تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35) فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ (36)}
{اسكن} معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، و{أنت} تأكيد للضمير الذي في اسكن، و{زوجك} عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، والجنّة البستان عليه حظيرة،
- واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.
- واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؟
فقال ابن عباس: «حين أنبأ الملائكة بالأسماء واسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه فقال فيما يزعمون: لحمي ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا آدم ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم؟».
قال: «لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له: اسكن أنت وزوجك الجنّة».
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي»،
وحذفت النون من {كلا} للأمر، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ، ولفظ هذا الأمر بـ{كلا} معناه الإباحة، بقرينة قوله: {حيث شئتما} والضمير في {منها} عائد على الجنّة.
وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغدا» بسكون الغين، والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه، ومنه قول امرئ القيس:
بينما المرء تراه ناعما ....... يأمن الأحداث في عيش رغد
و{رغداً} منصوب على الصفة لمصدر محذوف،
وقيل: هو نصب على المصدر في موضع الحال،
و{حيث} مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض، كقوله سبحانه: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 82، القلم: 44] ومن العرب من يقول «حوث»،
و{شئتما} أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت الياء بعد.
وقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشّجرة} معناه: لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس.
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشّجرة» بكسر الشين و «الشجر» كل ما قام من النبات على ساق.
- واختلف في هذه الشّجرة التي نهى عنها ما هي؟
- فقال ابن مسعود وابن عباس: «هي الكرم ولذلك حرمت علينا الخمر».
- وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: «هي شجرة التين».
- وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وعطية وقتادة: «هي السنبلة وحبها ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد».
- وروي عن ابن عباس أيضا: «أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
- وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة: «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أيضا ضعيف.
- قال: «واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول: إنها كانت حلوة ومرّت من حينئذ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
وقيل: إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض.
وقوله: {فتكونا} في موضع جزم على العطف على لا تقربا، ويجوز فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه: «أن» المضمرة، وعند الجرمي: الفاء،
والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه، ومنه قولهم: «من أشبه أباه فما ظلم»، ومنه «المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو بن قمئة:
ظلم البطاح بها انهلال حريصة ....... فصفا النطاف له بعيد المقلع
والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: {ولا تقربا} على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالما، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي). [المحرر الوجيز: 1/ 181-184]
تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و«أزلهما» مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم.
قال أبو علي: {فأزلّهما} يحتمل تأويلين: أحدهما: كسبهما الزلة، والآخر: أن يكون من زل إذا عثر.
وقرأ حمزة: «فأزالهما»، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤديا إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء،
ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في الكيفية،
- فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء: «أغواهما مشافهة»، ودليل ذلك قوله تعالى: {وقاسمهما} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
- وقال بعضهم: إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال: يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلدا كان، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد؟
- وقال بعضهم: دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج إلى حواء وأخذ شيئا من الشجرة، وقال: انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر، وكذلك تحملين كرها، وتضعين كرها، تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: «وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة».
- وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
والضمير في {عنها} عائد على الشّجرة في قراءة من قرأ «أزلهما»، ويحتمل أن يعود على الجنّة فأما من قرأ «أزالهما» فإنه يعود على الجنّة فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة.
وقال قوم: «أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها».
وقال آخرون: «تأولا النهي على الندب».
وقال ابن المسيب: «إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله».
وقوله تعالى: {فأخرجهما ممّا كانا فيه} يحتمل وجوها،
- فقيل: أخرجهما من الطاعة إلى المعصية.
- وقيل: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا.
- وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله يتقارب.
وقرأ أبو حيوة: «اهبطوا» بضم الباء. «ويفعل» كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدّ. والهبوط: النزول من علو إلى أسفل.
واختلف من المخاطب بالهبوط،
- فقال السدي وغيره: «آدم وحواء وإبليس والحية».
- وقال الحسن: «آدم وحواء والوسوسة».
- قال غيره: «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته».
و{بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ عدوٌّ من حيث لفظ بعض، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث لفظة عدوٌّ تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: {هم العدوّ فاحذرهم} [المنافقون: 4].
و{لكم في الأرض مستقرٌّ} أي: موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: «المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك». وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة ....... متاع قليل من حبيب مفارق
واختلف المتأولون في الحين هاهنا؛
- فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا،
- وقالت فرقة: {إلى حينٍ}: إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور.
ويترتب أيضا على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله: {ولكم} أي: لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة،
والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة.
قال الله تعالى: {تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربّها} [إبراهيم: 25] وقد قيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن.
وفي قوله تعالى: {إلى حينٍ} فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد.
وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل: بميسان، وأن إبليس نزل على الأبلة). [المحرر الوجيز: 1 /184-188]
تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (39)}
المعنى: فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، وآدم رفع بـ{تلقى}، {كلماتٍ} نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم.
وحكى مكي قولا: أنه ألهمها فانتفع بها.
وقرأ ابن كثير: «آدم» بالنصب. «من ربه كلمات» بالرفع، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.
واختلف المتأولون في الكلمات،
- فقال الحسن بن أبي الحسن: «هي قوله تعالى: {ربّنا ظلمنا أنفسنا} الآية [الأعراف: 23]».
- وقال مجاهد: «هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم».
- وقال ابن عباس: «هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم».
- قال عبيد بن عمير: «إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته علي أم شيء ابتدعته؟ قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي».
- وقال قتادة: «الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذا أدخلك الجنة».
- وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، رسول الله فتشفع بذلك، فهي الكلمات.
- وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبواه، ربّنا ظلمنا أنفسنا. وما قال موسى: {ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص: 16]. وما قال يونس: {لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين} [الأنبياء: 87].
و«تاب عليه» معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد: الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنّة} فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وعصى آدم ربّه فغوى} [طه: 121].
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.
وكنية آدم أبو محمد، وقيل: أبو البشر.
وقرأ الجمهور: «إنه» بكسر الألف على القطع.
وقرأ ابن أبي عقرب: «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه،
وبنية {التّوّاب} للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: {إنّه هو التّوّاب الرّحيم} تأكيد فائدته: أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه). [المحرر الوجيز: 1/ 188-190]
تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى.
وقيل: كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم.
وحكى النقاش: أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا،
و{جميعاً} حال من الضمير في {اهبطوا}، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا،
واختلف في المقصود بهذا الخطاب؛
- فقيل: آدم وحواء وإبليس وذريتهم،
- وقيل: ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفا لهما، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع،
و«إن» في قوله: {فإمّا} هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى: {منّي} إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله: {هدىً}؛
- فقيل: بيان وإرشاد. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أن يقال: بيان ودعاء.
- وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر: هو فمن بعده.
وقوله تعالى: {فمن تبع هداي} شرط جوابه {فلا خوف عليهم}.
قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: {فإمّا يأتينّكم}.
وحكي عن الكسائي أن قوله: {فلا خوفٌ عليهم} جواب الشرطين جميعا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حكي هذا وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى: {فأمّا إن كان من المقرّبين فروحٌ وريحانٌ} [الواقعة: 89].
فيقول سيبويه: جواب الشرطين وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون فلا خوفٌ جوابا للشرطين.
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق: هدىً وهي لغة هذيل.
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ....... فتخرموا، ولكل جنب مصرع
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي: «فلا خوف عليهم» نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم يحزنون على مرفوع، «ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوف» بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا» عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال،
- ويحتمل قوله تعالى: {لا خوف عليهم} أي: فيما بين أيديهم من الدنيا، و{لا هم يحزنون} على ما فاتهم منها،
- ويحتمل أن {لا خوف عليهم} يوم القيامة، و{لا هم يحزنون} فيه،
- ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن). [المحرر الوجيز: 1/ 190-192]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {والّذين كفروا} الآية، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة، وقال: {وكذّبوا} وكان في الكفر كفاية لأن لفظة {كفروا} يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله: {وكذّبوا بآياتنا}.
والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية،
و{أولئك} رفع بالابتداء و{أصحاب} خبره،
والصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة،
و{هم فيها خالدون} ابتداء وخبر في موضع الحال). [المحرر الوجيز: 1/ 192-193]