تفسير قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) }
تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) }
تفسير قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وقد يجوز أن يكون أنت على قوله أنت الهالك كما يقال إذا ذكر إنسان لشيء قال الناس زيدٌ. وقال الناس أنت. ولا يكون على أن تضمر هذا لأنّك لا تشير للمخاطب إلى نفسه ولا تحتاج إلى ذلك وإنما تشير له إلى غيره. ألا ترى أنّك لو أشرت له إلى شخصه فقلت هذا أنت لم يستقم.
ويجوز هذا أيضاً على قولك شاهداك أي ما ثبت لك شاهداك قال الله تعالى جدّه: {طاعة وقول معروف}. فهو مثله. فإمّا أن يكون أضمر الاسم وجعل هذا خبره كأنّه قال أمري طاعةٌ وقولٌ معروف أو يكون أضمر الخبر فقال طاعةٌ وقولٌ معروف أمثل). [الكتاب: 1/141]
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وروى الخليل رحمه الله أن ناسا يقولون إن بك زيد مأخوذ فقال هذا على قوله إنه بك زيد مأخوذ وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قوله وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً توافينا بوجهٍ = كأن ظبيةٌ تعطو إلى وارق السّلم
وقال الآخر:
ووجهٌ مشرق النّحر = كأن ثدياه حقّان
لأنه لا يحسن ههنا إلاّ الإضمار.
وزعم الخليل أنّ هذا يشبه قول من قال وهو الفرزدق:
فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي = ولكنّ زنجىٌّ عظيم المشافر
والنصب أكثر في كلام العرب كأنه قال ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يضمر ما بني على الابتداء نحو قوله عز وجل: {طاعة وقول معروف} أي طاعة وقول معروف أمثل. وقال الشاعر:
فما كنت ضفّاطاً ولكنّ طالباً = أناخ قليلاً فوق ظهر سبيل).
[الكتاب: 2/134-136]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (فأما قوله عز وجل: {قالوا سلاماً قال سلام} فإن المفسرين يقولون في هذا قولين أعني المنصوب.
أما المرفوع فلا اختلاف في أن معناه والله أعلم، قولي سلام، وأمري سلام كما قال: {طاعة وقول معروف} وكما قال: {وقالوا مجنون وازدجر} على الحكاية). [المقتضب: 4/11] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ}، أي عزم صاحب الأمر). [مجالس ثعلب: 557]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (ويقال: رجل عازم، وأمر عازم، أي معزوم عليه، قال: {فإذا عزم الأمر} ). [كتاب الأضداد: 127]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (ويقال عزمت على الأمر هممت بفعله. وتقول العرب عزم الأمر بمعنى استقام ومنه قوله تعالى: {فإذا عزم الأمر} ). [شرح المفضليات: 752]
تفسير قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) }
تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }
تفسير قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} ). [الكامل: 2/684] (م)
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) }
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) }
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره = وترضي إياب البعل حين يؤوب
قال الضبي: يقول إذا غاب بعلها لم تفش سره والسر الاسم والإسرار المصدر). [شرح المفضليات: 769]
تفسير قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) }
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) }
تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) }
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) }
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلين اختصما إليه في مواريث وأشياء قد درست فقال صلى الله عليه وسلم: ((لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار))، فقال كل واحد من الرجلين: يا رسول الله! حقي هذا لصاحبي، فقال: ((لا، ولكن اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه)).
قال: حدثناه صفوان بن عيسى عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: ((لعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض)) يعني أفطن لها وأجدل، واللحن: الفطنة بفتح الحاء.
ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس، كيف لا يعرف جوامع الكلم، ويقال منه: رجل لَحِن إذا كان فطنا قال لبيد يذكر رجلا كاتبا:
متعود لحن يعيد بكفه = قلما على عسب ذبلن وبان
واللحن في أشياء سوى هذا، منه: الخطأ في الكلام وهو بجزم الحاء.
يقال منه: قد لحن الرجل لحنا.
ومنه قول عمر رضي الله عنه
قال حدثناه أبو معاوية عن عاصم عن مورق عن عمر رحمه الله قال: تعلموا اللحن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن.
وحدثناه الدقيعي محمد بن عبد الله عن يزيد بن هارون عن عاصم الأحول عن مورق.
ومنه حديث أبي العالية: كنت أطوف مع ابن عباس وهو يعلمني لحن الكلام، وإنما سماه لحنا لأنه إذا بصره الصواب فقد بصره اللحن.
ومن اللحن أيضا قول الله تبارك وتعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} فكان تأويله -والله أعلم- في فحواه وفي معناه وفي مذهبه.
وفي هذا الحديث من الفقه قوله: ((اذهبا فتوخيا)) يقول : توخيا الحق، فكأنه قد أمر الخصمين بالصلح). [غريب الحديث: 2/40-44]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( واللحن حرف من الأضداد؛ يقال للخطأ لحن، وللصواب لحن. فأما كون اللحن على معنى الخطأ فلا يحتاج فيه إلى شاهد، وأما كونه على معنى الصواب فشاهده قول الله عز وجل: {ولتعرفنهم في لحن القول} معناه: في صواب القول وصحته.
وأخبرنا أبو العباس، عن ابن الأعرابي، قال: يقال:
لحن الرجل يلحن لحنا، إذا أخطأ، ولحن يلحن إذا أصاب.
وقال غير أبي العباس: يقال للصواب. اللحن واللحن.
وحدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنا نصر بن علي، قال: خبرنا الأصمعي، عن عيسى بن عمر، قال: قال معاوية للناس. كيف ابن زياد فيكم؟ قالوا: ظريف على أنه يلحن، قال: فذاك أظرف له؛ ذهب معاوية إلى أن معنى (يلحن) يفطن ويصيب.
وحدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن يزيد بن إبراهيم التستري، عن أبي هارون الغنوي، عن مسلم بن شداد، عن عبيد بن عمير، عن أبي بن كعب، قال تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه.
قال أبو بكر: فيجوز أن يكون اللحن في هذا الحديث الصواب، ويجوز أن يكون الخطأ، لأنه إذا عرف القارئ الخطأ عرف الصواب.
وحدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا أبو بلال –من ولد أبي موسى- قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن عاصم الأحول، عن مورق، عن عمر، قال: تعلموا الفرائض والسنة واللحن؛ كما تتعلموا القرآن. فيجوز أن يكون اللحن الصواب؛ ويجوز أن يكون الخطأ، يعرف فيتجنب.
وحدث يزيد بن هارون بهذا الحديث، فقيل له: ما اللحن؟ فقال: النحو.
وقال عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم! أراد بـ (لاحن) فاطن.
وقال أبو العالية: كان ابن عباس يعلمنا لحن الكلام.
وقال لبيد:
متعود لحن يعيد بكفه = قلما على عسب ذبلن وبان
فاللحن: المصيب الفطن، يقال: رجل لحن ولاحن، من الفطنة والصواب، ورجل لاحن من الخطأ لا غير. وقال القتال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا = ووحيت وحيا ليس بالمرتاب
وقال ابن أحمر يصف صحيفة كتبها:
وتعرف في عنوانها بعض لحنها = وفي جوفها صمعاء تبلي النواصيا
الصمعاء: الداهية.
واللحن أيضا يكون بمعنى اللغة، وقال شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، في قول الله عز وجل: {سيل العرم} العرم: المسناة بلحن اليمن، أي بلغتهم. وقال بعض الأعراب:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة = تبكت على خضراء سمر قيودها
هتوف الضحى معروفة اللحن لم تزل = تقود الهوى من مسعد ويقودها
وقال الآخر يذكر حمامتين:
باتا على غصن بان في ذرا فنن = يرددان لحونا ذات ألوان
وأنشدنا أبو العباس وغيره
وحديث ألذه هو مما = تشتهيه النفوس يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا = نا وخير الحديث ما كان لحنا
وقال: أراد (تلحن) تصيب وتفطن، وأراد بقوله: (ما كان لحنا) ما كان صوابا.
وقال ابن قتيبة: اللحن في هذا البيت الخطأ، وهذا الشاعر استملح من هذه المرأة ما يقع في كلامها من الخطأ.
قال أبو بكر: وقوله عندنا محال، لأن العرب لم تزل تستقبح اللحن من النساء كما تستقبحه من الرجال، ويستملحون البارع من كلام النساء كما يستملحونه من الرجال، الدليل على هذا قول ذي الرمة يصف امرأة:
لها بشر مثل الحرير ومنطق = رخيم الحواشي لا هراة ولا تزر
فوصفها بحسن الكلام؛ واللحن لا يكون عند العرب حسنا إذا كان بتأويل الخطأ، لأنه يقلب المعنى، ويفسد التأويل الذي يقصد له المتكلم. وقال قيس بن الخطيم يذكر امرأة أيضا:
ولا يغث الحديث ما نطقت = وهو بفيها ذو لذة طرف
تخزنه وهو مشتهى حسن = وهو إذا كا تكلمت أنف
فلو كانت هذه المرأة تلحن وتفسد ألفاظها كانت عند هذا الشاعر الفصيح غثة الكلام، ولم تستحق عنده وصفا بجودة المنطق وحلاوة الكلام. وقال كثير:
من الخفرات البيض ود جليسها = إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
فخبر بهذا لصحة ألفاظها. ولم تزل العرب تصف النساء بحسن المنطق، وتستملح منهم رواية الشعر، وأن تقرض
المرأة منه البيت والأبيات، فإذا قدرت على ذلك زاد في معانيها، وتناهت عند من يشغف بها؛ الدليل على هذا ما يروى عن عزة، وبثينة، وليلى الأخيلية، وعفراء بنت مهاصر من قول الشعر؛ وأن ذلك كان يزيد في محبة أصحابهن لهن، فليلى الأخيلية، تقول في جواب توبة بن الحمير حين قال:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة = من الدهر لا يسري إلى خيالها
وعنه عفا ربي وأصلح حاله = فعز علينا حاجة لا ينالها
وليلى صاحبة المجنون تقول:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة = متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقي برحله = ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
وعفراء بنت مهاصر ترثي عروة بن حزام:
ألا أيها الركب المخبون ويحكم = بحق نعيتم عروة بن حزام
فلا نفع الفرسان بعدك غارة = ولا رجعوا من غيبة بسلام
وقل للحبالى لا يرجين غائبا = ولا فرحلت بعده بغلام
وقالت بثينة ترثي جميلا:
وإن سلوى عن جميل لساعة = من الدهر ما جاءت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر = إذا مت بأساء الحياة ولينها
ثم كان الناس على هذا إلى وقتنا أو قبل وقتنا؛ إذا عرف من المرأة فصاحة واقتدار على قول الشعر حلت في قلوب الرجال، وكان ذلك منها زائدا في كمالها، ومن قدر على قول الشعر حكم له بمعرفة أكثر الإعراب وتجنب اللحن. وكيف يكون الخطأ في الكلام مستحسنا والصواب مستسمجا، والعرب تقرب المعربين، وتتنقص اللاحنين وتبعدهم، فعمر بن الخطاب رحمه الله يقول لقوم استقبح رميهم: ما أسوأ رميكم! فيقولون: نحن قوم (متعلمين)، فيقول: لحنكم أشد على من فساد رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: ((رحم الله امرأ أصلح من لسانه))، وكان ابن عمر يضرب بنيه على اللحن.
وقال محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليهِ: ((أعربوا الكلام كي تعربوا القرآن)).
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الرجل ليكلمني في الحاجة
يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، يكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها التذاذا لما أسمع من كلامه.
وقال عمر بن عبد العزيز أيضا: أكاد أضرس إذا سمعت اللحن). [كتاب الأضداد: 238-245]
قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (مطلب الكلام على مادة لحن وقوله تعالى {ولتعرفنّهم في لحن القول} [محمد: 30]
قال أبو بكر الأنباري، رحمه الله: معنى قوله عز وجل: {ولتعرفنّهم في لحن القول} [محمد: 30] أي في معنى القول، وفى مذهب القول وأنشد للقتال الكلابي:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا = ووحيت وحيا ليس بالمرتاب
معناه: ولقد بينت لكم: واللحن بفتح الحاء: الفطنة، وربما أسكنوا الحاء في الفطنة، ورجل لحن، أي فطن، قال لبيد يصف كاتبا:
متعود لحن يعيد بكفه = قلما على عسب ذبلن وبان
ومن اللّحن الحديث الّذي يروى عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلين اختصما إليه في مواريث وأشياء قد درست، فقال عليه السّلام: لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من الآخر فمن قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار فقال كلّ واحدٍ من الرّجلين: يا رسول الله، حقّي هذا لصاحبي، فقال: لا ولكن اذهبا فتوخّيا ثمّ استهما ثمّ ليحلّل كلّ واحدٍ منكما صاحبه.
ومنه قول عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم! أي فاطنهم.
وحدّثني أبو بكر، عن أبى العبّاس، عن ابن الأعرابي، قال: يقال: قد لحن الرجل يلحن لحنًا فهو لاحن إذا أخطأ، ولحن يلحن لحنا فهو لحن، إذا أصاب وفطن، وأنشد
وحديث ألذه هو مما تشتهيه = النفوس يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانا = وخير الحديث ما كان لحنا
معناه: وتصيب أحيانا
وحدّثني أيضًا، قال: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق، أخبرنا نصر بن عليٍّ، قال: أخبرنا الأصمعيّ، عن عيسى بن عمر، قال: قال معاوية للنّاس: كيف ابن زيادٍ فيكم "؟ قالوا: ظريفٌ على أنّه يلحن، قال: " فذاك أظرف له، ذهب معاوية إلى اللّحن الّذي هو الفطنة، وذهبوا هم إلى اللّحن الّذي هو الخطأ واللحن أيضًا: اللغة، ذكره الأصمعي، وأبو زيد؛ ومنه قول عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه: تعلموا الفرائض والسنن واللحن كما تعلمون القرآن.
فاللحن: اللغة وروى شريك عن أبى إسحاق عن ميسرة أنّه قال في قوله عز وجل: {فأرسلنا عليهم سيل العرم}[سبأ: 16] : العرم: المسناة بلحن اليمن، أي بلغة اليمن، وقال الشاعر
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة = تغنت على خضراء سمر قيودها
صدوح الضحى معروفة اللحن لم تزل = تقود الهوى من مسعد ويقودها
وقال الآخر:
لقد تركت فؤادك مستجنا = مطوقة على فننٍ تغنى
يميل بها وتركبه بلحن = إذا ما عنّ للمحزون أنّا
فلا يحزنك أيام تولى = تذكرها ولا طير أرنا
وقال الآخر:
وهاتفين بشجوٍ بعد ما سجعت = ورق الحمام بترجيع وإرنان
باتا على غصن بان في ذرى فننٍ = يرددان لحونا ذات ألوان
معناه: يرددان لغاتٍ، وصرف أبو زيد منه فعلا فقال: لحن الرجل يلحن لحنا إذا تكلم بلغته، قال: ويقال: لحنت له لحنًا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره، ولحنه عنى لحنا، أي فهمه، وألحنته أنا إياه إلحانا، وهذا مذهب أبى بكر بن دريد في تفسير قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيانا
قال: يريد: تعوص في حديثها فتزيله عن جهينة لئلا يفهمه الحاضرون، ثم قال. . . وخير الحديث ما كان لحنا أي خير الحديث ما فهمه صاحبك الذي تحب إفهامه وحده، وخفي على غيره.
قال: وأصل اللحن أن تريد الشيء فتورى عنه بقول آخر، كقول رجل من بنى العنبر كان أسيرا في بكر بن وائل، فسألهم رسولا إلى قومه، فقالوا له: لا ترسل إلا بحضرتنا، لأنهم كانوا أزمعوا غزو قومه فخافوا أن ينذر عليهم، فجيء بعبد أسود فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إني لعاقل، قال: ما أراك عاقلًا؛ ثم قال: ما هذا؟ وأشار بيده إلى الليل، فقال: هذا الليل، فقال: أراك عاقلًا، ثم ملأ كفيه من الرمل فقال: كم هذا؟ فقال: لا أدرى وإنه لكثير، فقال: أيهما أكثر، النجوم أو النيران؟ فقال: كل كثير، فقال: أبلغ قومي التحية وقل لهم: ليكرموا فلانا يعنى أسيرا كان في أيديهم من بكر بن وائل، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم: إن العرفج قد أدبى وقد شكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معكم حيسا؛ واسألوا الحارث عن خبري.
فلما أدى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد جن الأعور، والله ما نعرف له
ناقة حمراء، ولا جملا أصهب؛ ثم سرحوا العبد ودعوا الحارث فقصوا عليه القصة، فقال: قد أنذركم.
أما قوله: قد أدبى العرفج: فإنه يريد أن الرجال قد استلأموا، أي لبسوا الدروع.
وقوله: شكت النساء، أي اتخذن الشكاء للسفر.
وقوله: ناقتي الحمراء: أي ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الصمان وهو الجمل الأصهب.
وقوله: بآية ما أكلت معكم حيسًا: يريد اخلاطا من الناس قد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط.
فامتثلوا ما قال وعرفوا فحوى كلامه.
وأخذ هذا المعنى أيضًا رجل من بني تميمٍ كان أسيرا فكتب إلى قومه:
حلو عن الناقة الحمراء أرحلكم = والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها = والناس كلهم بكر إذا شبعوا
يريد أن الناس كلهم إذا أخصبوا عدو لكم كبكر بن وائل.
ومعنى صائب، على مذهب أبى العبّاس في البيت: قاصد، كما قال
جميل وما صائب من نابلٍ قذفت به = يد وممر العقدتين وثيق
فيكون معنى قوله: منطق صائب، أي قاصد للصواب وإن لم يصب؛ وتلحن أحيانا، أي تصيب وتفطن؛ ثم قال: وخير الحديث ما كان لحنًا أي إصابة وفطنة). [الأمالي: 1/4-7]
تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) }
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} قال: قد علم قبل ذاك، ولكن أراد أن نعلم نحن). [مجالس ثعلب: 164]