تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّا أرسلنا نوحًا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليمٌ (1) قال يا قوم إنّي لكم نذيرٌ مبينٌ (2) أن اعبدوا اللّه واتّقوه وأطيعون (3) يغفر لكم مّن ذنوبكم ويؤخّركم إلى أجلٍ مّسمًّى إنّ أجل اللّه إذا جاء لا يؤخّر لو كنتم تعلمون}.
يقول تعالى ذكره: {إنّا أرسلنا نوحًا} وهو نوح بن لمك إلى قومه. {أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليمٌ} يقول: أرسلناه إليهم بأن أنذر قومك؛ فأن في موضع نصبٍ في قول بعض أهل العربيّة، وفي موضع خفضٍ في قول بعضهم. وقد بيّنت العلل لكلّ فريقٍ منهم، والصّواب عندنا من القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وهي في قراءة عبد اللّه فيما ذكر إنّا أرسلنا نوحًا إلى قومه أنذر قومك بغير أن وجاز ذلك لأنّ الإرسال بمعنى القول، فكأنّه قيل: قلنا لنوحٍ: أنذر قومك {من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليمٌ} وذلك العذاب الأليم هو الطّوفان الّذي غرّقهم اللّه به). [جامع البيان: 23 / 288]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 1 - 9.
أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة {إنا أرسلنا نوحا} بمكة.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول: ماذا أجبتم نوحا فيقولون: ما دعانا وما بلغنا وما نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا فيقول نوح: دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول للملائكة: ادعوا أحمد وأمته فيأتي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح لمحمد وأمته: هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن استنقذهم من النار سرا وجهرا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته: فإنا نشهد بما نشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين فيقول نوح: وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنتم آخر الأمم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} حتى ختم السورة فإذا ختمها قالت أمته: نشهد أن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فيقول الله عند ذلك: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) (سورة يس الآية 59) ). [الدر المنثور: 14 / 702-703]
تفسير قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {قال يا قوم إنّي لكم نذيرٌ مبينٌ}. يقول تعالى ذكره: قال نوحٌ لقومه: يا قوم إنّي لكم نذيرٌ مبينٌ، أنذركم عذاب اللّه فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم به {مبينٌ} يقول: قد أبنت لكم إنذاري إيّاكم). [جامع البيان: 23 / 288]
تفسير قوله تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {أن اعبدوا اللّه واتّقوه وأطيعون}. يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوحٍ لقومه إنّي لكم نذيرٌ مبينٌ بأن اعبدوا اللّه، يقول: إنّي لكم نذيرٌ أنذركم، وآمركم بعبادة اللّه {واتّقوه} يقول: واتّقوا عقابه بالإيمان به، والعمل بطاعته {وأطيعون} يقول: وانتهوا إلى ما آمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم.
- وقد حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {أن اعبدوا اللّه واتّقوه وأطيعون}. قال: أرسل اللّه المرسلين بأن يعبد اللّه وحده، وأن تتّقى محارمه، وأن يطاع أمره). [جامع البيان: 23 / 288-289]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} قال: بها أرسل الله المرسلين أن يعبد الله وحده وأن تتقى محارمه وأن يطاع أمره). [الدر المنثور: 14 / 703]
تفسير قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {يغفر لكم من ذنوبكم}. يقول: يغفر لكم ذنوبكم.
فإن قال قائلٌ: أوليست من دالّةٌ على البعض؟ قيل: إنّ لها معنيين وموضعين: فأمّا أحد الموضعين فهو الموضع الّذي لا يصحّ فيه غيرها. وإذا كان ذلك كذلك لم تدلّ إلاّ على البعض، وذلك كقولك: اشتريت من مماليكك، فلا يصحّ في هذا الموضع غيرها، ومعناها: البعض، اشتريت بعض مماليكك، ومن مماليكك مملوكًا. والموضع الآخر: هو الّذي يصلح فيه مكانها عن، فإذا صلحت مكانها عن دلّت على الجميع، وذلك كقولك: وجع بطني من طعامٍ طعمته، فإنّ معنى ذلك: أوجع بطني طعامٌ طعمته، وتصلح مكان من عن، وذلك أنّك تضع موضعها عن فيصلح الكلام فتقول: وجع بطني عن طعامٍ طعمته، ومن طعامٍ طعمته، فكذلك قوله: {يغفر لكم ذنوبكم} إنّما هو: ويصفح لكم، ويعفو لكم عنها؛ وقد يحتمل أن يكون معناه: يغفر لكم من ذنوبكم ما قد وعدكم العقوبة عليه. فأمّا ما لم يعدكم العقوبة عليه فقد تقدّم عفوه لكم عنها.
وقوله: {ويؤخّركم إلى أجلٍ مسمًّى}. يقول: ويؤخّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، لا بغرقٍ ولا غيره {إلى أجلٍ مسمًّى}. يقول إلى حينٍ كتب أنّه يبقيكم إليه، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه، في أمّ الكتاب.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {إلى أجلٍ مسمًّى}. قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل اللّه لا يؤخّر.
وقوله: {إنّ أجل اللّه إذا جاء لا يؤخّر لو كنتم تعلمون}. يقول تعالى ذكره: إنّ أجل اللّه الّذي قد كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء عنده لا يؤخّر عن ميقاته، فينظر بعده {لو كنتم تعلمون} يقول: لو علمتم أنّ ذلك كذلك، لأنبتم إلى طاعة ربّكم). [جامع البيان: 23 / 289-290]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {يغفر لكم من ذنوبكم} قال: الشرك {ويؤخركم إلى أجل مسمى} قال: بغير عقوبة {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} قال: الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} قال: ما قد خط من الأجل فإذا جاء أجل الله لم يؤخر). [الدر المنثور: 14 / 703]
تفسير قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهارًا (5) فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارًا (6) وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارًا}.
يقول تعالى ذكره: قال نوحٌ لمّا بلّغ قومه رسالة ربّه، أو أنذرهم ما أمره به أن ينذرهموه فعصوه، وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده: {ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهارًا} إلى توحيدك وعبادتك، وحذّرتهم بأسك وسطوتك). [جامع البيان: 23 / 290-291]
تفسير قوله تعالى: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا قال بلغني أنهم كانوا يذهب الرجل بابنه إلى نوح فيقول لابنه احذر هذا لا يغرنك فإن أبي ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك). [تفسير عبد الرزاق: 2/319]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : ({فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارًا} يقول: فلم يزدهم دعائي إيّاهم إلى ما دعوتهم إليه من الحقّ الّذي أرسلتني به لهم {إلاّ فرارًا}. يقول: إلاّ إدبارًا عنه وهربا منه وإعراضًا عنه.
- وقد: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، في قوله: {فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارًا}. قال: بلغنا أنّهم كانوا يذهب الرّجل بابنه إلى نوحٍ، فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينّك، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك، فحذّرني كما حذّرتك). [جامع البيان: 23 / 291]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} قال: بلغني أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك). [الدر المنثور: 14 / 703-704]
تفسير قوله تعالى: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم}. يقول جلّ وعزّ: وإنّي كلّما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيّتك، والعمل بطاعتك، والبراءة من عبادة كلّ ما سواك، لتغفر لهم إذا هم فعلوا ذلك {جعلوا أصابعهم في آذانهم}. لئلاّ يسمعوا دعائي إيّاهم إلى ذلك.
{واستغشوا ثيابهم}. يقول: وتغشّوا في ثيابهم، وتغطّوا بها، لئلاّ يسمعوا دعائي.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم}. لئلاّ يسمعوا كلام نوح عليه السّلام.
وقوله: {وأصرّوا}. يقول: وثبتوا على ما هم عليه من الكفر وأقاموا عليه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وأصرّوا} قال: الإصرار إقامتهم على الشرك والكفر.
وقوله: {واستكبروا استكبارًا}. يقول: وتكبّروا فتعاظموا عن الإذعان للحقٍّ، وقبول ما دعوتهم إليه من النّصيحة). [جامع البيان: 23 / 291-292]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} قال: لئلا يسمعوا ما يقول {واستغشوا ثيابهم} قال: لأن يتنكروا له فلا يعرفهم {واستكبروا استكبارا} قال: تركوا التوبة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واستغشوا ثيابهم} قال: غطوا بها وجوههم لكي لا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير في قوله: {واستغشوا ثيابهم} قال: تسجوا بها). [الدر المنثور: 14 / 704]