تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {كتب عليكم} الآية، كأن الآية متصلة بقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا} فلذلك سقطت واو العطف، وكتب معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم: الوصية فرض، وقال قوم: كانت فرضا ونسخت، وقال فريق: هي مندوب إليها، وكتب عامل في رفع الوصيّة على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من كتب لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبوية: «قام امرأة»، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل الوصيّة في إذا لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصيّة، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كتب هو العامل في إذا والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب كتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصيّة مفعول لم يسم فاعله ب كتب وجواب الشرطين إذا وإن مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله كتب عليكم، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير: كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إذا، وترتفع الوصيّة بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه:
من يفعل الصّالحات الله يحفظها ....... ... ... ... ...
أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل: فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون الوصيّة مرتفعة ب كتب على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون الوصيّة هي العامل في إذا، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو الوصيّة، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفا فإن في الظرف يسهل الاتساع، وإذا ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر:
تقول وصكّت وجهها بيمينها ....... أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس
فإنه يرى أن «بالرحا» متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال: أبعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى إذا حضر مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال.
واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره: «تجب فيما قل وفيما كثر»، وقال النخعي:«تجب في خمسمائة درهم فصاعدا»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة: «في ألف فصاعدا».
واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق: محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: «الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض»، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
وقال ابن عمر وابن عباس أيضا وابن زيد: «الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا»، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره: «لا وصية لوارث»، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم: «أوص لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}[الأحزاب: 6]»، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ} [البقرة: 106].
وقال قوم من العلماء: الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي: «لم يكن ذلك له ولا كرامة».
وقال طاوس: «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله» وقاله جابر بن زيد.
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضا وعبد الملك بن يعلى: «يبقى ثلث الوصية حيث جعلها ويرد ثلثاها إلى قرابته».
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: «الوصية ماضية حيث جعلها الميت»، {والأقربون}: جمع أقرب، و{بالمعروف}: معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، و{حقًّا}:مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبادر الناس إليها). [المحرر الوجيز: 1/ 428-432]
تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فمن بدّله بعد ما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (181) فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (182) يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (183) أيّاماً معدوداتٍ فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (184)}
الضمير في بدّله عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في سمعه، ويحتمل أن يعود الذي في سمعه على أمر الله تعالى في هذه الآية، والقول الأول أسبق للناظر، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالما بالنهي عامدا لخلافه، والضمير في إثمه عائد على التبديل، وسميعٌ عليمٌ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين). [المحرر الوجيز: 1/ 432-433]
تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وسميعٌ عليمٌ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «من موصّ» بفتح الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بسكون الواو، والجنف الميل، وقال الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي ....... وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي:
هم المولى وقد جنفوا علينا ....... وإنّا من عدواتهم لزور
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: «من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم»، فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه، إنّ اللّه غفورٌ عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية رحيمٌ به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع: «معنى الآية: من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى». وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «فلا ثم عليه» بحذف الألف). [المحرر الوجيز: 1/ 433-434]