسمة»: يراد: منه يكون النفس، والربو سمي نفساً, لأنه عن النفس يكون.
والعرب تقول: مات فلان حتف نفسه، وحتف أنفه إذا مات على فراشه، لأنه لا يزال يتنفس حتى يموت , فتخرج نفسه نفساً من أنفه وفمه.
8 - {ويوم ينفخ في الصّور}, قال أبو عبيدة: وهو جمع صورة، يقال: صورة، وصور، وصور.
قال: ومثله صورة البناء وسوره, وأنشد:
... = سرت إليه في أعالي السّور
قال:
... = وسور المجد أعاليه.
أي : ينفخ في صور الناس.
وقال غيره: الصّور القرن بلغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نحن نطحناهم غداة الجمعين = بالضابحات غي غبار النّقعين
نطحاً شديداً لا كنطح الصّورين , وهذا أعجب إليّ من القول الأول،
لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه , وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر , فينفخ».
9 - و(اللّعن) في اللغة: فأصله الطّرد, ولعن اللّه إبليس: طرده حين قال: {اخرج منها مذؤماً}, ثم انتقل ذلك, فصار قولاً, قال الشماخ: - وذكر ماء -:
ذعرت به القطا ونفيت عنه = مقام الذئب كالرّجل اللعين
أراد مقام الذئب اللعين, أي : الطريد كالرجل, فكأن القائل: لعنه اللّه، أراد: طرده اللّه عنه، باعده اللّه منه، أسحقه اللّه، هذا أو نحوه.
10 - و(الشرك) في اللغة: مصدر شركته في الأمر أشركه، وفي الحديث: أن معاذا أجاز بين أهل المين الشّرك, يراد في المزارعة: أن يشترك فيها رجلان أو ثلاثة, فكان الشّرك باللّه هو أن يجعل له شريك , قال: {وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون} .
قال أبو عبيدة: كانت تلبية أهل الجاهلية: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك, فأنزل اللّه هذه الآية.
11- و(الجحد) في اللغة: إنكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك, قال اللّه جل ثناؤه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}, وقال: {فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون}, يريد: أنهم لا ينسبونك إلى الكذب في قراءة من قرأ: {يكذّبونك}بالتشديد, ومن قرأ{يكذبونك}بالتخفيف، أراد: لا يجدونك كذاًبا , ولكنهم بآيات اللّه يجحدون, أي: ينكرونها بألسنتهم , وهم مستيقنون أنك لم تكذب, ولم تأت بها إلّا عن اللّه تبارك اسمه.
12- و(الكفر) في اللغة: من قولك كفرت الشيء إذا غطّيته, يقال لليل كافر لأنه يستر بظلمته كل شيء, ومنه قول اللّه عز وجل: {كمثل غيثٍ أعجب الكفّار نباته}, يريد بالكفّار الزرّاع، سمّاهم كفّارا ؛ لأنهم إذا ألقوا البذر في الأرض كفروه, أي: غطوه, وستروه، فكأن الكافر ساتر للحق, وساتر لنعم اللّه عز وجل.
13 - و(الظلم) في اللغة: وضع الشيء غير موضعه, ومنه ظلم السّقاء , وهو شربه قبل الإدراك، لأنّه وضع الشّرب غير موضعه.
وظلم الجزور, وهو نحره لغير عيلة, ومنه يقال: من أشبه أباه فما ظلم, أي: ما وضع الشبه غير موضعه.
ومنه قول النابغة:
... = والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
والمظلومة: الأرض التي حفر فيها, ولم تكن موضع حفر, سميت بذلك؛ لأن الحفر وضع غير موضعه, فكأن الظالم هو الذي أزال الحق عن جهته, وأخذ ما ليس له، هذا وما أشبهه, ثم يتفرع من الظلم معان قد ذكرتها في كتاب «تأويل المشكل».
14 - و(الفسق) في اللغة: الخروج عن الشيء, ومنه قول اللّه جل وعز: {إلّا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه}, أي: خرج من طاعته, قال الفراء: ومنه يقال: فسقت الرّطبة: إذا خرجت من قشرها.
15 - و(النّفاق) في اللغة: مأخوذ من نافقاء اليربوع, وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الحجر الذي دخل فيه, فيقال: قد نفق ونافق، شبّه بفعل اليربوع، لأنه يدخل من باب, ويخرج من باب, وكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ, ويخرج منه بالعقد, وقد ذكرت هذا في كتاب «غريب الحديث» بأكثر من هذا البيان, والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب قبل الإسلام تعرفه.
16 - و(البهتان): من بهت الرجل إذا وجهته بالباطل.
17 - و(العدوان): من عدوت, وتعدّيت على الرجل, والعداء: الظلم.
18 - و(الخسران): النقصان, وكذلك الخسر، ويكون بمعنى الهلكة؛ قال اللّه تعالى: {وأولئك هم الخاسرون}, أي: الهالكون, وقال: {فما تزيدونني غير تخسيرٍ}, أي: هلكة، وقال في موضع آخر: {وما زادوهم غير تتبيبٍ}, أي: هلكة.
19 - و(الإفك): الكذب، لأنه كلام قلب عن الحق, وأصله: من أفكت الرجل إذا صرفته عن رأي كان عليه, ومنه قيل لمدائن قوم لوط: {المؤتفكات}؛ لانقلابها, ومنه قول اللّه جل وعز: {فأنّى تؤفكون}, أي: من أين تحرمون, وتصرفون عن الحق، قال الشاعر:
إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ = فوكا ففي آخرين قد أفكوا
أي: إن تك عن أحسن الصنيعة معدولا.
20 - وكذلك (الفجور): هو الميل عن الحق إلى الباطل, ويقال للكذب أيضا: فجور، وهو الميل عن الصدق.
21 - و(الافتراء): الاختلاف، قال اللّه تعالى: {ولكنّ الّذين كفروا يفترون على اللّه الكذب}, أي: يختلقونه, ومنه قيل: افترى فلان على فلان، إذا قذفه بما ليس فيه، أو قذف أبويه.
22 - و(إقامة الصّلاة): إدامتها لأوقاتتها, والعرب تقول: قامت السوق, وأقمتها: إذا أدمتها, ولم أعطلها, قال الشاعر:
أقامت غزالة سوق الضّراب = لأهل العراقين حولا قميطا
ويقولون في خلاف ذلك: نامت السوق، إذا عطلت, أو كسدت.
23 - و(التزكية): من الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم , وعلى آله، أخذ الزكاة, قال: {يتلوا عليكم آياتنا ويزكّيكم}
وأصل الزّكاة: النّماء, والزيادة, ومنه قيل للصدقة عن المال: زكاة لأنها تثمره، ومنه يقال: زكا الزرع، وزكت النفقة، إذا بورك فيها.
24 - و(الحكمة): العلم, والعمل, لا يسمى الرجل حكيماً حتى يجمعهما.
25 - و(شعائر اللّه): واحدها شعيرة، وهو كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته, ومنه إشعار البدن: إذا أهديت, وهو أن تطعن في سنامها، وتجللها وتقلّده؛ لأن ذلك من علامات إهدائها.
وقال قائل حين شجّ عمر: أشعر أمير المؤمنين, كأنه أعلم بعلامة من الجراح, ويرى أهل النظر أن أصله من الشّعار، وهو ما ولي الجسد من الثياب.
26 -و(حجّ البيت): مأخوذ من قولك: حججت فلانا؛ إذا عدت إليه مرة بعد مرة، قال الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة = يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا
أي: يكثرون الاختلاف إليه لسؤده, وكان الرئيس يعتم بعمامة صفرا ً تكون علماً لرياست , ولا يكون ذلك لغيره, ونحوه قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس}: أي: يثوبون إليه، يعني: يعودون إليه في كل عام.
27 - و(السّلطان): الملك والقهر, فإذا لم يكن ملك وقهر , فهو بمعنى: حجة وبرهان، كقوله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطانٍ مبينٍ} , وكقوله: {أم لكم سلطانٌ مبينٌ}
28 - و(القرآن): من قولك: ما قرأت الناقة سلى قطّ، أي: ما ضمّت في رحمها ولداً, وكذلك ما قرأت جنيناً, وأنشد أبو عبيدة:
... = هجان اللون لم تقرأ جنينًا
وقال في قوله: {إنّ علينا جمعه وقرآنه}، أي: تأليفه. قال: وإنما سمي قرآنًا لأنه جمع السور وضمها, ويكون القرآن مصدرا ً كالقراءة: يقال: قرأت قراءة حسنة, وقرآنًا حسناً, وقال الله: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً}, أي: قراءة الفجر، يعني: صلاة الفجر, قال الشاعر في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السّجود = به يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي: تسبيحاً, وقراءة.
29 - و(السّورة): تهمز, ولا تهمز: فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت, لأنها قطعة من القرآن.
ومن لم يهمزها جعلها من سورة البناء، أي: منزلة بعد منزلة، قال النابغة في النّعمان:
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة = ترى كل ملك دونها يتذبذب
والسّورة في هذا البيت سورة المجد, وهي مستعارة من سورة البناء.
30 - و(الآية): جماعة الحروف, قال الشيباني: وهو من قولهم: خرج القوم بآيتهم، أي : بجماعتهم.
31 - و(السبع الطوال): آخرها براءة, كانوا يرون الأنفال, وبراءة سورة واحدة، لأنهما جميعا نزلتا في مغازي رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يفصلوا بينهما.
32 - و(السور التي تعرف بالمئين): هي ما ولى السّبع الطوال، سميت بمثئن؛ لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية, أو تقاربها.
33 - و(المثاني): ما ولي المئين من السور التي هي دون المائدة, كأن المئين مباد, وهذه مثان, وقد تكون المثاني سور القرآن كلّها قصارها وطوالها, ويقال من ذلك قوله: {كتاباً متشابهاً مثاني}, ومنه قوله: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}: وإنما سمّي القرآن مثاني؛ لأن الأنباء والقصص تثنّى فيه.
ويقال المثاني في قوله: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}: آيات سورة الحمد, سمّاها مثاني؛ لأنها تثنّى في كل صلاة.
34 - و(المفصّل): ما يلي المثاني من قصار السور، سميّت مفصلاً, لقصرها, وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
35 - وأما (آل حميم): فإنه يقال: إن حم: اسم من أسماء اللّه، أضيفت هذه السور إليه, كأنه قيل: سور اللّه؛ لشرفها, وفضلها, قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حميم آية = تأولها منّا تقيّ ومعرب
وقد يجعل حم اسماً للسورة، ويدخله الإعراب, ولا يصرف, ومن قال هذا , قال في الجميع: الحواميم, كما يقال: طس والطواسين.
36 - وأما (التوراة): فإن الفرّاء يجعلها من ورى الزّند يرى: إذا خرجت ناره، وأوريته, يريد: أنها ضياء.
37 - و(الإنجيل): من نجلت الشيء: إذا أخرجته, وولد الرجل نجله, وإنجيل «إفعيل» من ذلك؛ كأن اللّه أظهر به عافياً من الحق دارساً.
38 - وقد سمى الله القرآن: (كتابا): فقال: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}, وقال: {كتابٌ أنزلناه إليك}, والكتاب فعل الكاتب, تقول: كتب كتاباً, كما تقول: حجب حجاباً, وقام قياماً, وصام صياماً, وقد يسمّى الشيء بفعل الفاعل، يقال: هذا درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروب الأمير، وتقول: هؤلاء خلق اللّه, لجماعة الناس، وإنما هو مخلوقو اللّه.
39 - و(الزّبور): هو بمعنى مكتوب من زبر الكتاب, يزبره إذا كتبه، وهو فعول بمعنى مفعول، كما يقال: جلوب وركوب في معنى: مجلوب ومركوب, ومعنى: «كتب الكتاب»: أي: جمع حروفه, ومنه كتب الخرز، ومنه يقال: كتبت البغلة: إذا جمعت بين شفريها بحلقة.
40 - وأساطير الأوّلين: أخبارهم, وما سطّر منها, أي: كتب, ومنه قوله: {وما يسطرون}, أي: يكتبون, واحدها سطر, ثم أسطار، ثم أساطير - جمع الجمع- , مثل: قول, وأقوال, وأقاويل.
وأبو عبيدة يجعل واحدها: أسطورة, وإسطارة, ومعناها: التّرهات البسابس, و هو الذي لا نظام له, وليس بشيء صحيح). [تفسير غريب القرآن: 3-37]