سورة النمل
[ من الآية (20) إلى الآية (26) ]
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}
قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ما لي لا أرى الهدهد.. (20)
فتح الياء ابن كثير وعاصم والكسائي.
وأرسلها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 2/235]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- وقوله تعالى: {مالي لا أرى الهدهد} [20].
قرأ ابن كثير –برواية البزي- وابن عامر – من رواية هشام – وعاصم والكسائي بفتح الياء ها هنا وفي (يس).
وقرأ نافع وأبو عمرو بإسكان الياء ها هنا وفتحها هناك.
وأسكنها الباقون.
فمن أسكنها ذهب إلى التخفيف، ومن فتح فعلى أصل الكلمة؛ لأن الياء اسم مكنى، وكل مكني فإنه يبني على حركة نحو الكاف في كذلك، والتاء في قمت وذهبت، وإنما السؤال في قراءة أبي عمرو لم فتح حرفًا وأسكن آخر وهما سيان؟
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/144]
ففي ذلك ثلاثة أجوبة:
قال أبو عمرو: إنما فرقت بينهما؛ لأن الذي في (النمل) استفهام، والذي في (يس) انتفاء، ولم يذكر لم وجب أن يكون كذلك.
وقال آخرون: جمع بين اللغتين ليعلم أنهما جائزتان.
والقول الثالت: أن {مالي لا أرى الهدهد} استفهام، يصلح الوقف على مالى ومالك، فإذا وقفت سكنت الياء {ومالي لا أعبد} بني الكلام فيه على الوصل فحرك الياء إذا لم ينو الوقف.
وقيل لابن عباس: لم تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟
فقال: لأنه كان قناقنا، أي: يعرف مواضع المياه. تقول العرب للذي يحفر الآبار: رجل قنقن وقناقن. وإنما رفع الله العذاب عن الهدهد لبره بأبويه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/145]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الياء من قوله سبحانه: (ما لي لا أرى الهدهد) [النمل/ 20] وما لي لا أعبد [يس/ 22]، وسكونهما.
[الحجة للقراء السبعة: 5/377]
فقرأ ابن كثير وعاصم والكسائي: ما لي لا أرى الهدهد وما لى لا أعبد الذي فطرني بفتح الياء فيهما، وقرأ نافع وأبو عمرو (ما لي لا أرى الهدهد) ساكنة الياء هاهنا، وقرأ وما لي لا أعبد بفتح الياء في يس، وقرأ ابن عامر وحمزة الحرفين جميعا ساكنة ياؤهما.
قال أبو علي: كلا الوجهين من الإسكان والفتح حسن). [الحجة للقراء السبعة: 5/378]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين}
[حجة القراءات: 523]
قرأ ابن كثير وعاصم والكسائيّ وابن عامر {ما لي لا أرى الهدهد} بفتح الياء ها هنا وفي يس
وقرأ نافع وأبو عمرو بإسكان الياء ها هنا وفتح الياء هناك وأسكنهما حمزة
فمن فتح فعلى أصل الكلمة لأن الياء اسم مكني وكل مكني فإنّه يبنى على حركة نحو التّاء في قمت والكاف في كلمك وإنّما فرق أبو عمرو بينهما لأن {ما لي لا أرى الهدهد} استفهام يصلح الوقف على {ما لي} فإذا وقفت سكنت الياء {وما لي لا أعبد} بني الكلام فيه على الوصل فحرك الياء إذ لم ينو الوقف). [حجة القراءات: 524]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} {آية/ 20] بفتح الياء من {مَا لِيَ}:
قرأها ابن كثير وعاصم والكسائي، وكذلك في: يس {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ} بفتح الياء.
والوجه أن الفتح في هذه الياء أعني ياء ضمير المجرور أصلٌ، قياسًا على ما كان من الضمائر على حرف واحد، فالقياس كلها الفتح، نحو الكاف في ضربتك ومررت بك، وقد سبق القول في مثله.
[الموضح: 951]
وقرأ نافع وأبو عمرو ابن عامر في النمل {مَا لِي} ساكنة، وفي يس {وَمَالِيَ} مفتوحة.
والوجه أن الإسكان في هذه الياء وأمثالها تخفيفٌ، والفتح أصلٌ، فأراد هؤلاء الأخذ بالوجهين.
وقرأ حمزة ويعقوب بالإسكان فيهما.
والوجه أنه تخفيف على ما سبق، فإن الياء تُستثقل عليها الحركة في الجملة). [الموضح: 952]
قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أو ليأتينّي.. (21)
قرأ ابن كثير وحده (ليأتينّني) بنونين، وكذلك هي في مصاحفهم.
وقرأ سائر القراء (أو ليأتينّي) بنون واحدة مشددة.
قال أبو منصور: من قرأ ((أو ليأتينّني) بنونين، ثقّل النون للتأكيد، وجاء بنون أخرى للإضافة.
ومن قرأ (أو ليأتينّي) فرّ من الجمع بين ثلاث نونات فحذف إحداها.
وبهذه القراءة قرأ الأكثرون). [معاني القراءات وعللها: 2/235]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {أو ليأتيني بسلطان مبين} [21].
قرأ ابن كثير: {أو ليأتينني} بنونين، الأولي مشددة نون التوكيد، والثانية مع الياء اسم المتكلم.
وقرأ الباقون: {أو ليأتيني} بنون واحدة كرهوا الجمع بين ثلاث نونات فخزلوا واحدة كما قال: {إنا أعطينك [الكوثر]} والأصل: إننا. ومعنى
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/145]
{بسلطان مبين} أي: بحجة بينة. وكل سلطان في القرآن فهو حجة.
حدثنا ابن مجاهد عن السمري عن الفراء قال: السلطان: الخليفة يذكر ويؤنث، يقال قضت [به] عليك السلطان وقضى). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/146]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: وقرأ ابن كثير وحده: (أو ليأتينني) [النمل/ 21] بنونين، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون على الإدغام، وكذلك في مصاحفهم.
قال بعض أصحاب أحمد بن موسى في قوله: وقرأ الباقون على الإدغام، غلط في الترجمة، إنّما يريد أنّهم قرءوا بنون واحدة مشدّدة، وحذفوا الثانية التي قبل ياء المتكلم لاجتماع النونات وهو: (ليأتينّني) ). [الحجة للقراء السبعة: 5/380]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أو ليأتيني بسلطان مبين} 21
قرأ ابن كثير (أو ليأتينني) بنونين الأولى مشدّدة وهي نون التوكيد والثّانية مع الياء اسم المتكلّم
وقرأ الباقون {أو ليأتيني} بنون واحدة كرهوا الجمع بين ثلاث نونات فحذفوا واحدة كما قال إنّا أعطيناك والأصل إننا). [حجة القراءات: 524]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (3- قوله: {أو ليأتيني} قرأه ابن كثير بثلاث نونات، الأولى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/154]
مشددة مفتوحة مقام نونين، والثانية مكسورة، وقرأ الباقون بنون واحدة مشدة مكسورة.
وحجة من قرأ بثلاث نونات أنه أتى به على الأصل؛ لأن أصله «ليأتيني» بنون واحدة مكسورة، والياء ساكنة، ثم تدخل النون المشددة التي تدخل للتأكيد في الأمر والنهي والقسم والشرط، وهذا قسم، فيصير فيه نون مشددة مفتوحة، وهي التي دخلت لتأكيد القسم، وبعدها نون مكسورة، وهي التي تدخل مع الياء، في الاسم المضمر المنصوب، في نحو: ضربني وكلمني، وبنى الفعل على الفتح ففتح الياء هي لام الفعل.
4- وحجة من قرأ بنون واحدة مكسورة مشددة أنه لما اجتمع في الكلمة ثلاث نونات مع طولها حذف إحدى النونات استخفافًا، وهي النون التي تدخل مع الياء، فلما جاورت الياء النون المشددة كسرتها، ويجوز أن يكون أدخل النون الخفيفة للتأكيد، وهي ساكنة، فأدغمها في النون التي مع الياء، وهو الاختيار؛ لأن عليه الجماعة، وعليه خط المصحف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/155]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {أَوْ لَيَأْتِيَنَّنِي} [آية/ 21] بنونين:
قرأها ابن كثير وحده.
والوجه أن الكلمة جاءت على أصلها؛ لأن النون الأولى المشددة هي نون التأكد، والثانية المكسورة هي التي تلحق ياء المتكلم لتسلم حركة آخر الفعل عن التغير، إذ لولاها لانكسر آخر الفعل لمكان ياء المتكلم، فجاءت الكلمة عن الأصل غير محذوف منها شيء.
وقرأ الباقون {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} بنون واحدة مشددة.
[الموضح: 952]
والوجه أنهم كرهوا اجتماع ثلاث نونات، فحذفوا إحداهن، وهي التي تصحب ياء المتكلم؛ لأنها زائدة، وكثيرًا ما تُحذف، ثم كُسرت النون التي للتأكيد لأجل الياء). [الموضح: 953]
قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فمكث غير بعيدٍ)
قرأ عاصم (فمكث غير بعيدٍ) بفتح الكاف، وروى الجعفي عن أبي عمرو (فمكث) أيضًا بفتح الكاف.
وقرأ سائر القراء (فمكث) بضم الكاف.
قال الأزهري: هما لغتان مكث، ومكث.
وضمّ الكاف أكثر في كلام العرب وكان أبو حاتم يختار النصب، لأنه قياس العربية، ألا ترى أنه يقال: مكث فهو ماكثٌ، ولا يقال: مكيث). [معاني القراءات وعللها: 2/235]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وجئتك من سبإٍ بنبإٍ يقينٍ (22)
وقوله: (لسبإٍ في مساكنهم).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (لسبأ) غير مجرى، بفتح الهمزة في الموضعين.
وقرأ الباقون (لسبإٍ) و: (من سبإٍ) بالتنوين.
قال أبو منصور: وروي عن أبي عمرو أنه سئل: لم لم تجر سبأ؟
فقال لا أجر لأني لا أدري ما هو، والعرب إذا سمت بالاسم المجهول لم تجره. ومن أجرى (سبأ) جعله اسم رجل.
وقال أبو إسحاق النحوي: من لم يصرف (سبأ) جعله اسم مدينة، ومن صرفه جعله اسم رجل.
قال: والأسماء حقها الصرف، وإذا لم يعلم الاسم أللمذكر أم للمؤنث فحقه الصرف حتى يعلم أينصرف أم لا ينصرف؛ لأن أصل الأسماء الصرف، وكل ما لا يصرف فهو يصرف في الشعر.
قال: وأما الذين قالوا: إن (سبأ) اسم رجل فغلط لأن سبأ اسم مدينة، تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وأنشد بيت الجعدي.
[معاني القراءات وعللها: 2/236]
من سبأ الحاضرين مأرب إذ... يبنون من دون سيلها العرما
قال: ومن صرفه فلأنه مذكر سمّي به مذكر، كأنه اسم للبلد.
قال أبو منصور: وقدر روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا ذكر فيه أن سبأ اسم رجل، حدثناه محمد بن إسحاق السعدي قال: حدثنا إبراهيم بن مالك، قال: حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي، قال: حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيكٍ (الغطيفي).
قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟
قال: بلى، فأمّرني وأردت أن أقاتلهم، ثم بدا لي فقلت: يا رسول الله، لا بل أهل سبأ، فإنهم أشدّ مكيدة، وأعم في أنفسهم، فلما خرجت من عنده أنزل الله في سبأ ما أنزل، فقال: ما فعل الغطيفي؟ فوجدني قد سرت فأرسل في أثري، فرددت، قال: فأتيته وعنده ناسٌ من أصحابه، فقال: ادع القوم فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبي فلا تعجل حتى يأتيك أمري.
فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أخبرنا عن سبأ ما هو؟ أرضٌ؟ قال: ليس بأرض، ولا امرأة، ولكنه رجل، وله عشيرة من العرب، فتيامن ستةٌ وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسسّانٌ وعاملةٌ.
وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعرون والأزد ومذحج وحمير وأنمارٌ.
قال الرجل: وما أنمار؟
قال: الذين خثعم وبجيلة منهم.
[معاني القراءات وعللها: 2/237]
وقال أبو منصور: وهذا الحديث يدل عك أن إجراء سبأ أصوب القراءتين، وإسناد الحديث حسن). [معاني القراءات وعللها: 2/238]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (6- وقوله تعالى: {فمكث غير بعيد} [22].
قرأ عاصم وحده: {فمكث} بالفتح.
وقرأ الباقون: {فمكث} بالضم، وهما لغتان مكث ومكث وحمض وحمض وكمل وكمل فهو ماكث وحامض وكامل. والاختيار فعل بالفتح؛ لأن فعل بالضم أكثر ما يأتي الاسم على فعيل نحو ظرف وكرم فهو ظريف وكريم، وقد حكي لغة ثالثة في كمل كمل بالكسر وكل ذلك صواب. ومعنى {فمكث غير بعيد} أي: غير طويل. والبعيد والطويل بمعنى). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/146]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {من سبأ بنبأ يقين} [22].
فيه ثلاث قراءات:
قرأ أبو عمرو وابن كثير: {من سبأ} غير منصرف جعلاه اسم أرض، أو بلده، أو امرأة. قال الفراء: سئل ابو عمرو لم لم تصرف سبأ؟ فقال: لأني لا أعرفه. فقال الفراء: وقد جرىح لأن العرب إذا لم تعرف [الاسم] تركت صرفه.
وقرأ الباقون: {من سبأ} مصروفًا، وكذلك اختلافهم في سورة (سبأ)، أنشد ابن عرفة – حجة لمن صرف-:
الواردون وتيم في ذري سبأ = قد عض أعناقهم جلد الجواميس
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/147]
والقراءة الثانية: ما قرأت على مجاهد عن قنبل عن ابن كثير {سبأ بنبأ يقين} ساكنة الهمزة، وإنما أسكنه لأن الاسم مؤنث وهو ثقيل والهمزة ثقيلة فلما اجتمع ثقيلان أسكن الهمزة تخفيفًا. ومثله {فتوبوا إلى باريكم} قراءة أبي عمر {ومكر السيئ ولا يحيق} كذلك قرأها حمزة.
ومن صرف (سبأ) جعله اسم رجل أو اسم جبل). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/148]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: قرأ عاصم وحده فمكث بفتح الكاف، وقرأ الباقون: (فمكث) [النمل/ 22] بضم الكاف.
قال أبو علي: وجه مكث أنّهم قالوا: مكث يمكث، كما قالوا:
قعد يقعد، ومكث كظرف.
[قال أبو علي] وأظن سيبويه قد حكاهما، ومما يقوي:
مكث بالفتح قوله: قال إنكم ماكثون [الزخرف/ 77]، وفيه:
ماكثين فيه أبدا [الكهف/ 3]، فماكثين: يدلّ على مكث، ألا ترى أنّك لا تكاد تجد فاعلا من فعل، إنّما يكون مكان الفاعل فيه: فعيل نحو: ظريف وشريف وكريم.
فإن قلت: إنّ فاعلا من مكث في الآيتين، يراد بهما الآتي، فهو مثل: بعيرك صائد غدا، فهو قول. فإن قلت: إنّه حكاية الحال التي يصيرون إليها، فهو قول: ويؤكد ذلك قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون [يس/ 55]. ألا ترى أنّه جاء على أصله لمّا أريد حكاية الحال، ولم يجيء على حدّ: بعيرك صائد غدا. قال أبو حسن: مكث أكثرهما). [الحجة للقراء السبعة: 5/381]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إجراء سبأ [النمل/ 22]. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو (من سبأ) غير مجراة، هذه رواية البزي، وقرأت على قنبل عن النّبّال (من سبأ بنبإ يقين) ساكنة الهمزة، وكذلك [في قوله ]: (لسبأ في مساكنهم) [سبأ/ 15] وكذلك روى الحسن بن محمد بن عبد الله بن أبي يزيد عن شبل عن ابن كثير، وقال: هو وهم وأخبرني قنبل عن ابن أبي بزّة: (من سبأ) مفتوحة الهمزة مثل أبي عمرو، وهذا هو الصواب. وكذلك (لسبأ) وقرأ الباقون: من سبأ مجراه.
قال أبو علي: قال سيبويه: ثمود وسبأ، مرة للقبيلتين، ومرة للحيين، فكثرتهن سواء، يريد أن هذه الأسماء منها ما جاء على أنّه اسم للحيّ نحو: معدّ وقريش وثقيف، ومنه ما يغلب عليه أن يكون اسم قبيلة كقولهم: تغلب بنت وائل، وتميم بنت مرّ.
ومنه ما يستوي فيه الأمران جميعا، كثمود وسبأ، قال أبو الحسن في سبأ: إن شئت صرفته، فجعلته اسم أبيهم أو اسم الحي، وإن شئت لم تصرف، وجعلته اسم القبيلة، قال: والصرف أعجب إليّ، لأنّه قد عرفت أنّه اسم أبيهم، وإن كان اسم الأب يصير كالقبيلة إلّا أني أحمله على الأصل. انتهى كلام أبي الحسن. وقال غيره: هو اسم رجل، واليمانية كلّها تنسب إليه، يقولون: سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، وقال أبو إسحاق: من قال: إن سبأ اسم رجل فقد غلط
[الحجة للقراء السبعة: 5/382]
لأنّ سبأ مدينة بقرب مأرب من اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام كذلك قيل، انتهى كلامه). [الحجة للقراء السبعة: 5/383]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين}
قرأ عاصم {فمكث غير بعيد} بفتح الكاف وقرأ الباقون بالضّمّ
وهما لغتان مكث ومكث وكمل وكمل وحمض وحمض فهو ماكث وكامل والاختيار مكث بالفتح لأن فعل بالضّمّ أكثر ما يأتي الاسم منه على فعيل نحو ظرف وكرم فهو ظريف وكريم ومن فعل بالفتح يأتي الاسم على فاعل تقول مكث فهو ماكث قال الله جلّ وعز ماكثين فيه أبدا ولا يكون من فعل بالضّمّ فاعل إلّا حرف واحد قالوا فره فهو فاره ورد الأصمعي ما سوى هذا
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {وجئتك من سبإ} غير مصروف اسم أرض أو مدينة قال الزّجاج {من سبإ} هي مدينة تعرف ب مأرب من اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام
وقرأ الباقون من سبأ مصروفا جعلوه اسما للبلد فيكون مذكرا سمي به مذكّر
وقرأ القواس {من سبإ} ساكنة الهمزة لأن الاسم مؤنث وهو ثقيل والهمزة ثقيلة فلمّا اجتمع ثقيلان أسكن الهمزة تحقيقا). [حجة القراءات: 525]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (5- قوله: {فمكث} قرأه عاصم بفتح الكاف، وضمها الباقون، وهما لغتان، والفتح أكثر وأهشر، ويدل على الفتح قوله: {إنكم ماكثون} «الزخرف 77» و«فاعل» لا يكون من «فعل» فدل على أنه «فعل» بالفتح وأيضًا فإنه لم يستعمل «مكث» في اسم الفاعل، و«فعل» بالضم اسم الفاعل منه «فعيل » كظرف وكرم، تقول في اسم الفاعل منهما: ظريف وكريم، والضم الاختيار، لأن عليه الجماعة ولولا الجماعة لاخترت الفتح لما ذكرت من العلة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/155]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (6- قوله: {من سبأٍ} قرأه أبو عمرو والبزي بالفتح من غير تنوين، وقرأه قنبل بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون بكسر الهمزة والتنوين.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/155]
وحجة من فتح ولم ينون أنه جعله اسمًا للقبيلة، فمنعه من الصرف لتعريف والتأنيث، وقال الزجاج: هو اسم مدينة بقرب مأرب، فهو مؤنث معرفة.
7- وحجة من صرفه أنه جعله اسمًا للأب أو للحي، فصرفه إذ لا علة فيه غير التعريف، وأهل النسب يقولون: هو اسم للأب، فهو سبأ بن يشجب بن ماشين بن يعرب بن قحطان، وهو الاختيار؛ لأن الأكثر عليه.
8- وحجة من أسكن الهمزة أنه نوى الوقف عليها، ويجوز أن يكون أسكن تخفيفًا لتوالي سبع متحركات، والإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، ومثله الاختلاف في سورة سبأ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/156]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {فَمَكَثَ} [آية/ 22] بفتح الكاف:
قرأها عاصم ويعقوب –ح- و-ان-.
والوجه أن مكَث ومكُث بالفتح والضم لغتان، والفتح أكثر وأقيس؛ لأنهم يقولون في فاعله ماكثٌ، قال الله تعالى {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}، ولا يكاد يوجد فاعل من فعل بضم العين.
وقرأ الباقون ويعقوب –يس- {فَمَكُثَ} بضم الكاف.
والوجه أن مكُث بالضم لغة فيه، وقد جاء فاعله على مكيثٍ). [الموضح: 953]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {لِسَبَأَ} [آية 15/ سبأ]، {مِنْ سَبَأَ} [آية/ 22/ النمل] بفتح الهمزة:
قرأها ابن كثير وأبو عمرو في السورتين.
والوجه أنه جُعل اسمًا للقبيلة أو للبلدة، فاجتمع فيه سببان مانعان من الصرف وهما التعريف والتأنيث، فتُرك صرفه لذلك، فصار في موضع الجر مفتوحًا.
[الموضح: 953]
وقرأ الباقون {لِسَبَإٍ} و{مِنْ سَبَإٍ} بالجر والتنوين في السورتين.
والوجه أنهم جعلوه اسمًا للأب أو للحي أو للبلد، فلم يكن فيه إلا سبب واحد وهو التعريف، والسب الواحد لا يمنع الصرف فلهذا كان منصرفًا). [الموضح: 954]
قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
قوله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}
قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ألّا يسجدوا للّه (25)
قرأ الكسائي وحده ويعقوب الحضرمي (ألا يسجدوا للّه) خفيفة اللام ليس فيها (أن)، وإذا وقفا يقفان " ألا يا " ويبتدآن (اسجدوا).
وقرأ الباقون (ألّا يسجدوا) مشددًا.
والمعنى: (فصدّهم عن السبيل.. ألّا يسجدوا)، أي: لأن لا يسجدوا وليست بموضع سجدة على هذه القراءة.
ومن قرأ (ألا يسجدوا) بالتخفيف فهو موضع سجدة.
قال أحمد بن يحيى: قال الأخفش: في قوله (ألّا يسجدوا للّه) بالتشديد، يقول: زيّن لهم الشيطان أعمالهم لأن لا يسجدوا.
قال: وقرأ بعضهم (ألا يسجدوا) فجعله أمرًا، كأنه قال: (ألا اسجدوا).
وزاد بينهما (يا) التي تكون للتنبيه، ثم أذهب ألف الوصل التي في (اسجدوا)، وأذهبت الألف التي في (يا) لأنها ساكنة لقيت السين فصارت (ألا يسجدوا)
وأنشد:
[معاني القراءات وعللها: 2/238]
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر
قال أبو العباس: (يا) التي تدخل للنداء يكتفى بها من الاسم، ويكتفى بالاسم منها، لا ينادى بها.
أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا.
وفي البيت: ألا يا هذه اسلمي.
وكذلك قول الشاعر:
يا دار هندٍ يا اسلمي ثمّ اسلمي... بسمسمٍ أو عن يمين سمسم
أراد: يا هذه سلمى.
وكذلك قال الفراء.
قال: وسمع بعض العرب يقول: (ألا يا تصدّق علينا)، معناه ألا يا هذا تصدّق علينا
وروى عن عيسى الهمداني أنه قال: ما كنت أحمع المشيخة يقرءونها إلا بالتخفيف على نيّة الأمر، قال: ومن قرأ (ألّا يسجدوا) فشدد (ألّا) فينبغي أن لا تكون سجدة). [معاني القراءات وعللها: 2/239]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ويعلم ما يخفون وما يعلنون (25)
قرأ الكسائي وحفص (ما تخفون وما تعلنون) بالتاء.
وقرأ الباقون بالياء فيهما.
قال الأزهري: من قرأهما بالياء فعلى الغيبة. ومن قرأهما بالتاء فللمخاطبة. وكلٌّ جائز). [معاني القراءات وعللها: 2/239]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {ألا يسجدوا لله} [25].
قرأ الكسائي بتخفيف (ألا) جعله تنبيها ويقف. ألا يا زيد، ألا يا هؤلاء اسجدوا، تقول العرب: ألا يرحمونا، يريدون: ألا يا هؤلاء ارحمونا. وإنما اختار الكسائي التخفيف ولفظ الأمر؛ لأنها سجدة، قال الشاعر: ألا ياا سلمي يا دار مي على البلا = ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقال آخر:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر = وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/148]
يريد: ألا يا هذه اسلمي، واحتج الكسائي بما حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء، قال: في حرف عبد الله: {هلا يسجدون} فـ «هلا» تخضيض على السجود. وفي حرف أبي: {ألا تسجدون للذي يعلم سركم وجهركم} وفي مصحفنا: {الذي يخرج الحبء في السموت} المطر. وفي الأرض: النبات.
وقرأ الباقون: {ألا يسجدوا} فـ {يسجدوا} نصب بـ «أن». وعلامة النصب حذف النون. وتلخصيه: وزين لهم ألا يسجدوا. فمن قرأ بهذه القراءة لزمة أن لا يسجد في هذه الآية، سمعت ابن مجاهد يقول ذلك، وكذلك قال غيره من العلماء، لأنه خبر لا أمر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/149]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (10- وقوله تعالى: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} [25].
قرأ الكسائي وحفص عن عاصم بالتاء أي: قال لهم يا محمد. والله تعالى يعلم السر وأخفي. قيل: وأخفي أي: ما حدثت به أنفسها. والسر: ما تخفيه عن المخلوقين.
وقرأ الباقون بالياء، ومعناه: الله يعلم ما يسر ويعلن هؤلاء الكفرة؛ لأنهم كانوا يزنون في السر، ولا يزنون في العلانية، يتوهمون أنهم لا يطالبون بذلك، وكانوا يخفون عن المخلوقين ولا يستحيون من الله، فأعلمهم الله تعالى أنه يطالبهم ويعذبهم على السر والجهر، وأنه لا يخفي عليه خافية، وقال: {يستخفون
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/149]
من الناس ولا يستخفون من الله} و{إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/150]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: كلّهم شدّد اللّام من قوله سبحانه: ألا يسجدوا [النمل/ 25] غير الكسائي فإنّه خفّفها، ولم يجعل فيها (أن) ووقف (ألايا) ثم ابتدأ (اسجدوا).
قال أبو علي: من شدّد ألا يسجدوا فتقديرها: فصدّهم عن السّبيل لئلّا يسجدوا، ويجوز أن يعلق (أن) بزيّن، كأنّه زيّن لهم الشيطان أعمالهم، لئلّا يسجدوا، واللّام في الوجهين داخلة على مفعول له، وهذا هو الوجه لتحري القصة على سننها، ولا يفصل بين بعضها وبعض بما ليس منها، وإن كان الفصل بهذا النحو غير ممتنع، لأنّه يجري مجرى الاعتراض، وما يسدّد القصّة، وكأنّه لما قيل: وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون [النمل/ 24]، فدلّ هذا الكلام على أنّهم لا يسجدون لله تعالى، ولا يتدينون بدين، قال: ألا يا قوم أو يا مسلمون اسجدوا لله الّذي [يخرج الخبء في] السموات والأرض، خلافا عليهم، وحمدا لله، ومكان ما هداهم لتوحيده، فلم يكونوا مثلهم في الطغيان والكفر. ووجه دخول حرف التنبيه على الأمر، أنّه موضع يحتاج فيه
[الحجة للقراء السبعة: 5/383]
إلى استعطاف المأمور لتأكيد ما يؤمر به عليه، كما أنّ النداء موضع يحتاج فيه إلى استعطاف المنادى له من إخبار أو أمر أو نهي، ونحو ذلك مما يخاطب به، وإذا كان كذلك فقد يجوز أن لا يريد منادى في نحو قوله: ألا يسجدوا [النمل/ 25] كما يريد المنادى في قوله.
يا لعنة الله والأقوام كلّهم... والصّالحين على سمعان من جار
وكذلك ما حكي عن أبي عمرو من قوله: يا ويل له، ويؤكد ذلك قولهم: هلمّ، وبناؤهم ها التي للتنبيه مع لم، وجعلها مع الفعل كشيء واحد، وإجماع الناس على فتح آخر الكلمة في اللغتين، فكما لا يجوز أن يراد هاهنا مأمور لبناء الكلمة على الفتح، وإن فكّ إحداهما من الأخرى، بل لا يسوغ إرادة المنادى، لمكان بنائهما معا، وجعلهما بمنزلة شيء واحد، كذلك يجوز لك أن لا تريد مأمورا في قوله:
(ألا يا سجدوا). ويجوز أن يراد بعد يا مأمورون، فحذفوا، كما حذفوا من قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلّهم فكما أن (يا) هنا لا تكون إلّا لغير اللّعنة، كذلك يجوز أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 5/384]
المأمورون مرادين فحذفوا من اللّفظ، وقد جاء هذا في مواضع من الشعر، فمن ذلك ما أنشده أبو زيد:
وقالت ألا يا اسمع نعظك بخطّة... فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وممّا يؤكّد قول من قال: ألّا مثقلة، أنّها لو كانت مخفّفة ما كانت في يسجدوا ياء لأنّها اسجدوا، ففي ثبات الياء في يسجدوا في المصحف دلالة على التّشديد، وأنّ المعنى: أن لا يسجدوا، فانتصب الفعل بأن وثبتت ياء المضارعة في الفعل). [الحجة للقراء السبعة: 5/385]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله جلّ وعز ويعلم ما تخفون وما تعلنون في الياء والتاء [النمل/ 25].
فقرأ عاصم في رواية حفص والكسائي بالتاء فيهما.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بالياء فيهما.
قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنّ الكلام على الغيبة: فزيّن لهم الشّيطان ألا يسجدوا، وهو يعلم الغيب وما يخفون وما يعلنون. وقرأ الكسائي فيهما بالتاء لأنّ الكلام قد دخله خطاب على قراءته:
اسجدوا لله الذي يعلم ما تسرّون وما تعلنون.
ومن قرأ: (أن لا يسجدوا)، فالكلام على الغيبة، ويجوز أن
[الحجة للقراء السبعة: 5/385]
يكون على الخطاب للمؤمنين والكافرين الذين جرى ذكرهم، على لفظ الغيبة، فأخبر الجميع بأنّه سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون، ورواية أبي بكر عن عاصم [بالياء فيهما] أشبه بقراءة ألا يسجدوا [بالياء فيهما]، لأنّه غيبة مع غيبة). [الحجة للقراء السبعة: 5/386]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وزين لهم الشّيطان أعمالهم فصدهم عن السّبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الّذي يخرج الخبء في السّماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون}
[حجة القراءات: 525]
قرأ الكسائي (فهم لا يهتدون * ألا يا اسجدوا) بتخفيف اللّام وألا تنبيه وبعدها {يا} الّتي ينادى بها والابتداء {اسجدوا} على الأمر بالسّجود فالمعنى ألا يا قوم اسجدوا لله خلافًا عليهم وحمدا لله لمكان ما هداكم فلم تكونوا مثلهم في الطغيان وهذا الكلام يكون منقطعًا ممّا قبله على أن ما قبله تمام ويكون ما بعده كلاما معترضًا من غير القصّة الماضية إمّا من سليمان صلى الله عليه وإمّا من الهدهد على تأويل يا هؤلاء اسجدوا فلمّا كف ذكر هؤلاء اتّصلت {يا} بقوله {اسجدوا} فصار يسجدوا كأنّه فعل مضارع إذا أدرجت الكلام
والعرب تقول ألا يا ارحمونا أي ألا يا هؤلاء ارحمونا لأن يا لا يلي الفعل إلّا مع إضمار ومثله قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال فهلا بجرعائك القطر
أي يا دار هذه كنت في سلامة
[حجة القراءات: 526]
قال قطرب المعنى ألا يا قوم اسجدوا فحذفت الأسماء وقامت يا مقامها وكان هذا الحذف في النداء خاصّة لأنّه موضع حذف التّنوين إذا قلت يا زيد
وقرأ الباقون {فهم لا يهتدون ألا يسجدوا} بالتّشديد وحجتهم اختلفوا فيها فقال الزّجاج من قرأ بالتّشديد فالمعنى فصدهم لئلّا يسجدوا أي صدهم الشّيطان عن سبيل الهدى لئلّا يسجدوا ف يسجدوا نصب ب أن وعلامة النصب حذف النّون
وقال اليزيدي المعنى وزين لهم الشّيطان ألا يسجدوا ف أن في موضع نصب لأنّها بدل من {أعمالهم} وقال إذا خففت (ألا يا اسجدوا) ففيه انقطاع القصّة الّتي كنت فيها ثمّ تعود بعد إليها وإذا اتّصلت القصّة بعضها ببعض فذلك أسهل ويجوز أن يكون معناه فصدهم أن يسجدوا وتكون لا داخلة لتوكيد الجحد كما قال {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} معناه أنهم يرجعون لأن الحرام في معنى الجحد وكذلك الصد في معنى الجحد وإنّما تدخل لا بمعنى التوكيد إذا كان قبلها جحد مثل قوله {ما منعك ألا تسجد} ومنه قول أبي النّجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا
- أي أن تسخرا وقال قوم جاءت لا ها هنا لمجيء لا الّتي في قوله {فهم لا يهتدون} كما قال {وما يستوي الأعمى والبصير} فهذا بغير لا ثمّ قال في النسق عليه {ولا الظّلمات ولا النّور}
[حجة القراءات: 527]
فكرر لا في قوله {ولا النّور} لمجيء لا في قوله {ولا الظّلمات} والتأويل ولا الظّلمات والنور فكل موضع دخل لا في مبتدئه حسن أن يدخل لا في خبره على أن تكون زائدة والله أعلم بما أراد
قرأ الكسائي وحفص {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} بالتّاء فيهما على الخطاب لأن الكلام قد دخله خطاب على قراءة الكسائي (اسجدوا لله) الّذي يعلم ما تسرون وما تعلنون
وقرأ الباقون بالياء فيهما أتوا في سياق الخبر عنهم وحجتهم قوله {وزين لهم الشّيطان أعمالهم} {ألا يسجدوا} وهو يعلم الغيب وما يخفون وما يعلنون هؤلاء الكفرة). [حجة القراءات: 528]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (9- قوله: {ألا يسجدوا} قرأه الكسائي بتخفيف «ألا» وإن وقف عليه وقف «ألا يا» ويبتدئ «اسجدوا» وليس هو موضع وقف، و«اسجدوا» فعل مبني عند البصريين في هذه القراءة، وقرأ الباقون «ألا» بالتشديد، جعلوا الياء في «يسجدوا» للاستقبال، متصلة بالفعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/156]
وهو معرب.
وحجة من شدد «ألا» أن أصله عنده «أن لا» فأدغم النون في اللام، فـ «أن » هي الناصبة للفعل، وهو «يسجدوا» حذفت النون منه للنصب، فالفعل معرب في هذه القراءة، ومبني في القراءة الأولى، و«أن» من «ألا» في موضع نصب من أربعة وجوه الأول أن يكون في موضع نصب على البدل من «أعمالهم» على تقدير: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، والثاني أن تكون «أن» مفعولة لـ «يهتدون» أي: فهم لا يهتدون أن يسجدوا وتكون «لا» على هذا القول زائدة، فالمعنى على هذا فهم لا يهتدون إلى السجود. فلما حذف حرف الجر مع «أن» تعدى الفعل فنصب، وحذف حرف الجر مع «أن» كثير في القرآن والكلام، ويجوز أن تكون «أن» على هذا في موضع خفض، على إعمال حرف الجر، وهو محذوف لكثرة ذلك، وهو مروي عن الخليل والكسائي، والثالث أن تكون «أن» في موضع نصب على حذف اللام، تقديره: وصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، أو يكون التقدير: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا، ويجوز أن تكون «أن» في موضع خفض على البدل من السبيل، تقديره: وصدهم عن ألا يسجدوا، وتكون «لا» زائدة، فتحقيق الكلام: وصدهم عن السجود، لأن «أن» والفعل مصدر، و«لا» زائدة، ولا يحسن في جميع هذه الوجوه الوقف على ما قبل «ألا»، ولا الابتداء بـ «ألا» لأنك تفرق بين العامل والمعمول فيه، ويقوي هذه القراءة أن الياء في كل المصاحف متصلة بالفعل، وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه.
10- وحجة من خفف «ألا» أنه جعلها استفتاحًا للكلام، فالوقف على ما قبل «ألا» في هذه القراءة حسن وجعل ما بعد «ألا» منادى قد حذف
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/157]
وبقيت «يا» تدل عليه، وذلك جائز في لغة العرب، قد جاء في ذلك في أشعارها وكلامها، يكتفون بياء عن الاسم المنادى، أو يحذفونه لدلالة الكلام و«يا» عليه، يقولون: ألا يا انزلوا، ألا يا ادخلوا، يريدون: ألا يا هؤلاء انزلوا، ألا يا هؤلاء ادخلوا، كذلك الآية، تقديرها: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فلذلك قلنا: يقف على «يا» ويبتدئ: اسجدوا في هذه القراءة، وإنما حذفت ألف «يا» من اللفظ لسكونها وسكون السين بعدها، فصارت الياء في اللفظ متصلة بالسين كياء الاستقبال، وعلى ذلك أنشدوا:
فقالت ألا يا سمع تعظك بخطةٍ = فقلت سميعًا فانطقي وأصيبي
يريد: ألا يا هذا اسمع. ومثله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم = والصالحين على سمعان من جار
يريد: يا هؤلاء لعنة الله، أي الزموا لعنة الله على سمعان، وهو كثير). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/158]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (11- قوله: {ما تخفون وما تعلنون} قرأ حفص والكسائي بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
وحجة من قرأ بالتاء أنه حمله على الخطاب؛ لأنه ما قبله، على قراءة الكسائي، منادى، والمنادى مخاطب، فرد الخطاب في الفعلين على معنى المنادى، فكأنه قال:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/158]
أيا يا قوم اسجدوا لله الذي يعلم ما تخفون وما تعلنون، فأما قراءة حفص بالتاء فيهما فإنه حمله على الخطاب للمؤمنين والكافرين الذين تقدم ذكرهن على لفظ الغيبة.
12- وحجة من قرأ بالياء أن الكلام قبله جرى على لفظ الغيبة في قوله: «وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم فهم لا يهتدون ألا يسجدوا» فجرى «يخفون ويعلنون» على مثال ذلك في لفظ الغيبة، فصار آخر الكلام كأوله في الغيبة وهو الاختيار؛ لأن الأكثر عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/159]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {أَلَا يا اسْجُدُوا} [آية/ 25] بتخفيف {ألا}:
قرأها الكسائي ويعقوب –يس-، والوقف على {أَلَا يا} بالألف، والابتداء بقوه {أُسْجُدُوا} بهمزة مضمومة.
والوجه أن {ألا} حرف للتنبيه وافتتاح الكلام، و{يا} حرف النداء حذفت منه الألف لالتقاء الساكنين، وسقطت ألف الوصل أيضًا من قوله {اسْجُدُوا} لكونها في حالة الوصل، والمنادى ههنا محذوف، والتقدير: ألا يا هؤلاء، أو يا قوم اسجدوا، كما قال النمر بن تولب:
108- وقالت: ألا يا اسمع نعظك بخُطةٍ = فقلت: سميعًا فانطقي وأصيبي
أراد: يا هذا اسمع.
فأما إذا وقف القارئ فإنه يقول {ألا يا} فيرد الألف من {يا} التي كان
[الموضح: 954]
حذفها لالتقاء الساكنين، ويثبت ألف الوصل من {اسْجُدُوا}؛ لأن الفعل مبتدأ به، وألف الوصل تثبت في الابتداء.
قرأ الباقون ويعقوب إلا –يس- {أَلَّا يَسْجُدُوا} بتشديد {أَلَّا}.
والوجه أن الأصل: أن لا يسجدوا، فأدغم النون في اللام من {لا}، فبقي: ألا، والتقدير: فصدّهم عن السبيل لأن لا يسجدوا، بإضمار اللام وهو متعلق بقوله {صَدَّهُمْ}.
ويجوز أن يتعلق بقوله تعالى {زَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي زين لهم لئلا يسجدوا، فالفعل أيضًا على إضمار اللام.
ويجوز أن يكون بلا إضمار ويكون بدلًا عن الأعمال كأنه قال: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، أي ترك السجود، ويؤيد هذه القراءة أن الكلمة كتبت في المصحف {يَسْجُدُوا} بياء موصولة بالسين). [الموضح: 955]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [آية/ 25] بالتاء فيهما:
قرأها الكسائي و-ص- عن عاصم.
والوجه أنه على الخطاب، وأنه على قراءة الكسائي يستقيم؛ لأن ما قبله خطاب، وهو قوله تعالى {أَلَا يا اسْجُدُوا} على الخطاب. وعلى قراءة –ص- يُحمل على مخاطبة الذين جرى ذكرهم بلفظ الغيبة،
[الموضح: 955]
ويجوز أن يكون على خطاب المؤمنين والكافرين جميعًا، كأنه قال: ما تخفون وما تعلنون أيها الناس.
وقرأ الباقون: {مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} بالياء فيهما.
والوجه أنه على الغيبة؛ لأن ما قبله على الغيبة أيضًا، وهو قوله تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}.
وهو أشبه أيضًا بقراءة من قرأ {أَلَّا يَسْجُدُوا} بالتثقيل لكونه على الغيبة أيضًا). [الموضح: 956]
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}